لا أعلم هل المسئولين في الولايات المتحدة على علم بالمخاطر التي تهدد بلادهم؟..شبح حرب مدمرة مع إيران في الشرق الأوسط، صدام اقتصادي مع الصين وأوروبا، واقتصادي وسياسي مع روسيا أقرب أن يتحول عسكريا في سوريا ، انشقاق المجتمع الأمريكي بشكل ملحوظ حول قضايا العنصرية في الداخل أعاد للأذهان حقبة ما قبل لينكولن، سمعة سيئة دوليا غير مسبوقة لرئيس أمريكي لم تحدث في تاريخ الولايات المتحدة.
أضيف إلى ذلك أن شخصية الرئيس ليست دبلوماسية للحد التي تشرح فيه سياساتها أو تتواصل مع القطاعات الفكرية والحزبية في الداخل، أو على علم بمجريات ما يحدث في العالم بحسّ الفيلسوف ولو عن طريق مستشاريه، صنع ذلك أزمة بين مؤيدي ترامب ومعارضيه بشكل قد يوحي أنه انشقاق شعبي خطير، ولولا مؤسسية الولايات المتحدة وقِدَم الممارسة الديمقراطية فيها لقلنا أنها بوادر حرب أهلية ، بالتأكيد ستتعمق هذه المشكلة مع طول مدتها الزمنية، بمعنى أن دوام سياسة ترامب بهذا الشكل أو نجاحه في ولاية ثانية يعني تغيير جذري يحدث في الولايات المتحدة تقول المقدمات أنه سيكون تغييرا للأسوأ.
هذه نتائج الديمقراطية عموما، ومن أجل ذلك رفضها سقراط وأفلاطون اللذان فضلا الممارسة الفلسفية في الحكم وتولية العقلاء على الاحتكام لرأي الشعب، أن يصعد رئيس غير كفء لمنصب حساب يعد أهم منصب عالمي الآن لهو أمر محفوف بالمخاطر سياسيا واقتصاديا وعسكريا، خصوصا وأن المنظومة التي يعمل بها الرئيس الأمريكي الآن تهدف لإنجاز اقتصادي دون النظر لطبيعة الوسائل أو الربط بين جوانب أخرى في السياسة وبين الاقتصاد.
بمعنى أن لُبّ اهتمام ترامب الآن بتحسين أوضاع الشعب الأمريكي ماليا أهمل فيه التوازن السياسي مما يجعل الإنجاز الاقتصادي لو تحقق يكون لفترة مؤقتة لثبوت قاعدة السياسة أصل الاقتصاد، وما بناه ترامب في أعوام يهدمه قرار سياسي أهوج كالقرار المتعلق بفرض عقوبات على مستوردي السلاح الروسي، هذا قرار سياسي بلمحة اقتصادية يهدف لضمان سوق السلاح الأمريكي الذي تضرر مؤخرا لصالح نظيريه الصيني والروسي، وقد يدفع هذا القرار لمزيد من العُزلة الدولية والاقتصادية لأمريكا في ظل وجود بديل صيني يكتسح العالم الآن اقتصاديا وبات على مقربة بأن يصبح في المركز الأول.
ولأن قرار العقوبات على السلاح الروسي بلمحة سياسية فقد شكل تهديدا للأمن القومي الروسي مما يدفع بوتين لاتخاذ مواقف أكثر حدة تجاه الإدارة الأمريكية، التي في رأيي باتت خياراتها صعبة جدا خصوصا في سوريا وقرب إعلان انتصار الأسد الوشيك وتفكك جبهة أمريكا إقليميا بضعف عملائها الحاليين، ورأيي أن بوتين ليس مجرد رئيس، هذا مُحارب ماهر جمع بين الدهاء والقوة، فقد نجح بتدخله في الانتخابات الأمريكية بإحداث شق داخلي أمريكي، ودعمه لترامب هدد أشد خصومه العسكريين وهو "حلف الناتو" إضافة لتدجينه أردوجان واستمالة قوى الخليج على تنوعها إيران وقطر من جهة، والسعودية والإمارات من جهة، وأخيرا عدم خسارة إسرائيل بمواقف يظهر منها بوتين إسرائيلي في ظل دعمه الكامل للأسد وإيران..
يوجد جدل كبير بشأن الطريقة التي تُدار بها الولايات المتحدة، اجتهادات منها سيطرة ترامب، وأخرى بانشقاق بين الرئاسة والبنتاجون مستدلين بشواهد منها فرض ترامب عدو إيران الكبير "جيمس ماتيس" على البنتاجون في حين فشل ماتيس بإقناع البنتاجون شن حرب مع إيران، ولمن يتذكر التصريحات العنيفة لترامب ثم ماتيس بتأخر الضربة العسكرية لطهران أكثر من اللازم، ونحن الآن بعد 21 شهر من تولي ترامب لم ينفذ الأمريكيون تهديدهم مما يشي بخلاف في الإدارة حول طبيعة الضربة ونتائجها المتوقعة.
كذلك انشقاق آخر بين الرئاسة والخارجية ظهر في أزمة وزير الخارجية السابق "ريكس تيلرسون" الذي كان دبلوماسيا للحد الذي تواصل فيه مع إيران، وتعليقاته على نقض الاتفاق النووي، لم يمر هذا الأمر مرور الكرام ، سارع ترامب بعزله وتولية مسيحي متطرف هو "مايك بومبيو" صاحب التصريحات العنصرية ضد الإسلام ، الذي نقل مواقفه تلك بتصريحات عدائية ضد إيران باعتبارها ممثلة للإسلام الذي يرفضه، فيما يبدو أن هذا الاتجاه لترامب وبومبيو أنه نقد للإسلام المعادي لإسرائيل ولا توجد لديهم مشكلة مع أي إسلام مختلف صديق لإسرائيل أو مهادن لها.
والملاحظ أنه منذ تولية بومبيو وتصريحاته العدائية ضد إيران متكررة ومقتبسة من بعضها، بحيث لا تجد فارق بين تصريحيه الأول والأخير، في سلوك أظنه دعم إعلامي وسياسي لحلفائه في الشرق الأوسط ليس إلا ، بينما العالم لم يعد مشغولا بتصريحات إعلامية ليس لها شأن في الواقع، بيد أن العالم يتعامل مع إيران في معظمه ولا يرى فيها الخطر الذي يراه بومبيو وترامب وحليفهيم بنيامين نتنياهو ومحمد بن سلمان، وظني أن هذه اللامبالاه العالمية هي نتاج صعود تيار حقوقي عالمي يؤمن بحقوق الشعب الفلسطيني اخترق كل شعوب العالم تقريبا، حتى بات العالم شعبيا يرى أن إسرائيل خطر على الأمن العالمي بدوام احتلالها للشعب الفلسطيني وتنكيلها المستمر لمظاهراته المشروعة ضد الاحتلال.
وهنا للتسجيل، أن قوة إيران الحقيقية في معارضتها للاحتلال الإسرائيلي وتحويل تلك المعارضة لممارسات على الأرض سواء بدعم عسكري للفصائل الفلسطينية أو دعم سياسي وحقوقي في كل المحافل الدولية، هذا أكسبها صفة أخلاقية جيدة جعلها مقبولة عند أغلب شعوب العالم الرافضة لكل أشكال الاستعمار، وفي مقدمة هؤلاء "شعوب الشرق الأوسط" حتى في ظل الهجوم الديني والعرقي الكبير الذين يتعرضون له في الخليج ما زالوا متماسكين بحضور فاعل في عدة ملفات أشهرها الملف السوري.
ورأيي أن طبيعة النظام الصهيوني الحالي يخدم إيران بعنصريته وعدوانيته تجاه كل الناقدين، وقد ظهر ذلك في أزمة نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب للقدس وتراجع بعض الدول عن قرار النقل كباراجواي مما استدعى إسرائيل للرد بعنف لفظي وسياسي عليها، كذلك ظهرت عنصرية نتنياهو بمشروع يهودية الدولة وخطط إفراغ القدس من أهلها العرب آخرها مشروع هدم قرية الخان الأحمر.
هذا يعني أن إسرائيل أصبحت عبء على الولايات المتحدة بشكل مؤثر، في السابق كانت عبء ولكن ليس بالمستوى الذي يهدد الولايات المتحدة أو يسئ إليها ، الآن منذ تحويل ملف الاحتلال الإسرائيلي لمحكمة الجنايات الدولية وما يتبعه من تقديم قادة الاحتلال بتهم جرائم حرب.. وترمومتر الاحتلال في هبوط شعبيا ، في وقت لم يكن أكثر المتشائمين أن يتوقعه بعد أوسلو، فقد وصلت قضية الاحتلال الإسرائيلي لمرحلة أصبحت فيها حقوقية وإنسانية قبل أن تكون سياسية، وهذا يعزل المفاوض الإسرائيلي عن التمسك بآراء يرفضها الفلسطينيون كصفقة القرن مثلا وتهويد القدس وإلغاء حق العودة.
وقد أثر هذا الوضع الفلسطيني في قرارات ترامب ، تجده يتسرع بإلغاء دعمه للأونروا، ثم إلغاء دعمه المالي للسلطة الفلسطينية، وأخيرا طرد عناصر منظمة التحرير من أمريكا، هذا يعني أن "أوسلو " انتهت عمليا ولم يعد أمام الفلسطينيين سوى تفكيك سلطة أوسلو والعودة لخيار الانتفاضة الذي بدأ شبحه يعود الآن من جديد بمسيرات في الضفة، ومسيرات أكبر وأكبر على حدود قطاع غزة.
إن أكبر تهديد لنفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط هو في أمرين: إلغاء أوسلو والثاني إلغاء كامب ديفيد، أوسلو عمليا انتهت ولم تعد أمريكا صالحة لأي نوع من الوساطة، بحيث يفتح هذا الباب للاعبين جدد أو مواجهة شعبية مع إسرائيل قد تتطور لحروب ظهرت مقدماتها الآن بتواجد إيراني في سوريا وتأهب حزب الله وحماس لحرب طويلة قد تنضم إليهم حركة فتح بعد سحب الدعم الأمريكي لقياداتهم.
ترامب يدفع ثمن عنصريته ضد المسلمين بربط هذه العنصرية بإسرائيل، والقبول بكل حلفائها المسلمين، هذا يجعله تحت ضغط نفسي وإداري يرى كل موقف ضد إسرائيل هو ضده شخصيا، فيسارع بردود أفعال تبدو لديه دفاعية، بينما عند العالم يراها هجومية غير مبررة، وظني أن إلغاءه الاتفاق النووي مع إيران كان من هذا المنطلق، فأساس رفضه لاتفاق أوباما أنه لم يتضمن مساومات حول إسرائيل وأمنها، علما بأن أوباما طرح هذا الخيار على المفاوض الإيراني ورفضه من حيث المبدأ لتعلق الاتفاق بأسلحة دمار شامل لا علاقة لها بوضعية احتلال تؤمن بها الأمم المتحدة وتبحث لها عن حلول.
على جانب آخر تعمل الإدارة الأمريكية الحالية بخطة منفصلة عن النظام العالمي السائد بعد ww2 أي هي حتى بعيدة عن قواعد الحرب الباردة، إنها تقوم على صدام دائم لا يتوقف أشبه بالثورة على الاتفاقات السابقة منذ 40 عاما بما فيها الاقتصادية، وهذا لم يكن ليحدث سوى شعور ترامب بالخطر المالي القادم عليهم من الشرق تحديدا، والصين بالخصوص، فبعد انسحاب أمريكا من الاتفاق النووي مع إيران انسحب من مجلس حقوق الإنسان ومن منظمة اليونسكو للثقافة..والأخيرون لمواقف لهم ضد إسرائيل يثبت صدق تحليلي منذ قليل.
كذلك انسحاب أمريكا من اتفاقية باريس للمناخ ومن ميثاق الهجرة ومن اتفاقية التبادل الحر عبر المحيط الهادي، هذا أثر على وضعية أمريكا إنسانيا وأخلاقيا من جهة، بحيث لم يعد للمفاوض الأمريكي أي قيمة وصدق يحمله على الوفاء بتعهداته، كذلك أثر على وضعيتها في جنوب شرق آسيا التي عقد من أجلها أوباما اتفاقية التبادل الحر عبر المحيط الهادي لجذب واستمالة حلفاء وأصدقاء لأمريكا من الجار الصيني.
هذا يشير إلى طبيعة أمريكية جديدة لا تؤمن بالنظام الدولي الحالي رغم أنه من صناعتها، فهي التي رعت تأسيسه مع الإتحاد السوفيتي وأوروبا في السابق، ثم رعته منفردة بعد انهيار حلف وارسو، هذا ربما يشي بقرب تكوين تحالفات جديدة منافسة في عدة مجالات أبرزها الاقتصاد، ومن تلك التحالفات منظمة شنغهاي، إضافة للبريكس، وقد يؤدي النفوذ الصيني في أفريقيا لتشكيل جبهة عالمية ضد أمريكا تضم أغلب دول وشعوب العالم الذي يقطن في 70% منه في قارتين فقط هما آسيا وأفريقيا، وخطط الصين مع نيجيريا وأثيوبيا وجنوب أفريقيا للتعامل باليوان يرسم ملامح هذه الجبهة التي أظن ستكون قاضية فيما لو لم تنتبه أمريكا بخطورة النظام الحالي لترامب على مصالحها.
على الصعيد الداخلي لأمريكا لم تتوقف تعيينات وعزل الرئيس لمسئولين، كوزير الخارجية ومستشار الأمن القومي ورئيس السي آي إيه، كذلك تعيينه لمتشددين في المحكمة العليا كالقاضي "بريت كافانو" ولم يفلت محاميه ورئيس حملته الانتخابية من هجومه الشخصي، بعض هؤلاء عزلوا وهوجموا دون مبرر يقنع الشعب والإعلام الذي يتحدث الآن عن "شبه مجنون" يحكم بلادهم، ولما لا وقد وجهت إليه التهم إعلاميا بفقدان الأهلية العقلية الإدارية ، وقد خرج بعدها ليؤكد أنه في كامل قواه العقلية وتحدى خصومه بإثبات جنونه، وما كان هذا يحدث لرئيس أمريكي إلا بعد انهيار صورة المدير العاقل في منصب الرئاسة الذي حل فيه عظماء كتوماس جيفرسون وإبراهام لينكولن.
هذه الطريقة في الحُكم قد تُعجب آخرين الذي يفضلون للسلطة المباشرة والدكتاتورية، فقرارات ترامب لم تخرج بشكل مؤسسي بعد استعمال سلطات أتيحت له دون إعمال روح القانون، كمسألة عزله لوزير الخارجية مثلا..هذه لم تكن تحدث إلا بعد مسائلة في الكونجرس، لكن الرجل عزله بتغريدة على تويتر بشكل يعني استهتاره بالدولة والقانون..وسر إعجاب هؤلاء بترامب يعود لفلسفات قديمة لميكافيللي وتوماس هوبز ترى أن الدكتاتورية أسرع في التغيير وأجرأ من الشكل الديمقراطي، وهذا يعني أن التغيير لدى هؤلاء يتطلب ناس من نوعية ترامب، وليس بالطرق الديمقراطية المتعارف عليها يحدث المنشود.
لكن التغيير لو لم يقم على أسس عقلية وفلسفية ، ويتمتع بحس الإدارة والتواصل فهو ليس تغييرا بل انهيار في منظومات الحكم قد يؤثر بشكل سلبي على الإنسان نفسه، أي أن المواطن الأمريكي الآن يتضرر من طريقة ترامب في الحكم التي يظهر منها السلطوية والفردية وتجاوز روح الديمقراطية بالعمل الدبلوماسي، وتلك هي المفارقة مع توماس هوبز وميكافيللي، فهذين العظيمين أساسا أفكارهما على أخلاقيات وحِكَم بشرية في الإدارة غائبة بشكل كلي عن إدارة ترامب كمثال نقضها للاتفاق النووي مثلا، هنا أبسط فيلسوف يقول أن نقض العهود هو إضعاف للحلفاء وعدم ثقة في عقد اتفاقات جديدة، إضافة للتخوين والطعن في النوايا بشكوكية الإنسان في تفسير مواقف غامضة وغير مبررة.
ناهيك عن طريقة ترامب العنصرية في الداخل ضد السود، الرجل يعتقد أن أكثرية البيض تعطي لهم الحق في السيادة والتملك، هو لا يستطيع الجهر بتلك القناعة لديه، ولكن تظهر علاماتها في أشياء منها الضغط لاستقالة " أوماروزا مانيجوليت" السيدة السوداء الوحيدة في البيت الأبيض، ووصفه لشعوب أفريقيا وجزيرة هاييتي بحثالة الدول والأوكار القذرة، إضافة لطلبه منذ أيام من أسبانيا ببناء جدار عازل في شمال أفريقيا يحمي أوروبا من تدفق المهاجرين السود، وتصريحاته ضد جنوب أفريقيا لدفاعه عن ما يعرفه "بحقوق البيض" إضافة لقلة حضوره في أفريقيا واهتمامه الأكبر منصب على دول غنية يستفيد منها تعد موردا هاما لقطاع السلاح كالسعودية والإمارات.
أي في المحصلة نحن أمام تاجر حروب وسلاح وليس دبلوماسي، وشخص عنصري أطلق وبكل استهتار تصريحات بعدم إمكانية عزله طالما أن غالبية الأمريكيين هم بيض البشرة، وهذا عدم فهم للديمقراطية وحقوق الإنسان، اللذان يفرقان بين الحق الطبيعي والمكتسب، فالانتخاب حق طبيعي ودستوري للمواطن أيا كان أبيض أم أسود، والتزلف بأغلبية البيض يعد انتهاكا لحق الانتخاب واستخدام الكثرة العددية في قهر الأقليات، وهي مشكلة تليق أكثر بالشعوب المتخلفة والدول المستبدة وليس لأمريكا.
أما عن إمكانية عزله من منصبه فهي أقرب مما مضى، ولكن التكهنات بالموعد والطريقة لا تعدو كونها مجرد اجتهاد غير مسندة على معلومات عن النظام الأمريكي الغامض الآن، والذي بت أشك أن قوى فاعلة غير مرئية تتحكم في مساراته ربما تكون داخلية أو خارجية، فقد يعزله الكونجرس ويُحاكم من العليا بتهم خطيرة، وقد يمر الحال مرور غير الكرام، بمعنى أن عزله ليس أمرا سهلا رغم أنه قريب، فالإجراءات يلزمها تصويت الحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ، مثلما نجا الرئيس الأسبق "بيل كلينتون" من العزل بنفس الطريقة بعد إدانته بالكذب في فضيحة مونيكا لوينسكي، أي أن موافقة الحزب الجمهوري أساسية للبدء في إجراءات العزل، وأحسب أن تلك الموافقة غير متوفرة الآن لتناول بعض الجمهوريين شخصية ترامب كاستثنائية رغم خلاف الآخرين حول هذا التناول.
أو ربما يستقيل الرجل طواعية بعد الضغط الكبير الذي يمارس عليه في الداخل من الإعلام والديمقراطيين وبعض أنصاره معا، لكن هذا احتمال بعيد لطبيعة الرجل الذي يؤمن بأنه في مهمة مقدسة وإيمانه بأنه شخص استثنائي جاء لينقد أمريكا، وهذا التصور مهدوي خالص متعلق بقناعات نفسية – أو دينية – عند ترامب أنه من الضروري أن يُكمل رحلته لمحطتها الأخيرة بإنقاذ الولايات المتحدة من الأشرار..!
إنما يبقى التساؤل: إلى أي مدى سيصمد ترامب في مواجهة هذه الضغوط؟..إن أي محارب يواجه مخلوقات قوية لا يمكنه الصمود بدون أسلحة، وأزعم أن أسلحة ترامب ليست بالحجم والتأثير المطلوب، فقط هو يركز على الجانب الاقتصادي التي تشير بعض التقارير أنه تحسن عن سابقه، ويعتبر أن لقاءه بزعيم كوريا الشمالية إنجاز لم يسبقه فيه أحد..هذا قد يرضي قطاع كبير يرى ضرورة تحييد القوة النووية الكورية عن تهديد أمريكا والتركيز على الشرق الأوسط من جديد، بينما أوباما كان عكس ذلك الذي رأى الإنسحاب من الشرق الأوسط مصلحة أمريكية.
إذن نحن أمام اتجاهين مختلفين ومتضادين في أمريكا يهيمنان على الوضع بطريقة كلية، وما التوتر الحالي في الشرق الأوسط وفي الداخل الأمريكي وفي الواقع الاقتصادي الدولي إلا إفراز طبيعي لهذا الصدام، وفي كل الأحوال غابت حقوق الإنسان عن أمريكا الحالية التي ميزتها طيلة العقود الماضية، وأصبحت أمريكا متهمة بدعم مجرمين في إسرائيل والسعودية ضد شعوب بريئة ومضطهدة، هذا أكثر ما يسئ لأمريكا الآن دوليا، وأعتقد أن التنافس الدولي حول الزعامة لم يعد في صالح ترامب الذي يفقد نقاط قوة تباعا وبسرعة بالغة قد تدفع خصومه لعقد تحالفات تعمل للإصلاح وعلاج ما أفسدته سياسة القطب الواحد.
أخيرا: بعد أن أسهبنا في عرض المشكلة لن نسهب في عرض العلاج، هذه مسألة تخص الشعب الأمريكي نفسه، وطريقة تناول الشعوب الأخرى مع المنتج الأمريكي.
وفي تقديري أن إرادة العلاج تتحدد مع ظهور مؤشرات ونتائج الانتخابات النصفية للكونجرس، فإذا وعى الأمريكيون خطرا ما سيخسر الجمهوريون، والعكس صحيح، أما عن التنبؤ بالنتائج فهو أمر صعب ليس لشعبية ترامب ولكن لضعف خصومه في الحزب الديمقراطي التي تحوم من حولهم الشبهات كهيلاري كلينتون، ومن هنا أتفهم لماذا ترامب يركز على هيلاري في نقده لها على حسابه بتويتر، فالرجل يرى أن أفضل وسيلة لبقائه ليس إقناع الناخب أكثر من إسقاط وتشويه خصومه، طريقة أيضا مميزة لشعوب العالم الثالث، لذا فقد يظن البعض – وأنا منهم – أن ترامب لا ينتمي لأمريكا وحضارتها، بل يفكر كرعاة البقر المسلحين الرحل والسارقين لأموال الضعفاء، نفس العقلية التي قضت على الهنود الحمر وأحدثت مجازر بشعة من أجل سيادة الرجل الأبيض.
يبقى طريقة تناول الشعوب الأخرى مع مشكلة ترامب، وأختصرها في التحالف وإنشاء التكتلات السياسية والعسكرية والاقتصادية، قد يحدث هذا دوليا أو إقليميا..المهم من الضروري أن يحدث لاحتمالية أن تؤدي مشكلة ترامب لإشعال صراع دولي عسكري ، ورأيي أن الصين تفعل ذلك منذ زمن، وروسيا بدأت مؤخرا بتشكيل مجموعات عمل خاصة بسوريا ..لكن هذا لا يعالج كل أو أغلب الملفات بل ملف واحد فقط من ضمن العشرات على الطاولة، كذلك إيران تفعل ذلك بتحالفات وتفاهمات مع الجيران وشعوب القوقاز وآسيا الوسطى..هذه كانت نقطة ضعف إيران في السابق الآن تقريبا منذ 10 سنوات وإيران نجحت في تأمين حدودها بشكل كلي بالتواصل مع نُظُم سياسية وخلق أخرى لها موقف جيدة من الجمهورية الإسلامية.
أما شعوب فلسطين واليمن والبحرين وكل من له مشكلة مع إدارة ترامب وحلفائها ليس له خيار آخر، فالمنطقة تتجه لصدام البقاء فيه للأقوى وليس للأكثر حجة ومنطقية، أما كيفية الحصول على تلك القوى فيعود لأصحاب المشكلة وإن كان في رأيي أن شعب اليمن وجد لقضيته حلا يمارسه منذ سنوات بمقاومة الغزو السعودي لبلاده، واستنزاف الطاقة الأمريكية وحلفائها في صراع جبلي لم يحسب الأمريكيون والسعوديون له أن يطول ويتعقد بهذه الطريقة.
وهذا يعني أن فرص علاج مشكلة ترامب لن تخلو من الحل العسكري واستخدام القوة، فأكثر ما يخيف العدوانيين والمتشددين أن يظهر خصمهم قويا، كخشية المتطرفين الإسلاميين مثلا من العمل ضد إيران وإسرائيل..هذا يعود لتكوينهم النفسي بالخوف من الأقوياء..خصوصا من جهلوه منهم بثقافات ولغات مختلفة عن العرب، فلو شعروا بالقوة التي تفوق قدرة هاتين الدولتين سيهاجموهم، أما المواجهة الاقتصادية فأحسب أن العرب عاجزين تماما عن خوضها، إنما وكلت تلك المواجهة للأقدر ماليا وسياسيا للصينيين والروس..إنما كل ذلك مرتبط بخطط عقلية وفلسفية لبناء نظام دولي جديد يسد فراغ أمريكا الذي يتوسع الآن بسقوط سياسة القطب الأوحد ربما لعدة عقود مقبلة.