الفصل الثاني :الفتح الإسلامي والحياة الدينيةالمصرية
أولا الإسلام ومصر قبل الفتح الإسلامي
معني الإسلام : الإسلام الظاهري والإسلام الحقيقي :
الإسلام معناه العقيدى هو الانقياد , والانقياد قد يكون ظاهريا بالتزام السلام و المسالمة مع الناس فكل من عاش مسالما فهو مسلم ، خصوصا إذا أعلن شهادة الإسلام ، فليس لنا إلا الحكم على الظاهر ، وهو السلوك المسالم . وعلى هذا الأساس كانت نظرة القرآن الكريم للأعراب الذين أعلنوا الإسلام وكانوا أشد كفرا ونفاقا , يقول تعالى ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم . الحجرات 14 ) والرسول عليه السلام كان يعامل المنافقين على أساس ما يعلنونه من انقياد ومسالمة ، وترك الحكم على سرائرهم لله سبحانه وتعالى .
وقد يكون الانقياد ظاهريا وباطنيا وهو المعنى الحقيقي للإسلام الذي أساسه يكون حساب الآخرة , فالإسلام الذي ينجو به المؤمن من عذاب الآخرة هو أن تنقاد لله جوارح المؤمن المسلم وخواطره وسرائره وعلانيته وسلوكياته ، وأن يخلص لله عبادته ونسكه وحياته ومماته ،أى يخلص عبادته وحياته لله وحده فلا يعرف الرياء أو تقديس غير الله , وعلى أساس التوحيد الخالص يسير بحياته منقادا لله وحده : ( قل : إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين . الإنعام 162 ،163 ) .
فالإسلام الحقيقي فى العقيدة هو القائم على التوحيد الخالص بمعنى ألا تكون هناك واسطة بين الله والمسلم , فالمسلم لايتخذ له وليا مع الله , أي يكتفي بالله وليا ( وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا . النساء 45 ) ( قل : أغير الله أتخذ وليا ؟ فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين . الأنعام 14 ) .
بيد أن الإسلام الحقيقي شيء وتطبيقه شيء آخر , ومن هنا تبدأ الفجوة بين الإسلام الحقيقي والإسلام الظاهري , ومن خداع النفس أن يخلط المرء بينهما فيحسب أن لافتة الإسلام التي يتميز بها في الدنيا قد تغنيه عن مراعاة الإسلام الحقيقي الذي يحاسب على أساسه في الآخرة .
وإن اعتقد المرء أن إعلان إسلامه في الدنيا سيضمن له الجنة في الآخرة فقد وقع في الوهم والتمني , فالله يحاسب على أساس العمل الصالح والعقيدة الخالصة ولا ينجو من العذاب إلا من اتقي وخاف وخشي بغض النظر عن الشعارات المرفوعة في الدنيا ( فأما من طغي وآثر الحياة الدنيا فان الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى. النازعات 37 : 41 ) .
ومهما تنوعت الأسماء والمدلولات فالأديان لا تخرج عن نوعين : إما دين الله وهو الإسلام الذي جاء به الرسول ( إن الدين عند الله الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه . آل عمران 18 ,85 ) وإما دين الشرك وهو الانحراف عن منهج الله الذي أرسل به الرسل .
وكل الرسل كانوا يقررون شيئا واحدا هو التوحيد الإسلامي (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون . الأنبياء 25 ) فكل الرسل أوحي إليهم بالتوحيد , غاية ما هنالك أن كل رسول تكلم بلغة قومه حتى يفهموا دعوته , أي أن كل رسول عبر عن الإسلام والتوحيد بلغة قومه ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم . إبراهيم 4 ) . وكان التعبير الأخير عن الإسلام والتوحيد باللغة العربية ( فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون . الدخان 58 ) .
مع أن الرسل كانوا يقولون شيئا واحدا هو الإسلام القائم على التوحيد الخالص , فإن الأتباع بمرور الزمن يتباعدون عن الإسلام الحقيقي ويكتفون باللافتة التي يضعونها ويحسبون أنهم مهتدون . ومن هنا فإن دراسة الواقع الديني لشعب ما مما يعين على توضيح الفجوة بين الإسلام الحقيقي والإسلام المعلن الظاهري العلمي .
وهذا ما نرجو أن يوفقنا الله إليه في هذا المبحث عن الحياة الدينية المصرية بعد الفتح الاسلامى . ولكي تكون الدراسة الدينية بمنجاة من الوقوع في المزالق – وما أكثرها في مباحث الدين – فإن الحصن الحصين الذي نلجأ إليه ونعول عليه هو القرآن الكريم الصادق المصدوق الذي يحكم على المشركين في كل عصر وأوان مهما تخفوا خلف أسماء ومسميات ولافتات . وبعد تحديد المرجع الوحيد وهو القرآن – نأتي لكتب المناقب وكتب المزارات التي تصور أفكار الناس وعقائدهم وطقوسهم بالإضافة إلى كتب التاريخ التي ترصد حياة الناس ونشاطاتهم .
معرفة مصر بالإسلام قبل الفتح الإسلامي :
1 ـ يقول تعالى ( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير . فاطر 24 ) والنذير أعمّ وأشمل من الرسول ، فقد يكون النذير شخصا داعية لا يوحى اليه و ليس نبيا مرسلا ، ولكنه تطوع بالدعوة الى الحق ، فيكون نذيرا لقومه مع انه ليس مرسلا من الله جل وعلا.
والنذير بمعنى الرسول النبى و غيره يشير الى أن الله تعالى قد أرسل رسلا لكل أمة أو جماعة من الناس عاشت على مكان معين فترة معقولة من الزمان ، كما أنه لا تخلو أمة من دعاة الاصلاح الدينى ، حتى لو تقاصر التاريخ عن ذكرهم .
ومعناه أيضا أن الله تعالى أرسل لمصر قبل الفتح الإسلامي رسلا طيلة التاريخ المصري الممتد عبر خمسين قرنا من الزمان .
والقرآن الكريم لم يذكر لنا جميع الأنبياء ( ورسلا قد قصصناهم عليك من قبلك ورسلا لم نقصصهم عليك .. النساء 164 ) . ومن بين الرسل الذين ذكروا في القرآن الكريم وكانت لهم علاقة بمصر يوسف وموسى عليهما السلام . وذكرت الروايات أن إبراهيم عليه السلام وفد إلى مصر إبان حكم الهكسوس وأهداه الملك جاريةــ أو أهداها لزوجه سارة ــ وكانت هاجر المصرية وهي أم إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام . ومن نسل إسماعيل كانت العرب المستعربة , وفيهم النبي الخاتم محمد صلي الله عليه وسلم . وأنجب إبراهيم من سارة إسحق ورزق أسحق بيعقوب , وبهذا جاءت البشرى من قبل لإبراهيم وسارة ( وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب هود 71 ) .
وقد أنجب يعقوب الأسباط – وهم شعب إسرائيل إذ إن يعقوب اسمه إسرائيل – وقد تآمر أولاد يعقوب على أخيهم يوسف فألقوه في الجب وانتهي به الأمر إلى أن صار يوسف عزيز مصر ووفد إليه أخوته و انتهت القصة بمجيء يعقوب عليه السلام وأهله إلى مصر , وتكاثروا فيها ونعموا برعاية الهكسوس – وهم أيضا وافدون من الشرق .
ويتخلص المصريون من استعمار الهكسوس فيتحول النعيم الذي يعيش فيه بنوا إسرائيل إلى نقمة وعذاب على أيدي الفراعنة ، فكان فرعون يقتل أبناءهم ويستحي نساءهم إلى أن بعث الله من بينهم موسي عليه السلام برسالة إلى فرعون أن يعود ببني إسرائيل إلى فلسطين وتنتهي القصة بغرق فرعون وانتقال بني إسرائيل إلى فلسطين .
2- وفي القرآن ما يثبت أن يوسف عليه السلام أرسل نبيا إلى المصريين وأنه بدأ دعوته منذ كان في السجن ( يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان . يوسف 40 )
ويوسف عليه السلام كان رسول الإسلام للمصريين وقد دعا ربه أن يتوفاه مسلما وأن يلحقه بالصالحين ( رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والأرض أنت ولى في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين . يوسف 101 ).
وموسي عليه السلام لم يكن رسولا إلى بني إسرائيل وحدهم وإنما كان لفرعون أيضا والمصريين , يقوم تعالى ( ولقد أرسلنا بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملائه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار .. هود 96 : 98 ) .
وموسي عليه السلام طالب أتباعه بأن يكونوا مسلمين ( وقال موسي يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا أن كنتم مسلمين . يونس 84 ).
3- ولكن إلى أي حد كانت استجابة المصريين للرسل ودعوة التوحيد ؟؟ إن الإجابة معروفة رددتها آيات القرآن الكريم خلال القصص التي دارت حول طغيان فرعون وملأه , ونستخلص من القرآن الكريم بعض الحقائق عن خصائص التدين المصري الفرعوني :
(أ) أن فرعون لم يكتف بمجرد ادعاء الألوهية وإنما ادعى الألوهية العظمي (فقال أنا ربكم الأعلى . النازعات 24 ) بل تطرف فانكر الفطرة وانكر وجود الله تعالى ( وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسي وأني لأظنه من الكاذبين . القصص 38 ) .
(ب) أن الرأي العام كان يؤيد فرعون في تطرفه , بدليل أن القرآن كان يقرن فرعون بملأه وجنود وقومه .
وكان فرعون يعلن ادعاءاته المتطرفة أمام جمع من قومه بدليل قوله تعالى( فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى ) أي أنه حشر الناس وادعى فيهم بألوهيته العظمي , ونحس بالتجاوب بين فرعون وقومه في استشارته لهم وكيف يتصرف مع الإسلام الذي جاء به موسي ( وقال فرعون ذروني أقتل موسي وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد . غافر 62 ) ( ونادي فرعون في قومه فقال يا قومي أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ) ويعلق القرآن على استخفاف فرعون بعقلية قومه واتباعهم مع ذلك له فيقول ( فاستخف قومه فأطاعوه أنهم كانوا قوما فاسقين . الزخرف 51 , 55 , 54 ) .
(ج) وواضح أن فرعون يدافع عن كيانه السياسي والديني باعتباره فرعون معبودا من قومه وأن دعوة موسي ستقضي على نظامه الديني الكهنوتي السياسي , ولكن من غير المفهوم تأييد المصريين لفرعون وادعاءاته وهم ليسوا أصحاب مصلحة في القضية إلا إذا كان تأليه الفرعون عنصرا أساسيا في العقيدة الدينية في ذلك العصر . أو بمعنى آخر إلا إذا كان الشرك هو القاعدة الأساسية في التدين المصري القديم .
ويتضح قيام التدين المصري على أساسي الشرك في موقفين للمصريين رفضوا فيهما الرسالة الإسلامية .
* فالمصريون أيقنوا بصدق دعوة موسي ولكنهم جحدوها إصرارا منهم على عقائدهم الثابتة منذ آلاف السنين ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا . النمل 13 ) . ولا يقال أن ذلك كان منهم اخلاصا للحكم الوطني الذي يمثله فرعون ، إذ إن ذلك الموقف تكرر منهم أبان حكم الهكسوس حين بعث إليهم يوسف عليه السلام فرفضوا رسالته وكرهوها مع أيمانهم بأنه رسول من لدن الله تعالى ، وذلك ما ذكرهم به مؤمن من آل فرعون حين قال في معرض الوعظ لقومه ( ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا . غافر 34 ) أي أنهم يعرفون الله ويعرفون أن يوسف رسول الله ومع ذلك أعرضوا عنه , لم يكن لديهم وقتها حاكم فرعونى مصري يدينون له بالولاء والتقديس ، بل حاكم غريب مكروه , إذن فكراهيتهم لدعوة التوحيد نابعة من الوجدان الديني لا الوطني .
ولم يكن يوسف عليه السلام رسولا مستضعفا بل كان وقتها عزيز مصر والمتصرف في خزائنها في وقت الشدة , ومع أهمية منصبه واستحواذه بالعدل والأمانة على حب المصريين وإعجابهم إلا أنه لم ينجح في جذبهم إلى دعوة التوحيد فظلوا منها في شك حتى إذا هلك قالوا لن يبعث الله من بعده رسولا .
( د) على أن قيام التدين المصري على أساس الشرك لم يمنع من وجود موحدين , وأولئك قابلوا التطرف الفرعوني في ادعاء الألوهية بزيادة التمسك بالتوحيد والإصرار عليه والدعوة إليه . وقد ذكر القرآن بعض مواقفهم :
* مثل السحرة الذين سارعوا بالإيمان حين ألقى موسي عصاه فأكلت حياتهم , وقد أنكر فرعون عليهم أنهم آمنوا قبل أن يأخذوا منه تصريحا كما لو كانت مفاتيح قلوبهم بيده . وهذا التطرف من فرعون قابله السحرة بمزيد من التمسك بالحق ولم يأبهوا بتعذيب فرعون لهم بالصلب وتقطيع الأيدي والأرجل , وأقرأ معنى ذلك في قوله تعالى ( فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسي . قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقي , قالوا : لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض أنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقي . طه 70 : 73 ) .
* ثم ذلك الأمير الفرعونى الذي آمن من آل فرعون , ومن موقعه داخل قصر فرعون أخذ يدعو للتوحيد ويجادل قومه ويرد كيدهم عن موسي ( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم . إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب .. غافر 28 ) ويظل يحاورهم فلا ينجح معهم ، بل يتكاثرون عليه بدعواهم المضادة فيقول لهم ( وياقوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا ادعوكم إلى العزيز الغفار ) إلى أن يقول يائسا ( فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد . غافر 41 , 42 , 44 ) .
*وعلى سرير فرعون كانت زوجته موحدة مؤمنة مما يوحي بأن هناك في معقل الشرك المتطرف كان يوجد إيمان متمسك بالحق .
وهذا من طبائع الأشياء أن التطرف يدفع إلى تطرف مقابل .
* وفي عصر يوسف عليه السلام حيث الجو العام يرفض التوحيد نرى موفقا فريدا لامرأة العزيز وهى تقر بالذنب تائبة مستغفرة على أعين الناس وسط شهود من الأعداء والأصدقاء والشامتين ، وهو موقف إنساني قلّ أن يصدر من امرأة ذات مكانة في قومها وبكامل حريتها واختيارها ، إلا إذا كان ذلك دليلا على إيمان عميق يشع من خلال كلماتها ( قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين وما أبريء نفسي أن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم , يوسف 51 : 53 ) .
ولم يرد في القرآن الكريم نموذج عن التطرف في الكفر يماثل فرعون الذي جعله إماما مع أتباعه لكل من يلحقهم من المشركين حتى قيام الساعة , يقول تعالى عنه وعن ملأه ( وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار.. القصص 41 ) .
كما لم يرد في القرآن نموذج يماثل صبر السحرة على العذاب وتمسكهم بالتوحيد أمام طغيان فرعون ذلك الطغيان الذي جعل موسي يخشى من مواجهته فيقول له ربه ( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى قال ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغي قالا لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى . طه 44 – 46 ) .
وبسبب طغيان فرعون وكفرانه بنعمة ربه فقد حقت عليه وعلى قومه اللعنة في الدينا والآخرة . ففي الدنيا استجاب الله دعوة موسي ( وقال موسي ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة و أموالا في الحياة الدنيا , ربنا ليضلوا عن سبيلك ؟ ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم قال : قد أجيبت دعوتكما . يونس 88 , 89 ) .
واستجاب الله دعاء موسي وهارون إذ انهار حكم الفراعنة في الدولة الحديثة ولم تعرف مصر بعدهم حكاما أقوياء من أبنائها . ويبدو أن المصير الذي واجهه فرعون موسى ينتظر أي فرعون يأتي في المستقبل يسير على نهج رمسيس الثالث الذي يري أكثر المؤرخين أنه فرعون موسى .
والخزي والعذاب الذي حاصر فرعون في نهايته لم ينجه من عذاب القبر ولن ينجيه من عذاب الآخرة . وفرعون فيهما إمام لأتباعه , يقول ( يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود واتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد الموفود . هود 98 , 99 ) ( ويقول تعالى عن مؤمن آل فرعون وعن فرعون وملائه ( فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب . غافر 45 – 46 ) .
4 ـ إن مفتاح الحضارة المصرية القديمة يكمن في الدين . وعلى أساس الدين دارت الحضارة والحياة المصرية القديمة .
فالنظام السياسي الفرعوني في حقيقته نظام ديني يتمتع فيه الفرعون بالألوهية , والنظام المعماري فيها ديني وصل فيه فن بناء المعابد والأهرامات إلى درجة الإعجاز , بينما لم يبق من مساكن المصريين والفراعنة وملاعبهم ما يضارع أي حضارة متواضعة , أي أن المصري ركز اهتمامه على المعابد والمقابر وأهمل المساكن والملاعب والمسارح . وهي التي نجدها في آثار اليونان والفينيقيين بل واليمنيين .. وحتى الأنشطة الثقافية والفنية في مصر القديمة دارت داخل المعابد وعلى أيدي الكنهة الذين احتكروا العلم والثقافة وتحكموا فيها إلى درجة أن العلم المصري القديم اندثر وانمحي لتوقفه على الكهنة . وبينما استمرت الثقافة اليونانية لأنها علمانية وعامة في متناول الجميع فان العلم المصري القديم بل واللغة المصرية القديمة اندثرت مع الكهنة بحيث أننا احتجنا إلى شامبليون في العصر الحديث لكي يفك لنا رموز اللغة المصرية ونعرف من خلالها تاريخنا السابق .
وفي ضوء الدين أيضا يمكن أن نفهم الثورات السياسية للمصريين ، فهي ثورات دينية تهب لسبب ديني وتتوقف لسبب ديني أيضا , ينطبق ذلك على الثورات المصرية ضد الرومان ثم ضد نابليون وانجلتره بزعامة الأزهر . وتوقفت الثورات ضد الاسكندر والبطالمة حين عبدوا آلهة المصريين , ولم يقم المصريون بثورة ضد العثمانيين لأنهم حماة الإسلام .. وهكذا ..
وبسبب قيام الحضارة المصرية والحياة المصرية على أساسي الدين وجدنا نموذجين لا يتكرران , ( فرعون ) المتطرف في الكفر وادعاء الألوهية العظمي وهو الإمام للكفرة في كل عصر , ثم ( السحرة) الذين تمسكرا بما يعتقدونه حقا وصبروا على الصلب وتقطيع الأيدي والأرجل وهزئوا بالعذاب (.. أقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقي ) وهم أئمة للأتباع المتمسكين بالحق .
ولقيام الحضارة المصرية والحياة المصرية على أساس الكهنوت الديني وجدنا رفضا مستمرا للتوحيد الإسلامي الذي جاء به يوسف وموسي عليهما السلام , وهو أمر منتظر من حضارة قامت واستمرت على مبدأ معين طيلة آلاف السنين قبل يوسف وموسي وبعدهما ..
التمصير والتصدير :
ولقيام الحضارة المصرية على أساس الدين الخاص بها وجدناها تبذل عبقريتها في الحفاظ على دينها الوطنى القومى من كل مؤثرات خارجية وافدة , وما أكثر المؤثرات الخارجية الوافدة لمصر , وهى بموقعها وثرائها تجذب القوى الخارجية وتغريها بالتوافد إلى مصر , من هنا كانت الحضارة المصرية تعامل المؤثرات الأجنبية الوافدة بما يمكن أن نطلق عليه ( التمصير ) أي أنها ( تمصر) الأديان القادمة أو تضفي عليها المسحة المصرية , ثم بما للحضارة المصرية من نبوغ وتأثير على جيرانها تعيد ( تصدير) هذه الأديان وقد أصبحت مصرية تحمل سمات التدين المصري .
وعلى أساس ( التمصير) و ( التصدير) تعاملت الحضارة المصرية الدينية مع المسيحية كما تعاملت قبلها مع اليهودية والفلسفات والديانات اليونانية والرومانية .
1 ـ مع اليهودية :
تكاثر بنو اسرائيل في مصر منذ أن استقر بهم يعقوب بعد أن استقدمه يوسف عليهما السلام . ثم كانت رسالة موسى عليه السلام وخروجه بهم من مصر إلى أرض كنعان . ومع أن بنى اسرائيل قاسوا الشدائد من فرعون والمصريين إلا إنهم ظلوا على إخلاصهم للدين المصري بدليل أنهم حين أنجاهم الله تعالى من فرعون وأغرقه ، أسرعوا في أول فرصة – وقد شعروا بالحنين للآلهة المصرية – فطلبوا من موسي أن يجعل لهم آلهة ( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسي أجعل لنا ألها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون . الأعراف . 138 ) . نسي بنو إسرائيل معجزات موسي التي خلصتهم من عذاب فرعون , واستيقظت فيهم فجأة ما ألفوه في البيئة المصرية عندما مروا على معابد وثنية تشبه معابد المصريين فطلبوا من موسي أن يجعل لهم آلهة .
ثم تركهم موسي وذهب ليكلم ربه وعاد ليجدهم وقد اتخذوا لأنفسهم عجلا على نسق عجل أبيس يعبدونه كما كانوا يفعلون في مصر(وأتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوارألم يرو أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين . الأعراف 148 ) .
وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في حياة موسي فقد تخصصت بعد موسى فرقة منهم فى الضلال والزيغ ، أطلق الله تعالى عليهم لقب اليهود ، كانوا أضل سبيلا . ولم يجدهم نفعا كونهم من سلالة نبي هو يعقوب عليه السلام , وكون الرسل تتابع فيهم بالهداية , لان تأثرهم بالدين المصري غلبهم على أنفسهم إلى درجة إقدامهم على قتل أنبيائهم فضرب الله عليهم الذلة والمسكنة ( وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق . البقرة 61 ) . ويمكن لمن يراجع القرآن الكريم أن يلاحظ الفارق بين (بنى اسرائيل ) و ( اليهود ) من خلال الانتقاد المستمر لليهود جميعا مع مدح مؤمنين من بنى اسرائيل .
وقد تحدث بعض الباحثين عن تأثر العقائد والطقوس اليهودية بالديانة المصرية القديمة ووضح ذلك في العجل الذهبي واتخاذ الآلهة التي تتشابه مع الآلهة المصرية. ولم تنج التوراة من تحريفات يهودية مستمدة من العقائد المصرية القديمة خصوصا في سفر التكوين وبعض فقرات المزامير . ثم كان لليهود ( قدس الأقداس ) الذي كان للمصريين [1] .
مع اليونان :
وإذا كان اليهود شعبا مستعبدا من المصريين تأثر بهم فإن اليونانيين حين حكموا مصر – في عهد الاسكندر والبطالمة – لم ينجوا من التأثر بالديانة المصرية . مما ينهض دليلا على عمق المؤثرات الدينية المصرية على الوافدين لمصر سواء كانوا مستضعفين أو متحكمين ..
فالاسكندر الأكبر حين فتح مصر بادر بتقديم الولاء للإله المصري آمون وحج إليه في واحة سيوه وهناك نصبه الكهنة إبنا للإله . والبطالمة حين حكموا مصر تخلوا في عقائدهم القديمة وجعلوا عبادة الملوك السابقين عبادة رسمية – وهي تقليد فرعوني – وطبق ذلك البطالمة فعبدوا الاسكندر الأكبر وأسلافهم ممن حكموا مصر . بل إن بطليموس الثالث أعاد للمصريين تماثيل الآلهة التي سلبها منهم الفرس فارتفع شأنه لدى الكهنة المصريين . فرسموه مع الملكة ( الهين خيرين )، وقد عرف بطليموس الثالث باهتمامه ببناء المعابد المصرية فقد أتم معبد ( إيزيس) وأقام معبدا آخر في الكرنك ، وثالثا في إسنا ثم بدأ في إنشاء المعبد الضخم للإله حورس في ادفو وقد استغرق بناء هذا المعبد مائه وثمانين سنة وانتهي البناء في عهد بطليموس الثاني عشر[2] .
مع الرومان :
ولم ينج الرومان أيضا من التأثر بالديانة المصرية على ما فيهم من قوة وعنجهية , فالإمبراطور الروماني تيتوس زار مصر وشهد حفل تكريس عجل أبيس إلها , ثم انشأ الإمبراطور دومينيان ( 81 – 96 ) معابد في روما ذاتها لكل من إيزيس وسرابيس , وكانت إيزيس معروفة ومعبودة في الإمبراطورية الرومانية إلا إن أنشاء معابد رسمية لها في عاصمة الإمبراطورية يعد اعترافا بها بصورة رسمية بعد أن كانت تعبد بصورة غير رسمية [3] .
مناحي التأثير الديني المصري – على غير المصريين :
ويمكن أن نميز ثلاث اتجاهات للمؤثرات الدينية المصرية برزت في الحياة الدينية خارج مصر :
1- الآلهة والثالوث الإلهي :
السمة العامة في الديانة المصرية القديمة هو تعدد الآلهة المحلية ثم تجمع أكبر الآلهة في ثالوث , فكل مقاطعة لها إلهها أو مجموعة الآلهة , ثم يكون تجمع الآلهة المشهورة في ثالوث من زوج وزوجة وولد . يرمز للخلود الاستمرار الذي استوحاه المصريون من بيئتهم الزراعية حيث تنمو الحبة من الزرع ثم تموت بعد ازدهار ثم تبعث بعد موت وهكذا .
وأشهر ثالوث عرفه المصريون وتأثر به غير المصريين كان ( اوزيريس / إيزيس / حورس /) وقد استمر هذا الثالوث في العصر البطلمي تحت رعاية البطالمة تحت اسم ( اوزيريس / إيزيس / حورس ) وكان القسم الرسمي للدولة البطليمة ( اقسم باوزيريس وإيزيس و بسائر الآلهة الأخرى).
وانتشرت في اليونان – قبل غزو الاسكندر – عبادة إيزيس ، وعرف من أصول الديانة اليونانية ( أسرار الوزيس ) وهو ليس إلا أسرار الالهة إيزيس المصرية لابسة ثوبا أغريقا ، كما أن الإله الإغريقي ( ديونيوس ) ليس إلا ( اوزيريس ) المصري ولكن بثوب إغريقي . ثم دخل في الثالوث المصري الإله الإغريقي ( زيوس ) مع ( سيرابيس ) الذي حمل محل ( اوزيريس ) وبقيت معهما ( إيزيس) [4] .
إلا إن ( إيزيس ) بالذات كانت لها مكانتها الخاصة لدى المصريين وغيرهم , فانتشرت خارج مصر محتفظة بطابعها المصري دون تغيير , وربما يرجع ذلك إلى المسحة الإنسانية في اتخاذها باعتبارها ( أم الإله ) التي تشقى من أجل ابنها وزوجها . فغزت إيزيس روما وانتشرت عبادتها بسرعة البرق داخل الإمبراطورية الرومانية وخارجها بعد أن سهلت المواصلات البرية والبحرية سبل الاتصال بين أجزاء العالم المعروف وقتها . فمن الإسكندرية كانت السفن الرومانية البعيدة تحمل معها صورة إيزيس وتنشر عبادتها . وليس أدل على ذلك من بردية مشهورة من البهنسا ترجع إلى القرن الثاني الميلادي تذكر الأماكن التي انتشرت فيها عبادة إيزيس في إرجاء المعمورة . هذه الأماكن تشمل معظم مدن مصر إذ إن هناك ذكرا لسبع وستين مدينة في الدلتا فقط ، أما خارج مصر فتذكر أسماء خمس وخمسين مدينة مرتبة حسب البلاد التي تقع فيها . ومن دراسة هذه البردية نتبين أن سلطان الآلهة إيزيس شمل الهند وبلاد العرب شرقا وسينوب على البحر الأسود شمالا وروما وايطاليا غربا , وانتشر معها حورس بصفته أبن إيزيس الملتصق بها , وإن دخل اسمه بعض التحوير بخلاف أمه التي ظلت محتفظة باسمها وشخصيتها [5] .
ويذكر القرآن الكريم أن الجاهلين كانوا يعبدون ( العزى) ضمن ثالوث ( اللات – العزى – مناة ) (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى النجم 18 , 19 )، واضح أن( العزى ) هي ( إيزيس) ولابد أن المصريين القدامى كانوا ينطقون ( إيزيس ) ( بالعزى ) ثم نطق اليونان حرف العين بالهمزة نظرا لخلو اللغة الأغريقية من حرف العين، ثم أضافوا لها السين على عادة اللغة اليونانية فصارت ( إيزيس ) . ونقلنا نحن الترجمة اليونانية كما هي ( Isis) وأصلها ( عزي ) .
ومن روما انتقلت عبادة إيزيس إلى أجزاء كثيرة في أوربا ، واحتفظت الشعائر اليومية في المعابد الاوربية لإيزيس بالصيغ القديمة التي كانت لها في مصر من طقوس الكهنة والأعياد والأغاني الدينية [6] .
ولم يكن في الإمبراطورية الرومانية الواسعة الأرجاء مقاطعة واحدة لم تعبد فيها الآلهة المصرية من شمال أفريقيا إلى الدانوب إلى فرنسا وانجلتره والألب وألمانيا واستمر سلطانها حتى نهاية القرن الثاني لميلاد المسيح [7] , ثم تدهور سلطانها بعض الشيء.
إلا أنها عادت بعد انتشار المسيحية متجسدة شخصية العذراء التي تحمل طفلها ( يسوع ) ابن ( الله) تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا , وذلك الانقلاب في المسيحية كانت مصر الرائدة فيه . ويتحدث مؤرخ أوربي عن صورة إيزيس التي انتشرت بها من مصر إلى العالم فيقول ( أما إيزيس فهي أيضا هاتر .. وتحمل إيزيس طفلا هو حورس .. وصورة إيزيس تمثلها وهي تحمل بين ذراعيها طفلها الرضيع حورس وقد وقفت في وسط الهلال ) تلك الصورة لإيزيس تتطابق مع صورة العذراء وطفلها يسوع عند المسيحيين في مصر وخارجها، يقول الكاتب : ( أما إيزيس فكانت تجتذب إليها كثيرا من الأنفس المتعبدة القانتة وتماثيلها المقامة في معابدها كانت تمثلها في صورة ربة السماء وهي تحمل بين ذراعها طفلها حورس , وكانت الشموع توقد أمامها كما كانت النذور تقدم إليها , على حين أن الكهان الحليقين الناذرين أنفسهم للعزوبة كانوا يقومون على خدمة هيكلها) [8] .
وبعد انتشار المسيحية في مصر انتشرت معها المعابد الخاصة بالعذراء التي تحمل طفلها الإلهي على نفس النسق الذي ألفه المصريون آلاف السنين قبل المسيحية حين عبدوا إيزيس ونشروا معابدها في مصر وخارجها . وقد أشرنا إلى أن عبادة إيزيس شملت معظم مدن مصر وشملت سبعا وستين مدينة في الدلتا فقط , وبعد انتشار المسيحية عادت إيزيس معبودة في صورة العذراء، وأنشئت لها عشرات الكنائس والأديرة . وقد عد المقريزي في الخطط المقريزية عشرات الأديرة والكنائس المقامة على اسم العذراء في العصر المملوكي وقبله على امتداد العمران المصري ، وقد صورت فيها صورة العذراء والطفل والهالة التي تحيط برأسيهما , وكانت تقام موالد سنوية لهذه الأديرة والكنائس ويقصدها المصريون من أقباط و مسلمين [9] بنفس النمط الذي اعتاده أسلافهم مع معابد إيزيس وأعيادها .
ولتعزيز الصلة بين إيزيس والعذراء يعتقد المسيحيون المصريون أن العذراء قد هربت إلى مصر بطفلها الرضيع بسبب اضطهاد الوالي الروماني هيرودس , وكما جاء فى كتاب ( تاريخ الكنيسة القبطية ) فانهم يجلعونها في رحلتها في البلاد المصرية تمر على أهم الأديرة [10] التي أنشئت فيما بعد بقرون , ثم عادت إلى فلسطين. ومعناه أن العقل المصري المتأثر بعقيدة إيزيس مدة آلاف السنين يريد أن يضفي على العذراء السيدة مريم الاسرائيلية المسحة المصرية , وبهذه المسحة المصرية تحولت ( مريم ) عليها السلام إلى ( إيزيس) في اعتقاد المصريين وانتقلت بهذا الشكل إلى خارج مصر في آسيا وأوربا .
وفي العصر العثماني انتشر التصوف وتسيد الحياة المصرية وحظيت الخرافات بالتقديس فأتيح للعقل المصري أن يستعيد ( إيزيس ) في صورة إسلامية , كما استعادها قبلا في صورة مسيحية , وبهذا كان الادعاء بقدوم ( زينب بنت على بن أبي طالب ) إلى مصر وأقيمت على ذكراها مقبرة سنة 955 هـ سنة 1548 ولقبوها ( بالسيدة ) وهو اللقب الفرعوني لإيزيس .
هذا مع أن حقائق التاريخ تنكر قدوم ( زينب ) رضي الله عنها إلى مصر.
لقد انتقلت إلى دمشق مع رأس الحسين بعد مصرعه ثم عادت إلى المدينة , وحين عدتها ثارت المدينة على الأمويين وحدثت موقعة الحرة , وظلت ( زينب بنت على ) معتكفة عن الناس تعتني بالبقية الباقية من أولاد أخويها الحسن والحسين الذين نجوا من مذبحة كربلاء . إلى أن ماتت ودفنت في البقيع سنة 62 هـ .
وطيلة العصور الإسلامية التي توالت على مصر لم يرد ذكر ( لزينب بنت على ) على أنها قدمت إلى مصر أو ماتت فيها , وعلى كثرة وكتب الطبقات المصرية التي تؤرخ للصحابة المشاهير وكتب المزارات التي تصف الأضرحة الشهيرة وكتب الخطط التي تختص بالآثار والتراجم لم يرد ذكر لضريح منسوب ( لزينب بنت على ) في العصرين الفاطمي والمملوكي , وهما أكثر العصور اهتماما بتشييد الأضرحة والتأريخ لها . على سبيل المثال لا يوجد ذكر ضريح ( السيدة زينب) في (تحفة الأحباب) للسخاوى و( الكواكب السيارة ) لابن الزيات وهما أشهر الكتب في المزارات في العصر المملوكي , كما لا يوجد ذكر لذك الضريح في ( خطط المقريزي ) وهو عمدة هذا الباب , كما لم يوجد في كتاب السيوطي ( حسن المحاضرة ) وقد عد فيه من أتي لمصر من الصحابة وآل البيت والتابعين والأضرحة والمزارات , وقد توفي السيوطي في أواخر العصر المملوكي سنة 911 .
وكان اختراع مجيء السيدة زينب قد بدأ في العصر العثماني في صورة رؤيا منامية رآها صوفي مشهور يحظى باعتقاد الوالي العثماني فأنشأ على ذكرها ضريحا سنة 955 ثم جدده عبد الرحمن كتخدا سنة 1173 هـ سنة 1759 , ثم جددته وزارة الأوقاف سنة 1940 . ومع أن ضريح ( السيدة ) لا يتجاوز في عمره أربعة قرون ونصف القرن إلا أنه حظي بالتقديس وكثرت إليه الوفود والحجيج , وعم التوسل به وأصبح معلما دينيا هاما في التدين المصري , بل ما لبثت ( السيدة زينب) أو ( السيدة ) أن صارت رئيسة الديوان في العقيدة المصرية , وذلك يذكرنا ( بديوان المحكمة ) محكمة ( إيزيس واوزيريس ) التي تفصل بين الناس ويحتكم إليها الآلهة والأولياء .
بل إن العقل المصري يطلق عليها لقب ( السيدة ) وإذا ذكر لقب ( السيدة ) ينصرف المعني إلى ( زينب بنت على ) وضريحها في حي ( السيدة ) . ولقب ( السيدة ) ورئيسة المحكمة كانا أهم ما يميز إيزيس في المعتقدات الفرعونية التي انتقلت بحذافيرها إلى أوربا , فكانوا يقولون عنها هناك أنها سيدة جميع العناصر، والآلهة العليا ، وملكة الموتى ،ورئيسة أهل السماء [11] .
والمصريون أولي بعقيدتهم المحلية لذا أطلقوا – في العصر المسيحي – علي العذراء لقب ( السيدة ) وعلى العائلة لقب ( العائلة المقدسة ) ثم فيما بعد في العصر العثماني أشاعوا أسطورة مجيء ( زينب بنت على ) وأطلقوا عليها لقب (السيدة ) ومنحوها اختصاصات إيزيس ،وهي لا شأن لها بإيزيس ولم تر مصر طيلة حياتها .
وجدير بالذكر أن إيزيس عادت ثانيا للظهور في معتقدات الأوربيين في القرن الثاني عشر الميلادي , في وقت انتشر فيه التصوف والكهنوت في العصور الوسطي في العالمين المسيحي والإسلامي , ووجد من مفكري أوربا من احتج على الفتنة بتلك المعبودة المصرية , مثل جوته القائل ( أي إيزيس وازوريس لو أني أستطيع التخلص منكما؟ ) [12] .
وإذا كان هذا حال أوربا فما بال المصريين و( إيزيس) في الأصل صناعة مصرية !!
2- الرهبنة :
عرف المصريون القدماء نظام الرهبنة والتحنث نظريا وعمليا , ففي الفصل الرابع والستين من كتاب الموتى ما نصه ( هذا الفصل سيقرؤه رجل نظيف لم يأكل لحم الحيوان أو السمك ولم يخالط النساء ) وفي الفصل السابع والثلاثين بعد المئة ما يشبه هذا النص , وفي طقوس إيزيس وازويريس ينذر الكهنة صوما , وفي بردية برلين يناقش رجل روحه ويتأمل في أسرار الكون , وبعضهم ترهبن في معبد سيرابيس وتقبل الهدايا التي كان يقدمها الناس إلى العجل المقدس , وبعضهم وصل بالترقي إلى التكهن وادعاء علم الغيب [13] .
وفي العصر البطلمي اليوناني أثبتت أوراق البردي وجود حركة رهبنة حول معبد السرابيوم في ممفيس , ومن دراسة هذه الوثائق يتبين أن بعض الناس كانوا ينذرون للآلهة نسكا أو عبادة منفردين في أديرة منقطعين عن المجتمع ومنهم من بقي طوال حياته متنسكا . وقد وجدت حركة تنسكية أخري بين طبقة الكهنة في هليوبولس قبل المسيحية . وكان أولئك الكهنة ينقطعون عن الاتصال بالناس للتعبد والتأمل مع التقشف والمبالغة في العبادة والصلاة .
وانتقلت الرهبنة لليهود فوصف الفيلسوف اليهودي فيلون جماعة من اليهود كانوا يعيشون بالقرب من الإسكندرية وتشابهت حياتهم مع من جاء بعدهم من الرهبان المسيحيين [14] .
وبعد انتشار المسيحية في مصر ازدهرت الرهبنة مع اضطهاد الرومان للمسيحيين وأصبحت حركة جماعية بقيادة انطونيوس وهو مصري صميم أضفي على التدين المصري المسيحي الطابع المصري الذي عرف به الأقباط والمهم أن الرهبنة المسيحية انتشرت من مصر إذ وفد على مصر كثيرون من مسيحيي أوربا درسوا نظام الرهبنة بها ونشروه في أنحاء العالم المسيحي [15] .
وفي العصر الإسلامي سلك المسلمون سنن من كان قبلهم من اليهود والنصارى فاتبعوا الرهبنة وسموها زهدا ، ولجأوا للأديرة وسموها خوانق وربطا وزوايا ..
3- فلسفة الاتحاد بين الإله والناس :
وقد تميزت مصر منذ القدم بشمسها الساطعة الدافئة ونيلها الغني , وعلى أساس الشمس والفيضان دارت الحياة المصرية , ونبعت العقيدة الدينية وتوزعت الآلهة بين اله للشمس واله للحصاد , وتخصص كل اله بعمل معين يساعد المصريين – في اعتقادهم – فيما يؤدونه في حياتهم اليومية .
ومن شأن الشمس أن تشرق وتغرب , ومن شيمة النيل أن يفيض وأن يغيض , ومن سمات الزرع أن ينمو ويزدهر ثم يصفر ويندثر , ومن هنا تعمق في الإحساس الديني المصري فكرة موت الإله وبعثه على نحو ما سجلته عقيدة الثالوث ( إيزيس واوزيريس وحورس ) فكان أوزيريس يموت ثم يبعث حيا بمجهود إيزيس ثم يعود للموت باختياره بينما يكمل الابن حورس مسيرة أبيه .
ونظر المصريون في حياة الإنسان فوجدوها لا تختلف عما ألفوه من حياة ثم موت , ومن المشابهة التي اعتقدوها بين الآلهة والناس اعتقد المصريون أنه يمكن ببعض الطقوس والصلوات أن تكون ( النجاة) الإنسانية ،أو ( الخلاص ) للانسان بأن يتم اتحاد الإنسان بالإله الذي يحبه ويعبده . وحول معني الاتحاد بالله دارت عقائد المصريين وتسربت إلى الفلسفة اليونانية التي تأثرت بالحضارة المصرية وأخذت عنها ،وأهم تلك الفلسفات الرواقية والغنوصية والافلاطونية الحديثة ,وكلها تدور حول إمكانية تنقية النفس وصعودها للامتزاج في الإله وحينئذ تشعر بالكمال وتعلم الغيب وتصبح خيرا محضا .
إن فلسفة الاتحاد الدينية ذات الأصل المصري قد انتشرت خارج مصر في إطار فلسفي ضمن الفلسفة الغنوصية أو في إطار ديني يهودي كان أبرز القائلين به الفيلسوف اليهودي فيلون . وكان الشام – القريب لمصر – أبرز المواطن التي تأثرت بالحضارة المصرية دينيا وفلسفيا . ومن الشام وفدت المسيحية إلى مصر وقد طبع عليها ( بولس الرسول ) بصمات الأفكار السائدة في عصره ،فلم تكن غريبة عن العقلية المصرية ولسان حالها يقول ( بضاعتنا ردت إلينا ) .
بداية المسيحية :
أرسل الله عيسي عليه السلام رسولا بالإسلام الذي جاء به موسى والأنبياء من قبل , وكانت العبرية هي اللغة التي تحدثت بها رسالة عيسى القائمة عن التوحيد الخالص ( ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم . آل عمران 50 ,51 ) .
تجمع حول عيسى الحواريون وناصبه اليهود العداء , ولم يكن الحواريون – على قلتهم – قلبا واحدا في الأيمان بالتوحيد الذي جاء به عيسى عليه السلام , بل كان منهم من خان ونافق , والمصادر المسيحية تتحدث عن يهوذا الذي خان المسيح ووشى به . والقرآن يقول ( فلما أحس عيسى منهم الكفر قال : من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون ) أي شهدوا بإسلامهم أي بانقيادهم لله الحق , ثم قالوا ( ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ) ويعلق القرآن على قولهم ( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين آل عمران 52 : 54 ) .
وبعد أن توفى الله عيسى ورفعه إليه كان من الطبيعي أن يزداد الانحراف كلما تباعد الزمان والمكان عن المسيح عليه السلام وعصره.وقد شمل التغيير والانحراف جانبي الشكل والمضمون من رسالة الإسلام التي جاء بها عيسى علية الصلاة والسلام.
في الجانب الشكلي : كان عيسى مرسلا إلى بني إسرائيل فقط ( ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم .. آل عمران 49 ) . والمصادر المسيحية تتحدث عن انتظار بني إسرائيل ( للمسيا )أو النبي المنتظر وترى أن ( يوحنا المعمدان) كان مبشرا برسالة عيسى . أي أن عيسى كان رسولا محليا إلى بني إسرائيل وحدهم .. إلا إن التغير الشكلي الذي نعنيه هو انتشار المسيحية في خارج النطاق اليهودي إلى الولايات الرومانية وفي روما نفسها .
ومن هنا حملت المسيحية في انتشارها آثارا من العقائد الوطنية , وكانت الديانة المصرية هي المؤثر الأصلي في تلك العقائد. وتجلى ذلك في بولس الرسول الذي انتقلت به المسيحية إلى خارج النطاق اليهودي وأصبح عيسى في العقيدة الجديدة التي نشرها بولس إلها أو ابنا للإله , وذلك هو التغير الأساسي في رسالة عيسى وهو تغيير انصب على المضمون والأساس .
بولس وانحراف المسيحية عن تعاليم عيسى عليه السلام :
وقد كان بولس يهوديا متعصبا ضد المسيحية ، مثقفا بالثقافة اليونانية ، مشبعا بالجو الديني المنتشر في موطنه والمتأثر بالحضارة الدينية المصرية حيث اشتقت الآلهة في الشام من أصول مصرية .
وقد وفد بولس من دمشق للقدس يحمل رسالة للفتك بالمسيحيين ، وعلى الطريق تقول الأساطير أن المسيح ظهر له في النهار فانقلب من التعصب ضد المسيحية للتعصب لها . وبه انتقلت المسيحية إلى طور جديد فانتقلت إلي أمم أخرى ودخلتها العقائد الوثنية من الثالوث المقدس والكهنوت والرهبنة والطقوس الأخرى من التعميد والعشاء الرباني , وكلها من أصول وثنية فرعونية .
وقد يكون من الأوفق أن نورد عن بولس كتابات الباحثين المسيحيين لنتعرف على الانقلاب الذي أحدثه في المسيحية . يقول كاتب مصري مسيحي ( كافح بولس كفاحا مريرا مع بني جلدته من اليهود ومع المتزمتين من متنصري اليهودية لجعل المسيحية دينا جامعا متحررا من قيود الشرعية اليهودية وقد افلح في ذلك , حتى قال بعض المعلقين : أنه واضع أركان اللاهوتية المسيحية .. ولا ننكران أن بولس أدخل على علم اللاهوت المسيحي الشيء الكثير من اليهودية واختباراته اليونانية .. ويمكن القول أن بولس اللاهوتي يرسم للمسيح صورة تختلف نوعا ما عن صورته في بشائر الإنجيل [16] .. أي حوله من رسول إلى اله ..
ويتحدث جون لوريمر عن اثر بولس في المسيحية فيقول ( نأتي الآن إلى شخصية عملاقة في تاريخ المسيحية .. هذه الشخصية هي الرسول بولس الذي كتب حوالي ثلث العهد الجديد – الأناجيل – وصارت أفكاره اللاهوتية نهائية لكل العصور [17] ، أي اتبع الناس مقولته بتأليه المسيح عليه السلام .
وهناك أستاذ فرنسي متخصص في الأديان أسهب في توضيح المؤثرات التي حملها بولس من بيئته وطبع بها المسيحية ونشرها على هذه الصورة في أرجاء الإمبراطورية الرومانية , انه الأستاذ شارل جينيبير رئيس قسم الأديان بجامعة باريس , وفي كتابه ( المسيحية : نشأتها وتطورها ) يتحدث عن بولس وأثره في المسيحية من خلال ثلاثة فصول , ويؤكد فيها على عدة حقائق منها : أن بولس لم يلتق بعيسي مدة حياته , وأن أفكاره اللاهوتية وليدة البيئة التي عاش فيها والثقافة اليونانية اليهودية التي تشربها وخصوصا فكرة (النجاة ) القائمة على شفاعة اله يموت ثم يبعث – وتلك فكرة مصرية الأصل – ويقول ( والشيء الذي يبدو لنا غير قابل للجدل هو أن تطور بولس نحو المسيحية لم يتم بالقدس وأن مذهبه لم ينشأ من الاتصال بالحواريون) ويقول عن رؤيا بولس التي تحول بها من عدو للمسيحية إلى أكبر داع لها ( ولنؤكد هنا أن رؤيا طريق دمشق لم تغير من ذات بولس بل دفعته فحسب إلى تطبيق مبادئه القديمة في اتجاه جديد ..) [18] .
ويشير جينيبير إلى حقيقة خطيرة تحول بها المسيح من عبد الله إلى ابن الله في العقيدة المسيحية التي نشرها بولس ، فيقول أن اليهود كانوا يطلقون عبارة ( خادم يهوه) على كل إنسان يظنون لديه إلهاما من لدن الله , وحين ترجمت هذه العبارة إلى اليونانية ترجمت إلى لفظ يحتمل معنيين في وقت واحد هما (خادم) أو(طفل) وتحول بذلك (خادم الله) الذي يلهمه الله إلى (طفل الله ) وذلك باختيار بولس [19] . أى من خادم أو عبد الله الى إبن لله ، تعالى الله جل وعلا عن ذلك علوا كبيرا.!
وفي فصل عن تطور المسيحية المذهبية يتحدث (ويلز) عن دور بولس في نشر المسيحية وانحرافها فيقول (وكان القديس بولس من أعظم من انشأوا المذهب المسيحي وهو لم ير عيسي قط ولا سمعه يبشر الناس , وكان اسم بولس في الأصل شاؤول وكان في بادي الأمر من أبرز و انشط المضطهدين لفئة الحواريين القليلة العدد ، ثم اعتنق المسيحية فجأة وغير اسمه فجعله بولس .أوتى ذلك الرجل قوة عقلية عظيمة كما كان شديد الاهتمام لحركات زمانه الدينية فتراه على علم عظيم باليهودية المثيرائية وديانة ذلك الزمان التي تعتنقها الإسكندرية فنقل إلى المسيحية كثيرا من أفكارهم ومصطلحات تعبيرهم ، ولم يأت إلا بالقليل في توسيع أو تنمية فكرة يسوع الأصلية .. ولكنه علم الناس أن موت عيسي كان تضحية – مثل سمات الضحايا القديمة المقربة للالهة في الحضارات البدائية من أجل خلاص البشرية ) .
ثم يتحدث عن بعض نواحي التأثر بالعقائد الوثنية فيما أضافه بولس فيقول (أنها استعارت أشياء شكلية كالقسيس الحليق وتقديم النذور والهياكل والشموع والتراتيل والتماثيل التي كانت لعقائد متراس والإسكندرية ، بل تبنت أيضا حتى عباراتها وأفكارها للاهوتية ) ثم يشير الكاتب إلى الصلة بين مسيحية بولس والعقائد الفرعونية فيقول ( وراح القديس بولس يقرب إلى عقول تلاميذه الفكرة الذاهبة إلى أن شأن عيسى كشأن اوزيريس كان ربا مات ليبعث حيا وليمنح الناس الخلود[20] .)
ولم يدر بولس أنه بنشره فكرة ألوهية المسيح قد أوقع أتباعه في انقسام لابد منه حول طبيعة المسيح ومدى حظه من الألوهية .. وهي مشكلة خالدة لدى المسيحيين , ولا يمكن أن يصلوا من خلالها إلى حل طالما أن البداية خاطئة وهي اعتبارهم المسيح إلها ، واتباعهم لبولس الذي حرف المسيحية وأنحرف بها ونشرها بتلك الصورة ، فكانت تجديدا للعقائد الوثنية المصرية ولكن تحت أسماء وشعارات جديدة ، ولولا ذلك ما انتشرت بين الناس , إذ إن أكثر الناس كما حكم القرآن الكريم لا يؤمنون بالله إلا وهم مشركون (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون . يوسف 106 ) بل إن أكثر الناس يضلون عن سيل الله ( وإن تطع أكثر من الأرض يضلوك عن سبيل الله . الانعا م 116 )
من هنا توافقت مسيحية بولس مع أهواء الأكثرية من البشر , وكان منتظرا أن تكون أكثر توافقا مع المصريين إذ هم الأصل الذي أخذ عنه بولس .
دخول المسيحية مصر وتمصيرها :
من المعتقد أن المسيحية وصلت إلى مصر في عصر مبكر في القرن الأول الميلادي . وتري المصادر المسيحية أن مرقس كان أول الدعاة لها في مصر . ثم ظهرت في مصر منذ القرن الثاني الميلادي كتابات مسيحية , فقد حفظت أوراق البردي نصا من أنجيل يوحنا يرجع للنصف الأول من القرن الثاني , كما عثر على انجيل مسيحي جديد غير الأناجيل الأربعة التي اعتمدتها الكنيسة ويرجع تاريخه إلى نفس الفترة [21] .
ثم دخلت المسيحية في دور الاضطهاد حين تبين للرومان أن المسيحيين لا يؤلهون الإمبراطور الروماني ولا يقبلون التعايش مع الديانات الاخري ويعتبرونها وثنية . ولذلك عرف المسيحيون المصريون الاضطهاد الروماني منذ سنة 203 في عهد الإمبراطور سيفيروس . ثم حدث اضطهاد ثان في منتصف القرن الثالث في عهد الإمبراطور ديكيوس ، حيث تمت محاولة منظمة لابادة المسيحية نهائيا , ثم سمح الإمبراطور جالينوس للمسيحيين بحرية العبادة ، ثم تجدد الاضطهاد في عهد دقلديانوس ( 284- 305 ) إذ بعد فترة من المحاولات السلمية مع المسيحيين ليرجعهم عن دينهم قام بأقسى اضطهاد استمر بعد اعتزاله الحكم إلى أن تولي قسطنطين 323- 337 فاعتنق المسيحية واعترف بها ديانة رسمية للإمبراطورية .
وإبان الاضطهاد ظهر المسيحيون صفا واحدا فلما نعموا بالأمان في عهد قسطنطين ظهرت فيما بينهم الاختلافات والانقسامات حول طبيعة المسيح [22] .
وقد عقدت عدة مجمعات دينية لرأب الصدع بين الآراء المتعارضة ، وقد تزعمت مصر رأيا خاصا بها حول طبيعة المسيح ، وأصرت عليه وناصبت من أجله الامبراطورية الرومانية العداء وتحملت في سبيل عقيدتها في المسيح صنوفا من الاضطهاد بسبب الخلاف المذهبي ، وذلك الرأي هو الألوهية الكاملة للمسيح في إطار الثالوث الإلهي .
وأهم مراحل الخلاف المذهبي ما حدث في عهد الامبراطور قسطنطين ثم في عهد الإمبراطور ثيودورسوس 379 – 395 ,ففي عهد قسطنطين ظهرت الدعوة الاريوسية يتزعمها أريوس وهو من أصل ليبي رأى أنه لا يمكن لابن المسيح أن يكون إلها بنفس درجة الأب ولا يمكن أن يكون معه من طبيعة واحدة . وقد واجه دعوته أسقف الإسكندرية وبرز في مقاومة الاريوسية اثناثيوس الذي واجه اضطهاد السلطات الحاكمة في مصر وأصر على عقيدته وآزره المصريون الذين لا يتصورون أن يكون المسيح إلا جزءا أساسا من الله , وهي نفس العقيدة المتوارثة عن الثالوث عند الفراعنة (ولم يكونوا يعدونها أربابا منفصلة بل هيئات ثلاثا لإله واحد ) على حد قول مؤرخي العصر الفرعوني , وربما كانت لفظة أقانيم في اللاهوات المسيحي مأخوذة عن ذلك الأصل الفرعوني . والمهم أن الأقباط اعتقدوا مثل أسلافهم أن الثالوث الاب والابن ,والروح القدس ) أقانيم لا تتجزأ. ومن هنا أصر المصريون على أن المسيح من طبيعة واحدة مع أبيه الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا . بل هو الله هبط إليهم في صورة المسيح ليخلصهم .
وفي عهد ثيودوسيوس عاد الاختلاف إذ أصر نسطور على وجود جانب بشري في المسيح مع الجانب الإلهي فقاوم المصريون هذه الدعوة في عهد الأسقف كيرلس ,وكان المذهب المصري في الوهيه المسيح الكاملة قد انتشر في سوريا وصار له أنصار حتى في داخل القسطنطينية فنجح كيرلس الأسقف المصري في مجمع أفسوس سنة 431 في إصدار قرار ضد نسطور نفسه, ثم عقد مؤتمر خلقدونية سنة 451 وقد أكد على وجود طبيعتين للمسيح وحاول الامبراطور ماركيانوس تطبيق قرارات خلقدونية بالقوة في مصر مما أدي إلى اضطرا بات عنيفة في مصر وسوريا حيث تعتنق الولايتان مبدأ الطبيعة الإلهية الواحدة للمسيح مما أدى لانفصال الكنيسة المصرية عن القسطنطينية، وكان العداء الديني بين الكنيستين المصرية والرومية من عوامل نجاح الفتح العربي الإسلامي لمصر [23] .
لقد اعتقد الأقباط أنهم على حق في التمسك بعقيدتهم عن الوهية المسيح الكاملة ، ليس فقط لأن تلك العقيدة تراثهم الديني الفرعوني ، ولكن أيضا لأنهم المصدر الاساس في تألية المسيح واعتباره ابنا لله ، فعن المصريين انتشرت وانتقلت للخارج شتي الرموز العقيدية ، وكانت سوريا أقرب البلاد وأكثرها تأثرا بالدين المصري ، لذا كانت تؤيد مصر في مذهب الطبيعة الواحدة حتى إن ذلك المذهب أطلق عليه لقب اليعاقبة نسبة إلى زعيم السوريين المنادين بذلك المذهب المصري وهو يعقوب البرادعي . وقبل ذلك بقرون ظهر في سوريا بولس المتأثر بالعقائد المصرية الأصل وأحدث الانقلاب في المسيحية . من هنا أمكن لمصر وهي مجرد ولاية رومانية أن تتزعم المعارضة الدينية ضد الامبراطورية وعاصمتها القسطنطينية .
إن بصمات مصر على المسيحية أكثر مما تحصي ، ليس فقط في الرهبنة والثالوث والفلسفات الاتحادية التي تداخلت مع التدين المسيحي ، ولكن وصل التأثر بمصر إلى دقائق فرعية مثل التعميد والمأدبة ولها أصل في الفرعونية أشار له الأستاذ شارل جنيبيير [24] وعلق عليه بقوله (هل نحن بحاجة إلى إيضاح أوجه الشبه الساطعة بين هذه الطقوس والشعائر المختلفة وبين طقوس وشعائر التعميد والقربان عند المسيحيين ؟ إن كبار رجال الكنيسة من القديس بولس إلى القديس أوغسطين أي من القرن الأول إلى القرن الخامس الميلادي لم يتجاهلوا هذا التشابه . إلا إنهم فسروه حسب أهوائهم فقالوا أن الشيطان أراد أن يتشبه بالمسيح وأن شعائر وطقوس الكنيسة كانت مثلا أراد المشركون أن يحتذ وه في أسرارهم ، وتلك نظرية لا يمكن الدفاع عنها لأن الأساطير الجوهرية والمراسيم الدينية كانت سابقة في تلك الديانات على مولد المسيحية) [25] .
لقد تمثلت الرموز المسيحية في الديانة القبطية في اثنين من كبار رجالاتها وهما اثناثيوس وانطونيوس . أما اثناثيوس فهو الأسقف المصري الأكبر الذي وقف ضد مذهب أريوس والإمبراطورية الرومانية وتعرض للنفي والاضطهاد والمحاكمات والمؤامرات يؤيده في ذلك المصريون ، وقد امتد به العمر فظل يتزعم الأقباط نحو خمسين عاما, وبسبب نضاله ضد الإمبراطورية اشتهر عنه المثل القائل (كل العالم ضد اثناسيوس واثناسيوس ضد العالم) [26]
أما انطونيوس فقد كان زعيم الرهبان المصريين وفي جبهة واحدة مع اثناسيوس في الخلاف مع القسطنطينية وأصحاب مذهب الطبيعيتين . والسمات الفرعونية واضحة في شخصيه انطونيوس فقد كان أيضا لا يتكلم غير اللغة المصرية القبطية ، وبعد أن تربي تربية مسيحية مصرية على يد أبويه اعتزل وانتشرت على يديه الرهبنة في الصحراء الشرقية . وكان يقطع عزلته لمناصرة الأقباط واثناسيوس في نضالهم ضد القسطنطينية ، وأشتهر انطونيوس بالتطواف في البرابي الفرعونية وعاش في أحد المعابد الفرعونية [27]
وتلك سمة اشتهر بها فيما بعد صوفي مصري ذو ميول فرعونية ظهرت في العصر الإسلامي وهو ذو النون المصري وكان له تأثير كبير على التصوف عند المسلمين على نحو ما سنتعرض له في أوانه.
لقد عبر أثناسيوس وانطونيوس عن تصميم المصريين على عقائدهم لأنها في الأصل ثوابت قومية وطنية موروثة ، ولم يكن من السهل عليهم أن يغيروا منها إلا القشور والأسماء دون الأصل والمضمون ، وقد أفاض في شرح ذلك التصميم القبطي على التمسك بتراث الأسلاف كاتب قبطي وشرح كيف أن الديانة القبطية لم تعرف الانقسامات الداخلية كما عرفتها كنيسة الروم والكاثوليك ، ثم كيف تمسك الأقباط باستقلالهم الديني بعد الاستعمار الإنجليزي [28] .
وكان الصعيد بالذات أبرز موطن للفرعونية , كان يفر إليه دعاة القبطية حين الأزمات مع السلطة مثل اثناسيوس الذي فر إلى طيبة ومثل بنيامين الذي اختفى في الصعيد , وقبل ظهور المسيحية كان الصعيد معقلا للوثنية الفرعونية إلى أن تحول للمسيحية القبطية في أصولها الفرعونية فأصبح معقلا للقبطية , يقول كاتب قبطي عن الصعيد ( كان أهله معروفين بالغيرة الدينية فازدهرت فيه المسيحية .. ولهذا السبب نجد الآن أن اغلب الأقباط يسكنون الوجه القبلي [29] .
وفي العصر الفاطمي انتشر التشيع في الصعيد وظل مركزا له بعد انتهاء الدولة الفاطمية , وقد أعاد التشيع الفاطمي كثيرا من الرموز الفرعونية , ثم ساعد على انتشار التصوف وبهما عادت الفرعونية تحت رداء الإسلام .. وذلك موضوع جديد .
[1] أحمد بدوي : تاريخ مصر الاجتماعي , 38 : 42 . لوريمر : تاريخ الكنيسة 33 .
[2] ألعبادي : مصر من الاسكندر إلى الفتح العربي : 53 , 63 , 69 : 70 , 179 : 180 , 274 .
[3] ألعبادي : مصر من الاسكندر إلى الفتح العربي : 53 , 63 , 69 : 70 , 179 : 180 , 274 .
[4] ألعبادي : مصر من لاسكندر إلى الفتح العربي : 50 , أحمد بدوي تاريخ مصر الأجتماعى: 28 , 95 , 96 .
[5] ألعبادي : مصر من لاسكندر إلى الفتح العربي : 274 .
[6] أرمان : ديانة مصر القديمة : فصل بعنوان ( الديانة المصرية في أوربا ) من ص 479 وما بعدها .
[7] أرمان : ديانة مصر القديمة : 486 , 487 . وانظر عن إيزيس في انجلتره تاريخ الكنيسة القبطية : منسي القمص ص 20 ط 3 سنة 1982 .
[8] ويلز : موجز تاريخ العالم : فصل بعنوان ( التطورات الدينية في ظلال الإمبراطورية الرومانية ) من ص 168 : 169 .
[9] خطط المقريزي : 3/ 551 , 554 , 558 , 559 , 560 , 561 , 563 , 565 , 568 , 599 , 580 , 581 , 582 , 583 .
[10] تاريخ الكنيسة القبطية 17 : 19 .
[11] أرمان : تاريخ الكنيسة القبطية : 483 , 101 .
[12] أرمان : تاريخ الكنيسة القبطية : 483 , 101 .
[13] حكيم أمين عبد السيد : الجماعات الرهبانية في وادي النطرون . رسالة ماجستير غير منشورة بجامعة القاهرة سنة 1955 ، 7: 8 .
[14] منسي القمص : تاريخ الكنيسة القبطية , 92 , ألعبادي : مصر ( مصر من الأسكندر إلى الفتح العربى ) , حبيب سعيد : تاريخ المسيحية 178 .
[15] تاريخ الكنيسة القبطية : 198 , 207 : 211 .
[16] حبيب سعيد : تاريخ المسيحية 45 .
[17] جون لوريمر : تاريخ الكنيسة 61 . من فصل بعنوان ( الرسول بولس ومسيحية الأمم ) .
[18] المسيحية : نشأتها وتطورها : شارل جينيير , ترجمة عبد الحليم محمود : 89 , 90 , 103 , 111 ,112 , 127 .
[19] المسيحية : نشأتها وتطورها : شارل جينير , ترجمة عبد الحليم محمود : 135 .
[20] موجز تاريخ العالم : 178 – 179 .
[21] العبادي : مصر, 277 , 282 : 283 , 293 , 294 , 295 .
[22] العبادي : مصر, 277 ,282 :283 ,293 ,294 ,295 .
[23] ألعبادي : مصر , 294 : 306 .
[24] المسيحية : نشأتها وتطورها , 97 : 100 .
[25] المسيحية : نشأتها وتطورها, 97 : 100 .
[26]منسي القمص : تاريخ الكنيسة القبطية : 166 .
[27] منسي القمص : تاريخ الكنيسة القبطية :99 : 100 ..
[28] منسي القمص:تاريخ الكنيسة القبطية : 348 , 372 , 568 , 575 .
[29] منسي القمص: تاريخ الكنيسة القبطية : 222 , 372 .