«يا خفى الألطاف نجّنا مما نخاف»، ظل المصريون يرددونها أثناء الحملة الفرنسية وهم يرتعدون رعباً ويرتعشون فزعاً من المدافع والقنابل، منتج الدعاء فى مواجهة منتج العلم، ألفاظ مخدرة فى مواجهة مواد مفجرة، شرنقة اللغة واجترار اللفظ وحصون العبارات ضد شظايا القنابل، وأشرعة السفن الحربية ورصاص البنادق، ذهب أبناء المحروسة لبطون الكتب وأقوال ابن حنبل، ليستجيروا من عفاريت معامل ابن لافوازييه، التى تلد مواد صفراء من مواد حمراء، وتطلق دخاناً من قارورات، لم يجدوا الحل ولم يفهموا اللغز، كرروا الخطأ السابق نفسه عندما لجأوا إلى «البخارى» فى القحط والمجاعات، ولم يلجأوا لاستحداث نظم وأدوات الرى!، لم ينتبه رجال الدين وقتها، وهم يرددون الدعاء وسط غبار القنابل وتحت هدير المدافع إلى أن هناك مطبعة، وهناك شامبليون، الذى يفك شفرة الهيروغليفية، وهناك نظم قانونية مستحدثة خلف المنشورات الفرنسية، وهناك فنانون وعلماء يصفون مصر بالكلمة واللوحة ويصوّرون واقعاً حقيقياً، ولا يحفظون ويرددون ويكررون عبارات ميتة محفوظة فى أوراق صفراء مُحنطة من تراثٍ مقاسه لم يعد يناسب مقاس ذلك الزمن، لماذا عندما يحدث التغيير بالسيف نسميه فتحاً وظهوراً للحق، وعندما يحدث بالبندقية نسميه احتلالاً وغزواً ثقافياً؟، عندما حضر الفقيه العربى إلينا بأمر الخلافة، صار العنوان هداية إلى طريق الإيمان، وعندما حضر إلينا عالم الكيمياء الفرنسى صار العنوان انسلاخاً وبعداً عن حظيرة الإيمان، وتذويباً للهوية؟!، طرح هذا السؤال وتفكيك هذا المفهوم وخلخلته هى الخطوة الأولى للإجابة عن سؤال أخطر، وهو لماذا نستمتع بشرنقة تخلفنا ونبنى حولها المتاريس حتى لا تتسلل أى فكرة أو لقطة أو لمحة مختلفة تشككنا فى يقينياتنا المتوارثة؟، لماذا نخترع وننحت مصطلحات مخادعة، مثل مصطلح الغزو الثقافى حتى تظل مياهنا الراكدة تحتفظ بطحالبها وعفنها فوق السطح؟، لماذا لدينا تلك الأرتيكاريا من استيراد الأفكار، وليست لدينا نفس الأرتيكاريا من استيراد كل احتياجاتنا من رغيف العيش حتى الدبابة؟!، لماذا لا نشعر بنفس الغضب؟، لماذا لا نحسّ بالعار من أننا عالة على هذا الغرب، الذى نصفه بالكافر الفاسق الداعر الصليبى.. إلخ فى المأكل والملبس، ونرغى، ونزبد، ونخجل، ويصير رد فعلنا عدوانياً فجاً وعنيفاً حينما نتحدث عن استيراد فلسفة أو منهج فكرى؟!، ومثلما نفحص الأغذية المستوردة سهل جداً أن نفحص الأفكار المستوردة ونناقشها ونحللها، لكن أن نرفع راية الرفض والمنع بدون حتى الاطلاع عليها بحجة الوصاية على شبابنا والخوف عليه من خطر التغريب، فهذه هى الحماقة بعينها والفوبيا المرضية بكل تفاصيلها المرضية، تلك الحساسية من استيراد الأفكار شبّهها د. صلاح قنصوه، أستاذ الفلسفة، بأنها مثل حساسية المريض من فتح النوافذ، خشية لفحة الهواء برغم أن الحجرة معبأة بالميكروبات والفيروسات، نحن مثل ربة البيت التى لا تفتح الشبابيك وترفض التهوية ودخول الشمس بحجة حماية الأطفال، فيصيبهم الكساح، وبالطبع رفض أفكار وفلسفات الغرب يسوّق لها دائماً باسم حماية الدين، هذا الدين الذى حوّلناه واختزلناه وقزّمناه من ضوء هداية ونور نرى فى ضيائه الشامل الأشياء جملة أو «باكيدج» أو مانشيتات عامة، إلى مجرد لمبة «مصباح جيب» للبحث عن إبرة وسط كومة قش، للغوص فى تفاصيل معقّدة ومركبة لا تحتاج إلى تليسكوب الدين، ولكنها تحتاج إلى ميكروسكوب العلم، حوّلنا تراثنا الدينى إلى ترسانة أسلحة قديمة، حتى الصيانة الدورية لا نقوم بها، ونظن أن كل ما علينا هو أن نهرول إلى تلك الترسانة، أو ذلك المخزن، ونمد أيدينا ونسحب السلاح بعد التوقيع فى الدفتر، ثم نذهب لنحارب به فى معترك تلك الحضارة المعاصرة، ندوس على الزناد فلا تنطلق الرصاصة، فالصدأ يقف حائلاً، والرصاصة نفسها قد انتهت صلاحيتها، تلجمنا المفاجأة وتشلّنا الدهشة، فالأسلحة راقدة كسلاحف الشتاء، ليست قادرة على الكر والفر والمناورة والمحاورة، ومن ثم فالهزيمة هى المصير المحقق لهذا الجيش الذى يعيش بالجسد فى القرن الحادى والعشرين وبالفكر فى القرن الرابع، حنّطنا الزمان، فأفقدناه حركته وتدفقه فصارت عقارب ساعته تقف عند نفس اللحظة، وكل ما نفعله هو نفخ التراب من عليها، لكننا لا نفكر أبداً فى وضع البطارية وتشغيلها وشحنها، لتتحرك عقاربها الميتة، لا تفكر السلطة فى بلادنا العربية والإسلامية فى منح المواطن مناعة عقلية وتربيته تربية نقدية تحميه من الاستباحة الفكرية، فرض الوصاية المزمنة تصيب مواطننا بالإيدز الثقافى!، أى مجتمع صحى يفكر بطريقة علمية ويريد دخول عصر الحداثة لا يترك مواطنه لهذا الإيدز، بل يمنحه مع شهادة التطعيمات الطبية تطعيمات فكرية، تطعيمات عبر أمصال التعليم الجيد والثقافة المنفتحة وحرية الرأى والتعبير وقبول الخطأ وعدم اعتباره خطيئة والسماح بالخروج عن القطيع الثقافى والتفكير خارج الصندوق المعلّب والتمرد على الأفكار سابقة التجهيز، كل تلك السلوكيات تصنع هذا المواطن الحر الفعال المنتج المغيّر لحاضره، والصانع لمستقبله، لكى نحمى أنفسنا من شلل الأطفال نعطى الطفل فيروساً مُضعفاً، حتى يحفز جهاز المناعة، فما هو المانع من أن نحفّز جهاز مناعتنا الثقافى بكل الأفكار، حتى لا نصاب يوماً بشلل العقول؟!.