عرفت على سالم مؤلفا مسرحيا لديه شىء يريد أن يقوله نيابة عن المثقفين المصريين الأحرار فى عهد عبد الناصر ، ونجح فى أن يقوله بلغته المسرحية الجذابة داعيا للديمقراطية فى وقت كان الهمس باسمها مبررا لدخول معتقلات السجن الحربى والقلعة ومقابلة حمزة البسيونى.
وعرفت على سالم مثقفا مستنيرا ومن كبار المتحدثين الذين يستولون على أفئدة السامعين ليس فقط بخفة ظله وادائه التمثيلى الساخر الممتع ولكن أيضا لأتساع ثقافته وعمقها واخلاصه فيما يدعو اليه .
كنت الشيخ الوحيد الذى يحضر الجلسة الأسبوعية لندوة نجيب محفوظ عصر كل جمعة على النيل . وقد عرفنى بالندوة صديقى الدكتور فرج فودة رحمه الله تعالى. وكان فرج فودة من أعمدتها الأساسيين مع على سالم وآخرين . بعد أغتيال فرج فودة وفى مناسبة العزاء فى بيت شقيقته أقترح على سالم أن يتجمع المثقفون فى ذكراه فى السنة التالية فى مظاهرة صامتة أمام مكتب فرج فودة الذى لقى مصرعه على أبوابه ، وكل منهم يحمل جريدة فقط . أعددت نفسى لهذه المظاهرة ، ولكنها لم تتم ، وتحول مكتب فرج فودة الى مقر الجمعية المصرية للتنوير. لم يكن على سالم من رواد تلك الجمعية بينما كنت من اعضاء مجلس ادارتها ، وربما يرجع السبب الى بعض التيارات اليسارية التى تحكمت فى الجمعية وقتها فاختار على سالم الابتعاد فى هدوء.
لم تنقطع صلتى به وبندوة نجيب محفوظ الى أن حدثت المحاولة الآثمة لاغتيال نجيب محفوظ ، تلك المحاولة التى حذرت منها مسبقا وتنبأت بها حين كتبت فى مجلة القاهرة قبلها بستة اشهر دراسة عن التكفير فى الصحف المصرية الحكومية والحزبية التى يسيطر عليها التطرف والتى أقامت حملة فى غير أوانها ضد نجيب محفوظ تناقش روايته " أولاد حارتنا " وتطالبه بالتوبة .. وبعد نجاته منها ـ حفظه الله تعالى ورعاه ـ انقطع عن المجىء لندوته العلنية حرصا على حياته.
بعد الجمعية المصرية للتنوير انتقلت الى مركز ابن خلدون لأدير ندوته الأسبوعية المعروفة برواق ابن خلدون ، وهو يهدف الى تجميع المثقفين المصريين والعرب من كل التيارات الفكرية والسياسية المختلفة ليناقشوا القضايا المختلف فيها بدون تكفير أو تخوين أو تحقير.
وعندما قام على سالم برحلته العلنية الى اسرائيل وتعرض بسببها الى حملة ضارية اصبح بها معزولا يبتعد عنه الجميع ـ كمثل حالى فى أغلب الأوقات ـ حرصت على دعوته ليتحدث فى ندوة خاصة فى الرواق ، وحرصت على دعوة اكبر خصومه ، وكان منهم الكاتب الفلسطينى عبد القادر ياسين ولفيف كبير من المثقفين والسياسيين. وكانت ندوة تاريخية بكل المقاييس ، وقد وصل الخلاف بين على سالم وعبد القادر ياسين الى التشابك بالأيدى والنعال.
وكان واضحا فى هذه الندوة وغيرها من ندوات الصراع العربى الاسرائيلى أن الأعلى صوتا هم رافضوا التطبيع بينما الأقوى حجة هم دعاة السلام . ويأتى على سالم فى مقدمة الأقوى حجة بسبب براعتة فى الحديث والاستدلال ، وأهم من هذا كله أنه مثقف يعمل فى الضوء وعلنا وينفذ ما يؤمن به . انه من طراز اولئك المثقفين العظام الذين يقفون ضد التيار العام لتحويل مجراه الى الأفضل من وجهة نظرهم مضحين فى سبيل ذلك بالكثير.
وقد ضحى على سالم بالكثير ولا يزال.
حين كان فى مصر مسرح حقيقى فى الستينيات كان من نجوم الكتاب فيه على سالم . وتميزت مسرحياته بدعوته الصريحة والضمنية للحرية . وحين قدم المسرح المصرى استقالته ـ لصالح التطرف والتفاهة والتسطيح والتهريج والتبذل ـ رفض على سالم أن يشارك فى هذا الاسفاف مع قدرته الهائلة على الاضحاك وصناعة الكوميديا . ترك المسرح لأنه لم يعد يليق بدعوته للحرية والتفت الى فن المقالة والمسمقالة ـ ـ وهى نوع فريد اخترعه للمزج بين المقالة والمسرحية ـ واللقطات اللاذعة التى يكتبها فى سطور قليلة على نفس نمط "نص كلمة" لأحمد رجب فى صحيفة الأخبار المصرية. وفى كل كتاباته يستخدم ثقافته الواعية واسلوبه الساحر الساخر لكى يدعو الى الحرية وهدم الديكتاتورية.
ربما أحس أن جهده التنويرى فى حالة حصار بين تيار التخلف والتطرف وتيار الآستبداد الحكومى القائم والسابق ، وربما أحس أن دوره كمثقف يفرض عليه أكثر من مجرد القول والكتابة أى يفرض عليه أن يصنع الحدث وليس فقط أن يكتب عنه، وربما أراد أن يكون بطلا لمسرحية حقيقية واقعية ـ فى مسرح الحياة الكبير ـ لكل ذلك أو لبعضه أقدم على سالم على زيارته العلنية لاسرائيل واضعا حياته و شخصه وتاريخه وصداقاته وارتباطاته فى فوهة بركان.
الذين يعرفون على سالم ـ والذين يكرهونه ـ يعلمون أنه لم تكن له " اهتمامات اسرائيلية " من قبل . غيره من بعض أصحاب الرأى والفكر زاروا اسرائيل سرا ، وغيره من محترفى السياسة العرب قدموا لاسرائيل ما يستحقون عليه اقامة تماثيل لهم فى تل أبيب . ولكن لم يتعرضوا لمثل ما لاقاه على سالم فى مبادرته العلنية الفريدة التى حركت العقل العربى الخامل وألقت به فى حمأة من التساؤل. وكان أبرز التساؤلات : لماذا ؟؟ لماذا قام برحلته ؟؟ ولماذا يصر على متابعة مسيرة السلام مع كتلة السلام الاسرائيلية ؟ ولماذا يضع نفسه على حافة الخطر ، خصوصا وخصومه الألداء يجعلونه مسئولا أمامهم عن أى خطأ تقع فيه الممارسات الاسرائيلية مع الفلسطينيين ؟؟
وعلى قدر علمى بعلى سالم أقول ان الجواب فى محور شخصيته : التزامه كمثقف بالحرية والديمقراطية وحرصه على تطبيقهما فى مصر.
كداعية مخلص للديمقراطية فى مسرحياته ومقالاته ، وفى زمن الافلاس والعجز أراد على سالم برحلته لاسرائيل أن يرد ردا عمليا على دعوة المستبدين بتأجيل الديمقراطية الى أن يتم حل الصراع العربى الاسرائيلى نهائيا . أى تأجيلها الى أجل غير مسمى ..
كان يعرف ما ينتظره من عواقب وتحمل اكثر ما كان يتوقع.
اننى على سبيل المثال ممن يتعرضون للاضطهاد والتكفير وبحكم هذه التجربة والمعاناة أقدر الأذى الذى تعرض له على سالم وأشيد بقدرته على الاحتمال فى سبيل هدف نبيل وضعه نصب عينيه ، وهو الحرية والديمقراطية والتخلص من الآستبداد والعمل من أجل سلام واقعى بعيدا عن شعارات اضاعت كل شىء خلال أكثر من خمسين عاما عانينا فيها الكثير من الفساد والاستعباد .
من الطبيعى ان اختلف مع على سالم وغيره ن لكن هذا الاختلاف لم يزده فى عينى الا احتراما وتقديرا . وزاد هذا الاحترام والتقدير حين قرأت بعض الهجوم عليه من أولئك الذين لا يعرفون الا التكفير والتخوين لكل صاحب رأى أو موقف يخالف ما اعتادوه وما وجدوا عليه آباءهم.
ليس اولئك من المثقفين الحقيقيين. بعضهم من السياسيين أصحاب الالتزام الحزبى والمواقف المحنطة التى يتمسكون بها علنا وينتهكونها سرا. بعضهم من أنصاف المتعلمين الذين جعلهم الزمن الردىء اصحاب اقلام فاكتسبوا جراة هائلة فى الهجوم على ما لايعرفون وما لايعهدون , بعضهم يكتب لمجرد ملء الفراغ وليحتفظ بوظيفته ككاتب حكومى، وهو محروم من الابداع ومن القراء أيضا ولذا يجد فرصته فى المزايدة على المثقفين المبدعين واصحاب المواقف. وأخيرا بعضهم يطلق على العلمانيين قلمه كما يطلق علي الناس لحيته يتوعدهم بالويل والثبور وعظائم الأمور، فاذا انطلقت السهام العلمانية على كاتب علمانى مثل على سالم انبرى يزايد عليهم فى المعركة يطلق ذخيرته من التكفير والتفسيق. أولئك هم عاهات الأمة ومنبع خيبتها ومدار تخلفها ونتاج الفساد والاستعباد فى نظامها السياسى والاجتماعى . ضحاياهم هم المثقفون الحقيقيون والمبدعون المجتهدون والمصلحون اصحاب الرأى والفكر والموقف .
وقد أحسن الكاتب السرحى على سالم حين اختار منذ بدايته الانحياز للديمقراطية ، فارتفعت به الديمقراطية من الكتابة المسرحية ـ مع اهميتها ـ الى مستوى المثقف المناضل فى سبيل الحرية بالموقف وليس بمجرد رفع الشعار.
هذه مقدمة طالت لأنها ضرورية لعنوان هذا المقال.
لماذا لايرشح على سالم نفسه رئيسا لجمهورية مصر العربية؟
دعنا نرتب الحيثيات كالآتى:ـ
1- أن القوتين اللتين تملكان النفوذ فى مصر ـ النظام الحاكم والأخوان وسائر تنطيماتهم العلنية والسرية ـ هما معا أعداء حقيقيون للديمقراطية.
2- ان زعماء الأحزاب الكرتونية فى مصر كانوا ولا يزالون أكبر داعم للاستبداد فى قيامهم بالدور التجميلى للنظام العسكرى المستبد لقاء بعض الامتيازات الزهيدة . ثم هم لا يمارسون الديمقراطية الحقيقية الا لماما . واغلبها يتحول الى مايشبه الطرق الصوفية السياسية ، لها شيخ فى الضريح وشيخ أخر فى الطريق للضريح ، ومبدأ التوارث أو التداول فى انتقال الزعامة يواجه نفس المشكلة التى يواجهها النظام الحاكم بسسب تعمق الممارسة الاستبدادية.
3- بعدم صلاحية الأحزاب والأخوان لتحقيق وتطبيق الديمقراطية لا يبقى فى الساحة سوى منظمات المجتمع المدنى والديمقراطية وحقوق الانسان . وفعلا تحرك بعض قادتها وأعلن ترشيح نفسه : د. سعد الدين ابراهيم ، و د. نوال السعداوى.
4- الترشيح هنا هو أساسا لكسر حاجز الخوف الذى أرساه النظام القمعى فى مصر بالتعذيب الذى بلغ الذروة فى عصر مبارك. واكثر الناس خوفا هم زعماء الأحزاب الذين لم يجرؤ أحدهم على ترشيح نفسه ، ولم يستطيعوا عقد مؤتمر لهم فى الشارع ، اذ تعودوا على استجداء النظام والرضى بقراراته بالرفض.
5- الترشيح أيضا هو فرصة حقيقية لاعلان ان الشعب المصرى لم يمت وأن مصر مليئة بالرجال الأفذاذ والنساء المؤهلات للزعامة، وهو فرصة حقيقية للبدء فى اصلاح الدستور وقوانين الانتخاب لترسى اسس التداول السلمى الديمقراطى السلس للسلطة ، ثم هو فرصة حقيقية لكى نسمع من كل مرشح أجندته السياسية ونناقشه فيها ، بعد ان عشنا اكثر من خمسين عاما لا نسمع فيها الا الأوهام والشعارات حتى وصلنا الى القاع .
6- ليس الترشيح لبلوغ الفوز بالرئاسة المصرية . فحتى لو تحقق تعديل الدستور واصلاح نظام الانتخابات فى مصر فلن ينجح سعد الدين ابراهيم ولن تنجح نوال السعداوى ولن ينجح على سالم اذا رشح نفسه. لقد نجح النظام ومعه جوقة التكفير والتخوين ـ من أنصاف المتعلمين المسيطرين على الاعلام فى هذا الزمن الردىء ـ نجحوا فى اتمام الاغتيال المعنوى لأولئك المناضلين الأبطال ـ سعد ونوال وعلى سالم وأقرانهم ـ وفى ظل الحملات المركزة التى تعرضوا لها والتى قامت بغسيل مخ للجماهير فان تلك الجماهير لا يمكن ان تعطى أغلبية لهم أو لأى واحد منهم. مقصد الترشيح هو اعطاء فرصة أكبر للناس كى تستمع لهم من خلال اجهزة الاعلام الداخلية والخارجية . وهى فرصتهم ليس فقط فى الدفاع المشروع عن النفس ضد حملات الاغتيال المعنوى للشخصية ـ ولكن أيضا لكشف المستورو المسكوت عنه حتى لا تظل الجماهير الطيبة اسرى للأكاذيب والافتراءات .
7- انها فرصة لعلى سالم كى يقول لنا ـ وهو أعظم الحكائين فى عصرنا ـ ماهى احلامه وخططه للنهوض بمصر . مصر التى أعرف كم يحبها والا ما تحمل فى سبيلها كل هذا العناء..