الكهنة الجدد
الأمانة بين البحث والكهانة

عمر أبو رصاع في الخميس ٣١ - مايو - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً


في مقال له بعنوان : "كيكي نبي الدجاج" كتب الأخ سامر إسلامبولي:
اقتباس:
"فعرض أحد الأخوة مقولة [ إن القرآن لا يحتاج إلى غيره في الفهم والدراسة ] وأن عملية فهمه ذاتية كامنة في داخلهاعترضت عليه وقلت : هل أفهم من كلامك أني أستطيع أن أحمل نسخة من القرآن فقط ، وأذهب إلى رأس جبل وأقعد عليه ، وأقوم بدراسة القرآن وفهمه بمعزل عن التاريخ والمجتمعات الإنسانية والعلم وتفاعل الناس!؟ "

قلت :
اتفق معك كل الاتفاق ان دراسة القرآن معزولاً عن بيئته التاريخية من ناحية ومعزولاl;ً عن واقع القارئ نفسه ضرب من التحايل والتزييف ، إذ أن الزعم بإمكان دراسة القرآن من داخله ودون خلفية تكوينية كما لو كان الفهم وحياً هنا أو إلهام سماوي يأتينا بالحلم محض افتراء ، ينطلق اساساً من أن القرآن خطاب لا تاريخي وانه ليس له اي ارتباط بالواقع البشري، مع ذلك فإن تدليسية هذا الزعم انما تتجلى عندما يحاول المفسر ان يخرج له بتأويل ولا ينتبه أن تأويله معجون بالضرورة بتكويناته التي هي تاريخية محضة وبشرية محضة وانتاج واقع الانسان المعرفي الذي هو نفسه من انتاجه.
من هنا مدخل التسوية عندي في فهمي لما اطلق عليه الكهنوت الديني في كل تجلياته قديمه وحديثه على السواء ، ذلك أن الكهنوت الديني يستوي باستقوائه على غيره من خلال تأليه منهجه ، وربما لا يفصح صراحة عن هذا الدور إلا أنه وبدون شك يفعل ، ذلك ان هذا الكهنوت يباشر النص الديني بمنهج يعتبره نفسه مشتقاً ومنسجماً مع النص ذاته او ناتج عنه نابعاً منه!
هنا جوهر الخلل الذي يجعلنا أبداً لا نتردد في وصف هذا العمل بأنه محض كهنوت.
هناك فرق جوهري بين ان تقارب النص والتراث بمنهج مدرسي واضح مستقل واعٍ لذاته وبشريته قبل وبعد كل شيء وبين أن تقارب هذا النص والتراث زاعماً أن منهجك مشتق ومتسق من النص ومعه ، من هنا تماماً اعتبرناه ضرب من الكهنوت القول بفهم النص ومقاربته بمنهاج من داخله منعزل عن البيئة التكوينية لثقافة المفسر من ناحية وتاريخانية النص سواء بيئته التي تموضع فيها وتفاعل معها أو تاريخ تفسيره كله عبر 14 قرن من الزمن ، من ناحية أخرى .
وليس غريباً إذن أن يصير المنهج التأويلي نفسه مؤلهاً ولو لم يكن كذلك لما اعتبر اصحابه من خالفهم خارج من دائرة الاعتقاد بألوهة مصدر النص نفسه ، لذلك لا مندوحة للكهنوت عن تكفير أي خطاب له منطلقات تكوينية منهجية مختلفة عنه ولا صعوبة في استجلاء كهانة هذا المنهج عندما يجعل القول بتاريخانية النص معناه القول ببشرية المصدر أي نسب الخطاب المضاد إلى إلحاد المصدر الإلهي للنص! ترى هل الكهنوت إلا هذا؟!

إن المشكل الحقيقي يتجلى ليس في نتاج القراءة بل في منهجها نفسه ، لهذا أقول هنا لمن يتم التغرير بهم من خلال النتائج البراقة للقراءات المعاصرة أن كون نتائج القراءة التي تعجبكم متسقة مع قيم عالية في واقعكم لا تعني صحة المنطلقات ولا تعني أن نقد هذا الكهنوت الجديد هو رفض للنتائج بالضرورة ، بشكل أكثر وضوحاً إن كهنوتية هذا الخطاب الجديد تنبع ابتداء من تأليهه لمنهجه ، وهي سمة كل كهنوت أنه يزعم ان منهج قراءته إنما هو مشتق من النص نفسه وبالتالي وبالضرورة انه منهج الخطاب ومنهج الفهم الوحيد الصحيح ، والواقع انه من الصواب تماماً ان يزعم اي منهج انه الصائب إلا أن الفرق بين المنهج الكهنوتي واللاكهنوتي أو البشري أن الأول يزعم انه من النص نفسه متسق معه متماهي مع أسلوب النص من ذات النص كما سماه أخونا سامر والثاني يعترف ببشريته وبأنه بنية نقد بشري قرائي كنظريات الهرمنيوطيقيا (التفسيرية او التأويلية).
في الواقع
ليس الفهم إلا انتاج بشري خالص حتى لو كانت المادة او الظاهرة التي يريد فهمها الانسان لا بشرية ، إن الفهم عمل في ذاته بشري ينطلق ويتأسس على الوعي الانساني وتكوينه وبنيته يمكن ان نزعم اننا ننطلق من فهم لقوانين الطبيعة من العلوم إنها وعينا للطبيعة و قوانينها ، إلا أن الطبيعة مادة تقبل القياس وقوانينها تقبل التجريب ، أما عندما نتكلم عن نص فنحن نتكلم عن شكل من اشكال الوعي والتعبير عنه لا يمكن بحال ان نتماهى معه ونحن نفهمه .

ثم حتى عندما يقبل أخي سامر بأن القرآن هو المصدر التشريعي الوحيد فإني هنا أقول وكيف نعي هذا القرآن ؟
إن كان باستطاعتنا كما يزعم الكهنوت ان نتماهى معه بالتالي انتفت عنا صفتنا البشرية وامتلكنا منهجه الذي صار منهج تأولينا المؤله بذاته يكون هذا صحيحاً ونكون فعلاً قادرين على ان نفهم فهم مطابق للفهم المطلق لقد اصبحنا نحن انفسنا مطلق نحن انفسنا آلهة !
أما واني شخصياً أقول باستحالة ذلك لأن الوعي البشري ليس وعياً مطلقاً ولن يكون وليس ظاهرة لا تاريخية ولا واقعية ولا مادية ولن يكون فإنه سيظل أبداً يقارب النص ويفهمه بنتاج معرفته ، إن منهجه الذي يقرأ به كذلك ليس من النص ولا علاقة للنص في انتاجه ومن يزعم انه يفعل يمارس إذن وبالضرورة نشاطاً كهنوتي يؤله من خلاله خطابه وفهمه حتى و إن حاول ان يستتر وينفي ذلك عن نفسه ، هؤلاء الذين يزعمون أن القرآن عالم لوحده لغة غير اللغات وخطاب فوق الفهم يقودهم منطلقهم الإيماني بالمطلقية وإلهية المصدر حسب فهمهم لحكم خاطئ مفاده أن القرآن لا علاقة له بكل ما هو بشري ولا يفهم بما هو بشري كما يزعمون ، لكن المفارقة المضحكة فعلاً أنهم أنفسهم يعودون وهم المعجونون بالتكوين البشري ليفهموه فهمهم الذي يصير هو الآخر مؤلهاً لا لسبب إلا لإن أصحابه زعموا فيما زعموا أن منهجهم مشتق من ذات القرآن .
تصبح المشكلة أكثر تعقيداً عندما يعاني هذا المنهج الكهنوتي من تناقض ما في اجابته على الأسئلة التي يطرحها الواقع نفسه ، لماذا هو بالعربي مثلاً؟
الكهنوت يجعل له منهج ليحل المشكلة قديماً وحتى يرد الكهنوت الديني على هذه المعضلة زعم ان اللغة في الأصل واحدة وانه حصل شطط في الألسن ............الخ وحتى يتخلص من تاريخانية القرآن صير اللغة العربية نفسها مطلق أي لغة قبل الوجود نفسه!
وحديثاً صارت عربي لا تعني عربي بل ليس ذلك فحسب إن كل كلمة في القرآن لا تعني ما يعرفه أهل هذه اللغة بل أن القرآن نفسه يصير لغة غير اللغة! بالأمس فقط كنت في حوار من هذا النوع وكان محاوري يدافع باستماتة على ان القرآن لغة لوحده وأنا لا افهم كيف يمكن ان تفهم لغة إلا في اطار تاريخي استعمالي إن لم تقع اللغة في اطار دلالي بشري فعلى ماذا وكيف ومتى ستدل؟ بل قل كيف سنفهم أصلاً هذا الاستدلال إن لم يقع لك في واقع مادي؟! حتى لغات المنطق الرمزي كالرياضيات تحتاج إلى ان يتم تعينها في الواقع المادي التداولي البشري لتفهم.

يعني القرآن صار لا علاقة له لا باللغة العربية و لا بالحرف العربي فهو شيء لوحده آت من مطلق بمعنى مطلق وله فهم مطلق! وانه لا يمكن فهمه إلا بهذا المنهج وهنا نعود لما قاله الأستاذ سامر" لا يمكن فهمه إلا من داخله"!
لعل ابرز تجلي تاريخي يعري هذا الفرض الخاطئ هو تفاعل الأوائل مع النص المتنزل نفسه فهل القرآن من رب دجال حتى يترك هؤلاء المساكين يتعاملون مع القرآن ويحاولون فهمه باعتباره خطاب بلغة عربية بينما يعرف رب النص انه ليس كذلك؟!!!!!!!!
طيب ، كيف يريدون فهمه من داخله ؟
مرة أخرى نكتشف لغته ونكتشف منطقه وعالمه .........الخ
اهدار تام لتاريخية النص انه نص معلق بلا تاريخ ولا فهم رموز تحتاج للاكتشاف لعبة دلالات لا تدل ؛ إذ كيف ستدل إن لم تقع في وعي الانسان المادي ويستمعلها البشر !
حتى تحت زعمهم الباطل هذا والمنافي بطبيعة الحال لحقائق الوجود نفسه لا يجدون لهم مناصاً من قراءته عربياً وإن بعثروا التخريج فلا نعود نعرف متى هو كلام عربي ومتى هو لغة أخرى اننا امام بنية هلامية لا يحكمها ضابط تتعامل مع النص اعتباطياً وانتقائياً وتختار ادواتها البشرية شاءت هذا ام لم تشأ حسب الضرورة والحاجة مهدرة الوحدة الموضوعية والتجربة والفهم وكل عناصر التكوين التاريخي سواء للنص أو لنفسها فالكفر ليس الكفر الذي نعرفه اصطلاحاً بل هو التغطية مثلاً رغم اعجابي بالتخريج لكن الحقيقة انه حتى هذا التخريج هو تخريج لغوي بحت لأن الكفر تغطية بالفهم اللغوي للكلمة ككلمة عربية وراجعوا لسان العرب لتعرفوا ان هذا هو اصل المعنى لكلمة كفر وان كان المعنى الاصطلاحي الذي قدمه الكهنوت القديم ينصرف إلا انكار الوجود الإلهي لكن لماذا صار هنا الاستنتاج لغوي عربي بحت؟ أليس القرآن لغة غير اللغة ؟ أم ان المسألة تخضع للهوى؟
تارة نجد الاشتقاق عربي لغوي تتبعي فيه الكثير من الاجتهاد وتارة تصير الآية كالانفجار الذري عندها لا يملك الكهنوت الجديد إلا ان يعري المعنى تماماً من لغته الأصلية ويشظي دلالاته بلا حدود ربما مستعيناً بالرسوم او التعارض الدلالي أو قصور المعنى هنا وهناك وربما قصور مناهج الآخرين وانفتاح التكوين البنائي للنص على تنوع الدلالة الممكنة ليبرر هذا التأويل الذي تنكر تماماً للغة النص الأصلية.

لينتبه معنا المنتبهون ليس الاعتراض على النتيجة بالضرورة ؛ يعني نحن لا نختلف ربما مع نتاج هذه القراءة أو غيرها لكن الخلاف على المنهج الاستدلالي نفسه أنه هو تماماً موضوع النص فلا يجب ان نغتر بالنتيجة لأنها تبدوا لنا براقة ومنسجمة مع قيم سامية معاصرة ، ذلك أن التلفيق ليس حلاً ولا منهجاً علمياً سليماً.
نحن أمام نموذج هلامي يتعامل معه أصحابها كما لو كان اسرار كيمياء سحرية ومفاتيح ابواب سرية لا يملكها إلا مولانا الشيخ المفسر الذي فتح الله عليه والهمه المنهج القرآني ليطرح لنا القراءة و يلقي بظلال كثيفة على طرق الاستدلال .

لقد صارت اللعبة تستهوي الكثيرين ممن سقطوا في بئر الاكتشافات القرآنية بدقة التدليسية فهناك الطريقة الزغلولية التي لم تبقي نظرية علمية إلا واستخرجتها من القرآن ! بل ان أحد اخوان البنا هنّأ حماس على اكتشافه البحثي الخطير والمتمثل ان حماس جاءت في القرآن حسب مقالة بحثية في القرآن قام بنشرها!
وآخر جعل القرآن صيدلية بل وفتحوا محطات فضائية للتداوي بالقرآن وغداً بدل ان اذهب لشراء دواء للمغص من الصيدلية أشتري لي تركيب قرآني مخصص لعلاج المغص وآخر للقرحة وثالث البسه نظارة حتى لا ارى نهائياً بعد ذلك!

يقودهم غرور الخعبلات التي يمارسون إلى مستوى أن لا يقبلوا حتى النقد او التشكيك بعملهم أنهم وصلوا مستوى من اليقين اصبحوا معه عاجزين عن ان يروا الفرق بين الله وبين انفسهم!

ليس الدليل على اعجاز القرآن ان تلقي لي بمهجك الاستدلالي الهلامي على الآيات لتخرج بنتيجة ان النظرية العلمية التي قال بها العالم فلان موجودة في القرآن وان القرآن يعطيني العدد الذري للعنصر الكيميائي (س) بل الدليل أن تستخرج لي نظرية علمية طالما ان معك المنهج الصحيح لفهم القرآن لم يكتشفه العلم البشري بعد !
الواقع ليس هذا انتقاصاً من القرآن بل هو رفض لتلبيس القرآن لبوساً انتقائي هلوسي فليس القرآن مطالباً بأن يقدم لنا فتوحاً في الجغرافيا والكيمياء والفيزياء والطب .........الخ
القرآن في هذه الحالة هو الضحية التي يمارس عليها المشعوذ هلوساته وقرين الضحية هنا هو المجتمع الذي يغيب وعيه ليعيش هيام كاذب خارج الواقع تماماً.
تحياتي ومحبتي
عمر أبو رصاع
__________________

www.mi3raj.com

omar_jo_1@hotmail.com

اجمالي القراءات 16455