إفتراءات القُصّاص على موسى عليه السلام : ( فَبَرَّأَهُ اللَّـهُ مِمَّا قَالُوا )
مقدمة :
جاء سؤال عن قوله جل وعلا : (-يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّـهُ مِمَّا قَالُوا ) ﴿٦٩﴾ الاحزاب )، وكنت أنوى الرد عليه فى الفتاوى ، ولكن طالت الاجابة فجعلتها مقالا. وأقول :
أولا : ليس لنا أن نتكلم فى الغيب :
1 ـ فى القصص القرآنى جوانب لم يذكرها رب العزة جل وعلا. هذا القصص كله من أنباء الغيب ، ذكر رب العزة جل وعلا بعضه فى القرآن ولم يذكر بعضه. ما لم يذكره رب العزة جل وعلا يظل غيبا بالنسبة لنا ، والمؤمن يؤمن بالغيب ، و لا يتحدث قيه لأنه لو تحدث فيما لا يعرف سيكون حديثه خرافة وكذبا وإفكا وتهجما على غيب الرحمن جل وعلا ، ورفعا لنفسه فوق النبى محمد عليه السلام الذى لم يكن يعلم الغيب ولم يكن له أن يتكلم فيه.
2 ـ من هنا فإن قوله جل وعلا ((-يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّـهُ مِمَّا قَالُوا ) فيه المعلوم ، وهو أن بعضهم آذى موسى عليه السلام بإتهام باطل وأن الله جل وعلا أنزل براءة لموسى من هذا الاتهام الظالم ، وهو جل وعلا ينهى الصحابة حول النبى محمد عن أن يفعلوا مثلما فعل أولئك الذين آذوا موسى . وجاء هذا فى سياق الأذى الذى تعرض له النبى فى سورة الأحزاب ، وقد تعرضنا لهذا فى مبحث الصلاة على النبى وكيف أنها نقيض الصلاة على النبى. هذا هو المعلوم لنا من هذه الآية الكريمة. أما المجهول والذى هو غيب فهو نوعية هذا الأذى الذى تعرض له موسى ، وكيف برّأه الله جل وعلا مما قالوا. نحن لا نخوض فى هذا الذى لم يذكره الرحمن جل وعلا. ونكتفى بالعظة والعبرة من المذكور المعلوم.
ثانيا : القصّاصون مخترعو الأديان الأرضية
1 ـ هذا هو ما يفعله المؤمنون بالله جل وعلا وكتبه ورسله. أما الكافرون فهم يخترعون أدينا أرضية أساسها (قال الراوى يا سادة يا كرام ) ، اساسها تأليف القصص والحكايات . فعل هذا السابقون الضالون من أهل الكتاب ، ثم فعله أحفادهم الذين واصلوا إختراع الأديان الأرضية بعد الاحتلال العربى ، وواصلوا إختراع أديان أرضية بقى منها التصوف والتشيع والسُنّة . وهى مبنية على أكاذيب ، منها ما يتمثل فى السيرة للنبى محمد وللأنبياء السابقين ( قصص الأنبياء ) .
2 ـ أنزل الله جل وعلا القرآن مصدقا لما سبقه من التوراة والانجيل . قال جل وعلا : ( نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ﴿٣﴾ آل عمران ) ودعا رب العزة أهل الكتاب الى الايمان بالقرآن الكريم الذى نزل مصدقا لما معهم ، قال لهم جل وعلا فى خطاب مباشر : (وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ۖ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴿٤١﴾ البقرة ).
3 ـ وهذا يعنى أن التوراة الحقيقية كانت موجودة فى الجزيرة العربية وقت نزول القرآن الكريم. والله جل وعلا دعا بنى اسرائيل الى الاحتكام اليها ، قال جل وعلا : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّـهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَـٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴿٤٣﴾ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ) وتحداهم بأن يأتوا بالتوراة ويتلوها ليتعرفوا على الحق فيها فيما يخص تشريع الطعام : ( كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ۗ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿٩٣﴾ آل عمران ). وأيضا كان الانجيل ، لذا أمر الله جل وعلا النصارى بالحكم بما أنزل الله جل وعلا فيه ، قال جل وعلا : ( وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿٤٧﴾ المائدة ).
4 ـ إختلف الحال فى الامبراطورية البيزنطية الكهنوتية التى تلاعب كهنوتها فى الدين ، وقامت بتحريف التوراة والانجيل ، وبدأ بهذا القّصّاص . وفى النهاية قاموا بتجميع الزيف مع بعض الحقائق ووصل الينا ما يعرف بالعهد القديم والعهد الجديد . العهد القديم أكثره سيرة وتاريخ وقصص مع بعض التشريعات. وكلها تقع تحت طائلة التحريف الذى يعنى وجود بعض الحقائق وسط محيط من الأكاذيب . وهناك متخصصون فى تاريخ الكتابة للعهدين القديم والجديد يؤكدون هذا.
4 ـ بوصول الاحتلال العربى الى مواطن أهل الكتاب فى الرافدين والنيل وشمال أفريقيا ومع طرد أهل الكتاب من الجزيرة العربية فى عهد عمر بن الخطاب ضاعت التوراة الحقيقية والانجيل الحقيقى ، وفى إطار الصراع بين ما يعرف ب ( دار السلام ) و ( دار الحرب ) أو العرب والبيزنطيين إتبع أهل الكتاب هنا وهناك تحريفات التوراة والانجيل البيزنطية ورضوا بما أصبح يسمى بالعهد القديم والعهد الجديد .
5 ـ وبينما تأسس العهد القديم والعهد الجديد على أقاصيص يقولها القصّاصون فإن أحفاد أهل الكتاب من العلماء تخصصوا فى القصص الذى صار وظيفة رسمية وشعبية ومجالا للإستغلال السياسى مع أو ضد السلطان القائم ، وسبيلا للشهرة بين الناس. وانتشرت مجالس القصاص وتوسعت فى العصرين ألأموى والعباسى . وتم جعل معظمها دينا عن طريق نسبتها للنبى محمد زورا وبهنانا. يحكى القصّاص حكاية فلا يلبث أن تتحول الى حديث ( نبوى ) أو حديث ( قدسى ) بأن يصنعوا له إسنادا يقول ( أخبرنى فلان عن فلان عنم فلان عنم فلان عن فلان أن النبى قال.. ) .
6 ـ هذا الانتشار والاتساع أسّس تنافسا بين القصاصين . وحتى يكتسب القاصُّ شهرة وجاذبية فلا بد أن تزيد جُرعة الخرافة فى قصصه ، ولا بد من التهويل ، وبالتالى لا بد من إقتحام الغيب الالهى . كان الناس يسألون عما سكت عنه رب العزة فى القصص مثل الآية الكريمة : (-يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّـهُ مِمَّا قَالُوا ) فيتصدى القصاصون يأفكون ويخترعون . وبهذا يشتهرون ، ويأتى نصّابون آخرون يجعلون هذا الإفك أحاديث ويدخلونها فيما يسمى بالسُّنة وفى قصص الأنبياء وفى سيرة النبى محمد. . وهذا ما فعله المفسراتية . ونأخذ نموذجا مما قاله القرطبى فى ( تفسيره ) للآية الكريمة.
ثالثا : هجص القرطبى فى ( تفسيره ) لقوله جل وعلا : (-يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَىٰ فَبَرَّأَهُ اللَّـهُ مِمَّا قَالُوا ). قال لعنه الله جل وعلا :
1 ـ ( وأما أذية موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال ابن عباس وجماعة: هي ما تضمنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك أنه قال: «كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة وكان موسى عليه السلام يتستر كثيرا ويخفى بدنه فقال قوم هو آدر وأبرص أو به آفة، فانطلق ذات يوم يغتسل في عين بأرض الشام وجعل ثيابه على صخرة ففر الحجر بثيابه واتبعه موسى عريانا يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملا من بني إسرائيل فنظروا إليه وهو من أحسنهم خلقا وأعدلهم صورة وليس به الذي قالوا فهو قوله تبارك وتعالى: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا}». أخرجه البخاري ومسلم بمعناه.ولفظ مسلم: قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوءة بعض وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده فقالوا والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر قال فذهب يوما يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه قال فجمح موسى عليه السلام بإثره يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوءة موسى وقالوا والله ما بموسى من بأس فقام الحجر حتى نظر إليه قال فأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا) قال أبو هريرة: والله إنه بالحجر ندب ستة أو سبعة ضرب موسى بالحجر. فهذا قول. )
2 ـ وروي عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: آذوا موسى بأن قالوا: قتل هارون، وذلك أن موسى وهرون خرجا من فحص التيه إلى جبل فمات هارون فيه، فجاء موسى فقالت بنو إسرائيل لموسى: أنت قتلته وكان ألين لنا منك وأشد حبا. فآذوه بذلك فأمر الله تعالى الملائكة فحملته حتى طافوا به في بني إسرائيل، ورأوا آية عظيمة دلتهم على صدق موسى، ولم يكن فيه أثر القتل. وقد قيل: إن الملائكة تكلمت بموته ولم يعرف موضع قبره إلا الرخم، وإنه تعالى جعله أصم أبكم. ومات هارون قبل موسى في التيه، ومات موسى قبل انقضاء مدة التيه بشهرين.وحكى القشيري عن علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه: أن الله تعالى أحيا هارون فأخبرهم أنه لم يقتله، ثم مات. )
3 ـ وقد قيل: إن أذية موسى عليه السلام رميهم إياه بالسحر والجنون. والصحيح الأول. ويحتمل أن فعلوا كل ذلك فبرأه الله من جميع ذلك. )
رابعا : التعليق على هجص القرطبى .
1 ـ مات القرطبى فى أوائل العصر المملوكى أى عام 671 . والعصر المملوكى عاش على ترديد ما قاله الأئمة السابقون وإجترار معارفهم تقديسا لهم. وتجلى هذا فى ( تفسير القرطبى ) وهو ينقل عن السابقين نقلا أعمى . ومنه (تفسيره ) للأذى الذى تعرض له موسى .
2 ، هو ينقل عن البخارى ومسلم تلك الكوميديا البائسة التى يقومون فيها بتعرية موسى عليه السلام حين سرق الحجر ثيابه. وواضح أن القصّاص الذى إخترع هذه البؤس كان يريد أن يضحكم منه الناس. ولكن تحولت تلك الكوميديا السوداء الى دين عن طريق البخارى ومسلم حين جعلاها حديثا.
3 ـ ثم ينقل رواية أخرى عن إتهام موسى بقتل أخيه هارون. ولم تحظ هذه الرواية بجعلها حديثا .
4 ـ القرطبى بجهله العريق يقول بجواز كل هذا . لأنه لا يجرؤ على النقد والتصحيح .
رابعا : هل جاء هذا الهجص فى سيرة موسى فى العهد القديم ؟
1 ـ سيرة موسى تحتل أربعة أسفار هى ( الخروج واللاويين والعهد والتتثنية ) . وراجعتها كلها فو جدت إشارة الى الاتهام الذى حدث لموسى والتبرئة الالهية له . هذا فى سفر العدد . وننقل من ( الإصحاح الثاني عشر )
( 12 :1 و تكلمت مريم و هرون على موسى بسبب المراة الكوشية التي اتخذها لانه كان قد اتخذ امراة كوشية
12 :2 فقالا هل كلم الرب موسى وحده الم يكلمنا نحن ايضا فسمع الرب
12 :3 و اما الرجل موسى فكان حليما جدا اكثر من جميع الناس الذين على وجه الارض
12 :4 فقال الرب حالا لموسى و هرون و مريم اخرجوا انتم الثلاثة الى خيمة الاجتماع فخرجوا هم الثلاثة
12 :5 فنزل الرب في عمود سحاب و وقف في باب الخيمة و دعا هرون و مريم فخرجا كلاهما
12 :6 فقال اسمعا كلامي ان كان منكم نبي للرب فبالرؤيا استعلن له في الحلم اكلمه
12 :7 و اما عبدي موسى فليس هكذا بل هو امين في كل بيتي
12 :8 فما الى فم و عيانا اتكلم معه لا بالالغاز و شبه الرب يعاين فلماذا لا تخشيان ان تتكلما على عبدي موسى
12 :9 فحمي غضب الرب عليهما و مضى
12 :10 فلما ارتفعت السحابة عن الخيمة اذا مريم برصاء كالثلج فالتفت هرون الى مريم و اذا هي برصاء
12 :11 فقال هرون لموسى اسالك يا سيدي لا تجعل علينا الخطية التي حمقنا و اخطانا بها
12 :12 فلا تكن كالميت الذي يكون عند خروجه من رحم امه قد اكل نصف لحمه
12 :13 فصرخ موسى الى الرب قائلا اللهم اشفها
12 :14 فقال الرب لموسى و لو بصق ابوها بصقا في وجهها اما كانت تخجل سبعة ايام تحجز سبعة ايام خارج المحلة و بعد ذلك ترجع
12 :15 فحجزت مريم خارج المحلة سبعة ايام و لم يرتحل الشعب حتى ارجعت مريم )
أما سفر التثنية فقد إنتهى بالتنويه على موت موسى فيما كتبه مؤلف العهد القديم فى ( الإصحاح الرابع و الثلاثون من سفر التثنية ) يقول المؤلف :
34 :1 و صعد موسى من عربات مواب الى جبل نبو الى راس الفسجة الذي قبالة اريحا فاراه الرب جميع الارض من جلعاد الى دان
34 :2 و جميع نفتالي و ارض افرايم و منسى و جميع ارض يهوذا الى البحر الغربي
34 :3 و الجنوب و الدائرة بقعة اريحا مدينة النخل الى صوغر
34 :4 و قال له الرب هذه هي الارض التي اقسمت لابراهيم و اسحق و يعقوب قائلا لنسلك اعطيها قد اريتك اياها بعينيك و لكنك الى هناك لا تعبر
34 :5 فمات هناك موسى عبد الرب في ارض مواب حسب قول الرب
34 :6 و دفنه في الجواء في ارض مواب مقابل بيت فغور و لم يعرف انسان قبره الى هذا اليوم
34 :7 و كان موسى ابن مئة و عشرين سنة حين مات و لم تكل عينه و لا ذهبت نضارته
34 :8 فبكى بنو اسرائيل موسى في عربات مواب ثلاثين يوما فكملت ايام بكاء مناحة موسى
34 :9 و يشوع بن نون كان قد امتلا روح حكمة اذ وضع موسى عليه يديه فسمع له بنو اسرائيل و عملوا كما اوصى الرب موسى
34 :10 و لم يقم بعد نبي في اسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجها لوجه
34 :11 في جميع الايات و العجائب التي ارسله الرب ليعملها في ارض مصر بفرعون و بجميع عبيده و كل ارضه
34 :12 و في كل اليد الشديدة و كل المخاوف العظيمة التي صنعها موسى امام اعين جميع اسرائيل ).