هوس الاتباع وفوبيا الإبداع

خالد منتصر في الخميس ١٥ - نوفمبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

«إلجام العوام عن علم الكلام» لم يكن مجرد كتاب للغزالى، بل صار منهج تفكير سيطر على العقل الإسلامى حتى هذه اللحظة، علم الكلام أى الفلسفة، والفلسفة تعنى التفكير النقدى. وهذا قد يؤدى -والعياذ بالله- إلى الإبداع والبدعة. لم تُحمَّل كلمة بكل هذا الكم من سوء السمعة مثل البدعة، صار لدينا هوس الاتباع وفوبيا الإبداع، عشق الانصياع والانسحاق والتقليد، وكراهية البدعة. امتلأت كتب الأقدمين بمعلقات الهجاء للبدعة وفردانية التفكير، وصارت كراهيتها فرض عين على كتب التراث والفقه. سنختار من بستان الصبار التراثى ما لذ وطاب من تلك الثمار:

إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة فى النار.

ما أراد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد عن الله بُعداً.

البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، المعصية يثاب عنها والبدعة لايثاب منها.

خير القرون قرنى.

المتأخر لا يبلغ من الرسوخ فى علم ما بلغه المتقدم.. هذا القول على لسان الفقيه المستنير الشاطبى!!

ومن كتاب تلبيس إبليس «من سمع من مبتدع لم ينفعه الله بما سمع، ومن صافحه فقد نقض الإسلام عروة عروة»، و«من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه».

قدم الإسلام لا تثبت إلا على قنطرة التسليم.

إن الشيطان مع الواحد.

الشيطان مع من يخالف الجماعة.

قف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا، واسلك سبيل السلف الصالح.

نكتفى بهذا القدر كمقدمة لبيان كم نكره الإبداع ونعانى من فوبيا الحداثة. نحن نعشق التحديث ونكره الحداثة، نستخدم كل الأدوات الحديثة والتكنولوجيا الحديثة لكن بدون منهج وفكر الحداثة، نُعجب بمنتج الإبداع ونعادى بشراسة المنهج الإبداعى الذى وراء هذا المنتج. الإسلام بدأ كثورة تغيير فى القيم والأنساق الفكرية حينذاك، لكننا اعتقلناه فى نفس الزنزانة وحنطناه عند ذات اللحظة، فتحول كما قال أركون من طاقة تغييرية إلى تصور ثبوتى للحقيقة، إلى تصور ملجوم ومسجون لها.

دفعنا -نحن المسلمين العرب- بعد تفجر آبار النفط عندنا أثمان وتكلفة حفارات البترول، ولكننا لم ندفع تكلفة حفارات الفكر، لم نقلب أرض الفكر ولم نحرث تربة الماضى والتراث، اكتفينا بالفرجة على السطح وارتعشنا وفزعنا من مغامرة الهبوط إلى الأعماق واقتحام المناجم. ننتظر بركان المنجم أن يقذف إلينا من حممه الخير، ونمنى أنفسنا بالنعيم المنتظر، ولا نفكر أو نجرؤ للحظة أن نلقى بالسلم ونهبط ونستكشف، وهذا ما ثبّته ورسخه وعمّقه أكثر البتروإسلام كما أطلق عليه أستاذ الفلسفة د. فؤاد زكريا. خلطنا بين احترام النص وسجن النص، تركنا الإمعان فيه إلى الإذعان له، توهمنا أن وجود مفردات المظاهر العلمية ولافتات أكاديميات البحث العلمى يعنى أن لدينا وعياً علمياً. الحقيقة أن لدينا وعياً خرافياً إن جاز التعبير وتزاوج الوعى والخرافة، الوعى العلمى غائب حتى ولو توافرت آلاف المعامل والجامعات ومراكز البحث، فنحن لا نؤمن بالعلم كمرجعية حاكمة، ولكننا نؤمن بحاكمية من نسميهم علماء الدين كمرجعية شاكمة! قدمنا التذكر على التفكر، فصرنا حفظة لا مبدعين، صارت مجتمعاتنا مثلثات مغلقة ذات زوايا حادة وليست قوس قزح الذى يحتضن كل ألوان الطيف ويسمح بتسلل الرماديات، حوّلنا المدرسة إلى سيرك ترويض لا سماء تحليق، غلّبنا النمطى على المتفرد، عشنا فى رهاب المعرفة وعقلية الوصاية فقتلنا الإبداع، ما زلنا لم نتخطَّ مرحلة الوصاية التى تنقلب إلى فزع على أفكارنا المتحفية والرعب من أن تندثر.

بولس الرابع مات عند الأوروبيين وهو من فرض قائمة بابوية بالكتب المحظورة التى يحرم قراءتها إلا بإذن كنسى، لكن بولس الرابع صار مليون بولس عند المسلمين، وصار يصدر ملايين الفرمانات القمعية نتيجة الفوبيا المعرفية. لكن السؤال الذى يفرض نفسه: لماذا تحول شهداء السؤال والفضول والتمرد فى أوروبا إلى وقود تنوير بينما تحول شهداؤنا إلى حطب غير قابل للاشتعال والإضاءة؟! فقد أُحرق المصلح الدينى التشيكى يان أو يوحنا هس فى 6 يوليو 1415، لأنه تبنى آراء ويكليف الخمسة والأربعين المعارضة لمعتقدات الكنيسة، وبعد أن قضى فى السجن سبعة أشهر بتهمة الهرطقة وأُعطى الأمان، أُحرقت كتبه وسيق إلى حيث أشعلت النار وطُلب منه أن يتنازل عن آرائه وهرطقته، فرفض، فتم إلقاؤه فى النار، وكذلك الفيلسوف ميشيل سيرفييه الذى أُحرق فى جنيف 1553 لأنه عارض التثليث، وفى 1600 وداخل ساحة كامبو دى فيورى بروما أُحرق المصلح الدينى والفيلسوف جوردانو برونو الذى كان شهيد التنوير بحق، فهو لم يُحرق من أجل خلاف لاهوتى فى الطقوس، ولكن لأنه اعتنق أفكار كوبرنيكوس الثورية عن دوران الأرض، ومهّد الطريق لرفيقه فى الفكر والوطن جاليليو الذى أمسك بالشعلة واستوعب الدرسين من برونو، الدرس الأول علمى حيث تبنى رأيه العلمى، والدرس الثانى حياتى، حيث فرّ من الحرق حياً بالاعتذار إلى الكنيسة إلى العزلة والسجن حتى مات، ثم اعتذرت له الكنيسة فيما بعد. أما ضحايانا من المسلمين الذين طرحوا الأسئلة وتشككوا، فما زلنا حتى هذه اللحظة لم نعتذر لهم حتى تمثيلاً أو خداعاً حتى على المستوى الفكرى. لا نطمح لمؤتمر اعتذار مثلما فعل البابا لجاليليو، ولكننا كنا نطمح لاعتذار غير احتفالى على المستوى الجمعى الفكرى، فغيلان الدمشقى الذى تبنى مبدأ الحرية الإنسانية ضد جبر القضاء والقدر الذى أعفى به الحكام أنفسهم من مغبة ما يحدث من مظالم على الأرض وردها إلى القدر، ماذا فعلوا به؟ اعتقله هشام بن عبدالملك وفى مجلس الخلافة زعق فيه: مد يدك، فمدها غيلان، فضربها الخليفة بالسيف فقطعها، ثم قال: مد رجلك، فمدها، فقطعها الخليفة بالسيف الباتر، لكن هل دخل إحساس الندم حتى لرجل الشارع العادى ولا أقول للحاكم؟ للأسف لا، فبعد أيام مر رجل بغيلان وهو موضوع أمام بيته بالحى الدمشقى الفقير، والذباب يقع بكثرة على يده المقطوعة، فقال الرجل ساخراً: يا غيلان، هذا قضاءٌ وقدر! فقال له: كذبت، ما هذا قضاء ولا قدر، فلما سمع الخليفة بذلك، بعث إلى غيلان من حملوه من بيته، وصلبه على أحد أبواب دمشق، وفرح علماء السلطان بمقتله وقالوا: «إن قتله أفضل من قتل ألفين من الروم!»، أما ابن عساكر فيوم أن حاول أن يخفف من وقع كلماتهم قال: «لقد ترك غيلان هذه الأمة فى لجج مثل لجج البحار»!، يعنى مدان مدان يا ولدى غيلان، فبدلاً من أنك حركت الراكد، فسّروها على أنك قد أثرت الفتن! قبل غيلان التلميذ لاقى معبد الجهنى الأستاذ نفس المصير، لكن شهرة غيلان طغت على معبد الذى صُلب هو الآخر ولنفس السبب وهو الوقوف مع الحرية ضد الجبر، لكن هذه المرة كان الصلب من الأب عبدالملك بن مروان، لكن قبلها أرسل الحجاج إلى معبد الجهنى، وأخرجه من الحبس وكان يطعمه خبز الشعير والكرات والملح، قال له الحجاج: يا معبد كيف ترى قِسْمَ الله لك؟! قال: يا حجاج خلِّ بينى وبين قِسْمِ الله! فإنْ لم يكن لى قِسْمٌ إلا هذا رضيت به. فقال له: يا معبد، أليس قُيدتَ بقضاء الله؟ قال: يا حجاج ما رأيت أحداً قيدنى غيرُك، فأطلق قيدى فإنْ أدخلنى قضاء الله رضيت به». وبالطبع هاجمه رجال الدين بعنف ولم يبالوا بالصلب بل ابتهجوا، ففى كتاب الإبانة يوصف بأنه رئيس الضلال، ومكتوب فيه أنه «قد سبّه أكثر من عشرة من أهل العلم ولعنوه لعناً صريحاً بقولهم: لعنة الله على معبد، وقولهم: الملعون، وقولهم: معبد لعنه الله، وغير ذلك من ألفاظ اللعن المختلفة التى انصبت من سلف الأمة على هذا الرجل، ولا يلزم من اللعن الكفر، كما أنه لا يلزم من القتل الكفر، وربما يُقتل الرجل لبدعة عظيمة ابتدعها طار شررها، وعظم خطرها فى الأمة، فيُقتل من باب المحافظة على الأمة، ولخطورة البدعة، لا لكونه كافراً». يا له من حنان وعطف شُمل به معبد، أما الجعد بن درهم فهو من الممكن أن نضع عنواناً لقصته «عندما يضحون بالمفكر بديلاً عن الخروف»! فمن فوق منبر الجامع وقف حاكم البصرة خالد بن عبدالله القسرى فى يوم الأضحى، وبعد أن حمد الله وأثنى عليه، قال: أيها الناس انصرفوا إلى منازلكم وضحوا -بارك الله لكم فى ضحاياكم- فإنى مضحٍّ اليوم بالجعد بن درهم.. ثم حمل «سيفه» وذبحه أمام المصلين، لماذا؟ لأنه أراد أن ينزه الله عن الصفات مثل الخليل والكليم... إلخ بالتأويل، ولأنه قال بخلق القرآن، مجرد أن الرجل اجتهد وحاول فى علم الكلام الذى قلنا إن الحكام قد ألجموا العوام عن الخوض فيه، مجرد أن حاول أن يستخدم ما هو داخل الجمجمة وشرد عن القطيع كان مصيره الذبح، لكن المهم ماذا كان رأى الشارع فى هذا المشهد البشع ونافورة الدم تنفجر من شرايين رقبته؟ اقرأوا ابن القيم فى «الكافية الشافية»، فقد أثنى على «القاتل» خالد القسرى قائلاً: «ولذا ضحى بجعد خالد القسرى/ يوم ذبائح القربان/ إذ قال ليس إبراهيم خليله/ كلا ولا موسى الكريم الدانى/ شكر الضحية كل صاحب سنة/ لله درك من أخى قربان». ووصف آخرون الذبح بأنه «أفضل وأعظم أجراً من الأضحيات؛ لأن هذه فيها قطع لدابر الفتنة والشر والفساد، ثوابها أعظم من ثواب الأضحية»!!

طابور طويل قدم روحه على مذبح التنوير، هم اعتذروا لكن نحن لا، لماذا؟ لأن الاعتذار يحتاج المراجعة، والمراجعة تحتاج أن تقف على مسافة من تاريخك وتراثك تسمح لك بالنقد والمراجعة ورؤية ملامح وتفاصيل لوحة التاريخ، لكننا للأسف نعتبره مقدساً، نتصرف معه بتعلق الأطفال المرضى بلعبهم، ينتج عن هذا الموقف المرضى اعتبار الاعتذار إهانة للكرامة، فيزيد العناد، ونظل نحلم بالخلافة وبعودة الأندلس وغزو روما حتى هذه اللحظة، فمتى نتقن ثقافة الاعتذار وفن التراجع وموهبة المراجعة وفضيلة التخلى، بدون تلك الأشياء لن يوجد مستقبل.

اجمالي القراءات 4541