في أواخر القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين ظهر ما سمي بعصر النهضة الإسلامي العربي الحديث، مستمدا قوته من صدمة الحداثة التي نشأت في وعي الشعوب الشرق أوسطية إبان عصر الاستعمار، حتى أن آثار تلك الصدمة لم تفارق وعي الشعوب إلى عصرنا هذا رغم مرور أكثر من قرن تقريبا.
وفي تقديري أن طول فترة هذه الصدمة يعود إلى عاملين اثنين، وهما الاستبداد السياسي والانحطاط الفكري الذي صنع تخلفا دينيا وقهرا نفسيا للمواطن العربي ، ولم يفلح هذا العصر النهضوي –المشار إليه – في ترسيخ حضارة شرق أوسطية كالتي نشأت في القرن العاشر الميلادي
أذكر من رموز هذا العصر طه حسين وجبران خليل جبران وفرح أنطون وشبلي شميل وغيرهم، والأخير هو الذي قرّب نظرية التطور الداروينية للعرب قبل فهمها علميا في جامعات العرب بعشرات السنين، وكأي عصر نهضوي تبرز فيه ملامح الأدب فظهر شعراء كنصيب عريضة وعبدالمسيح حداد وميخائيل نعيمة وغيرهم، وظهر مثقفون كإسماعيل أدهم وأمين الريحاني وجميل صدقي الزهاوي، وجمعي لتلك الأسماء في سياق المشابهة، فإسماعيل أدهم وجميل صدقي كلاهما ملحدين جهرا بإلحاديتهم دون خوف من إرهاب مظلم قد يلاقيهم لغياب سطوة الكهنة ونفوذ الغوغاء من الجهلة الذي لم يُعرف في هذا الزمان بشكل مؤثر..
وهذا يعني أن أدهم والزهاوي لو عاشا في زماننا هذا لقُتِلا بغياب نفوذ العقل إداريا كملمح هام من ملامح التحضر، وعلى ذكر الزهاوي فقد مدحه الأديب طه حسين بقوله معرّي هذا الزمان، نسبة لأبي العلاء المعري فيلسوف المسلمين وشاعرهم في القرن الحادي عشر، وفي ذكرى طه حسين أذكر مفارقة لطيفة وهي أنني رأيت استدعاءً لشخصيات قديمة مؤثرة في قلب أدباء العرب الحاليين، فسيد قطب أراد أن يكون جاحظ الأمة لتشابه خلقته الغير جميلة مع شكل الجاحظ الدميم، وطه حسين أراد أن يكون معرّي الأمة لفقدان كليهما بصره في سن مبكرة.
هؤلاء الأدباء مثلما يُحيون التعبيرات ويستدعون الصفات والكنايات يُحيون ويستدعون أيضا الشخصيات، فسعة الخيال تبقى محفز للإبداع جمالا وتذوقا، أي في قلب كل شاعر وأديب خيالا ووجدانا قد يتجاوز نفسه أحيانا ليعيش بأكثر من شخصية، وأظن أن ذلك حدث في قلب طه حسين، ذلك الأديب والمفكر الذي خلده التاريخ كأحد شهود عصر النهضة العربي الإسلامي حديثا في وقت خضعت فيه الشعوب للاستعمار والحكام فيه للتبعية والخيانة، في مشهد أراه يرسم صورة كل حضارة أنها تبدأ بصراع العلم والجهل دائما، أو بين الظلم والعدل، بيد أن كل قصة وخيال أدبي وشعري عند أصحابهم وكل فكرة بالقياس تجاوزت خصوصيتها لعموم أشمل قد يصبح انتقاما وسخرية من واقع أليم.
بدأ طه حسين رحلته الفكرية بحماس الشباب وانطلاقة الفاقد للتغيير، ففي العشرينات صدر كتابه "في الشعر الجاهلي" ثائرا فيه على بعض ثوابت العرب الأدبية والدينية معا، فشكك في القصص القرآني وأعطاه صفة المجاز لا الحقيقة، وشكك في نسب معلقات الشعر الجاهلي لشعراء ما قبل الإسلام..ناسبا أعمال تلك المعلقات لشعراء متأخرين اتفقت مفاهيمهم اللغوية والشعرية مع طريقة العباسيين في الغالب، وهذا جانب أتيمولوجي أبدع فيه طه حسين قبل ظهور هذا العلم الأتيمولوجي بعدة عقود..
إن ما ذهب إليه طه حسين في كتابه عن الشعر الجاهلي يضع المسلمين في تحدٍ خاص إذا تأكد ما ذهب إليه بشكل قاطع ، وهو أن على المسلمين عدم اعتبار قرآنهم مصدرا تاريخيا مثلما حدث مع الكتاب المقدس، ورغم ثورة الشيوخ والأزاهرة ضد هذا الرأي متهمينه ضمنيا بالإلحاد والمروق إلا أن ردود طه حسين كانت هادئة وواثقة مما أكسبه تعاطفا قضائيا وحصانة من أي ملاحقة أمنية لكفره وردته المزعومة، وغاية ما حصل هو فصله من وظيفته في جامعة القاهرة بعيد إصدار الكتاب بسنوات.
ورأيي أن موهبة طه حسين الفكرية كانت موازية لحسه الأخلاقي الجم وإنسانيته الرفيعة، فهو الذي لم يُسجل له أي حديث شخصي أو هجوم في معارك لا تخصه، بل اعتبر أن كل معركة فكرية له هي خاصة به وباتجاهاته المعرفية..بيد أنه لم يبحث في شئ إلا رغبة وإلماما وتوظيفا لقضايا تنويرية أكبر، فكتابه في الشعر الجاهلي موظف لإصلاح حركة الأدب والشعر بالأساس، فكان يرى ضرورة تأسيس العقل قبيل النزوع لرغبات إصلاحية في جوانب أخرى كالسياسة والدين، ومثال ذلك أن الرجل لم يتعرض لليهودية والصهيونية مثلما تعرض لها آخرون تأثروا عاطفيا بمنتجات ثورة يوليو، بل ظل على مبدأه أن مشكلة العقل هي الأساس الذي يجب البناء عليه قبل الدخول في صراعات جانبية أقل ضررا من مشكلة العقل.
كذلك لم ينساق وراء دعاوى القومية العربية مثلما انساق لها ميشيل عفلق وساطع الحصري وقسطنطين زريق، بل آمن بمحلية النهوض، أي تقدم كل أمة مرهون بظروفها الخاصة وقدرتهم على استغلال مواردهم وقراءة تاريخهم بشكل جيد، ومن هذا المنطلق تعاطف طه حسين مع فرعونية مصر بتطويرها وقراءة المصري القديم قراءة جديدة أسوة بما فعله الأوربيون..أي كان يحاكي نموذج أوروبا في التحديث بما اصطلح عليه بمفهوم "الأوربة" في كتابه التحليلي "مستقبل الثقافة في مصر" الذي أوجد فيه تشابها بين حضارتي أوروبا ومصر القديمة ، ثم دعا فيه لحضارة أم جامعة لشعوب البحر المتوسط ، وهذا بالمناسبة لم يكن اتجاها حصريا لطه حسين، فأمثاله في سوريا كأدونيس وأنطون سعادة، ومن أمثال هذا الإصلاح المحلي ظهرت حركات نسوية من واقع ذلك المحل تطالب بتحرير المرأة كقاسم أمين وإستر فانوس وهدى شعراوي.
أما نقطة الخلاف الجوهرية حول سيرة طه حسين تكمن في (نهاياته) فقد وضح تأثرها دينيا في اتجاهات طه حسين جمعها د محمد عمارة، وملخصها أن الرجل "تاب" عن أفكاره القديمة "الإلحادية" وأناب إلى الله بثوب إسلامي جديد، وهذه طريقة الإسلاميين في إثبات رأيهم، غالبا يذهبون لنفي أفكار الخصوم بتراجعهم عنها بدلا من الرد عليها وتفنيدها علميا، وهذه مشكلة ثقافية عامة لدى العقل الديني والإسلامي بالخصوص.
والرد على محمد عمارة أن طه حسين له ثلاثة مستويات من الفكر لا يمكن جمعها في سلة واحدة إيمان أو إلحاد، فالمستوى الأول خاص بالنقد الأدبي والتاريخي، والثاني بمكافحة الجهل والأمية ومشكلات اجتماعية أخرى كالفقر والمرض، والثالث مقالات سياسية منها ضد الاستعمار وجماعة الإخوان، وسائر كتبه عموما تدعو إلى التسامح وعدم التمييز بخلاف أفكار الإسلاميين الذين يرهنون تسامحهم بقبول الآخر مشاريعهم الدينية، فطه حسين الذي صال وجال بعقله بين المعتزلة والفلاسفة والشعراء وحضارة فرنسا لا يمكن أن يختمه كما أوهمنا عمارة.
غاية ما حدث - وهو ختام تلك الورقة - أن طه حسين كغيره من الأدباء عاش واقعه بصعود وهبوط شعور مجتمعه العقلي والديني، فهو قد بدأ حياته عقليا وختمها مزيجا من العقل والدين، إنما سائر كتاباته لم تفارق أصول العقل والحس الأدبي، وفي ذكراه باقة ورد على قبره المعطر..وسلاما لروحه في كبد السماء.