لمحة عن إستمرار وتطور التهاون فى الصلاة بعد العصر الأموى

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٢٧ - نوفمبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

لمحة عن إستمرار وتطور التهاون فى الصلاة بعد العصر الأموى

1 ـ سبقت الاشارة الى بعض خلفاء بنى أمية الذين أهملوا الصلاة . والواضح ان التهاون فى الصلاة كان يتزايد بمرور الزمن خلال العصر العباسي حيث تحول الخليفة الى رمز كهنوتي . وكانت الصلاة ضمن هذا الكهنوت . ومن عادة الكتابات التاريخية التركيز على المشاهير من الحكام والقادة و العلماء، دون العوام والجماهير. ومن النادر ان تشير فى تاريخها للمشاهير مدى اهتمامهم بالصلاة المفروضة إلا اذا كان الشخص المشهور "مشهورا" باهماله الصلاة. فمثلا يقول المسعودي فى (مروج الذهب) فى قصة طويلة عن الشعر العباسي المشهور "ابى تمام" انه كان لا يصلي . (مروج الذهب 2/377).

2 ـ ولقد جمع المؤرخ صلاح الدين بن ايبك الصفدى تراجم لكل المشاهير من بداية الصحابة الى عصره فى القرن الثامن الهجرى ، وذلك فى موسوعته "الوافى بالوفيات" التى تربو على 23 جزءا. وقد راجعناها كلها، وجئنا بهذه النماذج التى اشتهرت باهمال الصلاة المفروضة".

2 / 1 : يقول عن نجم الدين بن على الشافعي ت 699 (كان يُخلُّ بالصلوات ويتكلم فى الصحابة )( الوافي 7/305) .

2 / 2 : ويقول عن الافريقي المتيم ـ وكان معاصرا للصفدى المؤرخ ــ انه قال فى شعره :

تلوم على ترك الصلاة حليلتى        فقلت اغربي عن ناظرى انت طالق

(الوافي 8/157)

2 / 3 وكان علاء الدين الدواعي (640 – 716) صديقا لابن ايبك الصفدي وقد وصفه أيضا بأنه كان "يخل بالصلوات" (2/199 : 200).

2 / 4 : أما الشاغورى النحوي ت 773 وكان من تلامذه ابن مالك ومعاصرا ايضا لابن الصفدي فقد كان يدع الناس يصلون بالجامع الأموي بدمشق ، ويتمشى ليرى الناس انه غير مكترث بالصلاة (الوافي 10/267).

2 / 5 : ومن غير الطريف ان احدهم (كان قبيح الوجه وقد نظر يوما فى المرآة ، فقال : يارب لقد صورتني فشوهت بي ، وخلقتني فقبحت صورتي وما أعلم شيئا أكافئك به إلا ترك الصلاة ، وأنا أدعها ولا أصليها ) ( الوافى 17 / 647)

ونستغفر الله العظيم لاضطرارنا الى كتابة هذا الكلام ، وناقل الكفر ليس بكافر..

2 / 6 : ومن غير اللطيف ايضا ان بعض القضاة كان يهمل الصلاة ، ومنهم فى القرن الرابع الهجرى الحافظ الحجارى قاضى الموصل المتوفى 350 هـ قال صاحب له (أنه كان نائما فكتب على رجله ، فكنت أراه ثلاثة أيام لم يمسه الماء) (الوافى 4/240).

3 ـ  هذا بالاضافة الى خلط الصلاة بالانحلال الخلقى ، وفى العصر العباسي ألمح اليها الجاحظ فى سخرية رائعة فى كتابه "المحاسن والأضداد" حين حكي ان خمسة من الفتيان أتوا قرية (فنزلوا على باب خان ، فقام أحدهم يصلى والباقون جلوس. فمرت بهم أمرأة نبطية ، فقالوا : دلينا على قحبة ، فقالت : نعم كم انتم ؟ قالوا : نحن أربعة. فأومأ الذى يصلى بيديه : سبحان الله : أنا الخامس) (المحاسن والأضداد . ط 1 1332 ص 92 )

وكان معروفا فى العصر العباسي انتشار البغاء علنا فى الخانات وغيرها من بيوت الأثرياء ، وكان يصاحبه الشذوذ العادى وبأجر .. ومشهور فى هذا المجال الشاذ ابو نواس والخليفة محمد الأمين بن هارون الرشيد.

وفى الجزء (16) ص 47 من موسوعة (المنتظم) فى التاريخ يروي ابن الجوزي فى أحداث سنة 454 انه "عطلت المواخير وغلقت ابوابها ونودي بازالتها وكان السبب انه كثر فساد وشرب الخمر ، وشرب رجل يهودي وتغنى بالقرآن"

5 ـ وعن اجتماع الظلم مع الصلاة نقرأ فى موسوعة تاريخ الصفدي ان السلطان الايوبي شيريكوه بن محمد بن شيريكوه صاحب حمص المتوفى سنة 638 هـ (كان مشهورا بالظلم والتعذيب والاعتقال الا انه لا يشرب الخمر ابدا ويلازم الصلاة فى أوقاتها ، وكانت بلاده طاهرة من الخمر و المكوس ، ومنع أهل حمص من تهريب الخمر بسبب عسفه وجوره ) (الوافى بالوفيات 16 / 216).وشهرته بعدم شرب الخمر ومنعها فى بلاده يفيد أن الخمر كانت شائعة خارج مملكته . ويقول الصفدي عن الشاعر ابن عينين الذى تولى الوزارة للسلطان المعظم الأيوبي انه اشتهر آخر عمره بالعسف والظلم وترك الصلاة وسب الأنبياء وادمان الخمر وقد عاش ابن عينين فيما بين (549 -630).  

 التصوف السنى جعل التهاون فى الصلاة دينا فى العصر المملوكى

1 ـ  تسيد دين التصوف السنى العصر المملوكى بما أسموه ( الحقيقة والشريعة ) ، فالحقيقة هى عقائد التصوف وتقديس الأولياء الصوفية ، أما الشريعة فهى هامش أداء العبادات ومنها الصلاة والتقاضى بالشريعة السنية وقضاتها الأربعة .

2 ـ وأئمة التصوف أسقطوا التكاليف (العبادات) الإسلامية ، فالصوفية إدّعوا الأُلوهية فلا تتفق بأى حال عبادة الله وهم يزعمون الاتحاد به وحلوله فيهم حسبما يزعمون. والتفاصيل فى كتابنا عن العبادات فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف . وننقل منه تأثر الناس بهذا فى تهاونهم فى الصلاة .

3 ـ  فقد أثار ترك الصوفية للصلاة المكتوبة إعجاب المعتقدين فيهم من العوام والعلماء المعبرين عن فكرالعامة. وقد عاش الفقيه المغربى ابن الحاج العبدرى فى مصر فى القرن الثامن ، وكتب فى الفقه الوعظى كتاب ( المدخل ) يذكر فيه أحوال المجتمع المصرى الذى أرهقه التصوف السنى بإنحلاله وخرافاته، وهو يعظ على طريقة الفقهاء . يقول عن الذين يؤمنون بالمجاذيب ــ وقد إنتشروا فى العصر المملوكى ــ  وكان يحج اليهم متوسلا العلماء الفقهاء، استنكر ابن الحاج ذلك المسلك من: ( بعض من ينسب إلى العلم،يقعد بين يدى بعض من يدعى الفقر (أى التصوف) والولاية وهو مكشوف العورة،وقد تذهب عليه أوقات الصلاة وهو لم يصل ،ويعتذرون عنه ).[1]

بل شارك فى ذلك الإعجاب بعض من عرف بالصلاح – أى الصلاح بالمفهوم الصوفى وهو الايمان بالأولياء الصوفية ، وقد رأى ابن الحاج بعضهم يرحل إلى زيارة شخص (من هذا الجنس وبقى نحو ثلاثة أيام أو أربعة حتى اجتمع به وهو عريان ليس عليه شىْ يستره، وبين يديه بعض قضاة البلد ورؤسائها،وهذا أمر شنيع فى الدين وقلة حياء من عمل الذنوب وارتكاب مخالفة السنة وترك الفرائض)[2].

4 ـ والعامة مغرمة بالتقليد ،لاسيما إذا تعلق التقليد بأمور تريح من آداء التكاليف وتجلب الكسل والدعة ، فالعامة تجسيد للأكثرية فى كل مجتمع ، وقد وصف القرآن الكريم الأكثرية بأنها لا تعلم ولا تعقل ولاتفقه ولاتؤمن. وهكذا فإن دين الصوفية فى التهاون فى الصلاة وافق هوى العامة . وقد بدأ ذلك منذ عصر الغزالى فى القرن الخامس فيما يخص ترك الصلاة بالذات، يقول الغزالى يصف العامة فى عصره : ( أكثر الناس جاهلون بالشرع فى شروط الصلاة فى البلاد، فكيف فى القرى والبوادى ومنهم الأعراب والأكراد والتركمانية وسائر أصناف الخلق)[3].أى أن أهل المدن أقرب إلى التحضر والإلتزام، ويتلاشى ذلك الإلتزام كلما بعدنا عن العمران والحضارة وتوغلنا فى الريف . وقد تحولت شعيرة الصلاة ــ خصوصا الجمعة ـ الى وظيفة رسمية يتم بها التعبير عن الولاء للسلطان ، ولم يكن هذا مرعيا فى الريف والأحياء الشعبية الفقيرة ، وزادهم التصوف جهلا على جهل . ومن أسف فإن إهمال تاريخ العامة وشئونها يكاد يكون قاسماً مشتركاً فى الكتابات التاريخية لمؤرخى العصر المملوكى وما سبقه، إذ استحوذ على المؤرخين تتبع حركات الحكام وسكناتهم ومن خلالها نظروا للعامة فى شذرات متفرقة لا تسمن ولا تغنى من جوع.. ومن هذه الشذرات القليلة نستخلص موقف العامة من الصلاة..

5 ـ يقول المرخ ابن الفرات فى حوادث  790( رتب القاضى نجم الدين الطبندى محتسب القاهرة جماعة من الفقهاء، فى كل سوق من أسواق القاهرة وظواهرها فقيه يعلم التجار واصحاب الصنايع والمتعيشين سورة الفاتحة وغيرها من السور ليقرأوا بذلك، وجعل لكل فقيه على كل من يعلمه فليس جرد، وهذا ترتيب حسن لا بأس به) [4].أى أن العامة نسيت الفاتحة واستلزم الأمرإيفاد بعض الفقهاء لتعليم التجار والصناع سورة الفاتحة.. وهذا فى المدينة العاصمة. فكيف بالحال فى القرى والنجوع ؟! وكان ذلك فى القرن الثامن، فكيف الحال فى القرون التالية وقد اشتدت سيطرة التصوف ؟؟..

6 ـ لقد وصل الأمر فى القرن التاسع إلى درجة أن الجهل بالفاتحه والصلاة وصل إلى الأمراء والسلاطين ،فكان الأمير أحمد بن نوروز 852( يُرمى بترك الصلاة ) [5]

بل كان السلطان الأشرف اينال: (لا يُحسن قراءة الفاحة ولا غيرها من القرآن، وكانت صلاته للمكتوبات صلاة عجيبه،نقرات ينقر بها لا يعبأ بها الله، وكان لا يحب إطالة الدعاء بعد الصلاة، بل ربما نهى الداعى عن تطويل الدعاء) [6]. فالأشرف اينال طولب بالصلاة طبقا للبروتوكول فكان يصلى صلاته المضحكة وهو جاهل بالفاتحة، وكان يؤدى تلك النقرات بضيق حتى إذا ما انتهت أضرب عن الدعاء بعدها ..

7 ـ وفى القرن العاشر الهجرى تكاثر الأولياء وانتشروا فى ربوع مصر ومدنها وقراها. . وأغلبهم من العامة الأميين فكانوا يسترون تركهم الصلاة بمزاعم الكرامات والانتقال من مكان الى آخر بخطوة واحد ( من أهل الخطوة ) ، فكانوا يزعمون الصلاة فى اماكن بعيدة مثل الرملة واللد فى فلسطين ، وبعضها وهمى وخرافى مثل جبل قاف وسد اسكندر.. وهم ما تعودوا الصلاة قبل المشيخة فلابد أن يفكروا فى حل صوفى يبرر عدم صلاتهم..

8 ـ وقد ترسب فى الضمير الشعبى ما يعبر عن اهمال الصلاة أو السخرية منها حسب الرؤية الذاتية للشعب المصرى الذى يغلف نظرته للأموربالسخرية والتندروالفكاهة ..

8 / 1 : فعن الجهل بالفاتحة يقول المثل (سورتك إيه سورتك إياك) والمراد(بإياك) سورةالفاتحة (ويضرب المثل لبقاءالشخص على نمط واحد كأنه يقرأ الفاتحة كل يوم لا يتعداها)[7]. والفاتحة أصبحت فى عرفهم مجرد (إياك)، ويوصف المصلى بأنه يبقى على نمط واحد يردد كل يوم دون وعى أو فقه بما يقول. ويشبهون بالمصلى كل من توقف على أسلوب واحد لا يسأم من ترديده.

8 / 2 : وعن الجهل بالفاتحة أيضاً يقول المثل الشعبى(إذا نسيت الحمد تصلى بأيه) [8].8    

8 / 3 : وقد يقصد الشخص الجامع متكاسلاً متأففاً فيجد أبوابه موصدة وحينئذ يشعر بسرور يعبر عنه المثل الشعبى (بركة ياجامع اللى جت منك ما جت منى)[9].  

8 / 4 : وكانت المآذن تردد بعد آذان الفجر قولهم : أن الصلاة خير من النوم .. وهذه مقولة لا توافق عليها العامة التى تؤثر الكسل ، فلم تترك هذا القول دون تندر فيقول المثل الشعبي (الصلاة خير من النوم ،قال جربنا ده وجربنا ده) أى أنهم من واقع السخرية عرفوا أن النوم خير من الاستيقظ لصلاه الفجر .. فهذا المثل( يضرب فى تفضيل شىء على شىء  دلت التجربه على خلافه)[10]

أخيرا

ما سبق يدل على تواتر الصلاة فى توقيتاتها وحركاتها الشكلية . لو لم تكن موجودة ما قرأنا هذا الكلام.



[1]
المدخل جـ2 /11.

[2]المدخل جـ2/11.

[3]إحياء جـ2/299.

[4]تاريخ ابن الفراتجـ9/1/25.

[5]النجوم الزاهرة جـ15/530.

[6]النجوم الزاهرة جـ6/159.- تا ريخ ابن إياس جـ2/368 تحقيق أحمد مصطفى

[7]تيمور .الأمثال الشعبية 294.

[8]شعلان الشعب المصرى في أمثاله 170.

[9]تيمور الأمثال الشعبية 140.

[10]تيمور. الأمثال الشعبية 315.

اجمالي القراءات 4745