خرج "كيم" الرجل الصالح، الصوام القوام، من المسجد، يتفكر في خلق الله، يلوم على الزاني، وشارب الخمر، ومن لا يعطفون على الفقراء، كان كثير الصدقات، عطوف على الفقراء، مثله مثل كثيرين من أبناء وطنه البنيين.
عاش كيم جزء من حياته الأولى مثله كباقي البشر، فكان صاحب أخطاء، إلا أنه تاب وأناب، بعد أن علم أن الموت نهاية الحياة، وأنه لن يحمل معه لـ آخرته، سوى أعماله الصالحة، فقرر أن يقضي ما تبقى له من عمر، طال أو قصر .. في عمل الخير فقط، وآثر أن ينأى بنفسه عن الآخرين، سواء كانوا ظالمين أو مظلومين.
ونظراً لتفكره الكثير في الموت وما بعده، راحت أفكاره تغوص في آخر درس في المسجد، وكان عن الطوفان وسفينة نوح.
لقد إستوقفته قصة نبي الله "نوح"، وكيف أنه بنى سفينة .. سمح لكل زوج من الطيور، والحيوانات بالصعود عليها، مع أهله، تاركاً البشرية لمصيرها المحتوم، الموت بلا رحمه، بعد الصراع مع الماء الذي تحول من غيث إلى خليط بدماء كل الأحياء على الأرض !.
تعجب كيم وتساءل :
لماذا ترك نبي الله "نوح"، الخليقة وحدها لتواجه هذا المصير المروع ؟.
لماذا لم يناجي ربه ليرفع الظلم عنهم ؟.
لماذا لم يحمل معه الصالحين من الناس على سفينته ؟.
ظل يفكر في الأمر طويلاً، حتى جاء يوم، راح فيه في سبات عميق .. شعر بأن روحه تغادر جسده، وتذهب بعيداً للوراء .. فالوراء .. فالوراء ... حتى وجد نفسه ينزل بين جبال شاهقة، تعج بالناس، وخلائق أخرى لم يراها من قبل، ها هي الديناصورات تبدو في الأفق، وها هي العنقاء تلوح في السماء !.
إرتجف كيم يسأل نفسه .. ما هذا اين أنا ؟ أترها الآخرة، فإن كانت، فهل تلك الجنة أم النار ؟.
حتى مرت بجانبه دابة غريبة الشكل، خليط بين الجدي والحصان، كانت تهرب من شيء ما، فنظرت إلى كيم نظرة المسكين المستجير، وإختبأت خلف صخرة، حتى وصلت مجموعة من الصيادين، كانوا يلاحقونها، فلم يجدوها، وعندما رأوا كيم، سألوه :
الصيادون : أيها البني .. ألم ترى دابة مرت من هنا ؟.
كيم : نعم إنها خلف الصخرة.
الصيادون : حسناً فعلت إن أرشدتنا، ثم أمسكوا بالدابة فذبحوها.
كيم : هل لي بسؤال ؟.
الصيادون : سل ما شئت.
كيم : أخبروني أين أنا ؟.
الصيادون : تبدو غريباً يا رجل عن أرض العراق، (علم كيم أنه ليس بأرضه البنية، وإنما هو في أرض العراق).
كيم : نعم فأنا من بلاد البنيين.
الصيادون : يبدوا لنا ذلك من لون بشرتك، فأنت غريب عنا.
كيم : ألم تروا بنيا من قبل أو أسوداً ؟.
الصيادون : ضحكوا كثيراً ثم قالوا .. ما عساك تقول يا رجل، وهل لله خلق أسود ؟، أما يكفينا أن شاهدنا بنياً اليوم ... وإستمر الضحك.
كيم : أريدكم أن ترشدوني إلى حكيم أو عالم، فلدي أسئلة كثيرة، لا أريد عليها إجابات بالضحك.
الصيادون : هناك شخص واحد قد يسمعك، ولن يضحك، إنه يدعي النبوة، ومكانه كالتالي .. سر عبر هذا المنحدر مسافة خمسة أميال، حتى تصل إلى سهل كبير، تسير بعدها خمسة أميال أخرى، ستجد أشجاراً عالية، ومن خلفها ستجد سفينة، قد إقترب صانعها على الإنتهاء منها، سله لعلك تجد ضالتك عنده.
كيم : فكر قليلا، ثم سأل الصيادين، أي رجل هذا، أهو نبي الله نوح ؟.
الصيادون : نعم إنه هو !، أتعبث معنا يا رجل وتدعي بأنك غريب عن أرض العراق، لسوف نعاقبك بقطع لسانك حتى لا تعبث مع أمثالنا.
كيم : أقسم لكم أني سمعت عنه فقط، لكني لست من العراق، وها أنا بني البشرة كما ترون، لست بمثلكم، فكيف لا أكون غريبا.
الصيادون : إغرب عنا الآن، ولا تظهر أمامنا ثانية، وإلا لاقيت ما لا يرضيك.
هم كيم بالسير في المنحدر، هرباً من بطش الصيادين، وكله أمل بأن يلتقي بنبي الله "نوح"، غير مصدق انه قد عاد إلى زمنه، وكان الفضول يتملكه في كل ما يشاهده، ويلقاه.
وبعد أن سار خمسة أميال حتى وصل نهاية المنحدر، وجد خمسة طرق، لا يعلم أي منها يؤدي إلى النبي "نوح"، لكنه وجد قوماً آخرين، منشغلين بأمر ما، فإذا بالناس تخرج من منازلها متجهة وجهة واحدة، فقرر السير معهم، حتى وصلوا إلى ميدان كبير، فوجد فتيات جميلات يدخلن داخل قفص حديد، وكان من بينهن فتاة جميلة، وقع نظرها على كيم، فتبادل كلاهما نظرات الإعجاب.
حتى خرج كبير القوم ينادي قائلاً :
اليوم سنقدم إحدى الفتيات قرباناً للإله، حتى يمنع غضبه عنا، وها هن الفتيات أمامكم جميعاً، فلتختاروا أجملهن.
وبينما الناس تتشاور في الإختيار، كانت الفتاة الجميلة لا تنظر إلا لـ كيم، وكم تمنى كيم لقاء الفتاة والإقتراب منها.
لكن .. وقع إختيار الناس على الفتاة التي بادلت كيم .. نظرات الإعجاب، وما كانت الفتاة تريد الموت لتكون قرباناً للآلهة، فصرخت، والعسكر يجرها على الأرض، ورفعت صوتها تنادي على كيم طالبة نجدته، ناعتة إياهُ بالبني قائلة .. أنقذني يا بني .. أنقذني يا بني .. أنقذني يابني، والناس تضحك من إستغاثتها، فبسبب إنشغالهم بإختيار القربان، لم يلحظوا وجود"كيم البني" بينهم.
وبدأ كيم في الإنسحاب شيئاً فشيئاً، مستغلاً، إنشغال الناس بذبح الفتاة، حتى وصل إلى نهاية المشهد، فإذا بشاب يسحبه من يديه، ويسأله :
إلى أين وجهتك، فأجابه كيم إلى سفينة نوح، فيدله الشاب على سلك طريق المنتصف، ويحذره بعدم العودة، لأن فتاة القربان نادت عليه بالبني، فإن رآه الناس قد يؤذونه .. شكر كيم الشاب، وإستمر في مشواره الطويل.
وسار "كيم" في طريق المنتصف قرابة ميل واحد، حتى تعب فتوقف قليلاً، فإذا بدابة جاءت من خلفه، وعندما وجدته توقفت، لتسأله :
الدابة : هل أنت متعب يا رجل ؟.
كيم : (تعجب كيم من سؤال الدابة، فكيف لها أن تتحدث)، وسألها كيف تتحدثين كالبشر ؟.
الدابة : هكذا خلقنا الله، أتلك أول مرة ترى فيها دابة تتحدث ؟.
كيم : نعم إنها المرة الأولى، وإني حقاً مجهد، ولا أستطيع أن أكمل سيري لوجهتي، فهل تحمليني، وأكون لكِ شاكرا.
الدابة : بكل سرور، إصعد فوق ظهري، وخذ وضعيتك لتكون مرتاحاً، وعندها أسير بك.
كيم : حسناً .. وصعد كيم وأخذ وضعيته وسارت به الدابة إلى وجهته، وأثناء السير، سأل كيم الدابة، لماذا توقفت له وتكبدت عناء حمله ؟.
الدابة : إنه عمل خير أقوم به، لعلي أكون سبباً في نشر الخير بين الناس، بعد أن ساءت احوالهم، لسوء أخلاقهم.
وبعد ان سارت الدابة قرابة الأربعة أميال، إذ بمجموعة من الناس تصيح بصوت عالي، منادية على الدابة تطالبها بالتوقف، فقالت الدابة لـ كيم :
الدابة : هؤلاء الناس يريدونك أنت لا يريدونني، فإن هموا بطلبك، سأذود بنفسي دفاعاً عنك، أما أنت فاكمل وجهتك، وأبلغ أسمى تحياتي لنبي الله "نوح".
كيم : شعر بالخوف، لكنه قال .. سأفعل.
وقفت الدابة وجاء الناس، وسألوها، من هذا البني الغريب ؟.
الدابة : إنه رجل غريب، فاقد للذاكرة، ويريد الذهاب للأشجار العالية، عله يجد ضالته.
الناس : إننا جائعون وهذا البني سيكون غدائنا !، إرتجف كيم مما سمع، فسيكون ذبيحاً كالنعاج.
الدابة : إن كنتم جوعى تستطيعون ذبحي، أما الغريب البني، فدعوه يبحث عن ذاته، وقد لا يعجبكم لحمه، أما انا فسبق وأن تذوقتم طعم بني جنسي.
الناس : لا لن ناكلك أيها الدابة، سنذبح هذا البني.
حتى خرج من بين الناس رجل كبير في السن، فقال :
لا .. إتركوا البني لحال سبيله، سنأكل الدابة، لعل في لحم البني سم لنا، ونهاية، أما الدابة ففيها الصحة والشبع، وإقترب الشيخ من كيم وقال له : إرحل الآن قبل أن تكون طعاماً.
شكر كيم الشيخ، وهرول مكملاً طريقه، حتى وصل إلى الأشجار العالية، لكنه وجد عبور حفيفها أمراً عسيراً، إن لم يكن مستحيلاً.
حتى وجد شاب من بعيد يقترب أيضاً من حفيف الأشجار، فنادي عليه "كيم" بأعلى صوته .. يا هذا .. يا هذا .. إنتظرني .. إنتظرني.
توقف الشاب منتظراً كيم، حتى أقبل عليه، فإذا بكيم ينظر إليه متأملاً جمال صورته، فظن أنه نبي الله "نوح"، فسأله :
- كيم : أنبي الله أنت.
- فرد الشاب لا .. أنا سام إبن نبي الله نوح.
- كيم : فهل ترشدني إلى نبي الله "نوح".
- سام : بكل سرور.
سار كيم وراء سام، وهو يعبر حفيف الأشجار بطريقة تجعل من ينظر إليهما وهما يعبران، يظن أن الطريق سالكة وممهدة، وشعر كيم بأن الله قد جعل الطبيعة حارسة لنبي الله وأهله.
وصل سام، ومعه كيم، إلى السفينة، ثم إستأذنه، ليخبر .. نبي الله "نوح"، برغبة "كيم" في لقائه، ووقف كيم ينظر إلى السفينة نظرات كتلك التي ينظرها الظمآن إلى الماء، يسأل نفسه كيف شيد هذا الصرح !.
علم نبي الله "نوح"، بوجود "كيم"، فأذن له بالدخول، حتى كان، ولم يصدق "كيم" هول الموقف، وأنه أمام "نوح"، وبعد السلام دار الحوار التالي :
كيم : يا نبي الله، أرى أن الله قد أرسلني إليك، لتعيد التفكير في أمر من سيصعدون معك على السفينة، فمن البشر من هم صالحون، ولا يستحقون الموت المروع.
نبي الله نوح : إنه أمر الله، ولستُ بصاحب أمر.
كيم : نعم يا نبي الله، لكن عليك أن تكون شفيعاً لهؤلاء الناس.
نبي الله نوح : إنما أنا رسول، وقد نصحتهم فلم يستجيبوا، فساروا في الأرض عبثاً، وأشاعوا فيها الفساد.
كيم : يا نبي الله، سيأتي من نسلك أيضاً قوم فاسدون، لكن نهايتهم لن تكون عن طريق الطوفان المروع، ذلك اليوم المشهود.
نبي الله نوح : إن الله عادل، وسيجازي كل إنسان بما عمل، وكل البشر خطاؤون، والعقاب، والمغفرة لله وحده، فاطلبها منه لا مني.
كيم : يا نبي الله، إني عبد صالح وأؤمن بك، وأعلم أنك على حق، وأن الطوفان قادم، وسأصعد معك على سفينتك، وبهذا سيتغير تاريخ البشرية، وستتبدل الأحوال، بصعود رجل بني للسفينة، وقد لاقيت في طريقي إليك رجلان صالحان، أحدهما شاب والآخر شيخ كبير، وكلاهما يستحقان النجاة.
نبي الله نوح : إسمع يا كيم .. عد إلى عالمك، وإلا ستهلك، فأنت لن تصعد معي على السفينة، فلست أهلاً لذلك، ومن قابلتهما أيضاً مثلك ليسا اهلاً لذلك.
كيم : كيف يا نبي الله !، أنا صوام قوام، كثير الصدقات والحسنات، ومن حدثتك عنهما كان لكل منهما فضل في إبقائي على قيد الحياة، فلماذا حكمت علينا بأننا غير أهل لصعود السفينة، أم أنك لا تريد صعودنا، حتى لا يتغير التاريخ ؟.
نبي الله نوح : أما عن كونك غير أهل لذلك فأجبني :
- ألم تكن واشياً .. عندما أبلغت الصيادين الظلمة بمكان الدابة المسكينة ؟.
- ألم تكن بئس المرء، عندما إستغاثت بك فتاة القربان، فلم تجب ندائها، وإستغاثتها بك، خوفاً على حياتك.
- ألم تضحي بالدابة المسكينة التي لاذت عنك بكل شجاعة وكانت طعاماً لمجموعة ظالمة.
أما عمن قلت أنهما صالحين فاسمع :
- ألم يصمت الشاب الذي سحبك من بين الناس عن ذبح فتاة القربان، كما صمت أنت ؟.
- ألم يصمت الشيخ عن ذبح الدابة الشجاعة، لتكون طعاماً بدلاً عنك ؟.
كلكم ظالمون حتى وإن لم تمارسوا الظلم بأيديكم، وليس منكم يستحق الصعود على السفينة.
كيم : يا نبي الله، لم أنتبه لما ذكرت أمامي الآن، لكنني في عالمي الأول، كنت صالحاً، فدعك من المواقف الثلاثة الأخيرة، فقد كان هدفي لقاؤك، لكن .. لي من الصالحات في عالمي الأول ما يكفر أخطائي الثلاثة في هذا العالم، لذا أنا اهل لصعود السفينة.
نبي الله نوح : يا كيم ..
- حتى في عالمك الأول، آثرت أن تنأى بنفسك عن الظالمين، والمظلومين.
- كنت أنانياً فلم تفكر إلا بنفسك.
- حتى صلاحك، وعبادتك قدمتها لتنال خير الآخرة، ولم تقدمها حباً في الله.
يا بني إرحل لعالمك الأول، فليس لك مكان عندي، لعل الله يغفر لك في عالمك، ولتستعجل الرحيل فها هي السحب تنذر ببدء الطوفان.
كيم : لن أرحل ودعني أصعد إلى السفينة.
نبي الله نوح : لم يكتب الله لك الصعود، فلا تجازف، وأنا لن أمنعك، فإن فشلت .. فأنت مع الهالكين، وستكون في الدرك الأسفل من النار، وإن عُدت إلى عالمك، فقد يتقبل الله توبتك، وتكون حقاً من الصالحين، والآن وداعاَ.
صعد نبي الله نوح، ومن معه إلى السفينة، وإذا بالسماء إبيضت ثم إسودت، وكان كيم بين أمرين إما المجازفة بصعود السفينة، أو العودة إلى عالمه، قبل بدء الطوفان، ومع ظهور البرق الشديد، وصوت الرعد القاتل، يقرر كيم العودة إلى عالمه، فيستيقظ من سباته العميق.
شادي طلعت