الفصل الأول : الفتح الإسلامي والاستراتيجية السياسية لمصر بعد الفتح
سابعا – مصر المملوكية ( 648 هـ - 921 هـ ) – ( 1250 م -1517 م )
يعتبر قيام الدولة المملوكية حدثا فريدا في التاريخ الإسلامي, حيث حكم المماليك وهم رقيق الأيوبيين – أملاك أسيادهم الأيوبيين , وتقودهم في مبدأ الأمر امرأة كأول وآخر سلطانه في التاريخ الإسلامي .
وهذا الوضع لم يكن له ليستمر إلا بقوة المماليك ودهائهم وضعف الأيوبيين وتناحرهم وقوة مركز مصر في العالم الإسلامي على أنها الملجأ الوحيد لإنقاذ المنطقة من الصليبين والخطر المغولي القادم , وقد استطاع المماليك تأكيد نفوذهم بإرهاق الوجود الصليبي ثم إزالته نهائيا في نفس الوقت الذي قضوا فيه على الخطر المغولي وبمطاردة المغول في الشام لم تقم للدولة الأيوبية قائمة في الشام بعد أن انتهت من مصر . وهكذا ورثت الدولة المملوكية الفتية العروش الأيوبية في الشام ومصر .
أولا : خطوات إقامة وتوطيد الدولة المملوكية في مصر
يظهر أن المماليك لم يفكروا في الخروج على طاعة الأيوبيين إذ بذلوا كل ما في وسعهم في القضاء على حملة لويس التاسع , وحفظوا السلطة كاملة لتوران شاه في وقت كان أبوه الصالح أيوب ميتا وهو بعيد في العراق . ولو كان لديهم طموح لاستغلوا تلك الجروح القاسية في مصلحتهم , إلا إن أقصي ما كانوا يطمعون فيه هو التقدير والعرفان بالجميل , ففوجئوا
وتوجسوا شرا من السلطان الجديد توران شاه وهو لا يختلف في شيء عن صغار الأيوبيين فعاجلوه بالقتل قبل أن يوقع بهم , فقتل توران شاه كان عملا وقائيا في بدايته كما يظهر من استقراء وقائع التاريخ , إلا إن القضاء على توران شاه أوقع المماليك البحرية في مشكلة من يخلفه ولإنقاذ الموقف فقد توجت شجرة الدار أرملة الصالح أيوب , وهي امرأة أ"RTL"> وبعد أن فرغ أيبك من الخطر الأيوبي الخارجي قام بتوطيد سلطته في الداخل فأرسل أقطاى زعيم المماليك البحرية بجيش تمكن من هزيمة الأعراب في بلبيس وطلب حصن الدين الأمان فأمنه المعز أيبك ثم اعتقله وقتل أصحابه وعامل الأعراب بالعسف حتى ذلوا وقلوا على حد قول المقريزي [3] .
والواقع أن توطيد الدولة المملوكية بدأ حقيقة في عهد قطز الذي انتصر على الخطر المغولي وفي عهد الظاهر بيبرس الذي قلم أظافر المغول والصليبين لأن الشام هو بوابة الخطر الذي يأتي لمصر في عهد الانتقال من دولة إلى دولة .
ثانيا : المماليك والشام
كان الشام الخطر الأكبر على الدولة المملوكية الناشئة ففيه الصليبيون ومفهوم أنهم أعداء للسلطة الجديدة التي أبادت حملة لويس التاسع , وفيه الملوك الأيوبيون وهم لن يسامحوا في سقوط مصر بين مماليكهم وعبيدهم بعد أن قتلوا توران شاه .
ثم كان الخطر الأكبر على الجميع وهم المغول الذين اكتسحوا في الجولة السابقة الدولة الخوارزمية ثم عادوا في هذه الجولة فاكتسحوا قلاع النزارية الباطنية في آل موت ثم دمروا بغداد والخلافة العباسية سنة 658 وتهاوت أمامهم العروش الورقية لأبناء أيوب وسلجوق في الشام والعراق , ووقع على كاهل المماليك في بداية دولتهم أن يتعاملوا مع ذلك الخطر بعد أن انحدر للشام واتجه لمصر .
وقد أفلحت الدولة المملوكية في مد سلطانها على الشام حتى الفرات بل وصلت إلى أبعد ما وصل إليه صلاح الدين في عهد الظاهر بيبرس الذي اخضع الأرمن ودمر عاصمتهم وامتد ملك الدولة في عهده إلى أقصي اتساعه .
ولتتبع خطوات المماليك في ضم الشام وتعاملها مع تلك القوي .
1- الورثة الأيوبيون في الشام :
تزعمهم الناصر داود الذي استولى على دمشق في الصراع ضد المماليك بعد تولي شجرة الدر السلطنة ذلك أن الناصر داود كان أكبر الورثة الأيوبيين ثم إن مركزه الجديد في دمشق يفرض عليه أن يحدد موقفه من القاهرة . وتحالف الناصر داود مع الصليبين . وبدا الصراع بينه وبين المماليك في غزة سنة 648 فهزمه أقطاي كبير المماليك البحرية .
ولم ييأس الناصر داود فجمع أقاربه من الملوك الأيوبيين وزحف بهم إلى مصر ودارت معركة كبيرة عند الصالحية وانهزم فيها الناصر داود مع كثرة عساكره لان المماليك الذين كانوا في جيشه انحازوا إلى الجيش المملوكي المصري , وأسر المعز أيبك جملة من الملوك الأيوبيين في المعركة والأمراء المتعاونين معهم .
وفي سنة 649 استولى أقطاى على الساحل الشامي ونابلس إلى نهر الشريعة فسير الناصر داود حملة من دمشق إلى غزة فخرج المعز أيبك بجيش إلى الصالحية وترددت الرسل بينه وبين الناصر داود وبعث الخليفة العباسي الشيخ الدردرائي ليصلح بين المعزأيبك والناصر داود ودارت مفاوضات طالب فيها المماليك بجزء من الساحل الشامي الجنوبي بالإضافة إلى مصر .
وسنة 651 تقرر الصلح على أن يكون للمصريين حتى الأردن وللناصر ما وراء ذلك وأن يدخل فيما للمصريين غزة والقدس ونابلس والساحل كله وأن يطلق المماليك الملوك الأيوبيين الأسرى [4] .
وواضح أن المماليك نجحوا في مد سلطانهم إلى جنوب الشام مع الساحل , وقد وافقهم الناصر داود ونال لنفسه الشام الشمالي وطبعا كان ذلك على حساب أقاربه الأيوبيين المأسورين عند المماليك منذ معركة الصالحية وقد اشترى الناصر حريتهم من أسر المماليك بعد أن اتفق مع المماليك على اقتسام الشام .
ثم كان الامتحان الأكبر للدولة المملوكية الناشئة أمام المغول .
(( المماليك والمغول ))
وكان المغول أكبر خطر هدد المنطقة تحركوا من أقصي الشرق يدمرون كل جزء من العالم يمرون به فقضوا على إمبراطورية الصين وتجمعات الترك الرعويين وما لبثوا أن هزموا الدولة الخوارزمية بعد عدة جولات . ومنها انفتح الطريق أمامهم للدولة العباسية فدمروا بغداد وقتلوا الخليفة العباسي وسكان بغداد ... وسار الرعب في ركابهم وسبقهم في القدوم ... واستسلم لهم بعض الأمراء الأيوبيين كحاكم حمص الذي خدم هولاكو وسار في صحبته والناصر داود حاكم دمشق وحماه ... وخضع للمغول الصليبيون في إنطاكية والأرمن في ارمنيا ... وتوغل المغول في الشام وبعث هولاكو للمماليك يطلب خضوعهم ... كان قطز يتولى نيابة السلطنة للسلطان الصبي ابن أيبك . وأنتهز الفرصة فأعلن نفسه سلطانا وأخذ في الاستعداد وأرسل مقدمته إلى غزة يقودها بيبرس فهزم حاميتها المغولية وفي هذه الأثناء هلك منكوخان الخان الأكبر فانسحب هولاكو بجزء من الجيش إلى الشرق وترك الباقي تحت قيادة كتبغا ليواجه المماليك ...
وسار قطز قرب عكا ثم جاءته أنباء بأن كتبغا عبر نهر الأردن وأنه نفذ إلى الجليل الشرقي فسار مسرعا إلى الجنوب الشرقي فوصل عين جالوت ...
معركة عين جالوت : ( 658 هـ 1260 م ):
وقدم كتبغا ولم يكن يعلم أن جيش المماليك قد سبقه وكان قطز يدرك تفوق قواته في العدد فاخفي الجانب الأكبر منها في التلال ولم يعرض للعدو إلا المقدمة التي يقودها بيبرس ووقع كتبغا في الفخ فهجم على مقدمة الجيش بكل قوته فتقهقرت أمامه واستدرجته إلى التلال فأحاطت به جموع المماليك وطوقته , وأبلى كتبغا في القتال دون جدوى إذ إن الهزيمة حاقت بالمغول [5] لأول مرة في تاريخهم .
وتعتبر عين جالوت من المعارك الفاصلة في التاريخ العالمي إذ بها اندحر المغول شرقا واكتسبت السلطة المملوكية الجديدة احترام العالم الإسلامي فقد أنقذوا المسلمين ليس في الشرق الأوسط فحسب وإنما في أفريقيا ... ومن ناحية أخرى عجل القضاء الحربي على المغول بدخول بعضهم في الإسلام حين أسلمت القبيلة الذهبية التي تحكمت في العراق وكونت به دولة مغولية مسلمة واستولى قطز على سائر بلاد الشام حتى الفرات وخضع له أمراء الشام الأيوبيون وعجلت هذه المعركة بزوال الصليبين إذ إن المسلمين المنتصرين عزموا على التخلص النهائي من أعداء الدين فتابع بيبرس الذي قتل قطز وخلفه – الجهاد ضد المسلمين والمغول في نفس الوقت وتأكدت بذلك سلطة المماليك كأكبر قوة في مصر والشام .
الظاهر بيبرس والمغول :
تمكن بيبرس بعد أن تسلطن من الاستحواذ على إمارات الأيوبيين في الشام وعاقب المسيحيين الذين تحالفوا مع المغول مثل ملك أرمنيا وأمير إنطاكية الصليبي ... وفي هذه الآونة أعلن بركة خان زعيم القبيلة الذهبية إسلامه وتحالف مع بيبرس وتعاونا معا على إمداد كيكاوس السلجوتي بجند تمكن به من استعادة ملكه في الأناضول ...
ولم يستطع هولاكو الانتقام من المماليك مع تحالفه مع الأرمن والصليبين , وانشغل بهجوم بركة خان عليه وتمكن بيبرس بذلك من توفير وقته لإجهاد الوجود الصليبي في عكا [6] إلى أن انتهي نهائيا في عهد الاشرف خليل بن قلاوون ...
وحتى تستكمل مصر مظاهر زعامتها للعالم الإسلامي فقد دعا بيبرس أحد أقارب الخليفة العباسي ونصبه خليفة في القاهرة إلا إن بيبرس تخوف من الخليفة الجديد فحجز عليه ثم بداله أن يتخلص منه فبعثه بجيش صغير ليحارب المغول فهزم وقتل ... وعين آخر محله ... واقتصر دور الخليفة على مبايعة كل سلطان [7] … وأصبح من جملة شعائر الدولة المملوكية التي أضحت بها القاهرة حاضرة العالم الإسلامي بعد بغداد .
3- المماليك والصليبيون …
ارتفع شأن المماليك بانتصارهم على حملة لويس التاسع وارتبط توطيد الحكم المملوكي في عهد الظاهر بيبرس بحروب نشطة ضد الإمارات الصليبية في الشام على إن جهد بيبرس اتجه إلى ناحية الصليبين والأرمن مع المغول في نفس الوقت .
ومن ذلك أن بيبرس هزم الأرمن ونهب مدنهم ليؤمن ملكه في حلب وشمال الشام ولم يترك الفرنجة يستريحون فأكثر من الإغارة عليهم حتى أصبحت حياتهم في عكا لا تطاق ثم فاجأ إنطاكية واقتحمها ودمرها بمن فيها , وبسقوط إنطاكية في يد بيبرس أنهار الصليبيون في شمال الشام حتى إن الدواية تخلوا عن قلاعهم المجاورة لإنطاكية [8] ..
وتابع قلاوون جهد سلفه بيبرس فاستولى على حصن المرقب الحصين واخرج عنه الاستبارية ثم أتم الاستيلاء على اللاذقية وفتح طرابلس ... ونقضت عكا الهدنة فتجهز للقضاء عليها – وكانت المعقل الأخير للصليبين إلا إنه مات قبيل تحقيق غرضه فأتم ابنه ذلك العمل – عملا بوصية أبيه .. وباستيلاء الاشرف خليل بن قلاوون على عكا سلمت صور وبيروت وطرطوس وعثيلت وارواد وظلت جيوش المماليك تزرع الساحل الشامي من أقصاه إلى أقصاه بضعة شهور تدمر كل أثر للفرنجة في المنطقة وأنهي المماليك بذلك الحروب الصليبية [9] التي بدأت قبلهم بنحو قرن ونصف القرن وخلصت لهم سيطرتهم على الشام .
استعراض الدولة المملوكية
الفتن والمؤامرات كأساس للسياسة المملوكية وتولي السلطة
مفتاح الشخصية المملوكية – كنظام سياسي – هو المساواة بينهم جميعا في الأصل والنشأة والتفاضل بينهم يكون بالمقدرة القتالية والدهاء السياسي ... فكلهم جيء به من بلاده الأصلية رقيقا لينخرط في سلك المماليك ثم ليتدرج بكفاءته السياسية والحربية حتى يصل إلى السلطنة ولا عبرة إلا بملكات المملوك وقدراته لذا نجد بعض الغرائب فالظاهر بيبرس كان في الأصل مملوكا لأحد الأمراء الأمير البند قداري ونسب الله فقيل بيبرس البند قداري . واعتقه سيده ثم وصل بيبرس بدهائه وقدرته إلى أن أصبح سلطانا وسيده السابق أصبح مجرد تابع صغير له في دولته .. ومهارة بيبرس تتجلى في قدرته الفائقة على المؤامرات والدهاء مع نشاطه الحربي ....
وحين يصل مملوكا ما بدهائه وحذقه في المؤامرات إلى السلطنة فإنه يواجه مؤامرات الآخرين إلى أن يموت نتيجة المؤامرة . وهكذا تدور السياسة المملوكية في حلقة لا تنتهي من الدسائس والمؤامرات ...
وقبل أن نعرض للتفاصيل نضع بعض الملاحظات التي تقعد سياسة المؤامرات المملوكية :
1- إن معرفة المماليك بفن المؤامرات بدأ قبل قيام الدولة المملوكية رسميا, أي أن المماليك تعلموا فن المؤامرات في المدرسة الأيوبية , حيث برع الأيوبيون في حياكة المؤامرات ضد بعضهم البعض , وهذا ما فعله المماليك – مماليك السلاطين الأيوبيين إذ كانوا عنصرا في تدبير المؤامرات , والمماليك البحرية شاركوا في مؤامرات الصالح أيوب ثم ضد ابنه توران شاه , وقامت دولة المماليك البحرية واستكثر احد أعلامها السلطان قلاوون في شراء المماليك واسكنهم أبراج القلعة وهم ( المماليك البرجية ) وكثر المماليك البرجية ومارسوا لعبة المؤامرات في سلطنة أبناء وأحفاد سيدهم قلاوون , إلى أن قامت دولتهم وقد تمرسوا – أي البرجية – بفن المؤامرات خلال الدولة المملوكية البحرية إلى أن أقاموا دولتهم البرجية تماما كما فعل البحرية أثناء دولتهم الأيوبية .
2- قد تنتهي المؤامرة بقتل السلطان – وحينئذ يتولى القاتل السلطنة طالما كان كفئا , وبذلك يصبح قتل السلطان مسوغا شرعيا عندهم لصلاحية القاتل كسلطان شأن مجتمع الغاب , وذلك هو الأغلب في السلطات العسكرية فالأقوى هو الأغلب , ومعنى ذلك أن الأمراء لا يخضعون للسلطان إلا لأنه أقواهم , وهو قرين لهم وند فإذا ما مات فحظ ابنه أن يكون مجرد فترة انتقالية ليظهر فيها الأكفاء من بينهم ليتغلب على السلطنة ويمسك بزمام الأمور ويعزل السلطان الصغير أو يقتله , ومن عجب أن أكثر السلاطين كان يخدع نفسه ويصدق نفاق أتباعه فيخيل إليه أنهم سيرعون حقه عليهم بعد موته في رعايتهم لابنه فيأخذ عليهم العهود والمواثيق ويمكن لابنه في حياته ما استطاع ومع ذلك فإن أخلص ممن يقوم بأمر ابنه في حياته يكون هو نفسه الذي يعزله بعد فترة انتقالية معقولة ويتسلطن , وينشيء أتباعا جددا من المماليك الذين يشتريهم , ويبعد عنه رفاقه السابقين في المؤامرات , وأعداءه طبعا , وبعد أن تقترب منيته يظن أن الأمور استتبت له فيأخذ العهد لابنه ويأتمن عليه أخلص أتباعه إلا أن القصة تتكرر بحذافيرها , ويعزل التابع ابن سيده السلطان السابق وتتكرر القصة وهكذا , وتستمر المؤامرات وبهذا قامت الدولة المملوكية البحرية وبهذا استمرت وبذلك قامت الدولة المملوكية البرجية وبذلك استمرت إلى أن سقطت , وبعد أن سقطت استمر المماليك في الحكم في إطار الدولة العثمانية فاستمرت مؤامراتهم , حتى قضى عليهم ( محمد علي ) في مذبحة القلعة فأراح واستراح .
ونعود إلى استعراض سريع للدولة المملوكية من خلال أمرائها وحكامها :
1- أثناء الدولة الأيوبية : وقبل أن تقوم دولة المماليك شارك أمراء المماليك في حوادث الخلاف المستمرة بين أبناء البيت الأيوبي , فالمماليك ( الصلاحية ) – الذين اشتراهم صلاح الدين – علا شأنهم على حساب المماليك ( الأسدية ) – أتباع أسد الدين شيركوه , وقد تذمر الأسدية إبان حكم صلاح الدين إلا أن شخصيته القوية لم تسمح بتطور الأمور , وبعد موته استغل العادل استياء الأسدية من علو نفوذ الصلاحية فتحالف معهم حتى ضم مصر وبه علا شأن الأسدية وضعفت المماليك الصلاحية , وكون العادل مماليك له عرفوا بالعادلية , وأولئك كان لهم دور بعد موت العادل فقد كرهوا تولى ابنه الكامل فاضطهدهم , وكون مماليك له عرفوا بالكاملية وبدورهم فقد كره الكاملية تولية ابن سلطانهم الكامل واسمه العادل الثاني فاعتقلوه وبعثوا لأخيه الأكبر الصالح أيوب فجاء إلى مصر وتسلطن , وعمل الصالح أيوب على الإكثار من شراء المماليك وأسكنهم في الجزيرة فعرفوا ( بالبحرية) , وأولئك البحرية كرهوا ابن سلطانهم الصالح أيوب – وهو توران شاه إذ كان على شيمة أسلافه يضطهد مماليك أبيه ويعول على إنشاء عصبة مملوكية جديدة تدين بالولاء له وعلى ذلك فلم يكافئهم على جميلهم حين حفظوا له ملكه وأظهر لهم العداء والتآمر فقتلوه , وانفردوا بالحكم من دونه ومن دون الأيوبيين جميعا . فالمماليك منذ بداية الدولة الأيوبية وهم الاعرف بفنون المؤامرات ولا ريب وأن وصولهم للسلطة تم بمؤامرة أطاحت بحياة توران شاه , وعلى ذلك الدرب سيسيرون في دولتهم .
2- وبتولى المماليك السلطنة اتخذت مؤامراتهم طابعا محليا داخليا فيما بين المماليك أنفسهم للوصول للحكم أو للاحتفاظ به من أنياب الطامعين من بينهم . فبعد قتل توران شاه بتدبير شجرة الدر وتنفيذ المماليك البحرية بزعامة أقطاي وبيبرس اتفق على تولية شجرة الدر أرملة الصالح أيوب ( أم ولده خليل ) , واحتج الخليفة العباسي على أن تتولى امرأة حكم المسلمين في مصر , فكان لابد لشجرة الدر أن تتزوج وكان على رأس المماليك اثنان أقطاي زعيم البحرية وأيبك كبير المماليك السلطانية . ورأت شجرة الدر أن نفوذها يمكن أن يستمر مع زعيم البحرية ايبك دون اقطاي القاتل الخشن فتزوجت ايبك , وبذلك أصبح المماليك قسمين يتآمر كل منهما ضد الأخر , فاقطاي أتبع أسلوب البدء بالهجوم فظل جنوده ينشرون الفساد ليثبت أن السلطان الجديد عاجز عن إقرار الأمن , وفي نفس الوقت خطب إلى نفسه أميره أيوبية وطلب من شجرة الدر أن تترك لها مكانا في القلعة , وتآمرت شجرة الدر وايبك على قتل اقطاي وشارك في المؤامرة قطز الساعد الأيمن لايبك . وكان قطز صديقا لبيبرس وأقنعه بسلامة النية في دعوة اقطاي لمقابلة شجرة الدر , وحين دخل أقطاي القصر السلطاني أحيل بينه وبين حرسه وقتل . وألقيت رأسه إلى أتباعه ففروا وهربوا من مصر وكان من بينهم بيبرس .
وصفا الجو لايبك وشجرة الدر , إلا أن الخلاف ما لبث أن اشتد بينهما إذ كانت شجرة الدر امرأة طموحا تنشد الاستقلال بالسلطة وترى في زوجها – الذي كان تابعا سابقا لها – مجرد أداه لتنفيذ مآربها , وايبك من ناحيته عزم على التحرر من قبضتها والاستئثار بالنفوذ واستوحش كل منهما الآخر , وأعلن أيبك انه سيخطب إلى نفسه نفس الأميرة الأيوبية التي كان أقطاي يخطبها لنفسه سابقا وليزيد من إغاظة شجرة الدر رجع إلى زوجته السابقة ( أم علي ) , واستعملت شجرة الدر كل دهائها حتى أقنعت أيبك بالصلح معها , وحين جاء يقضى معها الليل كانت ليلته الأخيرة , وثارت المماليك على شجرة الدر ونصبوا أبنه عليا الطفل سلطانا , وشفت أم علي غليلها من غريمتها شجرة الدر إذ أمرت الجواري أن يقتلنها ضربا بالقباقيب , وتولى قطز الوصاية على السلطان الطفل علي بن أيبك وأقبل الزحف المغولي فعقد مجلسا أعلن فيه أن البلاد في خطر وان السلطان الجديد لا يستطيع النهوض بالأمر وعزله وتولى مكانه , ولتوحيد الجهود ضد المماليك فقد بعث السلطان قطز لصديقه السابق بيبرس وأمراء البحرية الفارين ليتعاونوا معه ضد الخطر المغولي ,فأتوا إليه من الشام , وبعد انتصار قطز على المغول تأمر عليه البحرية بقياده بيبرس انتقاما لمقتل سيدهم أقطاي وقتلوا قطز في طريق العودة , وتم تنصيب بيبرس سلطانا , ولقد قام بيبرس بتوطيد الدولة المملوكية ورفعة شأنها في الشام والعراق والحجاز وحاول في أخريات حياته أن يوطد الأمر لابنه سعيد بركة فولاه العهد من بعده . وحتى يضمن ولاء المماليك له من بعده فقد زوجه من ابنة كبير المماليك قلاوون الألفي وجعل قلاوون نائبا له , وأخذ العهد لابنه في احتفال كبير أقسم فيه المماليك على الإخلاص ( لسعيد بركة بن الظاهر بيبرس ) حين يتولى العرش بعد أبيه .
ولكن ذلك كله لم يجد نفعا . إذ تآمر على (سعيد بركه ) من قام بأمره بعد أبيه , ولم تغن المصاهرة أو الأيمان المغلظة شيئا عند (قلاوون) الذي اضطر سعيد بركة للتنازل – سنة 678 وتولى مكانه .. وأقامت أسرة قلاوون في حكم مصر نحو قرن أو يزيد 678 – 784 .. المهم أن متاعب قلاوون لم تنته باعتقال المماليك الظاهرية – أتباع – الظاهر بيبرس – وإحلال أنصاره محلهم , وإنما ثار عليه – أقرانه من الأمراء كما فعل الأمير سذقر نائب الشام , مما جعل قلاوون ينشيء لنفسه عصبة خاصة من المماليك الذين أكثر من شرائهم وأقام لهم أبراجا خاصة بالقلعة فعرفوا( بالمماليك البرجية) وأولئك هم الذين تآمروا على اغتصاب السلطة من أبناء وأحفاد السلطان قلاوون ثم استطاع أحدهم في النهاية وهو برقوق إقامة الدولة المملوكية البرجية .
3- وأسهم المماليك البرجية في الفتن في دولة أبناء قلاوون – أو في نهاية الدولة المملوكية البحرية . وشاركوا في ذلك بقايا المماليك البحرية , وقد تآمر بعض البحرية على قتل الاشرف (خليل بن قلاوون) الذي فتح عكا وأزال الوجود الصليبي نهائيا , فقتل بيدرا الاشرف خليل وأعلن نفسه سلطانا إلا إن أمره لم يتم فقد تمكن المماليك البرجية – أتباع البيت القلاوونى من قتل الأمير بيدرا , وبدأ الصراع بين المماليك البرجية حول تولية السلطان , وكالعادة اتفق على تولية الصبي (محمد بن قلاوون ) السلطة باسم الناصر محمد . وتحكم النائب كتبغا في الناصر محمد ,ثم عزله ونفاه إلى الكرك وأعلن نفسه (كتبغا) سلطانا سنة 694 ثم تآمر على كتبغا حليفه الأمير لاجين (وكان لاجين احد قتلة الاشرف خليل بن قلاوون ) وقد اختفي ثم ظهر وتحالف مع كتبغا وبتأييده تولى كتبغا السلطنة وتمكن لاجيه من الانتصار على كتبغا فآثر كتبغا السلامة وهرب متنازلا عن العرش فتولى لاجين السلطنة , حتى قتله بعض الطموحين من صغار الأمراء ولم يتمتعا باحترام الكبار فاعدم القاتلان , واتفق على أن يعود الناصر محمد بن قلاوون للسلطنة للمرة الثانية ( 698 – 708 ) .
إلا أن الناصر محمد وقع للمرة الثانية في قبضة الأميرين المتحكمين فيه ( بيبرس وسلار ) ولما لم يستطع ممارسة نفوذه اضطر للفرار بنفسه إلى الكرك , فتسلطن بيبرس الجاشنكير , إلا إن أمره لم يتم فقد ثارت عليه العامة والجند وتمكن الناصر من الرجوع واسترداد عرشه وقتل بيبرس الجاشنكير وسلار وحكم مستبدا بالأمر حتى وفاته , وهكذا, بدأ المماليك البرجية في المؤامرات أثناء – الدولة القلاوونية البحرية , وقد اتخذ تدخلهم في بداية الآمر مظهر الدفاع عن آل قلاوون بقتلهم بيدرا قاتل الاشرف خليل ثم ما لبثوا أن تحكموا في أخيه الناصر محمد وتمتعوا بالامتيازات على حساب بقايا الأمراء المماليك البحرية , ثم تطور نفوذهم أخيرا فتولى احدهم – وهو بيبرس الجاشنكير – السلطة كأول سلطان برجي في الدولة البحرية ومع تهاوي عرشه سريعا إلا إن ذلك كان إرهاصا بقيام الدولة البرجية على يد برقوق .
ولقد انعكس نفوذ المماليك البرجية على مصير السلاطين من أبناء وأحفاد الناصر محمد بن قلاوون بعد وفاته فكثر توليهم وعزلهم تبعا لمؤامرات كبار الأمراء البرجية , حتى انه في العشرين سنة الأولى التي أعقبت وفاة الناصر محمد بن قلاوون تسلطن ثمانية من أولاده ( 741 – 762 ) وفي العشرين سنة التالية تسلطن أربعة من أحفاده , وبعضهم تسلطن وعمره عام واحد كالسلطان الكامل شعبان بن ناصر محمد وبعضهم لم يبق في الحكم إلا شهرين مثل الناصر أحمد بن الناصر محمد , وفي ظل الاضطراب وعدم الاستقرار أتاح لكبار المماليك البرجية الوصول للسلطنة بعد أن جربوا التحكم في صغار السلاطين من أبناء الناصر محمد بن قلاوون وتلاعبوا بهم وفي النهاية تولوا الحكم وساروا بنفس أسلوب المؤامرات .
4- وقد عمرت دولة المماليك البرجية أكثر من مائة وأربعة وثلاثين سنة (784 – 922 ) حكم فيها ثلاثا وعشرين سلطانا ,ومنهم تسعة حكموا مائة وثلاث سنوات ارتبط بهم تاريخ الدولة البرجية وهم برقوق مؤسس الدولة وابنه فرج شيخ وبرسباى , وجقمق وأينال , وخشقدم وقايتباى وقنصوة الغوري .
وقد تمكن برقوق بسلسلة من الدسائس والمؤامرات أن يقيم الدولة البرجية وتغلب على مصاعب عديدة وصلت إلى درجة عزله من السلطنة إلا إنه عاد وانتصر , فلقد غدا أبناء الناصر محمد بن قلاوون لعبة في أيدي الأمراء البرجية الذين تنافسوا على الوصول إلى درجة الاتابك أي أن نائب السلطنة للسلطان الصغير , وتبلور النزاع أخيرا بين أميرين كبيرين هما بركة وبرقوق , وانتهي الصراع بينهما بانتصار برقوق على منافسه ومن يتبعه والتزم بركة أمام القضاة الأربعة بألا يتحدث في شيء من أمور الدولة وأن يترك ذلك لبرقوق بمفرده , وأصبح برقوق هو المرشح عن البرجية أو الجراكسة للتحكم في السلطان القلاووني الصغير , إلا إن برقوق طمع في المزيد فقد كان يريد أن يخلع السلطان المغلوب على أمره ويحكم هو فعلا ورسميا , ولذلك خشي منافسه القديم بركة فاعتقله في الإسكندرية وأوعز إلى واليها فقتل بركة في السجن . وثار أتباع بركة فأعلن لهم برقوق أن قتل بركة تم بدون علمه وسلم لهم والي الإسكندرية فقتلوه واسترضاهم بذلك .
وتفرغ برقوق بعدئذ لخلع السلطان علي , وكان الرأي العام يعطف على أبناء البيت القلاووني ولا يميل إلى خلعهم من السلطة رسميا, وقد سبق أن الجنود والعامة ثاروا على بيبرس الجاشنكير حين خلع الناصر محمد بن قلاوون وتعاطف معه حين هرب إلى الكرك حتى رجع وانتصر على غريمه .
وبرقوق يدرك ذلك جيدا لذا عمد إلى تخدير الرأي العام فاستضاف شيخا صوفيا , معتقدا – أي يعتقد الناس ولايته – وهو الشيخ على الروبي . وقد أعلن الروبي أن برقوق سيلي السلطنة يوم الأربعاء تاسع عشر من رمضان 785 , وأن الطاعون – وكان وقتها ساريا – سيرتفع عن القاهرة ثم يموت الطفل على , ومعلوم أن الصوفي يحظى باعتقاد العامة في علمه للغيب , وإذ هيأ برقوق الأذهان لما سيحدث قتل السلطان الصغير وأشيع موته ودفن في يومه ثم عين بعده أخاه أمير حاج ثم عقد مجلسا بالخليفة العباسي والقضاه الأربعة والأمراء فعزلوا أمير حاج وبايعوا برقوق في التاسع عشر من رمضان سنة 784 أي في نفس الوقت الذي أعلنه الشيخ الروبي سابقا .
ثم عمد برقوق للتخلص من الأمراء الذين ساعدوه فقضى عليهم بالقتل والنفي واعتقل الخليفة العباسي وفي هذه الظروف مات الشيخ الروبي مما يعزر الشك في – أن لبرقوق يدا في موته وبذلك ضمن برقوق لنفسه أن ينفرد بالأمر ولا يكون لأحد عليه فضل أو نفوذ باعتباره شريكا له في المؤامرة .
إلا أن برقوق أخذ من مأمنه كما يقال فقد ثار الأمير يلبغا بالشام فوجه إليه برقوق مملوكة منطاش على رأس جيش لإخضاعه , إلا أن بلبغا اتفق مع منطاش على عزل برقوق , وبذلك استدار منطاش بجيشه ومعه بلبغا بجيشه إلى القاهرة لحرب برقوق , ولما لم يكن لبرقوق جيش يقابل به الأميرين فقد هرب إلى الكرك , ودخل منطاش وبلبغا إلى القاهرة وأعيد السلطان أمير حاجي وكما كان متوقعا دب الخلاف بين منطاش وبلبغا وانتصر منطاش ,وفي هذه الأثناء هرب برقوق من الكرك وأعد جيشا وأنضم إليه أنصاره والتقى مع مملوكه السابق منطاش في موقعة شقحب فانتصر عليه وعاد للسلطنة للمرة الثانية سنة 797 .
5- ومات برقوق سنة 801 وتولى ابنه الناصر فرج , وقد اضطر فرج للاختفاء بسبب مؤامرة حتى أعاده الأمير يشبك , ثم ثار عليه الأميران شيخ ونوروز فتنازل لهما وثار النزاع بين شيخ ونوروز وانتهي بمصرع نوروز سلطنة شيخ , بعد موت السلطان شيخ تولى ابنه أحمد تحت وصاية الأمير ططر إلى أن ططر سلبه السلطنة وتولى بعده , ومات ططر واخذ العهد لابنه محمد بن ططر تحت وصاية برسباى إلا أن برسباى ما لبث أن عزل ابن السلطان ططر وتولى مكانه , وتوفي الاشرف برسباى وعهد لابنه يوسف ابن برسباى تحت وصاية الأمير جقمق وتسلطن جقمق وحين مات جقمق عهد لابنه عثمان بن جقمق بوصاية اينال فعزله أينال وتسلطن مكانه .
وسادت فترة من الضعف في الدولة البرجية وتولى سلاطين ضعاف وكثر فيهم العزل والتولية حتى إن بعضهم كالسلطان خير بك لم يمكث سلطانا إلا ليلة واحدة سنة 872 , ثم انتعشت الدولة مؤقتا بتولي السلطان قايتباى الذي حكم تسعة وعشرين عاما تنازل في السنة الأخيرة لابنه محمد ابن قايتباى الذي دفع حياته ثمنا لمؤامرات الكبار وتعاقب جملة من السلاطين الضعاف حتى تولى الغورى سنة 906 فأعاد الأمر إلى حين [10], وانتهي أمره وأمر الدولة المملوكية في مرج دابق سنة 922 .
(( الشام ونهاية الدولة المملوكية ))
بدأ توطيد الدولة المملوكية بتأكيد نفوذها في الشام مع الناصر داود ثم بعد هزيمة المغول في عين جالوت . وفي الشام أيضا كانت نهاية الدولة المملوكية بعد قتل الغورى وهزيمة جيشه في مرج دابق أمام العثمانيين .
وبين قيام الدولة ونهايتها لم يخل الشام من وجود أمراء مماليك طموحين للسلطة حاولوا الانفصال بالشام عن مصر واتخاذه موطيء قدم للاستحواذ على مصر أثناء الفتن المملوكية التي كانت أساس تولى الحكم والاحتفاظ به في الدولة المملوكية .
وقد عرضنا لبعض أولئك الأمراء مثل الأمير سنقر نائب الشام الذي ثار على قلاوون بعد أن خلع عن السلطنة أبناء الظاهر بيبرس وتولى باسم المنصور قلاوون . ومثل الأمير يلبغا الذي ثار بالشام حين خلع برقوق السلطان الصغير من أحفاد قلاوون وتولى السلطة رسميا الظاهر برقوق وبعث إليه برقوق بمملوكه منطاش فكان أن أتفق منطاش ويلبغا على برقوق واستدار الجيشان إلى مصر فهرب برقوق للكرك , ومن الكرك تمكن من استعادة عرشه .
وفي فترات القلاقل التي كثرت مع ضعف الدولة البرجية كان أمير الشام يثور طمعا في الوصول للسلطنة في القاهرة . مثل الأمير جكم الذي ثار في حلب سنة 809 وفرض نفوذه على الشام وانتهي أمره بالفشل والقتل [11] , ونحوه كان الأمير جانم في الشام قال عنه المؤرخ أبو المحاسن كان جانم نائب الشام يطمع في السلطنة مما أوحي إليه الكذابون من أقوال الفقراء – الصوفية – ورؤية المنامات فتحقق المسكين أنه لابد أن يلي السلطنة فكان في ذلك نهايته [12] أي أن بعض الصوفية استغلوا فيه طموحه للسلطة وموقعه في الشام فتقرب إليه بادعاء المنامات الكاذبة والتبشير بالسلطة إلى أن صدقهم وثار وفشل وقتل .
وفي سلطنة الغوري كان يتخوف من سيباي نائبه في الشام حتى إنه أصر على أن يصهر إليه ليطمئن [13] , ولم يدر الغوري أن نهايته في الشام فعلا ولكن على يد أمير آخر هو خاير بك الذي تآمر على سلطانه واتفق مع السلطان سليم العثماني .
ومهما يكن فأن نهاية الدولة المملوكية كانت بسبب حمق الغوري حين تلاعب به الشاه إسماعيل الصفوي حاكم فارس الشيعي , وضرب به السلطان سليم العثماني . وقد كان سليم العثماني حليفا للغورى ضد إسماعيل الصفوي .
وقد بدا إسماعيل الصفوي بتأسيس ملكه في فارس على أساس من التصوف الشيعي المتطرف حتى أن لقبه في المصادر التاريخية في القرن العاشر إسماعيل الصوفي . وبعد أن وطد الصفوي ملكه في فارس بدأ ينشر مذهبه على حدود الدولتين المجاورتين له وهما الدولة المملوكية والدولة العثمانية , وقام بتحركات عسكرية ضد الدولتين معا وهما تعتنقان المذهب السني المخالف للتشيع مذهب الصفويين . من هنا كان لابد أن يتعاون الغوري مع سليم العثماني لمواجهة الخطر المذهبي والحربي للشاه إسماعيل الصفوي .
ولم يسكت إسماعيل الصفوي على تحالف عدويه ضده فتمكن عن طريق مبعوث سري من استمالة الغوري إليه وعقد معه معاهدة سرية حتى إذا خرج السلطان سليم العثماني لحرب الصفوي أرسل إليه الصفوي في الطريق بالغوري فتكون معركة مرج دابق بين القوتين السنيتين واحداهما قوة شابة وهى الدولة العثمانية والأخري قوة هرمة وهي الدولة المملوكية , ويتفرج إسماعيل الصفوي على خصميه يقتتلان ولا يتدخل لإنقاذ الغوري الذي أخرجه من مأمنه إلى مقتله .
وكان الذي تولى عقد المعاهدة السرية بين الصفوي والغوري مبعوثا غامضا اسمه الشريف العجمي الشنقجي يقول (ابن إياس عن خروج الغوري للحرب ذلك الخروج الذي لم يعد بعده لمصر) حضر إلى الأبواب الشريفة الشريف العجمي الشنقجي نديم السلطان الذي كان قد توجه بأفيال إلى نائب الشام ونائب حلب للاستعانة بها في حرب العثمانيين وقد أبطأ مدة طويلة حتى أشاعوا موته غير ما مرة فظهر أن السلطان – الغوري – كان أرسله إلى شاه إسماعيل الصوفي في الخفية في خبر سر للسلطان بينه وبين الصوفي كما أشيع بين الناس ذلك . فلما كان يوم السبت خامس عشر ربيع الآخر خرج السلطان [14] .
ويقول الغزي – وهو مؤرخ معاصر للأحداث في القرن العاشر – ( قبل معركة مرج دابق قرب الغوري إليه أعجميا كان ينسج المودة في الباطن بينه وبين شاه إسماعيل حتى أخرجه من مصر لقتال سليم بحجة الإصلاح بينه وبين الصوفي ) [15] .
لم يكن السلطان سليم العثماني يفكر في حرب المماليك إلا حين تحتم عليه أن يجابه الغوري في مرج دابق وكان سليم خارجا لحرب إسماعيل الصفوي ففوجيء بالحليف السابق الغوري أمامه وعرف أنه انضم للصفويين وكان موقفة دقيقا إن ترك المواجهة مع المماليك واستمر في طريقه للقاء الصفويين فمعني ذلك أنه سيحاصر بين الحليفين الصفوي والغوري لذا عجل بالحرب مع الغوري ولما انهزم الغوري وقتل وجد بلاد الشام تتساقط أمامه وقد انحاز إليه بعض أمراء الشام المماليك مثل خاير بك وجان بردي الغزالي فحسنوا له الاستمرار في فتح الشام ثم مصر . وهكذا .. كان الفتح العثماني للشام ثم مصر هدية مفاجئة للسلطان سليم الأول الذي خرج لمواجهة الصفويين فتملك مصر والشام وتوسع في البلاد العربية , بعد أن كان اتجاه العثمانيين قبل ذلك – نحو الفتوح في أوربا [16] .
وبالفتح العثماني لمصر أصبحت ولاية عثمانية بعد أن كانت القاهرة عاصمة المسلمين ومركز القوة منذ إنشائها في الدولة الفاطمية سنة 360 إلى الفتح العثماني سنة 921 .
ونسترجع بعض السمات الاستراتيجية لمصر والشام من الفتح الفاطمي إلى الفتح العثماني:
1- فقد أكتملت السيادة السياسية لمصر (القاهرة) في العصرين الفاطمي والمملوكي بقدر ما أضمحلت قوة بغداد إلى أن دمرها المغول وتحولت عنها الخلافة العباسية للقاهرة , أي أن الوضع الطبيعي لمصر في قيادة المنطقة قد رجع إليها منذ الدولة الفاطمية وتأكد في الدولة المملوكية , وأصبح الحجاز مع الشام بما فيها من مقدسات إسلامية تتبع الدولة المصرية التي تتقدم الدول الإسلامية وتفرض سلطانها على الشام وما وراءه وتواجه عن المسلمين أخطار الأعداء وتقضي عليهم كما فعل المماليك مع الصليبين والمغول .
2- وكان الشام مركز الخطورة على الدولة الفاتحة في مصر خصوصا إبان فترات الانتقال التي تلي موت السلطان وقيام سلطان محله , وذلك ما يتضح أكثر في الدولة المملوكية , ويعظم خطر الشام على مصر حين تنتهي الدولة المسيطرة لترثها دولة أخرى كما حدث عند احتضار الدولة الفاطمية ثم الدولة الأيوبية . ففي احتضار الدولة الفاطمية تنازع امتلاك مصر قوتان متصارعتان هما الصليبيون والزنكيون وفاز القائد الزنكي صلاح الدين وأقام بمصر الدولة الأيوبية وضم لمصر الأمارات الإسلامية في الشام ليؤكد نفوذه في المنطقة أمام أعدائه الصليبيين حتى انتصر عليهم انتصاره الحاسم في حطين .
وحين ضعفت الدولة الأيوبية وتنازع أبناؤها الحكام بين مصر والشام جاء الغزو الصليبي لدمياط في عهد الصالح أيوب بقيادة لويس التاسع وبعد أن صده المماليك وأقاموا دولتهم على حساب سادتهم الأيوبيين , وطد المماليك نفوذهم في الشام وقهروا قوى كثيرة كالأيوبيين والصليبيين والمغول وبعدها امتدت سيطرتهم إلى العراق والشام .
ثم حين ضعفت الدولة المملوكية وظهرت قوتان شابتان هما الصفويون في فارس والعثمانيون في آسيا الصغرى , وقام التنازع بينهما وقعت الدولة المملوكية فريسة للأقوى منهما فجاء الفتح العثماني لمصر عبر الشام .
3- وحين يتساوى حكام مصر مع حكام الشام في الضعف يستمر التنازع بينهما إلى أن يظهر الأقوى فيتغلب على المنطقة بأكملها لأنها لا تتسع إلا لحاكم قوي واحد , وتجلى ذلك في الصراع المستمر بين حكام بني أيوب في مصر والشام , إلى أن خضعت المنطقة كلها للقوة المملوكية .
4- ومعلوم أن ذلك جميعه حدث في مصر والشام أثناء الدولتين الطولونية والإخشيدية . ثم قبلها في العصر الأموي ثم قبله في العصر الرومي والبطلمي . أي إن استراتيجية مصر قبل الفتح الإسلامي هي نفسها بعد الفتح الإسلامي . فالشام – أو على الأقل جنوب الشام – ضروري لأمن مصر , والفتح الأتي للشام لابد أن يصل لمصر , وفتح مصر غربا لابد أن يصل للشام . والحاكم القوى في مصر لابد أن يسيطر على الشام , والحاكم الطموح في الشام لابد أن يطمع في مصر خصوصا إذا كانت ضعيفة . هذا ما تأكد عبر وقائع التاريخ إلى أن كان الفتح العثماني لمصر عبر الشام والذي تحولت به مصر من دولة رائدة إلى ولاية تابعة .
5- ولم تتغير إستراتجية مصر بعد الفتح العثماني كما لم تتغير بعد الفتح الإسلامي , فظل الشام مرتبطا بمصر أمنيا واستراتجيا , ونضرب لذلك عدة أمثلة من التاريخ الحديث في العصر العثماني وبعده :
( أ) محاولات إسماعيل الصفوي استرداد الشام ومصر :
فبعد سقوط الشام ومصر أمام العثمانيين عمل الشاه إسماعيل الصفوي عدو العثمانيين على إفساد الأمر عليهم في مصر والشام فاتصل بأتباعه من الأمراء الشيعة في الشام مثل ابن جنش وابن حرفوش والدرزي وقاموا بالثورة , ولكن فشلوا , فاتصل الصفوي بالأمير المملوكي جان بردي الغزالي نائب الشام , والذي خان الغوري وانضم لسليم العثماني , وخان الغزالي العثمانيين فثار عليهم ولكن فشلت حركته , وكان الصفوي يأمل في قيام حكم قوي في الشام موال له يستطيع به أن يأخذ مصر . فلما فشل اتجه لمصر ليأخذها ويأخذ معها الشام . واستطاع عميل له وهو ظهير الدين الاردبيلي أن يسيطر على الوالي العثماني في مصر وهو أحمد باشا وأن يدفعه للثورة على العثمانيين وأن يستميله للتشيع , وفشلت ثورة أحمد باشا وقتل [17] .
(ب) في حركة على بك الكبير (1170 – 1187 هـ) ( 1756 – 1773 م ) .
استولى على بك الكبير على السلطة في القاهرة بعد أن أخضع خصومه المماليك ثم أخضع القبائل العربية في الشرقية والبحيرة والصعيد , وبعد أن أكد نفوذه في مصر طرد الوالي العثماني في مصر وأعلن استقلاله الذاتي . ولكي يؤمن نفسه في مصر تحالف مع ثائر آخر في جنوب الشام هو الشيخ ظاهر العمر وسير على بك الكبير عدة حملات لتأمين استقلاله , واتخذت هذه الحملات طريق الشام لاستخلاصه من العثمانيين منتهزا فرصة انشغال الدولة العثمانية بالحرب مع روسيا بل وطلب معونة روسيا ضد الدولة العثمانية .
وكما استغل على بك الشام معبرا يصل به ليتأكد نفوذه أمام العثمانيين , فان العثمانيين اتصلوا بقائد على بك وهو محمد أبو الذهب وهو في الشام وجعلوه ينقلب على سيده على بك وينسحب من الشام ليواجه على بك في مصر . وهزم على بك أمام خصمه أبو الذهب ففر إلى الشام ليحاول به أن يستعيد مصر , ومن الشام قدم على بك بجيش ليستعيد نفوذه من أبو الذهب إلا إنه انهزم وقتل في معركة الصالحية .
(ج) ثم روعت مصر بمقدم الحملة الفرنسية يقودها نابليون بونابرت وبعد أن وطد نابليون نفوذه في مصر اتجه لغزو الشام إلا إنه فشل أمام أسوار عكا . ثم كان تحطيم أسطوله في أبو قير نهاية لآماله في مصر التي اتخذها قاعدة لإقامة ملك في الشرق.
(د) وبعد أن أكد محمد على نفوذه في مصر بالقضاء على المماليك والزعامة الشعبية وبقايا الجند العثمانيين , وبعد أن كون جيشا جديدا من المصريين وأعلن انفصاله عن الدولة العثمانية – أسرع يغزو الشام ووصل إلى كوتاهية في آسيا الصغرى . ولولا تدخل انجلتره وأوربا لدخلت المنطقة في تاريخ جديد .
(هـ) وبعد شق قناة السويس عملت انجلتره على احتلال مصر وتم لها ذلك سنة 1882 م . وكانت لفرنسا مطامع في سوريا ولبنان , وتهيأت لهما الفرصة بعد الحرب العالمية الأولى وهزيمة تركيا فاقتسما أملاكها في الشام في اتفاق ( سايكس بيكو) وفيه كان لانجلتره الأردن وجنوب الشام ولفرنسا سوريا .
وكان كتشنر أثناء وجوده في مصر قد فطن لأهمية فلسطين بالنسبة لمصر فضغط على حكومته حتى لا يصل النفوذ الفرنسي إلى جنوب الشام ويهدد مصالح انجلتره في مصر والسويس . وكان لذلك أثره في اتفاقية سايكس بيكو حيث رفض الجانب البريطاني بشدة الموافقة على مطالبة فرنسا بفلسطين [18] .
(و) ثم كان زرع إسرائيل في جنوب الشام هدفا يحقق مصالح بريطانيا على المدى البعيد , ففي سنة 1907 تكونت لجنة علمية تاريخية برئاسة كامبل باترمان لبحث الوسائل الكفيلة بتفادي انهيار الإمبراطورية البريطانية وكانت الشمس لا تغيب عنها حينئذ – وقد تحدث التقرير عن الخطر الذي يتهدد الاستعمار في الشرق فذكر أنه يكمن في السواحل الجنوبية والشرقية للبحر المتوسط – أي الشام ومصر وشمال أفريقيا أو الوطن العربي – وعلى الخصوص في الجسر البري الذي يصل آسيا بإفريقيا وتمر فيه قناة السويس – أي مصر وفلسطين – وجاء في التقرير أن ضربة قاصمة ستحل بالإمبراطوريات الاستعمارية إذا ما تحرر الشعب العربي ونهض فلا سبيل إلى تفادي ذلك إلا بالعمل على تجزئة المنطقة وتخلفها ومحاربة اتحاد سكنها . وأوصي التقرير بضرورة فصل الجزء الإفريقي عن الجزء الآسيوي بإقامة حاجز بشري قوي وغريب بحيث يشكل في المنطقة وقرب قناة السويس قوة حليفة للاستعمار [19] .
وبهذا حقق الاستعمار ما يتمني لنفسه بإقامة إسرائيل التي تهدد الأمن المصري القائم على ضم جنوب الشام , وتعوق تنمية المنطقة وتقدمها وتزرع بين حكامها الشقاق والخصام , ومن خلال جولات الحرب و السلام بين مصر وإسرائيل تحرص إسرائيل دائما على احتلال سيناء أو بقائها منزوعة السلاح لتهدد بها العمق السكاني لمصر وتعمل على انعزال مصر عن جاراتها ليتسنى لإسرائيل أن تبقي قوية .
وبعد .. فلقد سرنا مع أثر الفتح الإسلامي على إستراتجية الموقع السياسي لمصر ولمسنا ارتباط الموقع المكاني لمصر والشام قبل الفتح الإسلامي وبعده حتى إلى عصرنا الراهن . وبقي أن نبحث من الناحية الاخري التي جاء بها الفتح الإسلامي وهى انتشار الإسلام في مصر لنري إلى أي حد تأثرت به مصر بعد الفتح الاسلامى عنها قبل الفتح الإسلامي .
[1] السلوك : 1 / 2 / 368 .
[2] السلوك : 1 / 2 / 380 , 404 .
[3] السلوك : 1 / 2 / 386 : 338 .
[4] السلوك : 1 / 2 / 370 , 372 : 379 , 381 , 382 , 385 : 386 .
[5] السلوك : 1 / 2 / 414 , 415 , 416 , 417 : 419 , 422 : 425 , 427 : 433 .
[6] عن غزوات بيبرس ضد المغول : السلوك 1 / 2 / 465 , 473 : 474 , 495 , 497 , 600 , 602 , 604 : 607 , 628 : 629 , 633 .
[7] السلوك : 1 / 2 / 448 : 449 , 451 , 453 : 457 : 463 , 467 , 477 : 479 .
[8] عن غزوات بيبرس ضد الصليبين : السلوك 1 / 2 / 483 : 487 , 488 : 491 , 510 , 513 , 524 : 530 , 543 , 533 , 577 : 560 , 564 : 571 , 585 : 588 , 590 : 595 , 618 : 628 .
[9] السلوك : 1 / 3 / 747 , 753 : 754 , 762 : 766 .
[10] أحمد صبحي منصور : ( أثر التصوف في مصر العصر المملوكي ) رسالة دكتوراه غير منشورة بكلية اللغة العربية بالقاهرة, 16 : 19 , 29 : 30 .
[11] العيني :عقد الجمان , مخطوط . حوادث 809 .
[12] النجوم الزاهرة : 16 / 229 : 230 .
[13] الفقي : تاريخ سليم والغورى . مخطوط , ورقم 7 .
[14] أحمد صبحي منصور : ( أثر التصوف في مصر العصر المملوكي ) 87 : 88 , (السيد البدوي بين الحقيقة والخرافة ) 182 : 183 .
[15] تاريخ ابن اياس 5 / 35 , 38 .
[16] الغزى : الكواكب السائرة : 1 / 297 .
[17] أحمد صبحي منصور (أثر التصوف ..) الكواكب السائرة : 87 : 88 .
[18] الغزى : الكواكب السائر 1/ 216 , 159 , تاريخ ابن طولون 2 / 78 : 79 , 74 : 75 . أحمد صبحي منصور ( أثر التصوف) المرجع السابق87 , 88 .
[19] د. محمود منسي : تصريح بلفور : 49 , 100 , دار الفكر العربي .