الكتاب كاملا
لكل نفس بشرية جسدان : (الانسان نفس أساسا والجسد مجرد ثوب )

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١٤ - سبتمبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

لكل نفس بشرية جسدان : (الانسان نفس أساسا والجسد مجرد ثوب )

  

هذا الكتاب :

عنوان غريب لأن الشائع أن للنفس البشرية جسدا واحدأ ويتناسون أن عمل الانسان الذى يتم تسجيله يكون هو الجسد الآخر ، وهو الذى به يكون خالدا فى الجنة أو خالدا فى النار.

بدأ الأمر بمقالة تحت هذا العنوان ، واثارت أسئلة فتتابعت المقالات .

وننشرها هنا فى كتاب واحد .

 

 

 الفهرس  

هذا الكتاب :

الفهرس

مقدمة تمهيدية

مقالات الفصل الأول عن : ماهية النفس :

( الإستعمال المجازى للنفس ) ( النفس والانسان ) ( الجسد والنفس  والاستنساخ ) ( النفس البشرية هى مركز الادراك وليس المخ ) ( ليس الجسد البشرى حُرّا ولكنها النفس البشرية  ) ( المسئولية الشخصية للنفس البشرية ) ( لا إستنابة فى العبادات فى الاسلام : لا تصلى عن أحد ، ولا تصوم عن أحد ، ولا تحج عن أحد) ( أنواع النفس البشرية  : النفس اللوامة  والنفس الأمارة بالسوء )  

مقالات الفصل الثانى عن :  مرادفات النفس  

( النفس هى الفؤاد ) (  النفس والصدر ) (  القلب هو النفس ، والقالب هو الجسد المادى. ( 1 ) ( القلب هو النفس ، والقالب هو الجسد المادى. ( 2 ) حرية النفس أو القلب فى مشيئة الهداية أو الضلالة ) (  القلب هو النفس ، والقالب هو الجسد المادى. ( 3 ) علم الله جل وعلا بالقلوب ( بالنفوس )) ( القلب هو النفس ، والقالب هو الجسد المادى. ( 4 ) ( القلب / النفس ) بين المرض والشفاء ) ( القلب هو النفس ، والقالب هو الجسد المادى. ( 5 )   القلب المؤمن ( النفس المؤمنة ) ) (  القلب هو النفس ، والقالب هو الجسد المادى. ( 6 ) القلب الكافر ( النفس الكافرة ))

مقالات الفصل الثالث : النفس فى الآخرة  :

( خلق وموت وبعث الكون كله ) ( الكون : تنظيم ثم تدمير ثم بعث ) (  كيفية بعث الجسد الآخر ) ( التداخل بين عالمى الشهادة وعوالم البرزخ ) (  ( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ )( ق 3 : 4))  ( كتاب أعمال النفس هو بصمتها الوراثية ) ( موازين الأنفس يوم الحساب على أساس المشاعر وليس الظواهر ) ( عذاب الجسد المادى وعذاب الجسد الأخروى) (  الزوجية والحور العين وملائكة الجحيم )

الخاتمة  

عرض الكتاب كاملا :

مقدمة تمهيدية

مقدمة :

1 ـ كالعادة ، أبحث موضوعا قرآنيا أتصور أن ستكفيه مقالة بحثية ، وطبقا للمنهج البحثى أسير خلف الآيات أتعلم فأكتشف معلومات لم أكن أعرفها برغم معايشتى للقرآن الكريم من أربعين عاما . وأواصل البحث فيتشعب وتتكاثر المقالات لتصبح سلاسل ، أظلّ معها الى قبيل النهاية ، ثم يأتى موضوع جديد فتتكرر السلاسل غير المكتملة ، وأرجو أن يتسع العمر لاكمال تلك السلاسل القرآنية . وإن لم أكملها فالأمل فى أهل القرآن ، أو على الأقل فان ما تبقى من أى سلسلة هو من قبيل التفصيلات والشروح. ولكن رجعت الى هذه المقالات بعد أعوام فأكملتها ، وننشرها هنا كتابا.

2 ـ كلما أعطيت القرآن من عقلك ووقتك وقلبك أعطاك علما لم تكن تعرفه من قبل، وأحسست بمقدار جهلك كلما تعمقت فى فهم كتاب الله عز وجل ، الذى هو أعظم من أن تحيط به عقول البشر ، ولكنه فى نفس الوقت ميسّر للذكر والهدى لمن أراد الهدى مخلصا لله  جل وعلا قلبه ، ففى القرآن يسر وبساطة لمن يريد الهداية ، وفيه مجال للتعمق يعرفه من وهب عمره للقرآن الكريم ، وكلما بحث فيه اكتشف وتعلم المزيد .

3 ـ أما الضالون المضلون فقد استراحوا الى جهلهم واستراح اليهم جهلهم. غاية ما يفعلون أن ينقلوا ما كتبه السابقون فيما يسمى بكتب التفاسير ، ولا يسأل احد إذا كانت كتب ( التفسير) تلك تكفى ومتاحة خلال ما كتبه أئمة العصرين العباسى والمملوكى ، وهم المرجعية المعتمدة إذن فما الداعى الى وجود تلك العمائم وتلك المناصب وتلك اللحى وتلك الكليات وتلك الأجسام الضخمة والأصوات الفخمة التى تقتحم على الناس بيوتهم فى الفضائيات والاذاعات تنقل ما هو مكتوب من مئات السنين ؟

4 ـ بدأت بحث ( لكل نفس بشرية جسدان وليس جسدا واحدا) بمقال اعتقدت أنه يكفى ، فجاءتنى اسئلة ترجو الاجابة ، فرجعت للقرآن الكريم ورددت على المتسائلين بأننى سأكتب ثلاث مقالات إضافية للرد ، ولكن ـ كالعادة ـ اتضح أنه موضوع سيطول ، ولا أعرف متى سأنتهى منه ، فلا زلت أتعلم ، وأكتب فقط ما أتوصل اليه . والواضح حتى الآن أن أبدأ بجذور الموضوع فى هذا المقال ، ثم بعدها بتعريف المصطلحات ( النفس ، ذات الصدور ، القلب والفؤاد ) لكى أدخل بعدها فى آلية العلاقات بين النفس والجسد الأزلى بين الدنيا والآخرة . وقد يستغرق هذا شهورا حسب الظروف ، والله جل وعلا هو المستعان .

5 ـ هذا هو أول مقال والذى ترتب عليه سلسلة مقالات ، اصبحت كتابا كاملا ننشره مكتملا هنا.

لكل نفس بشرية جسدان وليس جسدا واحدا .

مقدمة :  الأغلب أن أي إنسان يضع هدفاً لحياته. وحتى الذي يغفل عن وجود هدف لحياته فإنه في الحقيقة يضع لها هدفاً دون أن يدري ، هو اللهو واللعب والانغماس فى الشهوات والنزوات ، أى يمضى عمره بين الغفلة والعبث ، ويوم القيامة يفاجأ بقوله تعالى(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ)(المؤمنون 115، 116).ربما يختلف مصيره لو عرف أن له جسدا آخر ، جسدا أزليا ، مطلوب منه أن يعتنى به أكثر من عنايته بجسده المادى .ونعطى بعض التفصيلات من كتاب لنا لم ينشر بعد عن وقائع يوم القيامة بين القرآن والعلم الحديث .

أولا :الجسد المادى المعروف لنا:

1 ـ  ومن أنواع العبث أن تتركز أهداف الإنسان في حياته الدنيا على جسده المادى حين يدور الانسان حول الجسد مشغولا بما يحفظ جماله وما يأتي به من متعة. وعندما يتقدم العمر، يذبل الجسد وتنطفئ حيويته ويذوي جماله ،يقول تعالى (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ) (يس 68ـ)، وينظر الانسان وهو فى أرذل العمر الى (ألبوم) صوره فى شبابه متحسرا، وهو يرى إرهاصات الموت تزحف الى جسده ، وقد تحول الجسد إلى مشروع خردة تنبض بحياة واهنة ، ثم يأتي الموت فيتحول الجسد المعتنى به إلىسوأة.

2 ـ ومن إعجاز القرآن الكريم أن يصف أول جثة في التاريخ بأنها سوأة، جاء هذا في قصة إبني آدم، حين قتل أحدهما الآخر، وكان أبوهما آدم حياً لم يمت وبالتالي لم يدفن، لذلك فإن القاتل تحير عندما تحول أخوه إلى جثة لا يدري كيف يتصرف معها، فتعلم كيف يدفن جثة أخيه أو سوأة أخيه، يقول تعالى (فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) (المائدة:31 )، لم يقل أواري أخي ، لأن أخاه رحل وترك جسده أو سوأته. أخوه الحقيقى هو النفس التى رحلت وتركت جسدها الفانى للأرض التى أتى منها .

ثانيا : النفس :

1 ـ فالنفس هي حقيقة الإنسان، وهي كائن لا ينتمى الى هذا العالم المادى بل لمستوى أعلى من الوجود يسمى فى القرآن البرزخ ، وفيه تكمن الأنفس التى لم تدخل بعد تجربة الحياة الدنيا ، من أحفاد أحفادنا ، واليه أيضا تعود كل نفس بعد موتها ومفارقتها لهذه الحياة الدنيا . الفارق بين الأنفس الأولى لأحفاد أحفادنا التى لم تدخل اختبار الحياة بعد والأنفس الأخرى ـ لأجدادنا ـ التى دخلت ذلك الاختبار الدنيوى وخرجت منه أن الأنفس من النوع الأخير تعود للبرزخ وهى محملة بعملها فى الدنيا إن خيرا وإن شرا ، وبه ستواجه مصيرها أمام الله جل وعلا يوم الحساب ..

2 ـ ولكل نفس بشرية موعد زمنى محدد، تدخل فيه إختبار الحياة الدنيا متمتعة بحريتها المطلقة فى الهداية أو الضلال.هذا التحديد الزمنى لكل نفس يعنى أن لكل نفس أجلا زمنيا يبدأ بلحظة انتفاض الجنين فى بطن أمه معلنا بداية انسان جديد ، وينتهى الأجل لذلك الانسان بالموت فى الموعد المحدد للموت بلا تقديم ولا تأخير.

يأتى أوان دخول النفس إختبارا لها فى الدنيا بأن تحتل جسد الجنين الخاص بها فينبض بحياة مختلفة عن نوعية الحياة التى كانت له من قبل ، ثم يخرج المولود جسدا غضا مزودا بالنفس التي تحتل ذلك الجسد وترتديه ثوبا تحيا من خلاله في الدنيا،  ثم بمرور الزمن المعطى له للحياة هنا يتخطى مرحلة الضعف الى قوة الشباب ، ثم يعود الى الضعف والشيبة (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً)(الروم 54 )، ثم يموت الجسد أويذوب ذلك الثوب عائدا الى الرماد الذى أتى منه.

ثالثا : الجسد السوأة :

1 ـ وبعودة النفس إلى البرزخ الذي أتت منه فإن ذلك الجسد الميت يصبح كارثة، لا يلبث أن يتحلل ويتعفن ولا يطيق أحد أن ينظر إليه أو يشم رائحته، فيكون من الأكرم لصاحب الثوب ـ أو صاحب الجسد الذي تركه ومضى ـ  أن نواري ثوبه أو جسده تحت التراب، ليعود الجسد إلى أصله الترابي.

2 ـ أي كان ذلك الجسد الذي افتتن به الإنسان مجرد خدعه وغرور، بكل ما فيه من جمال العيون والقوام والأعطاف والأرداف. كل ذلك يتحول بالموت إلى عجينة عفنة يتقيأ الإنسان الحي إذا رآها أو إذا تخيلها.ومهما بلغ حب الرجل لحبيبته الحسناء ، ومهما بلغ هيام المرأة بحبيبها الوسيم فإنه بعد الموت لا يتحمل أن يأخذ ما تبقى من الحبيب بين أحضانه. لأن ما تبقى منه مجرد نفايات عضوية، لا تختلف كثيراً عن النفايات التي تخرج من الإنسان في حياته ، بل أسوأ.

3 ـ هذا الجسد هو سوأة حقيقية حتى وهو حىّ يسعى . فهو محتاج دوما للتنظيف والحماية والتجميل والعناية ، وإلا تحول الى مستودع للجراثيم والحشرات والقاذورات والنفايات . أما هذا الجمال الذى يتحلى به ذلك الجسد فهو مرحلى مرتبط بفترة النضج والشباب . هذا الجمال السطحى هو مجرد غطاء جلدى مظهرى خارجى يستر ويغطى أعضاء حيوية تشبه أعضاء الحيوانات الثديية ، من قلب وأمعاء وكبد ..أنسجة ودماء وإفرازات ، قد تم (تقفيلها) أوتغطيتها أو تعبئتها فى جلد ناعم ذى مظهر جميل أخّاذ،هو الذى نراه ونتعامل معه ونحبه . لو نفذت رؤيتنا لمحتويات هذا الجسد الفاتن لإمرأة رائعة القوام ساحرة الملامح فستتقيأ مما ترى فى داخل جسدها ، فكيف بها فى أرذل العمر ؟ وكيف بجسدها بعد الموت والتحلل ؟

رابعا " الجسد الأزلى يتكون من خلال العمل الصالح أو السيىء

1 ـ من هنا يصبح فعلاً من العبث أن يضيع الإنسان نفسه بالمراهنة على ذلك الجسد المرحلي الفانى ، بل الأفضل له أن يضع كل رصيده فى الايمان بالله جل وعلا واليوم الآخر وبالعمل الصالح ، وبذلك يتكون له جسد آخر أزلى يصلح به لدخول الجنة. وهذا هو الجسد الأزلي الصالح الذي يصلح به الإنسان لدخول الجنة. والإيمان والعمل الصالح لا يعني الزهد ولكن التمتع بالحلال الطيب بدون إسراف، مع الحمد والشكر لله تعالى على كل النعم، والقيام بحقه جل وعلا. والعمل الصالح يشمل مع العبادات حسن الخلق فى التعامل مع الناس وإخلاص العقيدة لرب الناس جل وعلا. وبالصالحات يكون إبن آدم فى الآخرة "صالحاً" لدخول الجنة،وهذا معنى قوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ )(العنكبوت:9 )، أى الذين عملوا الصالحات فى حياتهم الدنيا سيصلحون بها الى دخول الجنة ، فعملهم الصالح هو ذلك الجسد الأزلى النورانى الصالح للقبول فى الجنة و التمتع بما فيها . والنفس المطمئنة يوم القيامة ترتدي عملها الصالح لتصلح به لدخول الجنة: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) ( الفجر27 :30 )، أى تستحق الجنة بعملها الصالح :(تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأعراف :43).

2 ـ أما الانسان الخاسر الذي أضاع حياته عبثاً فيقول يوم القيامة (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) (الفجر: 24 ) ، أي لم يقدم عملاً صالحاً لحياته الحقيقية الخالدة فى الآخرة ، أى أضاع رحلة حياته الدنيوية القصيرة غافلا عن تزكية نفسه وتطهيرها بالانغماس فى الصالحات وتنقيتها من السيئات، أى أمضى حياته الدنيا فى الطواف حول جسد مادى هالك يستجيب لغرائزه عاصيا الخالق جل وعلا، ثم يخرج من حياته الدنيا بعمل سيء يتعذب به في النار، حيث تتجسد سيئاته وتتحول الى جسد أزلى تتم به آلية تعذيبه الأبدى فى الجحيم ، أى سيئاته فى الدنيا تتحول الى نيران ملتهبة يتعذب بها صاحبها فى الجحيم :(فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ) (النحل:34 )(يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )(العنكبوت 55 )

3ـ يوم القيامة لو كنت فى الجنة ستتنعم بعملك الصالح الذى يتحول الى نور تدخل به الجنة وتخلد به فى الجنة . أما لو كنت من أصحاب الجحيم فإنه عملك السيىء الذى سيتحول الى ظلمات وعذاب ونيران تدخل به النار و تتطوق به خالدا معذبا فى النار.

 4 ـ أى إن هناك جسدان لكل نفس بشرية :

سوأة ،أى جسد مادى عضوى مرحلى خلقه الله جل وعلا من الأرض يرتديه كل انسان مذ كان علقة فى بطن الأم ، ويظل يرتديه الى أن يبلى ويموت .

ثم هناك جسد خالد غير مرئى يصنعه إبن آدم نفسه بكامل حريته وإرادته. إنه عمله فى هذه الدنيا.وهذا العمل هو الذى يملأ به وعاء الزمن المقدر له أن يحياه فى هذا الكوكب الأرضى فى هذه الحياة الدنيا . وعلى أساسه يدخل الجنة أو يدخل النار.

خامسا : الجسد الأزلى ووعاء الزمن

1 ـ والزمن هو الضلع الرابع للمادة كما يقال فى نظرية النسبية. بالنسبة لنا فالزمن هو ضلع غير مرئى مع أنه  الضلع الذى يحيط بنا والذى نتحرك فيه والذى يكتنفنا ولا نستطيع الخروج من إطاره إلا بالموت أوالنوم . الزمن فى دنيانا هذه هو القطار المتحرك بسرعة واحدة ومستمرة فى اتجاه واحد فى هذه الدنيا حتى نهايتها، لا يتوقف ولا يتأخر الى أن تنتهى هذه الدنيا وينتهى (هذا اليوم الدنيوى ) ويتدمر العالم ويأتى يوم القيامة أو ( اليوم الآخر ) بعد انتهاء اليوم الدنيوى الراهن . نسافر فى قطار الزمن هذا لا نستطيع إرجاع دقيقة مضت ، فكل دقيقة تمر لا تعود أبدا ( قل لى اين ذهب الاسبوع الماضى أو الشهر الماى أو يوم أمس ) .

2 ـ كل منا يركب قطار الزمن فى هذه الدنيا فى محطة مقررة له سلفا حين يولد ، وينزل من هذا القطار فى محطة الموت. ويتوالى مجىء كل نفس من البرزخ لتركب هذا القطار حين تدخل فى الجنين ، ثم تغادره عند لحظة الموت ، يسرى هذا على الجميع ، من نفس آدم الى آخر نفس لإنسان من أبناء آدم ، كل نفس تدخله ذلك القطارمرتدية ذلك الجسد البشرى ، ثم تتخلص منه نهائيا عند محطة نزولها عند الموت. وبعد أن تدخل كل الأنفس إختبار الحياة الدنيا وتموت وترجع للبرزخ الذى أتت منه يتم تدمير هذا العالم بأرضه وكواكبه وشموسه ونجومه ومجراته ، ويخلق الله عالما جديدا يتم فيه البعث ولقاء الله جل وعلا ، وينتهى الزمن المتحرك الذى كان فى الدنيا ليحل محله زمن خالد فى اليوم الآخر ، حيث الخلود فى الجنة أو النار طبقا للعمل الصالح أو السىء أى طبقا لطبيعة الجسد الأزلى الذى قامت بتكوينه كل نفس بشرية أثناء حياتها الدنيا وركوبها قطار زمنها المتحرك ذى الاتجاه الواحد .

3 ـ جسدنا المادى له ثلاثة أضلاع ، والزمن هو ضلعه الرابع كما قلنا ، إنه الزمن الذى نحياه فى هذه الدنيا ، وهو الضلع الأهم بالنسبة لنا لأنه : الجسد الآخر لنا أو الوعاء الآخر غير المرئى فى هذا العالم لكل نفس بشرية ، إنه الوعاء الزمنى الذى يحمل عملنا وسعينا فى هذه الدنيا ، وهو الذى يكمل جسدنا المادى ، والذى يكتنف جسدنا المادى . ولأنه سيكون جسدنا الأزلى الذى نخرج به من الدنيا بالموت وفناء الجسد المادى . سادسا : دور الملائكة فى ملء وعاء الزمن و( حفظ ) و( كتابة )أعمال الانسان

1 ـ  قلنا إن كل نفس تأتى من البرزخ الى هذا العالم ومعها وعاءان،أحدهما الجسد المادى أو الوعاء المادى الذى ترتديه مؤقتا فى هذه الدنيا ، وهى تظل محبوسة فى هذا الجسد المادى ، تستريح منه مؤقتا بالنوم ، وتستريح منه نهائيا بالموت .والآخر هو وعاء غير مرئى وهو الزمن المقدر لها سلفا أن تحياه فى هذه الدنيا ، من لحظة دخولها الجنين الى لحظة مفارقتها الجسد بالموت. وبالموت يتم ( تقفيل ) و ( حفظ ) و ( توثيق ) الجسد الأزلى ، الذى ترتديه النفس يوم القيامة .

فى كل حياتها الدنيوية تحمل النفس هذين الوعائين ، أحدهما وهو وعاء الجسد المادى المرئى ، والآخر هو وعاء الزمن الذى تكتب وتسجل فيه ملائكة الأعمال كل ما يصدر عن الانسان من عمل وما يضمره من أفكار وعقائد ونيات ، خيرا أو شرا .

2 ـ ويقوم بذلك ملائكة الحفظ الموكلة بالبشر ،. (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) ( الانفطار 10 : 12 ) لكل فرد من البشر إثنان  من الملائكة .ولأنهم (يكتبون) العمل فإن لقبهم الكرام الكاتبون .ولأنهم يكتبون العمل أولا بأول مثلما تسارع بالتعقيب على عمل ما فإن لهم لقبا آخر هو(المعقّب ) الذى يقوم بحفظ وتسجيل الأحداث أولا بأول ، أى سواء صرخت بالقول أو قلته همسا ، وسواء كنت مستخفيا باليل أو متسللا بالنهار فهناك معقبات من الملائكة تسجل صوتك وحركتك طبقا لأوامر رب العزة ، وبهذا تحفظ سجلا لحياتك موثقا بالصوت  والصورة ، يقول جل وعلا يصف تلك الملائكة بالمعقبات التى تحفظ سجل أعمالك فى جسدك الآخر الأزلى أو كتاب أعمالك :(سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ )(الرعد10:11).

سابعا : العلاقة بين الجسدين المادى و الأزلى :

1ـ والعلاقة بين الجسدين عكسية ، فبمرور الزمن يتناقص عمر الجسد المادى وبنفس القدريزداد ما يتم تسجيله من أعمال صاحب ذلك الجسد ، أو يزداد امتلاء وعاء الزمن بنفس القدر الذى يتناقص فيه عمر الجسد المادى الى ان يأتى الموت بفناء الجسد المادى وقيام الجسد الأزلى بدلا منه ومعبرا عنه .

2 ـ ونشرح ذلك كالآتى : نفترض أن النفس ( س ) هبطت من البرزخ لتلتحم بالجنين الخاص بها. هنا يكون الجنين بداية جسدها المادى ، وعند التحامها به يحيط بها وبه وعاء الزمن المقدر سلفا أن تعيشه فى هذا الكوكب الأرضى وهذه الحياة الدنيا . ولنفترض أن العمر المقدر لها أن تعيشه هو سبعون عاما وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات وسبع دقائق وسبع ثوان ، يبدأ العد التنازلى لحياة هذا لانسان بمجرد التحام النفس بالجنين ، فإذا مرت ساعة زمنية يتبقى له من عمره المحدد سبعون عاما وسبعة أشهر وسبعة أيام وست ساعات وسبع دقائق وسبع ثوان . وكل ذلك مكتوب ومحدد ليس بالثانية بل بالفمتو ثانية وما هو أقل منها مما لم نصل الى علمه بعد . يقول جل وعلا عن عمرنا الذى يتناقص مع كل ثانية تمر بنا ونحن نركب قطار الزمن(وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ)( فاطر11) ).

3 ـ ان هذا العمر الذى نحياه فى هذه الدنيا والذى يتناقص مع مرور كل ثانية وكل ساعة هو نفسه وعاء الزمن المعطى لنا . وكما تنزل النفس مرتدية زى جسد المولود وبصحبة المولود المشيمة فهناك وعاء آخر غير المشيمة يهبط مع المولود ، هو وعاء الزمن . يهبط مع المولود وقد تم فيه سلفا حفظ حركات الجنين أثناء المراحل الزمنية التى قضاها فى الرحم ، ثم يستمر التسجيل لكل حركاته وسكناته وافعاله واصواته و نياته ومشاعره طفلا وصبيا وشابا وكهلا و شيخا ، تسجيلا مستمرا مع مرور كل ثانية وكل دقيقة وكل ساعة بنفس سرعة الزمن الأرضى الى أن يموت الجسدالمادى الأرضى وينهض بدلا منه ذلك الوعاء المسجل فيه حياة صاحب الجسد بكل تفصيلاتها . وتعود النفس للبرزخ تحمل هذا الجسد الأزلى أو الوعاء الزمنى تنتظر قيام الساعة ، ويوم الحساب تأتى للقاء الله جل وعلا تحمل ذلك الجسد لتلقى به مصيرها حسب عملها أو حسب نوعية جسدها هل هو صالح للجنة والنعيم أم محجوب عنهما فيلقى فى النار و الجحيم .

4 ـ ونرجع للعلاقة العكسية والتبادلية بين الجسدين المادى و الأزلى وعاء الزمن . ونستعيد ما يجرى للنفس ( س ) وعمرها المحدد (سبعون عاما وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات وسبع دقائق وسبع ثوان ).نتخيل هنا الوعائين الجسدى المادى والزمنى الأزلى ، وهناك نفق يصل  بينهما ، فكل دقيقة زمنية تحياها النفس فى هذه الدنيا لا يمكن استعادتها أو استرجاعها لأنه تم بالفعل تسجيلها وحفظها فى وعاء الزمن أو الجسد الأزلى . أى كلما تناقص عمر الجسد المادى فإنه يتم حفظه وتسجيله وكتابته فى وعاء الزمن ، وبه يزداد نمو الجسد الأزلى بكل ساعة تمر وتنقضى وتنقص من حياة وعمر الجسد المادى . أى يتم تفريغ الجسد المادى ثانية بثانية ودقيقة بدقيقة ويوما بيوم وعاما بعام داخل وعاء الزمن الخاص به ، ليكبر الجسد الأزلى بينما يتناقص بنفس القدر ما تبقى من عمر الجسد المادى .

ولنسترجع العمر المحدد للنفس (سين ) وهو ( سبعون عاما وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع  ساعات وسبع دقائق وسبع ثوان ) ولنتخيل أنه مضى من عمره عشر سنوات بالتمام والكمال ، هنا يكون المحفوظ له فى وعاء الزمن هو نفس العشر سنوات، التى تناقصت من عمر الجسد المادى . ويتبقى له فى الحياة ( ستون عاما وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات وسبع دقائق وسبع ثوان ). هذه المدة ( ستون عاما وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات وسبع دقائق وسبع ثوان  )لا تلبث أن تتناقص من عمر الجسد المادى وتضاف فى نفس اللحظة الى وعاء الزمن مسجلة لسعى النفس ( سين ) فى هذه الحياة الدنيا . ولنفترض أن النفس (سين ) وصل عمرها سبعين عاما وسبعة اشهر وسبعة ايام وسبع ساعات وسبع دقائق ) بالكمال والتمام ، إذن يتبقى لها من العمر سبع ثوان. ويكون قد تم تسجيل كل ذلك فى وعاء الزمن لتلك النفس ، وينتظر وعاء الزمن ليضيف اليه ما تبقى من الثوانى السبع ، وعندما تمر يأتى وقت الموت ويتم تقفيل وعاء الزمن ، فقد تم حفظ وأرشفة حياة النفس ( سين ) بالكامل ، وصحيح أنها فقدت بالموت ذلك الجسد المادى السوأة ، ولكنها كسبت بدلا منه ذلك الجسد الأزلى الذى سترتديه خالدة مخلدة فى الجنة أو فى النار.

ثامنا :عتبة الموت واللحظة الفارقة بين الجسدين المادى والأزلى

1 ـ عند الموت ينتهى الجسد المادى ليبقى ( الجسد الأزلى ، جسدعملك ) الذى تم حفظه فى   وعاء الزمن ، أى بالموت ينتهى جسدك المادى ويقفل وعاء زمنك فلا يمكن أن يضاف له عمل بعد موت صاحبه . وأرجو أن تلقى فى الزبالة ذلك الحديث الكاذب ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ..)

وبالنيابة عن ذلك الجسد الأرضى الفانى السوأة يقوم بديلا عنه الجسد الأزلى ، بتسجيل وكتابة كل ما فعله وما نطق به وما أحسّ به ذلك الجسد الفانى الزائل . أى إنك أيها الانسان فى هذه الدنيا تخرج منها ميتا وقد تم ( حفظك ) أو (أرشفتك ) فى كتاب عملك ، أو تم تسجيل وحفظ وكتابة كل دقيقة فى أرشيف حياتك .

2 ـ وقت الاحتضار عند عتبة الموت تكون اللحظة الفارقة . نحن نعبر هنا باللحظة مع أن اللحظة تعنى جزءا من الزمن بينما وقت الاحتضار والوصول الى عتبة الموت ينتهى الزمن الأرضى للمحتضر الواقف على عتبة الموت ، ينعدم الزمن ويكون اللازمن ، فقد تم تعبئة الزمن فى الجسد الأزلى بعد موت الجسد الارضى المرتبط بالزمن والذى كان الزمن ضلعه الرابع . ونضطر لاستعمال كلمة اللحظة لعجز اللغة الانسانية عن نحت لفظ خارج الادراك الحسى للبشر. 

3 ـ من خلال التدبر القرآنى فى الآيات التالية (الواقعة 83 ـ ، النحل 28 ـ ، الأنعام  93 ـ ، المؤمنون 99 ـ ، المنافقون 11 ـ ،الأنفال 50 ، محمد 27  )  نستطيع تخيل ما يحدث هذه ( اللحظة ) الفارقة على النحو التالى : يحس المحتضر بانفصاله عن جسده المادى ودخوله  بوابة عالم البرزخ  مرتديا جسده الأزلى فقط . يرى أهله محيطين بجسده لا يستطيعون إنقاذه ، ويرى فى نفس الوقت لأول مرة ملائكة الموت ، ويتخاطب معهم ويتخاطبون معه ، بعد ان زال عنه الغطاء ، وهو الجسد المادى ، بينما لا يشعر أهل الميت المحيطون بجسده ما يدور من حوار بين نفس المتوفى وملائكة الموت. المتوفى الخاسر يدرك أنه فقد حريته وارادته الحرة وأصبح أسير قوة أكبر منه . كان لا يأبه بها فى غروره الدنيوى .لا يبقى له سوى الندم والاسترحام ـ دون جدوى ـ بأن يأخذ فرصة أخرى ليعمل صالحا .تقوم الملائكة بتبشير الميت الناجح فى اختبار الدنيا بينما تقوم بتأنيب بل وأحيانا ضرب المتوفى الخاسر .

بعد هذه العتبة تدخل النفس بجسدها الأزلى الى غيب البرزخ ، ولا تستيقظ منه إلا عند القيام للبعث ،أو يوم القيامة . هذا لا يسرى على النفس التى مات صاحبها قتلا فى سبيل الله جل وعلا ، لأنه سيحيا فى البرزخ منعما برزق الله جل وعلا ، لذا جاء النهى عن وصفه بالميت لأنه حى انتقل من حياة دنيوية الى حياة برزخية يحس فيها بأهله وأهل الدنيا ، ولكن لا نحس نحن به ( البقرة  154) ( آل عمران 169 ـ ) ( يس ـ 27 ـ  ). نتكلم هنا عن المحتضر العادى .

تاسعا : النفس وجسدها الأزلى يوم القيامة :

نعود للنفس وقد ارتدت فى الآخرة وعاء عملها أو وعاء الزمن الذى امتلأ بتوثيق حىّ لتاريخ الانسان وحركة جسده الفانى على الأرض. فقد فنى الجسد ـ أو الوعاء الجسدى المادى ـ وتحلل فى التراب ولكن بقيت سيرته خالدة موثقة مكتوبة فى الوعاء الآخر؛ وعاء الزمن . تاتى يوم القيامة كل نفس بوعاء عملها المكتوب فيه بالصوت والصورة والألوان الطبيعية تاريخ حياة جسدها الأرضى الفانى حين كان يسعى فى الأرض بالخير أو الشر. أى بعد أن يمتلىء وعاء الزمن الخاص بك بعملك وينتهى زمنك المقرر لك فى هذه الحياة عندها يكتمل ويمتلىء وعاء زمنك بجسد آخر تحمله نفسك على كاهلها وتدخل به الى الخلود فى الجنة أو الخلود فى النار وفق النتيجة التى ستعرفها وسيعرفها الجميع يوم العرض على الله جل وعلا ، يوم لقاء الله جل وعلا ، يوم الحساب . ومن أسف أن يختارمعظم الناس تضييع مستقبلهم فى الآخرة لأنهم انشغلوا بالجسد الفانى السوأة ، ومن أجله أهملوا الايمان الحق والعمل الصالح ، فيحملون أوزارهم على ظهورهم جسدا آخر يؤهلهم للخلود فى الجحيم ، وبه يتم تعذيبهم فى الجحيم .

عاشرا  : معنى علمانية الاسلام هنا :

1 ـ فى الآخرة يتحول جسدك الأزلى الى كتاب أعمال لك تحمله فى عنقك يوم القيامة ، يحوى كل ما كان (يطير) عنك من عمل : (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) ( الاسراء 13 : 15 ). 2ـ واضح هنا المسئولية الشخصية لكل نفس وحريتها المطلقة فى ملء وعاء زمنها بما تريد من عمل وعقائد ، ثم مسئوليتها الشخصية على ما ملأت به وعاء زمنها . هنا تتجلى علمانية الاسلام ، حيث المسئولية الشخصية فى العقائد والعبادات ، وحيث لا تدخل لفرد او مؤسسة فى العلاقة بين الخالق والمخلوق ، وحيث لا يوجد فى الاسلام كهنوت ولا أزهر ولا (قم ) ولا ( إجلس ) ولا شيخ الأزهر ولا روح الله ولا دار الافتاء ولا مجمع البحوث ولا مجمع البلاليص. كل ذلك إفتراء على الله جل وعلا .

3 ـ ولقطع الطريق على الكهنوت الذى يغتصب سلطة الله جل وعلا و يبيع صكوك الغفران و أساطير الشفاعات البشرية فليس فى الاسلام على الاطلاق ان يشفع بشر لبشر.

إنه كتاب أعمالك ، إن كان يدل على نجاح صاحبه فهو الذى يشفع له يوم القيامة وهو الذى يشهد له بالجنة . والعكس صحيح فى حال الخاسرين الذين تشهد ( عليهم ) (ايديهم وأرجلهم وألسنتهم وجلودهم ) بما كانوا يعملون . فكتاب الأعمال قد سجل تسجيلا وثائقيا كل ثانية وكل دقيقة من حياة جسدك الأرضى الذى فنى وتم تسجيله فى وعاء الزمن أو كتاب الأعمال . كل فرد يؤتى به مقبوضا عليه بصحبة ملكين كانا يلازمانه فى الدنيا يسجلان كل ما يصدر عنه فى كتاب الأعمال ، أو وعاء زمنه ، ويوم الحساب سيأتيان به أى بنفسه وقد ارتدت كتاب الأعمال أو لبست وعاء زمنها الممتلىء بعملها فى الدنيا . تأتى النفس مقبوضا عليها بنفس الملكين ولكن مع تغيير الاسم والوظيفة . فى الدنيا كان اسمهما ( رقيب وعتيد ) ،أى أحدهما يراقب والآخر حاضر وشاهد . ويتحولان فى الآخرة الى ( سائق وشهيد )، أى أحدهما يسوق المقبوض عليه والآخر يشهد عليه ، اى يكون شاهدا على تقديم كتاب أعماله .

وهناك فارق آخر، ففى الدنيا وأنت تحمل جسدك المادى السوأة لا يمكن أن ترى هذين الملكين المرتبطين بك ، أما فى الآخرة وبعد أن تتحرر من جسدك المادى ينكشف عنك الغطاء فترى هذين الملكين . تدبر قوله جلّ وعلا:(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)(النجم16 : 22).

ختاما عزيزى القارىء

 1 ـ لك جسدان . الظاهر منهما زائل وفان وقد يتسبب فى خلودك فى جهنم ، والأزلى منهما هو عملك فى حياتك الدنيا الناتج عن إرادتك الحرة .

2 ـ أى سيكون مصيرك يوم القيامة مؤسسا على نوعية هذا الجسد الذى تصنعه بعملك وعقيدتك فى هذه الدنيا ، فأنت حيث تريد أن تضع نفسك  فى الجنة أو النار، وأنت الذى تكتب بتصرفاك كتاب أعمالك ، وأنت الذى تعبىء وعاء أعمالك الذى ستأتى به تحمله يوم الحساب يوم لقاء الله عزّ وجلّ، وأنت الذى تقرر دخول الجنة أو النار حسب عملك ، وستكون رهينا وأسيرا بعملك أو بمحتويات هذا الجسد الخفى الأزلى الخالد فى الجنة أو فى النار: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور21 )(كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)(المدثر38).

3 ـ من أجل هذا تأتى مئات الآيات القرآنية تصف نعيم الجنة وعذاب النار وتنذر وتحذّر وتنصح وتعظ قبل فوات الأوان ، وحتى تسارع ببناء جسد يشع نورا يوم القيامة ، وحتى لا تقع فى عبادة هذا الجسد الأرضى السوأة وتنسى وتضيع مستقبلك يوم القيامة .

4 ـ يقول جل وعلا عن يوم العرض على الله جل وعلا :(وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا)، وتقول الآية التالية عن كتاب الأعمال : (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا )( الكهف 48 : 49  ).

ودائما .. صدق الله العظيم .!

 

 

 

 

 

مقالات الفصل الأول عن : ماهية النفس

 

الإستعمال المجازى للنفس

مقدمة : قبل الاسترسال فى التعرف على ماهية النفس البشرية فى القرآن الكريم ــ والاسلوب فيها يأتى بالتقرير العلمى ــ  نتوقف مع الاستعمال المجازى لكلمة ( النفس ) ، ونراه فى موضعين :

أولا : فى اسلوب المشاكلة عن رب العزة جل وعلا :

1 ـ الله جل وعلا لا تدركه الأبصار ولا الأفهام ، وليس العقل البشرى مؤهلا لأن يتفكر فى ذات الله جل وعلا. يكفى إن هذا العقل إذا تفكر فى بعض آلاء الله وأبسطها كالمجرات تاه وإضطرب ، وهى مجرد العالم المادى ، فإذا تفكر فى الغيبيات المخلوقة مثل برازخ السماوات والأرض إزداد إضطرابا . ثم إذا تفكر فى اليوم الآخر الذى لم يأت بعدّ كان أشد إضطرابا . ومع هذا فالله جل وعلا يتحدث لنا فى كتابه الحكيم عن هذه الغيبيات باسلوب مبسط ميسّر مستعملا التعبير المجازى من تشبيه وإستعارة و كناية ومشاكلة .

2 ـ لا يمكن لنا أن نتصور ذات الله جل وعلا . ولم ترد كلمة ( ذات ) فيما يخص رب العزة جل وعلا . إن كلمة ( ذات ) فى القرآن الكريم ليست بنفس إستعمالنا لها ، نحن نستعمل ( الذات ) عن الشخصية والكينونة . ولكن لكلمة ( ذات ) فى القرآن إستعمالات أخرى أهمها :

2 / 1 : ( ذات ) بمعنى ( صاحب ).

2 / 1 / 1 : عن النفس التى هى صاحبة الصدر أى الجسد  ، قال جل وعلا :( وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154)  آل عمران ) ( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) الشورى ) . وتكرر هذا المعنى كثيرا فى القرآن الكريم .

2 / 1 / 2 : عن سفينة نوح ، قال جل وعلا :( وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) القمر)

2 / 1 / 3 : عن الحرب فى موقعة بدر ، قال جل وعلا : (  وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ  ) (7) الانفال )

2 / 1 / 4 : عن حال المرضعة وقت قيام الساعة ، قال جل وعلا : ( يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) الحج ) ( ذات حمل ) أى صاحبة حمل .

2 / 1/ 5 : عن المكان الذى لجأ اليه عيسى وأمه عليهما السلام ، قال جل وعلا : (وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) المؤمنون )

2 / 1 / 6 : عن الحدائق ذات البهجة ، قال جل وعلا : ( وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) النمل ) وعن النخل ذات الأكمام ، قال جل وعلا : (وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ (11) الرحمن)

2 / 1 / 7 : وعن السماء والأرض ، قال جل وعلا : (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) البروج ) (   وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) الطارق)

2 / 1 / 8 : عن النار فى الدنيا ، قال جل وعلا : ( النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)  البروج ) وعن النار فى الآخرة ، قال جل وعلا : (  سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) المسد  )

2 / 1 / 9 : عن مدائن عاد ، قال جل وعلا : ( إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الفجر )

2 / 2 : ( ذات ) بمعى إتّجاه . قال جل وعلا عن اصحاب الكهف : ( وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ  تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ )(18) الكهف).( ذات اليمين )أى إتجاه اليمين .

3 ـ كلمة ( ذات ) ليست مستعملة فيما يخص رب العزة جل وعلا ، الله جل وعلا يستعمل كلمة ( النفس )، ويأتى التعبير بأسلوب المشاكلة . فإذا كان للإنسان ( نفس ) والانسان يفهم إنه له ( نفسا ) فإن الله جل وعلا يستعمل لفظ  ( النفس ) فى التعبير عن ذاته بالاسلوب المجازى .

3 ـ ونعطى أمثلة :  يقول جل وعلا عن ذاته مستعملا اسلوب المشاكلة :

3 / 1 :  ( وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)آل عمران:28 )

3 / 2 : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ)آل عمران:30 )

3 / 3 :(قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ  ) الانعام 12 )

3 / 4 : (  كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)الأنعام:54 )

3 / 5 : وأخبر الله جل وعلا عما سيحدث يوم القيامة فى مساءلة عيسى عليه السلام ودفاعه عن نفسه : (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)المائدة:116 ). قال (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ).

4 : الجاهليون من السنيين يرفضون أن يكون فى القرآن الكريم اسلوب المجاز ، ويعتقدون أن كل ما فى القرآن هو اسلوب حقيقى ، ويتصورون رب العزة جالسا فى العرش شأن البشر يؤمنون بإله متجسد . وبهذا الجهل يجعلون القرآن الكريم متناقضا . لأنه لو كانت لرب العزة جل وعلا نفسا على الحقيقة وبالاسلوب التقريرى غير المجازى فلا بد لهذه النفس أن تموت ، فالله جل وعلا أكّد ثلاث مرات أن كل نفس ذائقة الموت ، قال جل وعلا : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) آل عمران ) (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) الانبياء ) (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) العنكبوت ) . ولكن الاسلوب المجازى هو المستعمل فى الغيبيات ومنه الغيب الذى يخص ( ذات الله جل جلاله ) . والله جل وعلا هو :

4 / 1 : الحى الذى لا يموت ، قال جل وعلا : ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً (58) الفرقان ) ما عداه يموت ، وهو جل وعلا الحى الذى لا يموت.

4 / 2 : ما عداه جل وعلا يهلك ، قال جل وعلا : ( لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) القصص )

4 / 3 ما عداه جل وعلا يفنى ، قال جل وعلا : ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ (27) الرحمن )

4 / 4 : هو جل وعلا فوق الزمان ، هو قبل القبل وبعد البعد ، قال جل وعلا :  ( لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) الحديد ) .

ثانيا ( أنفسكم ) بمعنى بعضكم بعضا :

1 ـ تأتى كلمة ( انفسكم ) لتدل على الجميع ، ووردت كثيرا بهذا المعنى ، ولكن نقتصر على مجيئها عن العُصاة من بنى إسرائيل : قال جل وعلا لهم :

1 / 1 : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ  )البقرة:44 ) ( أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)البقرة:87 )

1 / 2 : وقال لهم موسى : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ ) البقرة 54 )

1 / 3 : وقالها جل وعلا لطائفة منهم : (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا  )الإسراء:7 )

2 ـ وجاءت كلمة ( انفسكم ) مرة واحدة بمعنى بعضكم بعضا ، قال جل وعلا يخاطبهم فى عهد نزول القرآن : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ  تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ  )( البقرة: 85 ) . أشار رب العزة جل وعلا الى تاريخ لم يتم تدوينه لبنى اسرائيل فى الجزيرة العربية ، وهو انهم كانوا يتقاتلون ويأسر بعضهم بعضا ويُجلى بعضهم بعضا من ديارهم . جاءت كلمة ( أنفسكم ) هنا لتدل على ( بعضهم بعضا ) بالكناية . وليس عن النفس البشرية بالمفهوم التقريرى العلمى السائد فى القرآن الكريم.

 

 

 

النفس والانسان

 مقدمة :

1 ـ  لنفهم مصطلح ( الانسان ) فى القرآن الكريم يجب أن نفهم منهج القرآن فى الحديث عن الأغلبية من البشر . يعطى الأغلبية الحكم العام  ، ثم قد يأتى الاستثناء بعدها. مثلا يقول جل وعلا عن الأعراب فى حكم عام : ( الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّـهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ۗوَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿٩٧﴾ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۗ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿٩٨﴾ التوبة ) بعدها يأتى الالإستثناء بالأقلية ، قال جل وعلا :  ( وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّـهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ ۚ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ ۚسَيُدْخِلُهُمُ اللَّـهُ فِي رَحْمَتِهِ ۗ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿٩٩﴾ التوبة )

2 ـ نرى مثل هذا فى الحديث القرآنى عن ( الانسان ). هو موضوع طويل ، نوجزه فى الآتى:

أولا : خلق الانسان من نفس وجسد

1 ـ البداية فى خلق الأنفس البشرية جميعا ، ثم نفخ الروح جبريل فى جسد آدم فصار حيا ، وطلب الله جل وعلا من ملائكته السجود لآدم . قال جل وعلا : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ﴿١١﴾ الاعراف ). ومن نفس آدم تم خلق ( حواء ) ( النساء 1 ) ،  وبعد هبوطهما للأرض المادية أنجب آدم وزوجه وتناسلت ذريتهما ، وكل نفس ترتدى ثوب جنينها فيكون إنسانا يحمل صورة نفسه ، قال جل وعلا : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ )﴿٦﴾ آل عمران ). المستفاد من هذا أن الانسان ( نفس ترتدى جسدا).

ثانيا : خلق الجسد :

1 ـ كل الأحياء مخلوقة من ماء ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) (٣٠﴾ الأنبياء )، وكذا كل أحياء الأرض ( وَاللَّـهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ ۖ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ ) ﴿٤٥﴾ النور )

2 ـ ومن تراب ، هذا ينطبق على آدم ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّـهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿٥٩﴾ آل عمران ) وعلى ذريته : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ﴿٢٠﴾ الروم ). المستفاد هنا أن جبريل الروح هو الذى حمل كلمة ( كن ) فنفخها ( نفسا ) فكان خلق آدم بلا أب وبلا أم ، وكان خلق عيسى بلا اب .

3 ـ وبالماء والتراب يكون الطين . عن خلق آدم  بشرا من طين قال جل وعلا : ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ ﴿٧١﴾ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴿٧٢﴾ ص ). بعد نفخ الروح ( جبريل ) بكلمة ( كُن ) إستوى آدم بشرا إنسانا. تكرر هذا فى قوله جل وعلا  عن آدم يصفه ب ( الانسان ): ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ﴿٧﴾ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ) ( ٨﴾ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ) ﴿٩﴾ السجدة ) .

4 ـ يهمنا هنا أن آدم حمل لقبى : (الانسان ) و( البشر) .

5 ـ تناسل أبناء آدم ، يأكلون طعام الأرض المخلوق من ترابها وطينها فيتحول الى بويضات  وحيوانات منوية ، وبهذا يتم التناسل من نفس الأصل الأول ( تراب + ماء = طين )  قال جل وعلا : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ﴿٧﴾ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ﴿٨﴾ السجدة ). ( وَاللَّـهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا )﴿١١﴾ فاطر ) 

6 ـ وعن تحولات الطين فى عملية الخلق قال جل وعلا : ( خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ﴿١٤﴾ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ﴿١٥﴾ الرحمن )( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ﴿٢٦﴾ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ﴿٢٧﴾ الحجر ).

7 ـ يهمنا هنا إختلاف الانسان بجسده المادى عن الجن والملائكة. الجن مخلوق من طاقة ، ( نار) ، والملائكة أيضا مخلوقة من طاقة ( نار ) ولهذا إعتبر ابليس وهو من الملائكة نفسه أعلى قدرا من آدم المخلوق من طين : (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴿١٢﴾ الاعراف ) (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ ۖ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴿٧٦﴾ ص )( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ﴿٦١﴾ الاسراء)

8 ـ  ويمر الانسان بمراحل ، قال جل وعلا عن خلق الانسان : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ﴿١٢﴾ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ﴿١٣﴾ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّـهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴿١٤﴾ المؤمنون ). بدخول الحيوان المنى البويضة يتحدد نوع الجنين : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ ﴿٤٥﴾ مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ﴿٤٦﴾ النجم ) وبدخول النفس فى جسد الجنين يصبح خلقا آخر .

9 ـ وإرتبط خلق آدم بتعليمه (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) (٣١﴾ البقرة ). وتعلم الانسان من ربه جل وعلا البيان : (خَلَقَ الْإِنسَانَ ﴿٣﴾ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴿٤﴾ الرحمن )، وعلمه ربه جل وعلا ما لم يعلم : ( عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴿٥﴾ العلق ) . وبهذا التعليم تفوق الانسان على الأحياء فى هذه الأرض.

10 ـ يهمنا هنا أن التعليم ليس للجسد ولكن للنفس.

11 ـ وجود نفس برزخية مسجونة فى جسد مادى يحعل صاحبها ( الانسان ) ضعيفا   ( وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا ﴿٢٨﴾ النساء ) وفى عناء ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ﴿٤﴾ البلد ). وتستريح النفس من سجنها بعودتها الى برزخها بالنوم : (اللَّـهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿٤٢﴾ الزمر )

12 ـ يهمنا هنا أن النفس بغيابها المؤقت بالنوم لا يكون جسد الانسان مكلّفا ، بل تتم توفية عمله فى يقظته حين تكون للنفس تمام سيطرتها على جسده. ولذلك فإن من تغيب نفسه عن جسدها بالجنون لا يكون مكلفا مسئولا عن أعماله .

ثالثا :  تكليف نفس الانسان

1 ـ التكليف يعنى الحرية والمسئولية المترتبة عليها. والتكليف هو للنفس حسب طاقتها ووسعها ، وليس للجسد. وهو إبتلاء للنفس . جسدها له غرائز ورغبات ، وهى قد أُلهمت الفجور والتقوى ، قال جل وعلا : ( إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿٢﴾ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴿٣﴾ الانسان ) أمامه الاختيار بين طريقين ، ثم يتحمل المسئولية يوم القيامة : ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا ﴿٤﴾ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ﴿٥﴾ الانسان )

2 ـ ويأتى الوعظ للإنسان ليس لجسده بل لنفسه المُدركة :( يا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ﴿٦﴾ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ﴿٧﴾ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴿٨﴾ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ﴿٩﴾ الانفطار )( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴿٦﴾ الانشقاق )( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا ۖ وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿٨﴾ العنكبوت )( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴿١٤﴾ لقمان )( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖوَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿١٥﴾ الاحقاف )

 ثالثا : صفات سيئة للإنسان عموما

الأغلب أن تضل النفس البشرية ويتغلب فيها جانب الفجور على جانب التقوى. بهذا تأتى أوصاف سيئة للانسان الذى تتغلب عليه غرائزه وهوى نفسه : ومنها :

1 ـ يفرح بالنعمة وييأس بالنقمة ( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ﴿٩﴾ هود ) ( لَّا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ﴿٤٩﴾ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَـٰذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ ۚ فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴿٥٠﴾ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴿٥١﴾ فصلت )( وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ ﴿٤٨﴾ الشورى ) ( وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ ۖ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ﴿٨٣﴾ الاسراء ) ( كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ ﴿٦﴾ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ ﴿٧﴾  القلم )

2 ـ عند الأزمة يتضرع لربه وعندما ينجو منها يعود الى ضلاله ( وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ۖ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا ﴿٦٧﴾ الاسراء )(   وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّـهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ ۚ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا ۖ إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ﴿٨﴾ الزمر ) ( فَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ ۚ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴿٤٩﴾ الزمر ) ( وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿١٢﴾ يونس )

3 ـ صفات أخرى سيئة : مثل البخل ( وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا ﴿١٠٠﴾ الاسراء )وحب الجدل ( وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ﴿٥٤﴾ الكهف ) والاستعجال  ( وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا﴿١١﴾ الاسراء )( خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ۚ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ﴿٣٧﴾ الانبياء )

4 ـ صفات أسوأ تجمع الكفر والظلم : ( إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ ﴿٦٦﴾ الحج )  ( إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴿٣٤﴾ ابراهيم )( إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ﴿١٥﴾ الزخرف ) ( خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴿٤﴾ النحل ) (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴿٧٧﴾ يس )

رابعا : الاستثناء من الصفات السيئة

1 ـ ( إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴿١٩﴾ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ﴿٢٠﴾وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴿٢١﴾ المعرج ) ثم الاستثناء : ( إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴿٢٢﴾ الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴿٢٣﴾ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ﴿٢٤﴾لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴿٢٥﴾ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴿٢٦﴾وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ﴿٢٧﴾ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28  ﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴿٢٩﴾ إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴿٣٠﴾ فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ﴿٣١﴾ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴿٣٢﴾ وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ﴿٣٣﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( 34 ﴾ أُولَـٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ ﴿٣٥﴾ المعارج )

2 ـ ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴿٤﴾ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ﴿٥﴾ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴿٦﴾  التين )

3 ـ  ( إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴿٢﴾ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴿٣﴾ العصر )

خامسا : الانسان فى الآخرة

1 ـ فى الدنيا يتم تسجيل عمل الجسد وخطرات النفس ومشاعرها ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ﴿١٣﴾ الاسراء ) 

2 ـ سعى الانسان فى الدنيا سيراه الانسان فى الآخرة ، وسيُجازى به.  ( وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴿٣٩﴾ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ ﴿٤٠﴾ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ﴿٤١﴾ النجم ).

3 ـ ينكر معظم الناس البعث ويأتى الرد على ( الانسان ) ( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ﴿٣﴾ بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴿٤﴾ بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ ﴿٥﴾ القيامة ). تسوية بنانه أى بنان نفسه يوم البعث .

وعن بعث ( الانسان ) ( قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ ﴿١٧﴾ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ﴿١٨﴾ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ﴿١٩﴾ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ﴿٢٠﴾ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴿٢١﴾ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ ﴿٢٢﴾ عبس ). ( أنشره ) أى بعثه. ( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ ﴿٥﴾ خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ ﴿٦﴾ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ ﴿٧﴾ إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ﴿٨﴾ (الطارق )  يعنى بعث الانسان ، وهذا : ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴿٩﴾ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ﴿١٠﴾ الطارق )

4 ـ فى يوم القيامة يعلم الانسان عمله : ( يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴿١٣﴾ بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴿١٤﴾ وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ﴿١٥﴾ القيامة ) ويتذكره : ( فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَىٰ ﴿٣٤﴾ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَىٰ ﴿٣٥﴾ النازعات ).

5 ـ ( النفس ) هى التى تبعث بعد تركها جسدها المادى ، وتأتى ترتدى جسدا آخر هو عملها.

 

 

الجسد والنفس  

 

 نحن نتقلب بين ثنائيات كثيرة منها الخير والشر ، الطاعة والمعصية ، الليل والنهار، الظاهر والباطن ، ولكن أهم ثنائية هي تلك التي تعيش فينا ، ثنائية الجسد والنفس..

ونحن نتوقف مع ثنائية النفس والجسد من خلال بعض الملامح القرآنية..

أولا : النفس لا الروح!

1 ـ على خلاف الشائع فإن الإنسان مزيج من جسد ونفس ، وليس من جسد وروح .

فالروح في القرآن الكريم تعني جبريل حين ينزل بالأمر الإلهي حاملاً كلمة "كن".. وجبريل بهذه الصفة له ثلاث وظائف ، الأولى نفخ النفس ، وقد فعل ذلك في خلق آدم( الحج29، ص72) وفي خلق المسيح عليه السلام(مريم17 ، الأنبياء 91، التحريم12) (آل عمران59)، والثانية هي نزوله بالوحي على كل الأنبياء (النحل2، غافر15) وقد نزل روح الله جبريل بالوحي الأخير وهو القرآن الكريم (البقرة97، النحل 102، الشعراء 193). وبسبب الصلة الوثيقة بين جبريل والقرآن فإن الروح من وصف القرآن (الشورى52) كما أن الروح من أوصاف المسيح عليه السلام، لأن كليهما من أمر الله تعالى (النساء171). والوظيفة الثالثة للروح جبريل هي تأييد وتثبيت المؤمنين(المائدة 110، المجادلة22). وبسبب هذه المنزلة لجبريل روح الله الذي يحمل الأمر الإلهي ، فإنه يحظى بين الملائكة بمكانة خاصة(القدر4، النبأ38) ويوصف في القرآن بصفات عظيمة(النجم 5:6، التكوير 19:21).

باختصار : الروح في القرآن هو جبريل عليه السلام.. أما الإنسان فيتكون من نفس وجسد.

2 ـ وحديث القرآن عن الإنسان أو البشر أو بني آدم ـ أي عنا ـ يأتي مقترناً بالنفس فعن الخلق يقول تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8) : الشمس .، وقوله تعالى (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) النساء: 1 ، وعن الخلق والبعث يقول تعالى (مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) لقمان ـ وكذلك عن الوفاة يقول جل شانه (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا) الزمر:42, وعند الحساب (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا) النحل :111 , (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) ق : 21.

باختصار أيضاً : فالإنسان في حقيقته نفس ترتدي ثوباً مؤقتاً هو ذلك الجسد ، ثم تخلعه وتغادره حين تترك هذه الدنيا.

ثانيا : فناء وخلود

1 ـ خلق الله تعالى الأنفس كلها معاً وفطرها على أنه لا إله إلا الله ، وأخذ عليها العهد والميثاق بذلك " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ .؟ .. قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا " وحذرهم مقدماً من أن يأتوا يوم القيامة، يوم لقاء الله تعالى وقد نسوا ذلك العهد ـ " أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) الأعراف: 172" وتلك هي الفطرة النقية البيضاء التي يولد بها كل آدمي "فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا" الروم : 30ويتبع هذه النظرة ما يعرف بالضمير أو ما يتعارف  عليه البشر من أنه عدل وخير وحق... مهما اختلفت الظروف.

2 ـ باختصار .. خلق الله تعالى الأنفس جميعاً مرة واحدة .. إلا أن لكل نفس موعداً تحل فيه في جسدها حين يأتي ميعادها ، وبدأ بذلك بآدم وحواء..وسيستمر إلى أن تقوم الساعة.. وكل نفس في عهد آدم لها موعدها المحدد الذي تدخل فيه الجسد ، حين ينتفض الجنين معلناً عن قدومه ودخول ذلك الكائن المجهول فيه، ثم ينزل من بطن أمه، ويعيش الفترة المحددة له سلفاً ليحيا هذه الحياة الدنيا، ثم حين يحل الأجل يفارق ذلك الجسد لتعود النفس إلى البرزخ الذي أتت منه، وقد أخذت حظها في اختبار الحياة، ثم ينتظر الجميع إلى أن تأخذ كل نفس حظها ، وإلى أن ينتهي ذلك تقوم الساعة، ويأتي اللقاء العظيم مع المولى جل وعلا.. ليذكر كل نفس بالميثاق والعهد، ويكون الحساب ،والثواب والعقاب والجنة والنار.

ثالثا : ضعف الجسد وأبدية النفس

1 ـ ومن لطف الله تعالى بنا أن جعل ذلك الغطاء الجسدي ضعيفا/ فالله تعالى يقول عن الإنسان( الذي هو نفس+ جسد ) " وخلق الإنسان ضعيفاً : النساء ـ 28" وهذا الضعف يعطي الإنسان الفرصة لكي يعتبر ويتحقق أن هناك نفسا خالدة تكمن خلف هذا الجسد، ومطلوب منه أن يزكيها بالخير، ولا يجعل غرائز الجسد تنسيه الفطرة السليمة التي فطر الله   تعالى الأنفس عليها.

2 ـ ومن مظاهر ضعف الجسد أن له مساراً بيضاوياً لا يحيد عنه يبدأ بالضعف، ويصعد إلى القوة والشباب ثم يعود للضعف والفناء. يقول تعالى "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) الروم " وقد يستطيع العلم مواجهة بعض الأمراض ومحاربة بعض الفيروسات، وهي أدنى المخلوقات وأحقرها، ولكنه لا يستطيع الإفلات بالإنسان من هذه المعادلة (ضعف ثم قوة ، ثم ضعف وشيبة)".

3 ـ والشيخوخة بالذات أبرز مظاهر الضعف الإنساني ، وهي شيخوخة الجسد، أما النفس فلا تشيخ ولا يصيبها الهرم، لأنها خالدة، فالشيخ الطاعن في السن يشتهي النساء ويتمنى أن يعود الشاب، ولكن جسده يخذله، وقد أشار القرآن إلى مظهرين أساسيين من مظاهر الشيخوخة، وهما تغير الجسد إلى الانتكاسة الواضحة على الوجه والجلد ـ " وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) يس" ـ ثم إصابة الذاكرة بالنسيان إلى درجة أن يشبه العجوز الطاعن في السن حفيده الصغير في نفس التصرفات. يقول تعالى عن مرحلة الطفولة التي تلي الولادة"وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ـ النحل :78" ويقول عن مرحلة الشيخوخة المتأخرة "وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا" الحج : 5 ـ وفي مرحلتي الولادة والشيخوخة يكون الجسد ضعيفا وتكون النفس في حالة غياب متقطع، أو نوم.. والنوم هو الأغلب في حياة الطفل الوليد وهو الأغلب أيضاً في الشهور الأخيرة للشيخ الطاعن في السن. وحيث يتغلب النوم فلا علم ولا إدراك.

رابعا : النوم و المرض والطعام

1 ـ إن الجسد يحتاج إلى الراحة، ليست المجردة من العمل الشاق، ولكن الاستراحة من وجود النفس في داخله. ومن هنا فإن النفس لابد أن تغادر هذا الجسد بما يعادل نصف حياتها في هذه الدنيا. ولا يستطيع الإنسان بجسده هذا أن يحيا دون نوم. ومن طرق التعذيب المؤدية للموت أو الجنون المنع من النوم. ومن هنا كان النوم ـ أو الموت المؤقت ـ آية من آيات الله تعالى فينا، تتجدد بها خلايا ذلك الجسد الضعيف، يقول تعالى عن آية النوم " وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ " الروم : 23 ـ كما أن المرض زائر يزور الجسد ليس فقط في فترتي الضعف (الطفولة، الشيخوخة) وإنما أيضا في فترات الفتوة والقوة. ومرض الجسد يؤثر في النفس، كما أن مرض النفس يؤثر في صحة الجسد.

2 ـ إن حديث القرآن الكريم عن المرض والشفاء يجري على مستويين، مستوى النفس ومستوى الجسد.. فالمرض بالنسبة للنفس هو الضلال والكفر والعناد ورفض الحق الإلهي .. وتفهم هذا من السياق في قوله تعالى عن المنافقين "فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) البقرة ". كما أن الاحتياج للطعام من أبرز مظاهر الضعف البشري.. فأتت تحتاج للعمل حتى تكسب لقمة العيش (لاحظ مدلول كلمة العيش هنا) وبدون لقمة فأنت لا تستطيع أن تعيش ، وبعد أن تكسب المال وتستحضر الطعام تحتاج إلى صحة تمكنك من البلع والهضم ، ثم تحتاج إلى صحة تمكنك من الهضم ، ثم تحتاج إلى صحة تمكنك من الإخراج..  ولو حدث عطل في كل مرحلة أصبحت حياتك في خطر . وفي كل مرحلة أنت ضعيف بهذا الجسد ومحتاج لرب العزة جل وعلا.. ومن هنا يقول إبراهيم عليه السلام عن ربه جل وعلا (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) الشعراء ـ وطالما يتمتع الإنسان بالصحة فإنه يغفل عن نعمة الله تعالى عليه في الرزق وفي البلع وفي الهضم وفي الإخراج. فإذا أصابه مرض واحتاج إلى المحاليل أو الحقن الشرجية أدرك كم هو ضعيف ومغرور!!

3 ـ والقرآن الكريم أسلوبه الرائع في قضية الطعام وصلتها بقضية الألوهية. فالله تعالى هو وحده الصمد أي الذي لا يحتاج إلى أحد، ويحتاج إليه كل من عاداه.. والله تعالى خلق كل شيء فقدره تقديراً، ومن ضمن تقديره أن يكون المخلوق محتاجاً لخالقه في بقائه حياً.. تماماً كما يصنع الإنسان آلة ولا تستطيع أن تسير إلا بالكتالوج المصمم لها.. ومن هنا كان احتياج المخلوقات للخالق جل وعلا، وكان الطعام أبرز تلك الاحتياجات. وطعام الجسد هو من نفس العناصر الطبيعية الأرضية التي جاء منها ذلك الجسد.

4 ـ وهنا ننبّه الى هذه الحقائق :

4 / 1 ـ ـ ضعف الجسد يعطي الإنسان فرصة لكي يعتبر ويتحقق أن هناك نفساً خالدة تكمن خلف جسده.

4 / 2 ـ النفس تعود يومياً إلى البرزخ الذي أتت منه طالما بقي الإنسان حياً

4 / 3 : حضارة الغرب الراهنة تتطرف في التركيز على الجسد المادي وتتجاهل وجود النفس التي تستعصي على المنهج التجريبي.

خامسا : الجسد والنفس.. الاختيار والاختبار

1 ـ الإنسان هو الذي يجمع في يده الدنيا بين النفس والجسد، قد كان جنيناً في بطن أمه "(إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) الإنسان." فعناصر الابتلاء في الإنسان إنه يتكون من نفس ألهمها الله تعالى الفجور والتقوى وأعطاها الحرية في الاختيار بين هذا وذاك، ثم يتكون من جسد له احتياجات للطعام والمتع الجنسية. وهناك شريعة تنظم الحصول على هذه المتع، وتجعل فواصل بين الحلال والحرام.. والإنسان نفس حرة تختار بين الطاعة والمعصية.

2 ـ إلا أن الغريب في الأمر أن الجسد هو أهم عنصر في الغواية، ولكنه بحتميات إلهية خارجة عن سيطرة النفس وإرادة الإنسان. فالقلب والأجهزة الحيوية في الجسد تعمل أو تتوقف بإرادة الله، أي أن هذه الأجهزة بكل خلاياها في حالة طاعة مستمرة لله تعالى.. أما النفس المتحكمة في سعي هذا الجسد والذي تقع منه موقع السائق في السيارة هذه النفس تملك زمام حركتها نحو الطاعة أو نحو المعصية، نحو الهداية أو نحو الضلال.. ومن هنا يأتي الاختيار ويأتي الاختبار، والحساب والثواب والعقاب. وعن لقاء الله تعالى يوم الموقف العظيم إما أن تكون إنساناً ـ أي خاسراً تقول: "( يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) الفجر." وهنا يكمن الاختيار والاختبار. وإذا كانت النفس هي التي تملك حرية الاختيار وهي التي يقع عليها النتيجة في الدنيا والآخرة، فإن الجسد هو المجال الحيوي الذي تمارس النفس من خلاله الطاعة او المعصية.

سادسا : التناسخ والاستنساخ

1 ـ في أديان الهند أسطورة التناسخ، أي أن النفس الواحدة تتقمص أكثر من جسد إنساني أو حيواني ، وهناك تجليات لهذه الأسطورة (التناسخ) في بعض عقائد الشيعة (القرامطة) ومذاهب الصوفية. وتلعب عقيدة التناسخ دوراً هاماً في ترسيخ الفوارق الطبقية في المجتمع الهندي بحيث يرضى المنبوذون الهنود على وضعهم أملاً في أن تتقمص أنفسهم فيما بعد مرتبة أعلى. والقرآن يؤكد على أن للنفس جسداً واحداً ترتديه في هذه الحياة، ثم تتركه بالموت لتظل في البرزخ إلى أن تقوم الساعة، ويأتي يوم الحساب للجميع على ما سبق لهم من اختبار الحياة الدنيا. وعقيدة التناسخ الهندية تتناقض مع ذلك كله.

2 ـ وإذا كانت عقائد الشرق تتطرف في التركيز على النفس بحيث يجعلونها تتناسخ في أكثر من جسد، فإن حضارة الغرب الراهنة تتطرق في التركيز على الجسد المادي بحيث تتجاهل وجود النفس التي تستعصي على المنهج البحثي التجريبي، فلا يمكن أن تخضع النفس غير المادية للميكروسكوب وأجهزة المعامل. ومن هنا فإن الغرب لا يرى في الإنسان إلا مجرد جسد، ويرى المخ ـ الذي هو مجرد غرفة تحكم للنفس ـ يراه العقل والنفس ومناط التكليف ولا يتساءل عن أهمية ودور النفس عندما تغيب عن الجسد بالنوم أو بالإغماء أو بالجنون..

3 ـ  والمقصود أن هناك نوعيات مختلفة من الحياة على قمتها حياة النفس والتي يصير بها الإنسان خليفة الله تعالى في هذه الأرض ومختلفاً عن أنواع الحيوانات الأخرى بدءاً من الحيوان المنوي إلى البكتريا فالزواحف والثدييات. والمقصود أيضاً أن للجسد حياة منفصلة عن حياة النفس فيه، تعرف ذلك في حياة النائم والمغمى عليه، ولكن عندما تحل النفس في الجسد (حين يستيقظ) فإن سلوكه يختلف ويتقمص دوره المسئول. ومن الممكن بعد أن تفارق النفس جسدها بالموت ـ أن يستمر الجسد في الحياة بالأجهزة الصناعية إلى حين ، بما فيه من استعدادات طبيعية للحياة الجسدية.. ومن الممكن أخيراً أن ينجح العلم في استنساخ عجينة بشرية لكن لا يمكن أن تنفخ فيها النفس .. بسبب بسيط هو أن مراحل خلق الإنسان(جسد+نفس) من أولاد آدم لابد أن تمر بالطريق الطبيعي ، من تكوين الجنين والولادة. يقول تعالى "(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) السجدة." أي أن نسل آدم لابد أن يكون عن طريق التزاوج الطبيعي حتى يستحق نفخ النفس فيه عن طريق جبريل ، الذي ينفخ النفس في كل جنين بشري..

4 ـ وبدون ذلك فإن الاستنساخ قد ينتج خلايا بشرية أو أعضاء آدمية أو قطع غيار.. ولكنها تظل مجرد عجينة خالية من النفس..

 

 

 

النفس البشرية هى مركز الادراك وليس المخ

 مقدمة :

النفس مثل سائق السيارة للسيارة. السيارة بدون سائق مجرد هيكل مادى ميّت. إذا ركبها السائق تحولت الى كائن يتحرك ويصعد ويهبط ويصرخ ويطلق الأنوار ، وقد يكون أداة للقتل أو لعمل الخير. الذى يفعل ذلك هو السائق وليس جسم السيارة الميت . النفس ترتدى جسدها وتقوده ، تفعل به الخير والعصيان. المخ فى الجسد هو مجرد غرفة تحكم تتولاها النفس. النفس هى الى تحسُّ وهى التى تكره وهى التى تحبُّ ، وهى تشعر بالتعب ، وهى التى تختزن فى ( سريرتها ) الذكريات والأفكار. لا يعنى هذا إهمال دور الجسد ، فالنفس تظل حية طالما ترتدى هذا الجسد ، فإذا فقدته ماتت ورجعت الى برزخها ميتة لا تشعر بشىء بعد أن زالت واسطتها فى الاحساس والإدراك . قال جل وعلا عن الموتى : ( أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ۖ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴿٢١﴾ النحل ).

2 ـ نعطى لمحات قرآنية عن النفس البشرية مركزا للإدراك بأنواعه.

 أولا : النفس البشرية هى التى تتذوق الألم .

1 ـ الجسد مجال ينتقل منه الاحساس بالألم الى المخ ومنه الى النفس المسيطرة على المخ . ونعطى أمثلة :

1 ـ  قال جل وعلا عن الأنعام : (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ ) النحل:7 ) :( بشق الأنفس ) أى بتعب الأنفس . لو تخيل الانسان نفسه يحمل ما تحمله الأنعام لعرف المعنى .

2 ـ النفس هى التى تحس بالموت :

2 / 1 : هى التى ( تتذوق الموت ) ، قال جل وعلا : (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) ( العنكبوت:57 ) (الأنبياء:35 ) ( آل عمران 185 ).

2 / 2 : والنفس هى التى تعانى ( زهق ) اى موت النفس ، قال جل وعلا  عن بعض المنافقين :  ( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)التوبة:55 ) (وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)التوبة:85 )

 ثانيا : القتل ليس للجسد فى الحقيقة بل للنفس :

النفس هى التى تموت وهى أيضا التى تتعرض للقتل. يأتى الموت من مرض أحاط بالجسد فعطّله عن أداء دوره ثوبا للنفس . ويأتى القتل من تعرض الجسد الى نفس التعطيل من مصدر خارجى . وفى الحالين تموت النفس أو ( تُقتل النفس ) . ويأتى القتل للنفس وليس للجسد ، والأمثلة كثيرة منها :

1 ـ فى التشريع (  وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ )(151)الانعام ) (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ )الإسراء:33 ) ( وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ )الفرقان:68 ) ( وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً)النساء:29 ) (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ  )المائدة:45 ) ( مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً )المائدة:32 )

2 ـ فى القصص : ( وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ  )طه:40 ) (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ )الكهف:74) (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ)البقرة:72 )  ( كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ)المائدة:70

ثالثا : النفس هى التى تحسّ باللذة

1 ـ فى العملية الجنسية يتخيل الانسان أن البطل فيها هو الجسد  لكونه المجال الطبيعى  فى الاشتهاء الجنسى وفى الممارسة الجنسية وبالتالى مفترض أنه هو الذى يحسُّ باللذة . ولكن الحقيقة أنها النفس وليس الجسد . النفس هى التى تتوق الى ممارسة الجنس وهى التى تشعر بلذته خلال جسدها. وهذا هو الفارق بين الانسان والحيوان. الحيوان يمارس الجنس بغريزة التكاثر فقط ، اما الانسان فهناك اللذة بالاضافة الى التكاثر ، ولهذا فممارسة الجنس فيها تشريع يمنع الزنا . الانسان يحتاج الى ان تتهيأ نفسه للممارسة الجنسية. لو سار  رجل ورأى فجأة عورة إمرأة لشعر بالاشمئزاز . يختلف شعوره عندما تكون نفسه فى حالة إثارة جنسية . الرجل قد يرى صورة إمرأة عارية فتلتهب مشاعرة ، أما لو رأى ساق أخته أو أمه فلن يكون له نفس الاحساس . إذن هى النفس وليس الجسد . الرجل هو الذى يحمل غريزته الجنسية تضغط عليه بالخصيتين ويحتاج تفريغهما خصوصا فى مرحلة الشباب . وهو الذى يطارد المرأة جنسيا . المرأة تحتاج الى إثارة كى تستجيب . ومن هنا نفهم قوله جل وعلا : (نسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ )﴿٢٢٣﴾)البقرة ). المرأة هى الأرض التى توضع فيها بذرة الطفل. الرجل هو الذى يبدأ وهو الذى ( يأتى ) زوجته متى شاء, ولكن عليه أن يقدم تمهيدات للزوجة حتى تتهيج جنسيا ليسعدها ويسعد نفسه، وهذا معنى ( وقدموا لأنفسكم ).هنا إشارة الى أن النفس هى محل الشعور باللذة الجنسية . بدون الهياج الجنسى للنفس لا يمكن للعضو الجنسى للرجل أن ينتصب .

بدون ممارسة الجنس فالتخيل الجنسى ( النفسى ) يتيح للذكر أو الأنثى إشباعا جنسيا. 

2 ـ وجاء فى قصة يوسف : (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ ) يوسف:22 )(قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي  )يوسف:26 ) (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً  )يوسف:30 )(قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ  )يوسف:32 ) ( (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ ) يوسف 51 ) . تعبير ( راودته عن " نفسه ") هو الفيصل هنا . راودته لتهيج نفسه جنسيا ، وفعلا قد (همّ ) كما ( همّت ) به لولا أن رأى برهان ربه. لم تراوده عن جسده بل عن نفسه .

بدون إشتهاء النفس للجنس يصبح الجسد محايدا جنسيا. 

رابعا : النفس مركز المودة والحب والبغضاء أيضا :

1 ـ بعد هجرتهم الى المدينة عانى المهاجرون من الحنين للوطن ، وتشابك معه حنين الى الأهل الكافرين المعتدين  فكانوا فى أعماق نفوسهم يسرون اليهم بالمودة وتطور هذا الى موالاة لأولئك الكافرين المعتدين ، فنزل قوله جل وعلا محذرا :  ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّـهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴿١﴾ الممتحنة ). الإسرار بالمودة فى النفس وليس الجسد.

2 ـ كان للمنافقين فى المدينة من يحبهم من المؤمنين مع كراهية أولئك المنافقين للمؤمنين ، قال جل وعلا فى هذا :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴿١١٨﴾ هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿١١٩﴾  آل عمران ). مشاعر الحب والبغضاء محلها النفس.

 3 ـ حسدا من عند أنفسهم كان بعض أهل الكتاب  ( يود ) أن يرجع المؤمنون كفارا ، فى هذا قال جل وعلا : (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّـهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿١٠٩﴾ ) البقرة )، وقال جل وعلا أيضا : (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) آل عمران:69 ). هذا ( ود ) أى رغبة نفسية وليست جسدية .

4 ـ ويقول جل وعلا :  (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً)النساء:4 ). إن طابت ( نفس الزوجة ) فى التنازل عن جزء من صداقها لزوجها فلا بأس .

خامسا : النفس محل الرضا والسخط والحزن والخوف

1 ـ بعض المنافقين كان يرضى إذا أخذ الصدقة ، وكان يسخط إن لم يأخذها ، قال جل وعلا   : ( وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴿٥٨﴾ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّـهُ سَيُؤْتِينَا اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّـهِ رَاغِبُونَ ﴿٥٩﴾ التوبة )

2 ـ وبعضهم كره رضوان الله جل وعلا ورضى بسخط الله جل وعلا ، قال جل وعلا: ( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّـهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴿٢٨﴾  محمد )

3 ـ وفى القتال الدفاعى رضى المنافقون التخلف والقعود فى المدينة مع العجزة والنساء والصبيان ، قال جل وعلا: ( رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴿٨٧﴾ التوبة )، هذا فى الوقت الذى بكى فيه مؤمنون مخلصون فقراء لعجزهم عن التجهيز للخروج (  وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ ﴿٩٢﴾  إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ ۚ رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّـهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٩٣﴾ التوبة ). هذا الرضى وذاك السخط وذلك الحزن محله النفس.

4 ـ وحملت نفس النبى محمد عليه السلام مشاعر من الحزن بسبب حرصه على هداية قومه ، وقد عوتب فى هذا كثيرا، قال له جل وعلا: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) الكهف:6 )  (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)الشعراء:3 ) ( فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ) ٨﴾ فاطر ) (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)التوبة:128 )

5 ـ وبسبب نشأته وسط مجتمع إرهابى فقد سيطر الخوف على نفسية موسى عليه السلام ، وتردد هذا كثيرا فى القصص الخاص به ، ومنه قوله جل وعلا :  (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى) طه:67 )

سادسا : السريرة والذاكرة

1 ـ السريرة هى ما يحتفظ به الانسان فى نفسه (سرّا ) . ويوم القيامة ستنفضح سرائرنا ، قال جل وعلا : ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴿٩﴾ الطارق ).

2 ـ والله جل وعلا هو الأعلم وحده بسرائرنا .

2 / 1 : قال جل وعلا (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ  )الإسراء:25 ) (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ) ق:16 )

2 / 2 : وفى هذا المعنى قال جل وعلا : (  وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴿٧﴾ طه ) (  سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴿١٠﴾ الرعد ) ( إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّـهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴿٥٤﴾ الاحزاب )  ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴿١٩﴾ غافر)( وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴿٧٤﴾ النمل )

3 ـ وأخبر جل وعلا عما كان يدور بسريرة بعضهم .

3 / 1 : قال عن الملأ الذى كان يحاكم ابراهيم عليه السلام : (فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ)الأنبياء:64 )، أى رجعوا الى ضمائرهم .

3 / 2 : وعن يعقوب عليه السلام قال جل وعلا : (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا  )يوسف:68 )

3 / 3 وعن يوسف عليه السلام  ، قال جل وعلا: (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ  )يوسف:77 )

3 / 4 : وعن فرعون وقومه قال جل وعلا :  (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً  )النمل:14 )

3 / 5 : وعن خاتم النبيين عليهم السلام قال جل وعلا : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ  )الأحزاب:37 )

3 / 6 : وعن المنافقين فى عهد النبى محمد قال جل وعلا : ( وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ)المجادلة:8 )

3 / 7 : وعن المؤمنين فى موضوع الصيام ، قال جل وعلا : (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ ) البقرة:187)

3 / 8 : وعن بعض عُصاة الصحابة قال جل وعلا :(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّـهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّـهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴿١٠٨﴾النساء  )

4 ـ وللقصد النفسى أو الارادة النفسية دخل فى التشريع ، قال جل وعلا : ( وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) البقرة 235 ) . هذا فى موضوع الخطبة ولقاء المخطوبة . ولهذا ياتى الحث على التقوى فى آيات التشريع لأن تطبيق التشريع الاسلامى مؤسس على تقوى الله جل وعلا.

5 ـ لذا فإن الله جل وعلا سيحاسبنا على ما فى سرائرنا ( وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّـهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٢٨٤﴾ البقرة )

 

 

 

ليس الجسد البشرى حُرّا ولكنها النفس البشرية  

 

مقدمة :

1 ـ سائق سيارة قادها ودهس بها الناس فى الشارع . السيارة ليست الفاعل بل السائق. قائد سيارة الاسعاف أسرع لينقذ الناس ، سيارة الاسعاف ليست الفاعل للخير بل السائق . هو نفس الحال مع النفس البشرية ، هى التى تقود سيارة جسدها ، هى التى تستخدم جسدها فى الطاعة أو المعصية ، فى الهداية أو الضلال. النفس البشرية هى مركز الإختيار للهداية أو الضلال .

2 ـ التطبيق العملى للحرية التى تتمتع بها النفس البشرية أن الأكثرية من البشر ضالون . الأكثرية لا تؤمن بالله جل وعلا وحده ، ولا تؤمن به إلا إذا كان معه إله أو آلهة أخرى،أوبالتعبير القرآنى (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّـهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ﴿١٠٦﴾ يوسف ) . المحمديون يزعمون الايمان بالقرآن ولكنهم أبرز مثل ، فهم يقدسون آلاف الآلهة السنية والشيعية والصوفية . هذا وهم يقولون ( لا إله إلا الله ).! . أنفسهم إختارت الضلالة.!

3 ـ وقال جل وعلا :( وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَـٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴿١٣﴾ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ) السجدة:13 ). يعنى لو شاء الله جل وعلا لخلق الأنفس مجبولة على الهداية . لكنه جل وعلا شاء أن تكون الأنفس حرة ، ومسئولة عن حريتها . وهو جل وعلا يعلم أن النتيجة أن معظم البشر ومعظم الجن سيسيئون إستعمال هذه الحرية وستمتلىء بهم جهنم . 

4 ـ الحرية تعنى المسئولية ، والنفس التى تسىء إستعمال حريتها ستلقى جزاءها خلودا فى النار يوم القيامة.  يزيد من عُمق الإختبار أن يوم القيامة مؤجل وليس الآن. تخيل لو أن العقاب الالهى فى هذه الدنيا فقط  وان الذى يعصى يلقى العذاب الان أمام الناس ؟ . لن يعصى أحد . ولكن عصيان الأنفس البشرية يكمن فى عدم إيمانها باليوم الآخر ، أو أن تزيف يوما للقيامة يجعلها تدخل الجنة بالشفاعات . وتجارة الشفاعات وبيع صكوك الغفران هى الأكثر ربحا لدى المحمديين والمسيحيين والبوذيين وغيرهم.

نعطى مزيدا من التفصيل :

أولا :  نوعا الهداية :  هناك نوعان من الأمر والقضاء :

  1 : مرتبط بالخلق ، وهو حتمى النفاذ ، ولا حرية للبشر فيه لأنه مرتبط بقوله جل وعلا ( كن ) : ( فيكون ).

  1 / 1 : فى حمل مريم بالمسيح نقرأ هذا الحوار بينها وبين الروح جبريل : (  قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّـهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿٤٧﴾ آل عمران ) .

  1 / 2 :  ويقول جل وعلا : ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴿٨١﴾ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿٨٢﴾ يس )

  1 / 3 : ويقول جل وعلا : ( هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿٦٨﴾ غافر ).

2 :  ( أمر وقضاء ) بالتشريع . والبشر لهم الحرية فى الطاعة أو فى المعصية ، وينتظرهم حساب يوم القيامة. يقول جل وعلا فى هذا الأمر التشريعى :

2 / 1 : ( إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّـهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴿٥٨﴾ النساء )

2 / 2 : ( إنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴿٩٠﴾ النحل )

2 / 3 : ( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ۖ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۚ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴿٢٩﴾ الاعراف )

2 / 4 : (  وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴿٢٣﴾ الاسراء ).

أيضا هناك نوعان من الهداية

1 ـ هداية مرتبطة بالخلق ليس فيها حرية للمخلوقات . قال جل وعلا :

1 / ! :( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ ﴿٢﴾ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ﴿٣﴾ الاعلى )

1 / 2 : ( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ﴿٥٠﴾ طه )

نرى هذه الهداية المرتبطة بالخلق فى جسد الانسان ، فالحيوان المنوى يتسابق مع غيره للوصول الى البويضة. وأجهزة الجسد المختلفة من القلب والرئتين والجهاز الهضمى والتنفسى والدورى يعمل بهدى إلاهى وبلا حرية . الحيوانات تتصرف بهدى الله جل وعلا ، ويسمون هذا ( غريزة ). هنا لا فارق بين النمل والنحل والطيور وحيوانات البر والبحر . هذه هى الهداية الإجبارية المرتبطة بخلق وحياة الكائنات ، بها تتغذى وبها تتكاثر وتتحرك وتتصارع.

2 ـ هداية مرتبطة بالشرع للنفس البشرية فيها حرية المشيئة . 

ثانيا : التداخل بين الهداية الإجبارية والهداية التشريعية الايمانية

1 ـ تحمل النفس جسدها تقوده وتسير به وتفعل به الطاعة والمعصية ، ولكن ليس لها سيطرة على أجهزة هذا الجسد ، فلا تستطيع أن تصدر أمرا للقلب بأن يُسرع من نبضاته ، ولا تستطيع أن تأمر الأذن بأن تسمع أعلى من المدى المسموح لها به ، ولا يمكنها أن توقف عمل البنكرياس أو الطحال أو الكبد أو الخصيتين أو الحيض ..الخ. كما لا يكنها منع المرض الذى يأتى ضمن الحتميات المقدرة والتى لا سبيل لتفاديها ولا حساب عليها.

2 ـ هنا يكون التداخل بين الهداية الإجبارية لأعضاء الجسد والهداية الايمانية للنفس . فالله جل وعلا فى تشريعه للنفس البشرية لا يكلفها إلا وسعها، اى ما فى وسعها أن تعمله بجسدها. بمعنى أن أصحاب الإعاقة ( الأعرج والعمى ) لا حرج عليهم ، كما إن المرض من الأعذار المبيحة للفطر فى رمضان وفى الطهارة وفى مناسك الحج وفى الجهاد بإعتباره عذرا . والنفس التى تراعى الهداية الايمانية هى التى تقدّر متى تتحمل والى متى .!

ثالثا : يهدى من يشاء 

1 ـ يسىء بعضهم بما تكرر فى القرآن من أن الله جل وعلا يضل من يشاء ويهدى من يشاء . وقد ورد هذا فى آيات كثيرة منها قوله جل وعلا : ( فَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّـهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۖ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴿٨﴾ فاطر )(  قُل لِّلَّـهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ  يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿١٤٢﴾ البقرة ) (  وَاللَّـهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿٢١٣﴾ البقرة ) ( لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ )   ﴿٢٧٢﴾ البقرة )( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿٥٦﴾ القصص ) . يظنون إن الله جل وعلا هو الذى يضل وهو الذى يهدى وتلك هى مشيئته . هذا مخالف لعدل الرحمن كيف يضل بشرا ثم يعاقبهم يوم القيامة. وهذا ايضا مخالف للمفهوم اللسان العربى ، لأن ( المشيئة ) ترجع ليس لله جل وعلا بل للإنسان . والمعنى إن الله يضل من يشاء الضلال ويهدى من يشاء الهداية . وإذا أعدنا قراءة الآيات السابقة بهذا المفهوم نجد إتساقا فى المعنى.

2 ـ ويؤكد هذا أن مشيئة الله جل وعلا تأتى تالية مؤكدة لمشيئة الانسان ، فإذا إهتدت نفس الانسان زادها الله جل وعلا هدى وإذا شاءت الضلالة زادها الله جل وعلا ضلالا . نقرأ فى هذا قوله جل وعلا :

2 / 1 : ( فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّـهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴿١٠﴾ البقرة )

 2 / 2 : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴿١٧﴾ محمد )( وَيَزِيدُ اللَّـهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ) ﴿٧٦﴾ مريم ) (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّـهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴿٦٩﴾ العنكبوت )

3 ـ واقع الأمر أنه بمجرد أن يشاء الانسان الاستقامة تلحقه مشيئة الرحمن تؤكد هدايته ، قال جل وعلا:(إنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ ۖ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا ﴿٢٩﴾ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ ۚ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿٣٠﴾ الانسان ) ( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ﴿٢٧﴾ لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ ﴿٢٨﴾ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿٢٩﴾ التكوير )

4 ـ ينطبق هذا على حرية النفس فى إرادة فى التغيير .

4 / 1 :هناك شعوب تستسلم للمستبد راضيية بالذل وبالخنوع والخضوع. الله جل وعلا يعترف بهذا المستبد ملكا شرعيا عليهم طالما هم رضوا به ملكا عليهم . ونعطى أمثلة :

4 / 1 / 1 : قال جل وعلا : (  أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّـهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّـهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿٢٥٨﴾ البقرة ) . هنا ملك كافر يزعم الألوهية ولكن لأن قومه إرتضوه ملكا فقد قال جل وعنه : (أَنْ آتَاهُ اللَّـهُ الْمُلْكَ )

4 / 1 / 2 : قال جل وعلا : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ﴿٧٩﴾ الكهف ). هنا ملك ظالم يغتصب السفن، ومع هذا يصفه رب العزة بأنه ( ملك )، أى يعترف به ملكا لأن قومه إرتضوه ملكا.

4 / 1 / 3 : ولا ننسى إن رب العزة جل وعلا ارسل موسى الى فرعون وليس للمصريين ، لأن المصريين كانوا ــ ولا يزالون ـ مركوبا للفرعون.

4 / 2 : وهناك شعوب تقوم بتغيير ما فى نفسيتها من خنوع وخضوع الى العزة والكرامة ، وتستعد لتحمل ثمن الحرية . إرادتهم بتغيير ما بأنفسهم تعززها إرادة الرحمن جل وعلا ، قال جال وعلا : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ  ) الرعد:11 ).

4 / 3 : والله جل وعلا جعل اللجوء الى الحديد مشروعا فى إقامة القسط طالما لا يقيم المستبد العدل الذى نزلت به كل الكتب الالهية ، قال جل وعلا : (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّـهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴿٢٥﴾ الحديد  ). الكتب الالهية فيها تشريع العدل والقسط ، وتطبيقها وتفعيلها يستلزم تغيير الأنفس لتخضع للخالق جل وعلا ، وليس لبشر مخلوق يظلمها ويستعبدها ويذلّها .

رابعا : حرية النفس

من هنا جاء التأكيد على حرية النفس ، وذلك بصيغ متنوعة:

1 ـ حرية الايمان والكفر، قال جل وعلا : ( قُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ  ) ﴿٢٩﴾الكهف ) (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّـهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۗوَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿٧﴾ ) الزمر )

2 ـ تحريم الإكراه فى الدين ، فى كل ما يخص الدين ، الدخول فيه والخروج منه وممارسة شعائره . قال جل وعلا : ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) ﴿٢٥٦﴾ البقرة )

3 ـ حرية المعصية حتى لو كانت فى الإلحاد فى كتابه الكريم ، قال جل وعلا : ( إنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ۗ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖإِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿٤٠﴾ فصلت )

4 ـ تقرير حرية المشركين فى المعصية والانتظار الى يوم القيامة للفصل بين البشر ، قال جل وعلا : ( قُلِ اللَّـهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي ﴿١٤﴾فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ ) الزمر )( قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ۗ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴿١٣٥﴾ الانعام ) ( وَقُل لِّلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ ﴿١٢١﴾ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴿١٢٢﴾ هود )  ( قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴿٣٩﴾ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴿٤٠﴾ الزمر ).

 

 

 

 

 

المسئولية الشخصية للنفس البشرية

 

أولا : حرية النفس البشرية فى الهداية أو الضلالة تتبعها مسئوليتها عن هذه الحرية :

1 ـ بعد تقرير حرية النفس البشرية فى مشيئة الهدى أو الضلال يأتى التنبيه على مسئوليتها عن هذه الحرية يوم الدين . هى حرة فى الدنيا وستكون مسئولة عن إختيارها يوم الحساب. الحرية تعنى المسئولية حتى فى القوانين الوضعية ، وهى كذلك فى الكتاب الالهى . ونعطى أمثلة :

1 / 1 : قال جل وعلا : ( وقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ) بعدها يأتى التنبيه والتحذير وتقرير المسئولية ، فالذى يشاء الضلال تنتظره النار والذى يشاء الهدى ينتظره النعيم ، قال جل وعلا :( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ﴿٢٩﴾إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴿٣٠﴾ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ ۚ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ﴿٣١﴾ الكهف )

1 / 2 : قال جل وعلا : ( إنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ۗ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖإِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿٤٠﴾ فصلت ). هنا تقرير الحرية لمن يريد الإلحاد فى القرآن الكريم : (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ )، ويأتى ضمن التحذير : (إنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا ۗ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ  )

ثانيا : النفس تلقى جزاءها من نفس عملها فى الدنيا ، ويمتد العقاب الى الآخرة إن لم تتب النفس توبة نصوحا :

1 ـ قال جل وعلا لبنى اسرائيل : (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا )الإسراء:7 )

2 ـ الذى يبخل يبخل على نفسه ، قال جل وعلا :( وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ  ) محمد38 ) . أى يحرمه الله جل وعلا من رزق يأتيه ، ويسلط عليه خسائر ومصائب فى صحته ينفق فيها اضعاف ما بخل به. أما الذين يبخلون ويكتنزون الأموال فسيكون بها عذابهم يوم القيامة ، قال جل وعلا : (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35) التوبة 35 ) .

وفى المقابل فإن الذى ينفق فى سبيل الله جل وعلا يخلف الله جل وعلا رزقا محسوسا ورزقا غير مرئى فى صحته ونجاحه وأولاده وراحة باله ، قال جل وعلا :( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴿٣٩﴾ سبأ ). وقد تكررت الدعوة فى القرآن الكريم لإقراض الله جل وعلا قرضا حسنا ، وهو تعبير بالغ الدلالة ، ونقرأ قوله جل وعلا : ( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّـهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّـهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿٢٤٥﴾ البقرة )( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّـهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴿١١﴾ الحديد )( إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّـهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴿١٨﴾ الحديد )( إِن تُقْرِضُوا اللَّـهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّـهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ﴿١٧﴾ التغابن ). ومفهوم أن مضاعفة هذا الأجر فى الدنيا وفى الآخرة.

3 ـ المستبدون هم أكابر المجرمين. صغار المجرمين يقتلون أفرادا ويسرقون أفرادا ويظلمون أفرادا ، ويدخلون السجون ويتعرضون للعقوبات وكراهية المجتمع. أما اكابر المجرمين فهم الحكام المستبدون الذين يقتلون آلافا ويسرقون الشعب ويظلمون ويعذبون الأبرياء ، وقد وصلوا للحكم بالمكر والتآمر ويحتفظون به بالمكر والتآمر ، يتآمرون على منافسيهم ويتآمر عليهم منافسوهم ، وفى النهاية لا يحيق المكر السىء إلا بأهله ، أى يرتد عليهم مكرهم وكم رأينا ونرى من مصارع المستبدين . قال جل وعلا :  (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)الأنعام:123 ). هذا فى الدنيا ، أما فى الآخرة فيقول جل وعلا عنهم وعن غيرهم : (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّـهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴿٤٢﴾ ابراهيم )

4 ـ وينطبق عليهم القاعدة القرآنية أن من بغى فقد بغى على نفسه : (  يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ  )يونس:23 )

ثالثا : النفس تلقى جزاءها من نفس عملها فى الآخرة : إجماليا

الأساس هنا أن الله جل وعلا يجزى كل نفس بعملها ، قال جل وعلا :

1 ـ  الجزاء لكل نفس بما كسبت : (لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ )إبراهيم:51 ) (  وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)الجاثية:22 )(فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)يس:54 ) (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى)طه:15 )

2 ـ فى يوم الحساب تتم توفية كل نفس حسب عملها : ( ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) 161 ) آل عمران:) . (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)النحل:111 ) (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ) الزمر:70 ) (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) 17  )غافر)

3 ـ كل نفس ستكون رهينة أو مرهونة بعملها ، وهو تعبير بالغ الدلالة ، قال جل وعلا : (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)المدثر:38 ) (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴿٢١﴾ الطور  )

 4 ـ هنا يكون الابتلاء العظيم، قال جل وعلا : (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ ) يونس:30 )

رابعا : النفس تلقى جزاءها من نفس عملها فى الآخرة : تفصيليا

1 ـ فى الهداية أو الضلال : من يهتدى فلنفسه ومن يضل فعلى نفسه . قال جل وعلا :

1 / 1 :(  فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنْ الْمُنذِرِينَ) النمل:92 ) ( مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) الإسراء :15 )

1/ 2 : بالتالى فليس الرسول مسئولا عن أحد طالما أن الهداية أو الضلال مسئولية شخصية لكل نفس بشرية ، أمر الله جل وعلا رسوله أن يقول :  (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) يونس:108 ) (إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)  الزمر )

1 / 3 : بالتالى أيضا فليس مهمة الدولة الاسلامية هداية الناس أو إدخالهم الجنة لأن الهداية رغبة شخصية وتعامل بين المؤمن وربه . وظيفة الدولة الاسلامية منع الإكراه فى الدين.

2 ـ فى الايمان أو الكفر : من يكفر فكفره على نفسه ومن يعمل صالحا فلنفسه :(مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ)الروم:44 )  ومن يعمل صالحا فلنفسه ومن اساء فعلى نفسه (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا  )الجاثية:15 )(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا  ) فصلت:46 ) و من يشكر فلنفسه ومن يكفر فعلى نفسه :( وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) النمل:40 ) (  وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) لقمان:12 ) والقرآن الكريم بصائر ، فمن أبصر وتعقّل فلنفسه ومن عمى عن الحق فعلى نفسه :( قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا  )الأنعام:104 )

3 ـ من تزكى وتطهر فلنفسه: ( وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) فاطر:18 ) ومن يقدم خيرا فهو يقدمه لنفسه :  ( وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)البقرة: 110)  ( وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً )المزمل:20 ) . وفى الجهاد فى سبيل الله جل وعلا : (وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴿٦﴾ العنكبوت )

4 ـ من ينكث العهد مع الله جل وعلا فهو ينكثه على نفسه ، ومن يفى بعهد الله يؤتيه الله جل وعلا أجرا عظيما :( فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)الفتح:10 ) من يكسب سيئة فعلى نفسه : ( وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى  )الأنعام:194 )،

5 ـ  الذى يتوب مخلصا يغفر الله جل وعلا له ، والذى يكسب إثما بلا توبة فإنما يكسبه على نفسه : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً  وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً)النساء:110 ، 111 )

 أخيرا : خسران النفس

1 ـ من يدخل جهنم فقد خسر نفسه .

2 ـ قال جل وعلا عنهم : ( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) الأنعام:12 ) ( الأنعام:20 ) (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ)الأعراف:9 ) (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) المؤمنون:103 )(  قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) الأعراف:53 )(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)هود:21 )

3 ـ خسارة الدنيا هينة ، يمكن تعويضها ، أما خسارة الآخرة فهى الخسارة الحقيقية لأنها :

3 / 1 خسارة النفس والأهل معا . قال جل وعلا : ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)الزمر:15 ) ( إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ  )الشورى:45 ). ذلك أن اصحاب النار يتلاومون ويتشاتمون ويتلاعنون بعد ما كان بينهم من مودة فى الدنيا ، قال جل وعلا : ( وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّـهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴿٢٥﴾ العنكبوت ) ، بينما يعيش أصحاب الجنة إخوانا على سُرر متقابلين حتى لو كان بينهم عداء فى الدنيا. قال جل وعلا : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴿٤٥﴾ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ ﴿٤٦﴾ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴿٤٧﴾ الحجر ).

3 / 2 : أنها خسارة خالدة إذ لا خروج من الجحيم.

الخاتمة : وما ظلمهم الله جل وعلا ولكنهم ظلموا أنفسهم ، عن يوم الحساب قال جل وعلا : (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)يونس:44 )  .

 

 

  

لا إستنابة فى العبادات فى الاسلام :

لا تصلى عن أحد ، ولا تصوم عن أحد ، ولا تحج عن أحد

 

أولا :لمحة عن حقائق الاسلام التى تنفى الاستنابة فى العبادة

1 ـ فى تأكيد الحرية الدينية المطلقة لكل نفس بشرية ومسئوليتها يوم القيامة على إختيارها يقول جل وعلا : (وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) الكهف  ) وعن حرية البشر فى الايمان أو عدم الايمان بالقرآن الكريم ، يقول جل وعلا : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107):الاسراء  ) ، وعن حرية البشر فى الالحاد فى القرآن وعلم الرحمن بذلك وتهديده لهم بعذاب يوم القيامة يقول جل وعلا : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) فصلت  ) 

2 ـ لا تتحمل نفس وزر أخرى، ومصيرنا الى الله جل وعلا يوم القيامة ليحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون يقول جل وعلا : (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) فاطر )(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)الأنعام:194 ) (مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (15)  الاسراء ) (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) ( الزمر ) (أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) ) ( النجم )

3 ـ الهداية والضلال إختيار شخصى ، وكل فرد مسئول عن نفسه ، إن إهتدى فلنفسه وإن ضلّ فعلى نفسه : ( مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) الإسراء: 15 . ) ، و ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)الجاثية:15 ) ، ولذا فلا ظلم يوم القيامة : (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) فصلت:46 )  وكل نفس مؤاخذة بما كسبت بالحق كما خلق الله جل وعلا السماوات والأرض بالحق : (وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)الجاثية:22 ) والتكليف على قدر الطاقة والاستطاعة: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ  ) البقرة:286 ).  والكافر عليه كفره والمؤمن يمهّد لنفسه مستقرا فى الجنة : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ)الروم:44 ) لذا فإن من يشكر الله جل وعلا مؤمنا به خاشعا له إنما يفعل ذلك خيرا لنفسه وستلقى نفسه ثواب ذلك فى الجنة ونجاة من النار ، ومن يكفر فإنّ الله جل وعلا غنى عنه وعن العالمين:( وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) لقمان:12 )،( وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)النمل:40 ). وثواب الحج هو لمن أدّى المناسك متقيا ربه جل وعلا، وليس الله جل وعلا محتاجا لحجّه لأنه جل وعلا غنى عن العالمين:( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ (97) آل عمران ).

ولأنها مسئولية شخصية ذاتية فقد قال جل وعلا لبنى إسرائيل : (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا )الإسراء:7 )، وقال نفس المعنى للصحابة فى عصر الرسول عليه السلام : (هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ )محمد:38)(إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) الفتح:10 ).

ولأن الهداية اختيار شخصى ومسئولية شخصية فليست مسئولية النبى أن يهدى أحدا : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ )البقرة:272 ) ، بل لا يستطيع أن يهدى من يحبّ من الناس لأن الهداية مسئولية كل نفس ، فمن شاء الايمان والهدى شاء الله هدايته ، ومن شاء الضلالة شاء الله ضلاله:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)( القصص ).

ولأن الهداية اختيار شخصى ومسئولية شخصية فليس على النبى سوى التبليغ بقراءة القرآن:(وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنْ الْمُنذِرِينَ)النمل:92 ) ، وهو عليه السلام ليس وكيلا عن أحد (إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) الزمر) ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ)يونس:108 ) وليس حفيظا على أحد : (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)الأنعام:104 ).

4 ـ وتزكية النفس أيضا مسئولية شخصية .

خلق الله جل وعلا النفس البشرية وقد الهمها الفجور والتقوى، والفجور فيها مقدم على التقوى:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) الشمس) ، لذا يكون سهلا الاستسلام للشهوات والغرائز والفساد بينما يكون صعبا الاصلاح وإلزام النفس بالتقوى ، أو تزكيتها ، وكما قفال جل وعلا : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ). والفلاح هنا يعنى الدرجات العلا يوم القيامة : (   وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) طه ) .

وعملية التزكية هى إرادة ذاتية يتم بها تحكم الفرد فى نفسه وأن يلزمها بالتقوى إبتغاء مرضاة الله جل وعلا القائل عن المتقين المنفقين : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)البقرة :265 ) . الشاهد هنا قوله جل وعلا (ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ )،أى رغبة ذاتية وتثبيتا للنفس على أن تتطوّع بالانفاق فى سبيل الله . هنا نتحدث عن ( الأنا العليا ) أو الضمير اليقظ فى داخل كل إنسان الذى ينهى النفس عن الهوى:(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَىفَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)النازعات :40 )، وهو عكس الذى يكون عبدا لهواه وغرائزه ونزواته:( فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)  النازعات ).

وهناك وسائل كثيرة للتزكى ، أو السمو بالنفس حتى تكون متقية لله جل وعلا ، منها ذكر الله جل وعلا : (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)آل عمران:135 ) (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ) الأعراف :205 )،ومنها الصلاة :(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)(الأعلى). وأهمها الزكاة المالية حيث ترتبط (الزكاة) بالنفس والمال وبالتقوى، ونقرأ هذا موجزا فى قوله جل وعلا:( وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) الليل ).

التزكية بمحاربة شحّ النفس : وحتى يصل الانسان الى هذه الدرجة لا بد أن يتم شفاؤه من مرض الشّح . فالشح أصيل داخل النفس ، ولو تحكّم فى النفس فإنه يدمّر الحياة الزوجية : ( وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) النساء )، أى لا بد من مقاومة الشح بالاحسان والتقوى وبالعلم بأن الله جل وعلا يعلم ما نفعل وهو رقيب علينا فيما نفعل .

ولأن الشّح مرض داخل النفس فقد قال جل وعلا عن الأنصار الذين كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (9) الحشر ). ويقول يأمر بالتقوى والانفاق فى سبيل الله جل وعلا  عالم الغيب والشهادة: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) التغابن ). تعبير (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ )، أى الذى يقى نفسه من مرض الشح يفلح ، أى يفلح فى تزكية نفسه (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا )( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ).

والمتقى يعلم بأن الله جل وعلا يراه ، ويؤمن بأن الله جل وعلا قائم على كل نفس بما كسبت :(أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ )الرعد:33 )( يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ )الرعد:42)،)نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ (45) ق)، لذا فإن المؤمن يخشى ربه جل وعلا فى سرّه قبل علانيته، يخشاه فى خلوته أو يخشاه بالغيب: ( إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) الملك  ). أولئك هم المتقون : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنْ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (50) الأنبياء )، وهم من يقومون بتزكية أنفسهم ويحتاجون للوعظ المستمر حتى تستمر عملية التزكية والاصلاح :( إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) فاطر )( إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) يس ). هذه التزكية عملية ذاتية شخصية ، هى تعامل شديد الخصوصية بين الفرد وربّه جل وعلا ، بمحض إرادة المتقى دون فرض خارجى عليه من سلطة سياسية أو إجتماعية ، وبالتالى فلا مجال هنا لأن يقوم بها أو بوسائلها من الصلاة والحج شخص آخر .

5 ـ  وظلم الإنسان لنفسه عكس التزكية ، أى إن الانسان الضلال ولا يزكّى نفسه بعمل الصالحات والايمان الحق ولا يسمو بها هو الذى يظلم نفسه ، وليس الله جل وعلا ظالما له . وقد تكرّر هذا المعنى فى القرآن الكريم: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)يونس:44 ) (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ  )هود:101 )( وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)النحل:33 ) ( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)النحل:118 ).

ولأنّ التزكية عملية مستمرة لتنظيف النفس من شرورها ومواجهة وسوسة الشيطان فقد تحدث إنتكاسات ويقع الانسان فى خطأ وذنب ، أى يظلم نفسه بأن يتعدى حدود الله جل وعلا ، أو بالتعبير القرآنى : ( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ )الطلاق:1 ) ، أى إن الانسان قد يقع فى ظلم نفسه بكلمة يقولها مثل الرجل صاحب الجنتين الذى إغتر بهما فأنكر البعث :( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً  قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً (36)الكهف ) وقد يظلم الانسان نفسه بفعل خاطىء يرتكبه ، وكلنا بشر غير معصومين من الوقوع فى الخطأ ، ولكن المتّقى يبادر بالتوبة حين ( يظلم نفسه ) وهكذا فعل آدم وحوّاء بعد أن أكلا من الشجرة المحرمة : (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (23)( الأعراف )، وقالها موسى عليه السلام بعد ان تهوّر وقتل المصرى بلا تعمّد : (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ُ) القصص:16 )، وقالتها ملكة سبأ : ( قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) النمل:44 ). ووصف موسى قومه بأنهم ظلموا أنفسهم وطلب منهم التوبة : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ) البقرة: 54 ). فالناس قسمان ، بعضهم يظلم نفسه ثم يتوب ويستغفر ويستأنف تزكية نفسه ، والبعض الآخر يظل يرتكب المعاصى دون توبة : ( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً  وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) النساء:110 ، 111 )، ويسرى هذا على الجميع حتى من ذرية الأنبياء : (وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ)الصافات:113 ) أى منهم من كان ظالما لنفسه ومنهم من تاب وتزكّى ، ونفس الحال معنا ـ أى الذين ورثوا القرآن الرسالة الخاتمة ، منّا من يموت وهو ظالم لنفسه ، ومنّا السابق بالخيرات،ومنّا من توسّط وإقتصد : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)فاطر:32 ).

ويموت العاصى وقد ( ظلم نفسه ) وعند الاحتضار يحاول ـ دون جدوى ـ  الاعتذار : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)النحل:28 ). والعادة أن أكابر المجرمين فى كل مجتمع من الحكام المستبدين ورجال الدين الأرضى ( الكهنوت ) هم أظلم الناس ، وهم أظلم الناس لأنفسهم ، لأنهم يدفعون ثم الظلم ، ولأنهم حين يمكرون فإنهم يمكرون بأنفسهم ولا يشعرون ، وهى قاعدة قر’نية تنطبق فى كل مجتمع ، يقول جل وعلا : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)الأنعام:123 )، وهذا ما حدث للأمم السابقة التى ظلمت نفسها فأهلكهم الله جل وعلا ، وصاروا مثلا سيئا لمن جاء بعدهم:(سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ) الأعراف:177 ) ، وقد تنوعت طرق إهلاكهم ، وكان إهلاكهم بسبب ذنوبهم ، إذ ظلموا أنفسهم : (فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) العنكبوت:40 ).

وحتى ينجو الانسان من ( ظلم نفسه ، وحتى يتزكّى وينجو من الخلود فى النار فقد شرع الله جل وعلا العبادات وسيلة للتقوى وجعل منها الحج فرصة كبرى للتقوى ، وجعل الأشهر الحرم فرصة لمراجعة النفس والتوبة والامتناع عن ظلم النفس :( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ  )التوبة:35 ، 36 ).

6 ـ آلية المساءلة تنفى الاستنابة فى العبادة :

فكل ما تفعله النفس يتم تسجيله عن طريق الملائكة الحافظين الذين يحفظون العمل ، يقول جل وعلا عن تسجيل العمل لكل نفس بذاتها : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ)الطارق:4 )، وبالتالى تكون كل نفس فى الآخرة رهينة وأسيرة بما عملت فى الدنيا : (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)المدثر:38 ). ويوم الحساب لا تنفع شفاعات البشر لبعضهم، ولا ينوب بعضهم عن بعض ولا تنفع نفس نفسا : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)الإنفطار:19 )، ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ)البقرة  48) ، بل تأتى كل نفس تدافع عن نفسها : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)النحل:111 ) عندئذ لا تستطيع نفس بشرية ـ تقية أو عاصية ـ أن تتكلم إلا بإذن الرحمن:( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) هود:105 ) (رَبِّ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)( النبأ ).

يوم الحساب تأخذ كل نفس حقها بالعدل وفق عملها المسجّل لها او عليها ، وتكرّر هذا فى القرآن الكريم بصيغ مختلفة منها : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ)الزمر:70 )(لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)إبراهيم:51 ) (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)آل عمران:25 ). لذا يقول جل وعلا يحذّرنا مقدما (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)البقرة:281 ).

وبالتالى لا ظلم يوم الحساب فهو بميزان دقيق للأعمال :( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)الأنبياء )، وبهذا الميزان الدقيق لعمل كل نفس سيكون هناك نفس خاسرة ظلمت نفسها بأن تظل خالدة فى النار أبد الآبدين : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)المؤمنون:103 ). الخسارة فى الدنيا هيّنة لأن الدنيا نفسها زائلة ووقتية ، والأحوال تتقلب فيها بين ربح يأتى بعد خسارة وخسارة تأتى بعد ربح ، وفى النهاية يأتى الموت. أما الخسارة الحقيقية فهى للنفس ذاتها حين تقضى حياتها الأبدية فى جحيم خالد ، يقول جل وعلا عن هذه الخسارة الحقيقية لأصحاب الجحيم:( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)الزمر:15 )،( وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ)الشورى:45 ). والخاسرون فى النار نوعان حسب ظلمهم لأنفسهم ، فأكثرهم خسارة أو الأخسرون هم الذين يفترون على الله جل وعلا كذبا بأحاديثى وأقاويل وتشريعات ، ويشترون بآيات الله جل وعلا ثمنا قليلا ، ويستخدمون دين الله جل وعلا فى الوصول الى حطام الدنيا ، يقول جل وعلا عنهم وعن إفتراءتهم : (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ  (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمْ الأَخْسَرُونَ (22)هود:21 ).هذا هو مصير الوهابيين والاخوان والسلفيين وكافة رجال الدين الأرضى إذا ماتوا دون توبة . عندها تكون خسارتهم الحقيقية ، خسروا أنفسهم لأنهم ظلموا أنفسهم ، فالخسران هو عكس التزكية للنفس بالتقوى .

ويوم القيامة سيلقى من ظلم نفسه العذاب بعمله السىء الذى عمله بنفسه . اى سيتحول العمل الظالم الى عذاب لصاحبه، وهذا ما نفهمه من قوله جل وعلا : (الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)غافر:17 )، فالجزاء هو بنفس العمل السىء : (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)يس:54 )، ويشرح هذا قوله جل وعلا عن تعذيب من يكنز الأموال ولا ينفقها فى سبيل الله ، إذ تتحول هذه الأموال الى نار تكويه : (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35) التوبة  )( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)آل عمران ). هذا فيمن يبخل بماله .. فكيف بمن ينهب أموال الآخرين ويكتنزها لنفسه ؟ وكيف بمن ينهب موارد شعب بأكمله ويكتنزها لنفسه ؟ وكيف بمن يسرق موارد شعب بأكمله ويكتنزها لنفسه ثم يزعم أن ذلك هو الاسلام ؟ وكيف بمن يفرض ضريبة على حجاج بيت الله الحرام متحكّما فيهم وفى بيت الله الحرام ويكتنز الأموال السحت مما يأخذه من الحجاج ومعظمهم فقراء ؟ نتحدث عن الأسرة السعودية محور الشّر فى العالم ..ونبشرهم مقدما بالخسران العظيم طالما هم على هذا الشّر قائمون ..

إن الله جل وعلا قد أوجز فى سورة ( ق ) مراحل البشر بين الدنيا وألآخرة تأكيدا على المسئولية الفردية لكل نفس . فعن تسجيل عمل كل نفس يقول جل وعلا : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وعن الموت لكل نفس والذى تتحاشاه وتتناساه كل نفس : ( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وبعد موت الأنفس كلها يتم تدمير هذا العالم ويأتى اليوم الآخر ويكون البعث بعد إنفجار البعث ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20)وفى الحشر يرى كل منا ( رقيب وعتيد ) اللذين كانا يسجلان أعماله فى الدنيا ، وقد تحولا الى سائق وشهيد ، أحدهما يقبض عليه ويسوقه والآخر يشهد عليه ( وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لم يكن يراهما فى الدنيا وهى فى جسده الترابى ، ولكن فنى جسده الترابى وأصبح فى عالم جديد إنكشف فيه عنه الغطاء : ( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) ق ) . ويرى الخاسر الشيطان الذى كان يلازمه فى الدنيا مقترنا به يزين له الباطل حقا والحق باطلا ، ويتنازع مع قرينه الشيطانى  يتبرأ كل منهما من الأخر : ( وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27)، وردا على هذا التخاصم يأتى ردّ رب العزّة بأنه لا تبديل لحكم اله جل وعلا فمن دخل النار لن يخرج منها (قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) ، وبعد أن تمتلىء جهنم بأهلها يظل فيها متسع : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30). هذا هو مصير الذين ظلموا أنفسهم .  أما المتقون فتأتى لهم الجنة : ( وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) ويقال لهم ( هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)أى إن الجنّة تنتظر كل أوّاب تائب توّاب ، وسيدخلونها بسلام حيث كانوا فى الدنيا منحازين للسلام ومنقادين للرحمن . وتنتهى السورة بقوله جل وعلا لخاتم النبييّن : ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45). 

 

 

 

 

أنواع النفس البشرية  : ( النفس اللوامة ) و ( النفس الأمارة بالسوء )

 

أولا : البداية : الفطرة وحرية النفس البشرية

1 ـ أخذ الله جل وعلا العهد على الأنفس فى عالم البرزخ حين خلقها على أنه ( لا إله إلا الله ) ، قال جل وعلا : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ ﴿١٧٢﴾ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ﴿١٧٣﴾  وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ )الأعراف:172 ). معنى هذا أنه جل وعلا خلق الأنفس البشرية حُرّة فى مشيئة الطاعة أو مشيئة المعصية ، ثم ينتظرها يوم الدين للحساب. وأيضا فإن هذه هى الفطرة التى فطر الله جل وعلا الناس عليها ، والتى لا يمكن تبديلها ولكن يمكن تغييبها ، قال جل وعلا (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّـهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٣٠﴾  الروم ). تغيب بسيطرة عوامل الشر ولكن عندما يتعرض الانسان لخطر يهدد حياته تستيقظ هذه الفطرة فى داخله فيستغيث بربه جل وعلا. وحتى فى تغييب هذه الفطرة فإن ظلا لها يبقى موجودا وهو ( الأنا العليا ) أو ( الضمير ) .

ثانيا : الأنا العليا فى النفس هى اللوامة

1 ـ فى ثقافتنا نطلق مصطلح ( الضمير ) أو ( الأنا العليا ) على الجانب الخيّر فى النفس .

2 ـ رب العزة أوضح هذا فى كتابه العزيز ، قال جل وعلا عن خلق النفس البشرية : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿٧﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿٨﴾ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴿٩﴾ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴿١٠﴾ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( 7 ) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) الشمس ) ، فالنفس البشرية قد أُلهمت الفجور والتقوى ، ولكن هناك فيها إرادة للرقى والتزكية والتطهير ، قال جل وعلا : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) الشمس ). الذى يعطّل هذه الخاصّية فى نفسه يكون خاسرا ، قال جل وعلا : ( وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)  الشمس  )

3 ـ وقالتها إمرأة العزيز بعد أن إستيقظت فيها الفطرة الخيّرة فإعترفت بذنبها علنا وقالت : ( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚإِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿٥٣﴾ يوسف )

4 ـ ويوم القيامة سيفلح هذا الذى نمّى فى نفسه عامل الخير ونهى نفسه عن هواها فتتكون بالتقوى فى داخله ( النفس اللوامة ) التى تلوم صاحيها إذا فعل شرا أو فكر فى فعل الشّر.  قال جل وعلا عن الخاسر: (فَأَمَّا مَن طَغَىٰ ﴿٣٧﴾ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴿٣٨﴾ فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ ﴿٣٩﴾ النازعات ) وقال جل وعلا عمّن سيدخل الجنة ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ﴿٤٠﴾ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ ﴿٤١﴾ النازعات ).

5 ـ  هى النفس اللوامة . قال جل وعلا : (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)القيامة:2 ). يوم القيامة ستفوز النفس اللوامة وتكون هى النفس المطمئنة ، قال جل وعلا : (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴿٢٧﴾ ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ﴿٢٨﴾ فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ﴿٢٩﴾ وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴿٣٠﴾ الفجر  )

ثالثا :  النفس الأمّارة بالسوء التى تسول بالشر :

هذه النفس البشرية هى ( الأمّارة بالسوء ) أو التى تدمن الأمر بالسوء.

1 ـ بدأ هذا فى أول حرب عالمية فى تاريخ البشرية بين إبنى آدم حين قتل الأخ شقيقه مرتكبا أول جريمة قتل . فى جريمة القتل هذه يقول جل وعلا عن القاتل : (  فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ ) ﴿٣٠﴾ يوسف ). نفسه هى التى طوعت له قتل أخيه فقتله، ( طوّعت ) أى بررت وإستحلّت . والسبب هو ( الحسد ) وهذا الحسد مبعثه ( الأنانية ) أو ( شُحُّ ) النفس .

2 ـ وفى قصة يوسف نرى حسد وحقد أُخوة يوسف عليه وعلى أخيه وقولهم : ( لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿٨﴾ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ﴿٩﴾ يوسف )، جاء التبرير بأنهم بعد جريمتهم سيتوبون ويكونون صالحين . بعدئذ قال جل وعلا :( وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ۚ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّـهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ﴿١٨﴾ يوسف ). قال لهم أبوهم ( بل سولت لكم أنفسكم أمرا ) ، وتكرر هذا القول منه لهم : ( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖفَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّـهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴿٨٣﴾ يوسف ) . هنا النفس الأمارة بالسوء هى تسوّل الأمر ، تبرره وتستحله وتسوّغه.

3 ـ وهو نفس ما برّر به السامرى فعلته فى عبادة العجل : ( قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ﴿٩٥﴾ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ﴿٩٦﴾ طه )

رابعا : النفس الأمارة بالسوء هى التى يغلبها ( الشُّح ) أو الأنانية  

1 ـ الجانب الشرير فى النفس يتركز فى ( الأنانية ) أو بالمصطلح القرآنى ( الشُّح ) .

2 ـ هو مرض قال عنه جل وعلا:( فَاتَّقُوا اللَّـهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿١٦﴾ التغابن)، الإنفاق فى سبيل الرحمن جل وعلا علاج يتحدى به المؤمن شّح نفسه ، خصوصا إذا أنفق فى سبيل الله وهو فقير محتاج ، وتلك درجة عالية من الايمان حازها بعض الأنصار الفقراء فى المدينة الذين كانوا يؤثرون الفقراء المهاجرين على أنفسهم، قال جل وعلا فيهم :( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿٩﴾ الحشر ).

3 ـ الذى يهمنا هو تعبير (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ ) يوقى من الوقاية أى إن الشح مرض نفسى خطير. وبسبب هذا الشح أو تلك الأنانية تحدث المتاعب والمآسى فى العالم ، وحتى بين الزوجين ، قال جل وعلا :  (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا ۚ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ۗ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ ۚ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّـهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴿١٢٨﴾ النساء ) وقوله جل وعلا ( وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ ) يعنى أن ( الشُّح ) أصيل فى النفس لأنه الناحية الشريرة فى النفس البشرية ، والعلاج هو الإحسان والتقوى . من هنا يأتى الوعظ للأنا العليا .

خامسا : الوعظ للأنا العليا للكافرين

1 ـ الأساس هنا أن الفطرة لا يمكن إقتلاعها من النفس البشرية، ولذا لا يخلو الانسان من الخير مهما بلغ طغيانه . وفى داخل النفس البشرية يعلم الانسان بالفطرة الخير من الشّر مهما تعلل وقام بالتبرير. لو تكلم مع نفسه وسألها: هل يرضى لنفسه هذا الظلم الذى يفعله بالأخرين ؟ .   قال جل وعلا : ( بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ﴿١٤﴾ وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ ﴿١٥﴾ القيامة ). الأنا العليا لا يمكن محوها حتى داخل النفس الكافرة ، قد يمكن تغييبها ولكن لا يمكن محوها لأنها الفطرة .

2 ـ من هنا فإن الوعظ يتوجه الى هذا الجانب الطيّب الخيّر من الانسان . ولهذا وعظ رب العزة الكافرين من قريش الى أن يقوموا لربهم جل وعلا قومة حق ويتفكروا هل ( محمد ) الذى عايشوه صادقا أمينا مستقيما هل ينقلب كاذبا بمجرد أن يعظهم بالقرآن ، قال جل وعلا : (   قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّـهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ۚإِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴿٤٦﴾ سبأ )

3 ـ وقال جل وعلا عن الكافرين ( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى ) الروم 8 ) 

4 ـ وقال جل وعلا عن المنافقين : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً  ) النساء 65 ) . المقياس أن ألا تتحرج نفوسهم من قضاء الرسول وأن يسلموا تسليما وإيمانا. 

سادسا : الوعظ للانا العليا للنبى محمد عليه السلام 

 قال له ربه جل وعلا :

1 : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴿٢٨﴾ الكهف:28 ). تعبير : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ  ) بالغ الدلالة فى أن تضغط الأنا العليا على ( الأنانية السفلى  فى نفسه البشرية ) .

 2 : ويقول جل وعلا للنبى ولنا أيضا عن تشريع الذكر للرحمن جل وعلا : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ)الأعراف:205 ). التضرع لرب العزة جل وعلا لا يكون تصنعا ولا تمثيلا بل هو إخلاص فى الدعاء لا يتأتى إلا بالأنا العليا من النفس البشرية.

سابعا : الوعظ للأنا العليا للمؤمنين

الآيات كثيرة نكتفى منها بقوله جل وعلا :

1 ـ (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)البقرة:265 ) ( تثبيا من أنفسهم ) يعنى الأنا العليا التى تبتغى وجه الله جل وعلا وهى تقدم الصدقة.

2 ـ  (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) البقرة:228). أى تنتظر المطلقة ثلاث حيضات لتتأكد من براءة الرحم. وهى تفعل ذلك لا بد أن تتقى الله جل وعلا وتنزع عنها ( الأنانية ) والنفس الأمارة بالسوء .

3 ـ  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ) النساء:135 ). ( شهداء لله ) أى إقامة الشهادة إبتغاء مرضاة الله حتى لو كانت ضررا على النفس أو الأقارب.

4 ـ كل أوامر التقوى تخاطب هذا الجانب الخيّر من النفس البشرية ، ومنه قوله جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ   (  18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ)( 19) الحشر )

5 ـ وقد تكرر فى القرآن الكريم أن رب العزة جل وعلا لا يكلف النفس إلا فى حدود طاقتها ووسعها ، قال جل وعلا :( لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ) البقرة 233 ) ((وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا  )المؤمنون:62 )(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ )البقرة:286 )( لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا  )الأنعام:  152 )( لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا  )الأعراف:42 )(فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ  )النساء:84 )( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا  )الطلاق:7 ).

6 ـ الذى يهمنا هنا أن تقدير ما تستطيعه النفس مرجعه للنفس ، ليس للجانب الأنانى الشرير فيها ولكن للأنا العليا أو للفطرة التى تتقى الله جل وعلا وتخشى يوم الحساب حيث يؤتى بها أمام رب العزة الذى يعلم حقيقة ما كانت النفس تستطيعه وما لم تكن تستطيعه. وهذه النفس الطيبة تؤمن بقوله جل وعلا : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ )البقرة:235: )

ثامنا :  عمليا : النتيجة : نوعان من الأنفس : النفس الطيبة والنفس الشريرة

1 ـ فى مجال الدعوة : فى كل مجتمع يوجد :

1 / 1 : دُعاة للفساد منافقون يتظاهرون بالتقوى، قال عنهم جل وعلا: (  وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّـهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴿٢٠٤﴾ وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّـهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴿٢٠٥﴾ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّـهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ۚ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ ۚ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴿٢٠٦﴾ البقرة )

1 / 2 : دُعاة للإصلاح يبيعون أنفسهم لرب العزة جل وعلا يبتغون رضواه ، قال جل وعلا :( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّـهِ ۗ وَاللَّـهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴿٢٠٧﴾ البقرة )

 2 ـ فى مجال الجهاد والتضحية بالنفس والمال : أهم ما يحرص عليه الانسان نفسه ( حياته ) وماله. المؤمن يضحى بهما فى سبيل الرحمن جل وعلا. والكمنافقون فى عهد النبى كانوا يرفضون هذا . قال جل وعلا :

2 / 1 : ( لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَّاتَّبَعُوكَ وَلَـٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ۚوَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّـهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴿٤٢﴾ التوبة ) (  لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۗوَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴿٤٤﴾ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴿٤٥﴾  التوبة ) ( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّـهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ﴿٨١﴾ التوبة )

2 / 2 : ( لَـٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ وَأُولَـٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿٨٨﴾ التوبة )  (  الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّـهِ ۚ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴿٢٠﴾ التوبة ).

أخيرا:

العهد الذى أخذه الله جل وعلا على الأنفس البشرية فى عالم البرزخ سيأتى التذكير به للأنفس الخاسرة سقول لهم رب العزة جل وعلا : ( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴿٦٠﴾ وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚهَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ ﴿٦١﴾ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا ۖأَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ﴿٦٢﴾ هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴿٦٣﴾ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴿٦٤﴾ يس ).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات الفصل الثانى عن ( مرادفات النفس )

النفس هى الفؤاد

مقدمة :

للقرآن الكريم مصطلحاته الخاصة التى يمكن ان نتعرف عليها من خلال السياق القرآنى نفسه وليس من خلال اللغة العربية وقواميسها ، فاللغة العربية ـ تلك العجوز المتصابية كما توقفنا معها فى مقال سبق ـ أقدم اللغات الحية التى لا تزال مستعملة منذ انفصالها عن الآرامية من حوالى ألفى عام ، وظلت لغة محلية الى أن دخلت بالاسلام والقرآن عصر العالمية والحضارة والتطور فتوسعت وتضخمت واكتسحت لغات أخرى ، واستمرت ولكن مع التغير الداخلى ، ونقصد به اختلاف مفاهيم الألفاظ من عصر الى عصر ومن مكان الى مكان بالاضافة الى انقسامها بين لغة عربية فصحى كلاسيكية للقراءة و الكتابة توجد جنبا الى جنب مع عشرات اللهجات المستخدمة فى الحديث والتعامل اليومى فيما اصبح اسمه (العالم العربى ) فقط لأنه يتكلم باللغة العربية .

قواميس اللغة العربية رصدت هذا الاختلاف الداخلى للالفاظ العربية ، كل منها ترصده فى عصرها ، بحيث يستطيع الباحث بحث تطور اللغة العربية بمقارتة تلك القواميس عبر الأزمنة المختلفة ويرى كيف ماتت آلاف الألفاظ ولم تعد مستعملة بينما استحدثت ألفاظ جديدة ، واكتسبت الفاظ معانى مختلفة أو متداخلة .

ثم تأتى المحنة الكبرى بظهور طوائف ومذاهب فى تاريخ المسلمين من سنة وشيعة و صوفية بالاضافة الى علوم لغوية كالنحو والصرف وعلوم ثيولوجية تعبر عن مدارس فكرية وفلسفية ، وكل من هذه المذاهب والطوائف والمدارس قام بنحت مصطلحات خاصة بها تختلف عن مصطلحات الآخرين ، وبالتالى تختلف كلها عن مصطلحات ومفاهيم القرآن الكريم.

من هنا يقف القرآن الكريم وحده متفردا فى لغته العربية ومصطلحاتها ، ومتفردا بعدم خضوعه للقواعد النحوية التى اخترعها علماء النحو واختلفوا فيها من أبى الأسود الدؤلى الى الخليل بن أحمد الى علماء مدرستى النحو فى الكوفة والبصرة .

من هنا أيضا لا يمكن أن تفهم القرآن إلا من داخل القرآن .

ومن هنا أيضا فمن يريد الاضلال والتلاعب بالقرآن يدخل على القرآن بمفاهيم ومصطلحات التراث وقواميسه يريد إخضاع القرآن لها فيقع فى التناقض والانتقاء ، وهكذا فعلوا ولا يزالون يفعلون تحت شعار ( القرآن حمّال أوجه ).

ناقشنا هذا كثيرا ، ونضطر للتذكير به للتأكيد على أن منهجنا فى فهم القرآن الكريم هو بمعرفة مصطلحاته من داخله وتتبع كل الايات الخاصة بالموضوع المراد بحثة فى سياقها العام والخاص ، والآيات التى تقترب من نفس الموضوع ، ثم بحثها كلها بدون رأى مسبق مع الاستعداد التام للتضحية بكل فكر متواترث إذا ظهر تعارضه مع ما يصل اليه بحثنا الموضوعى فى القرآن الكريم .

طريقة البحث هذه هى نفس الطريقة الموضوعية فى بحث أى كتاب تراثى ،أو أى موضوع فى العلوم الانسانية ، هى التجرد والموضوعية وتحديد مفاهيم ومصطلحات الكتاب المبحوث من داخله وليس من مصادر خارجية.

ونبدأ بتحديد مصطلح ( الفؤاد / الأفئدة ) بإعتبارها مرادفا لمصلح ( النفس )

أولا : الفؤاد بمعنى النفس التى تعى وتدرك :

1 ـ  قال الخالق جل وعلا :( وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ ) ( السجدة  9 ). هنا إرتباط تكرر بين السمع والبصر وبين الفؤاد ، نفهم منه أن الفؤاد يعنى النفس التى تعى وتدرك . العطف بالواو هنا للبيان والتوضيح . أى إن السمع والبصر هما فى داخل النفس وليسا الأذنين والعينين فى الجسد . وهما اللذان يسيطرن على الأذنين والعينين فى الجسد.

2 ـ فى ذرية آدم يتم نفخ النفس فى الجنين ، ويولد طفلا حيا بالنفس التى تحتل جسده  يصرخ ويتحرك بذراعيه وساقية ويتبول ويتبرز ولكن نفسه لا تعرف كيف تنظر بالعينين ولا كيف تميز بين الأصوات . ثم يستيقظ الفؤاد بتكوين سمع داخلى فى النفس وبصر داخلى فيها ، فيقوم  جهاز السمع فى النفس بتوجيه الأذنين فى الجسد ويقوم جهاز البصر فى النفس بتوجيه العينين فى الجسد ، فيحرك عينيه ويسمع مستجيبا لمن حوله ، ويتعرف على الأشياء ويستجيب لها ، النفس بفؤادها ( جهازى السمع والبصر فيها ) هى التى تبدأ فى الإدراك والاحساس بما حولها. هذا الفؤاد هو الذى يوجه العينين لترى ما يريد ، وهو الذى ينصت الى صوت الأم وغيرها ، ويبدا فى تمييز الأصوات وتتنوع لديه الأحاسيس. أى يولد الطفل لا يعى شيئا ونفسه داخل جسده ، ثم توصف النفس بالفؤاد بعد أن تسمع وترى وتحس وتدرك المجال المحيط بها . ثم يكبر الطفل ويصل الى مرحلة البلوغ التكليف والمسئولية ويتعاظم لدي نفسه الإدراك ، أو تتعاظم قدرة الفؤاد فى نفسه ، هنا مطلوب منها أن تؤمن وأن تشكر .

قال جل وعلا : ( وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا ) هذا عن مولد الطفل قبل أن يتكون فى نفسه ملكة الفؤاد وجهازا السمع والبصر فيها . بعدها قال جل وعلا : ( وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ ) أى إن جعل جهازى السمع والبصر فى النفس يأتى تاليا بعد ولادة الانسان لا يعلم شيئا. وعندما نبلغ مرحلة التكليف يكون مطلوبا منا أن نشكر ، قال جل وعلا بعدها :( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)( النحل 78 ).

وقال جل وعلا عن إنشاء جهازى السمع والبصر ( الفؤاد ) داخل النفس : ( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ ) (المؤمنون 78 )، وقال جل وعلا عن ( جعل ) السمع والأبصار والأفئدة : ( قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ) ( الملك 23 ). ( الجعل ) يأتى تاليا للخلق ، كقوله جل وعلا (الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) ﴿١﴾ الانعام  ). وفى موضوعنا كان خلق المولود ثم جعل وإنشاء جهازى السمع والبصر فى نفسه ، أى جعل الفؤاد فى نفسه فتصبح قادرة على الادراك ، وعلى  إختيارالهداية أو الضلالة.

3 ـ حين لا يشكر الانسان نعم ربه جل وعلا عليه فالمعنى أن فؤاده ما أغنى عنه من شىء ، قال جل وعلا عن الأمم السابقة التى أهلكها : ( وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون) (الأحقاف 26 ). بالضلال تعطل جهازا السمع والبصر فى داخل النفس .

4 ـ هذا لأن شياطين الانس والجن يخترعون وحيا شيطانيا بأحاديث ينسبونها كذبا للوحى الالهى يصرفون بها الناس عن الوحى الالهى الحقيقى الذى نزل فى كتابا على كل نبى ، وخاتمتها القرآن الكريم ، قال جل وعلا ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴿١١٢﴾  الانعام ) هذا الوحى الشيطانى المزخرف يستحوذ على إدراك الذين لا يؤمنون بالآخرة ، ويرتضونه لأنه يقرن الإضلال بأمانى الشفاعات مشجعا على إقتراف الجرائم والكبائر ، قال جل وعلا فى الآية التالية :( وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ﴿١١٣﴾ الانعام ). ( أفئدة ) الذين لا يؤمنون بالآخرى تصغى اليه بأسماعها ، وهنا صلة السمع بالفؤاد .

5 ـ وحين يضلُّ جهازا السمع والبصر فى الفؤاد يؤثر على سمع الانسان وبصره . بصره المادى يرى وسمعه المادى يسمع ولكن الفؤاد ( جهاز الاستقبال بالسمع والبصر ) يصادر ما تسمع الأذنان وما ترى العينان ، وبالتالى تدعو الكافر تتلو عليه الآيات فيسمعها بأذنيه دون أن يعيها فؤاده ، وينظر اليك دون أن يبصرك بفؤاده ، قال جل وعلا : ( وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا ۖ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴿١٩٨﴾ الاعراف ) وتكرر نفس المعنى فى قوله جل وعلا : ( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖبَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴿٤٤﴾ الفرقان ) ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَـٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴿١٧٩﴾ الاعراف ). ولذا كان وعظ الكافرين بالايمان القائم على تعقل القلب والإدراك أى الفؤاد ، وبدون ذلك فهم فى عمى يعمهون ، قال جل وعلا : ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴿٤٦﴾ الحج ) . فى المقابل فإن المؤمنين هم الذين يكون إدراكهم النفسى أو ( الفؤاد ) يجعلهم يسمعون ويستجيبون ، أما الآخرون فهم كالموتى بلا إحساس فى النفس والفؤاد ، قال جل وعلا : ( إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ و الْمَوْتَىٰ يَبْعَثُهُمُ اللَّـهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴿٣٦﴾ الانعام )

6 ـ يكون الانسان مسئولا عما سمع وعما راى وعما شعر ت به نفسه وأدركته ووعيته ، قال جل وعلا :  ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴿٣٦﴾ الاسراء ). ويوم القيامة تكون أفئدتهم بلا خير فيها ، أو بالتعبير القرآنى عن الكافرين يوم الدين : ( مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ۖ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ﴿٤٣﴾ ابراهيم ). وفى الجحيم تطّلع النار للافئدة ، قال جل وعلا : (  نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ  ) ( الهمزة 6 : 7 ).

  ثانيا : الفؤاد بمعنى القلب :

القلب فى المصطلح القرآنى هو النفس . وسيأتى تفصيل ذلك . لذا يأتى ( الفؤاد ) أيضا بمعنى القلب ، فالقلب والفؤاد مرادفات للنفس . ويأتى ( الفؤاد / الأفئدة ) بمعنى القلب فى قوله جل وعلا :

1 ـ ( رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) ابراهيم 37 ). فاجعل أفئدة من الناس أى قلوب الناس .

2 ـ ( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ) فؤاد أم موسى هو قلبها ، قال جل وعلا بعدها : ( لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (القصص 10 ).

3 ـ نزل الوحى القرآنى على قلب النبى محمد عليه السلام ، قال جل وعلا : (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٩٢﴾ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴿١٩٣﴾ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ ﴿١٩٤﴾ الشعراء ) ( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) ( البقرة 97). وفى موضع آخر يوصف قلب النبى بالفؤاد ، فى قوله جل وعلا : (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ )(هود 120 )، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا) (الفرقان 32 ).

4 ـ ونزل القرآن الكريم مرة واحدة كتابا فى قلب النبى فى ليلة القدر من شهر رمضان ، وفيها رأى النبى جبريل على حقيقته وليس متجسدا بشرا كما حدث حين جاء لمريم . لا يمكن للنبى بجسده المادى أن  يرى الملائكة وهو حي يسعى ، وهذا شأن البشر جميعا . لهذا فإن النبى لم ير جبريل بعينيه بل بالفؤاد ، أى بجهاز الرؤية فى النفس وبجهاز السمع فيها.   وبفؤاده رأى البرزخ وفيه جبريل ، قال جل وعلا : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ﴿٤﴾ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ ﴿٥﴾ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ ﴿٦﴾ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ ﴿٧﴾ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ ﴿٨﴾ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ ﴿٩﴾ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ ﴿١٠﴾ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ ﴿١١﴾ النجم   ) . فى وقت تعطلت فيه عيناه فما زاع بصره المادى وما طغى . وبفؤاده رأى البرزخ وفيه جبريل ، قال جل وعلا : (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ ﴿١٧﴾ لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ ﴿١٨﴾( النجم )

 

 

النفس والصدر

 أولا :النفس هى ذات الصدور .

1 ـ الصدر هو ذلك الجزء العلوى الأمامى من الجسم حسب المعنى الشائع لغويا وشعبيا وطبيا . ولكن المعنى الأصل فى (الصدر ) هو ما يتصدر ويظهر ، أى هو الجسد المادى الذى يتصدر وتراه العيون،  أما ما بداخله فهو النفس التى تخفى عن الرائين ولا تراها العيون .

2ـ  النفس بالنسبة للجسد أى ( الصدر ) كالسائق غير المرئى داخل السيارة التى هى مجرد هيكل أو جسد أو صدر مرئى .  بدون السائق تكون السيارة مجرد جسد ظاهر متصدر بلا حياة فيه ، فإذا ركبها السائق تحولت الى كائن حىّ يسير ويضىء ويصرخ بصوته ويناور ويصعد ويهبط ويرتكب الحوادث جهلا أو عمدا ـ يطيع القانون وإشارات المرور أو يضرب بها عرض الحائط فالسائق هو الكائن الحى العاقل أو المجرم داخل السيارة . النفس هى ذلك السائق ، هى صاحبة هذه السيارة أو ذلك الجسد أو ذلك الصدر المتصدر . النفس هى ( صاحبة الصدر) ، أو بالتعبير القرآنى هى ( ذات الصدور ).!

2 ـ وهذا التعبير( ذات الصدور ) يحمل فى طياته أن النفس مختبئة داخل ذلك الصدر أو ذلك الجسد ، تملكه وتتحكم فيه ، ومن خلاله تتواصل مع العالم الخارجى ، تستعمل جسدها فى العمل الصالح أو العمل الشرير .

3 ـ ولأن الواجهة التى تتصدر وتكون مرئية هى الجسد أو الصدر فإننا ننشغل بالواجهة المادية التى تنتمى الى عالمنا المادى وننسى صاحبها ومالكها ـ أى النفس التى تنتمى الى عالم مختلف هو البرزخ ، اى نتذكر السيارة وننسى السائق المالك لها المحرك لها المتحكم فيها . وحين تترك النفس ذلك الجسد أو ذلك الصدر المتصدر فاننا نحسب ذلك الجسد الميت أو الهيكل المحطم هو السائق نفسه ، فيكون تركيزنا عليه ، نتخيله معذبا فى القبر ضحية للثعبان الأقرع أو الثعبان الأصلع ، أو منعما فى روضات الجنة ، وماهى ( جنّة ) بفتح الجيم ولكنها ( جنّة ) بضم الجيم ، أى جنون ، والجنون من السمات الأصيلة للديانات الأرضية.

4 ـ النفس وهى (ذات ) أى صاحبة ومالكة ( الصدر ) هى غيب لا نراه عكس الصدر المرئى ، هى غيب (عام) عنا لا نراه لأنها  تنتمى الى عالم البرزخ المستحيل رؤيته فى عالمنا المادى . وهى أيضا غيب (خاص ) لأن لكل نفس خزانة أسرارها الخاصة بها ، هى ( السريرة )، فلا تعلم نفس سريرة النفس الأخرى .

5 ـ رب العزة جل وعلا وحده هو الذى يعلم سريرة كل نفس بشرية ، يقول جل وعلا:( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) ( غافر 19 ).  ( الصدور ) هى تلك الأجسام المتصدرة ، وهى فى ظهورها تخفى داخلها الكائن المتخفى داخلها ، وهو النفس . ولكن الله جل وعلا هو الذى يعلم النفس المخفية داخل ذلك الصدر ، بل ويعلم تقلباتها ومشاعرها وهى تتواصل مع العالم من خلال حاسة العين ، حين تنظر بخيانة أو بعفوية وبراءة.

6 ـ علم الله جل وعلا بما تخفيه النفوس أو ذات الصدور :

ولأن النفس هى ذات الصدور أو صاحبة ومالكة الأجساد فإن السياق القرآنى فى الحديث عن علمه جل وعلا بغيب النفوس والسرائر يستخدم تعبير ( النفس ) وتعبير ( ذات الصدور ) . أى هو جل وعلا يعلم ما تخفيه الأنفس أو يعلم ما تخفيه ذات الصدور. ونعطى أمثلة :

6/ 1 : عن علمه جل وعلا بما تخفيه النفوس يقول جل وعلا : ( رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ)( الاسراء 25 ) وهنا حكم عام ، فهو جل وعلا الأعلم بما فى داخل أنفسنا من أسرار ،او يعلم ( سرائرنا ) .

وهذا العلم يبدأ مذ كان الواحد منا جنينا فى بطن أمه : ( هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) ( النجم 32 ).

وليس هذا العلم بالغيب متاحا لأى نبى ، لذا أمر الله جل وعلا النبى نوحا عليه السلام أن يعلن ذلك لقومه فى الرد عليهم :( وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ )( هود 31 ) .

وهو جل وعلا يستخدم هذا العلم فى حساب كل نفس يوم الحساب : (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ) ( الزمر 70 ).

6/ 2 : يقول جل وعلا فى مبدأ عام عن علمه بالغيوب ومنها غيب النفوس أو ذات الصدور :(إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) ( فاطر 38 ) .

ويتكرر هذا فى قوله تعالى : (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ  ) ( الحديد:  5 : 6 )، أى يربط ملكه بالسماوات والارض بعلمه بذات الصدور.

وفى موضع آخر يربط رب العزة بين خلقه السماوات والأرض والبشر وعلمه بما خلق وعلمه بذوات الصدور ـ اى النفس البشرية : (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)( التغابن 3  : 4 ).

6 / 3 : ومن واقع علمه جل وعلا بذات الصدور يستوى أن يجهر بعضنا بالقول أو أن يهمس به : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ  ) ( الملك 13 )، ومن واقع علمه جل وعلا بذات الصدور سيخبرنا يوم القيامة بما كنا نفعله فى حياتنا الدنيا ( ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( الزمر 7 ).

ومن واقع علمه جل وعلا بالأنفس ذات الصدور يفضح مزاعم ضعاف الايمان والمنافقين فى كل زمان ومكان ، فيقول جل وعلا  مؤكدا حقيقة بشرية :( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ )( العنكبوت 10 : 11 ).فالذى فى صدور العالمين يعنى ما فى انفسهم وسرائرهم .

ومن واقع علمه جل وعلا بالأنفس ذات الصدور يقول عن كراهية  مشركى قريش للقرآن الكريم:(أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ  ) ( هود 5 )

وعن علم الله جل وعلا بذات الصدور أى بالنفوس ، يقول جل وعلا عن المنافقين وسرائرهم حين كانوا يخادعون المؤمنين:(هَاأَنتُمْ أُولاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )( آل عمران 119 )

ويقول عن علمه بما فى انفس المؤمنين حين أخذ عليهم العهد والميثاق :(وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( المائدة 7 )

ويقول عن علمه بما فى انفس المسلمين فى معركة بدر :(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)(الأنفال 43 )

ويقول عمن كان يرتد الى الكفر من الصحابة :(وَمَن كَفَرَ فَلا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) ( لقمان 23 )

 

تكملة

 ( صدر ) يأتى فعلا ( صدر الأمر بكذا ) أى  (ظهر ) أو ( تقدم و أتى ) أو ( تصدر ) ومنه ( تصدرت الأنباء اليوم موضوع كذا )، و ( أتت الأخبار بكذا  )  وعليه فإن الإسم ( صدر ) فيما يخص الانسان هو جسده الذى يتصدر ويكون ظاهرا . وإذا كان الانسان ( نفس ) فى الأساس وجسده هو مجرد ثوب فإن مصطلح ( الصدر ) عن الانسان يعبر أحيانا عن الانسان نفسا وجسدا ، ويعنى أحيانا النفس التى تملك الجسد . ونعطى تفصيلا .

أولا : ( يصدر ) من الفعل ( صدر ) عن الصدر والصدور المادى

1 ـ قال جل وعلا عن موسى عليه السلام : ( وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ﴿٢٣﴾ القصص ) . والمعنى أنهما لن يتمكنا من السقى حتى يظهر لهما أن الرعاة صدروا عن البئر .

2 ـ قال جل وعلا عن يوم الحشر: ( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ﴿٦﴾ الزلزلة )  ( يصدر ) بمعنى ظهورهم آتين أو قادمين اشتاتا ومجموعات.

ثانيا : النفس هى ذات الصدور

النفس هى الكائن البرزخى غير المرئى الذى يتحكم فى الجسد الظاهر الذى يتصدر واضحا مرئيا . من هنا توصف النفس بأنها صاحبة الصدور أو ( ذات الصدور )

1 ــ فى سياق أنه جل وعلا يعلم خطرات الأنفس وسرائرها . قال جل وعلا عن نفوس البشر عموما :

1 / 1 : ( إِنَّ اللَّـهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿٣٨﴾ فاطر )

1 / 2  ـ ( وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿٦﴾ الحديد )

1 / 3 ـ ( يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ۚوَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿٤﴾ التغابن )

1 / 4  ـ ( وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ۖ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿١٣﴾ الملك )

2 ـ المنافقون برعوا إخفاء ما فى نفوسهم ، وعنهم قال جل وعلا : ( هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ﴿١١٩﴾ آل عمران ) : النفوس ( ذات الصدور ) هى التى تحب وهى التى تبغض. والله جل وعلا وحده الذى يعلم بمشاعرها حتى لو أخفاها المنافقون.

3 ـ عن الكافرين قال جل وعلا :

3 / 1 ـ ( أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ۚ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿٥﴾ هود ). يخفون وجوههم ، ولكن الله جل وعلا يعلم ما تخفيه ( ذات صدورهم )

3 / 2  ـ ويوم الحساب ستنفضح ما فى ( ذات الصدور ) . قال جل وعلا :

3 / 2 / 1 : ( وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ ۚ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴿٢٣﴾ لقمان )

3 / 2 / 2 : ( إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّـهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۗوَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿٧﴾ الزمر )

4 ـ عن المؤمنين قال جل وعلا :

4 / 1 : ( وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖوَاتَّقُوا اللَّـهَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿٧﴾ المائدة ) . مدى سمعهم وطاعتهم أمر غيبى يوجد فى سرائر نفوسهم أو ( ذات صدورهم ) ولا يعلمه إلا الذى يعلم السّر وأخفى.

4 / 2ـ ( إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّـهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا ۖ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ سَلَّمَ ۗ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴿٤٣﴾ الانفال ). هذا عن موقعة ( بدر ) والله جل وعلا هو وحده الذى يعلم ما فى أنفسهم أو (ذات صدورهم ) .

5 ـ مصطلح ( القلب ) فى القرآن الكريم ليس العضلة التى تضُخُّ الدماء فى شرايين الجسد ، بل هو ( النفس ). وبالتالى يأتى مصطلح ( القلب ) مرادفا للنفس ( ذات الصدور) . قال جل وعلا : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّـهِ كَذِبًا ۖ فَإِن يَشَإِ اللَّـهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ ۗ وَيَمْحُ اللَّـهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ۚ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿٢٤﴾ الشورى ). ( القلب ) أى النفس ( ذات الصدور ). الحديث هنا عن (قلب النبى ) أى ( نفس ) النبى )

الصدر بمعنى النفس :

نحن نرى أكابر المجرمين من المستبدين ، ونرى المجرمين العاديين من رءوس العصابات والقتلة . نرى وجوههم وأجسادهم التى ( تتصدر ) نفوسهم. نفوسهم الشريرة هى التى جعلتهم مجرمين. لا نرى نفوسهم ولكن نرى أجسادهم التى تفعل الجرائم . هنا تكون (النفس ذات الصدور ) هى أيضا  (الصدور) فى سياق ما تخفيه هذه الصدور. والجسد يغطى ويخفى النفس البرزخية التى تهيمن عليه . 

1 ـ عن علم الله جل وعلا بما تخفيه النفس ذات الصدور . قال جل وعلا :

1 / 1 : عن  صدور الكافرين : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴿٧٤﴾ النمل ) ( وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴿٦٩﴾ القصص ).

1 / 2 : عن صدور المنافقين :

1 / 2 / 1 :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴿١١٨﴾  آل عمران ) . تخفى صدورهم أى نفوسهم . بعدها قال عنهم جل وعلا : ( هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ﴿١١٩﴾ آل عمران )

1 / 2 / 2  :  ( إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ  ) ﴿٩٠﴾ النساء ). حصرت صدورهم أى رفضت نفوسهم .

1 / 3 : عن البشر أجمعين  :

1 / 3 / 1 : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّـهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّـهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّـهِ وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ۚأَوَلَيْسَ اللَّـهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴿١٠﴾ العنكبوت ) . هو جل وعلا الأعلم بما فى صدور أى نفوس العالمين ، من كل المخلوقات العاقلة المكلفة ، وليس البشر فقط.

1 / 3 / 2 : وفى نفس المعنى عن عموم المخلوقات العاقلة قال جل وعلا :  ( قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّـهُ ۗ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٢٩﴾ آل عمران ) ( ما فى صدوركم ) يعنى ( ما فى نفوسكم ) .

1 / 3 / 3 : وفى يوم القيامة سيكون إختبار السرائر ، أى ما فى النفوس من أسرار، قال جل وعلا فى هذا : ( وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ﴿١٠﴾ العاديات ). فمصطلح ( الصدور ) هنا مرادف لمصطلح ( النفوس ) .

2 ـ ويقول جل وعلا عن ( صدور الذين أوتوا العلم ) :(  وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴿٤٨﴾ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴿٤٩﴾ العنكبوت ). نفوس المبطلين ترتاب ، ونفوس الظالمين تجحد الحق القرآنى ، ولكن نفوس الذين أوتوا تؤمن بآيات القرآن البينات. هنا ( صدور ) بمعنى ( نفوس ) ومردف لها.

3 ـ والشيطان يوسوس للنفوس ، قال جل وعلا : ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ﴿١﴾ مَلِكِ النَّاسِ ﴿٢﴾ إِلَـٰهِ النَّاسِ ﴿٣﴾ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ ﴿٤﴾ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴿٥﴾ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴿٦﴾ الناس ). ( فى صدور الناس )أى فى نفوسهم.

4 ـ الحالات النفسية من ضيق و سرورتنعكس على ملامح الوجه وحركات الجسد ، أو على ( الصدر ) الذى تتصدر به النفس للرائين. وفى هذا السياق تأتى تعبيرات القرآن الكريم :

4 / 1 : ففى القرآن الكريم شفاء للنفوس ، أى ( الصدور ) ، قال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴿٥٧﴾ يونس )

4 / 2 : والمؤمن ينشرح صدره أى قلبه أو نفسه الى الاسلام على عكس الكافر ، قال جل وعلا : (فَمَن يُرِدِ اللَّـهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّـهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ الانعام   125 )

4 / 3 : وضاق صدر موسى أى قلبه أو نفسه بتكليفه بأن يكون رسولا الى فرعون فسأل ربه جل وعلا ان يشرح صدره ( قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ﴿٢٥﴾ طه )، وان يبعث معه أخاه هارون رسولا:( وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَىٰ هَارُونَ ﴿١٣﴾الشعراء )

4 / 4 : وكانت نفس النبى محمد تحزن من أقوال الكافرين وإتهاماتهم وطلباتهم التى تعبر عن العناد . وتكرر النهى له عن أن يحزن من هذا ، قال له ربه جل وعلا : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّـهِ يَجْحَدُونَ ﴿٣٣﴾ الانعام )(  وَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ) ﴿٦٥﴾) يونس )( فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ) ﴿٧٦﴾  يس ). وكان معظم حزنه إنهم كانوا يطلبون آية ( معجزة ) غير القرآن ، ولم يستجب لهم رب العزة جل وعلا إكتفاءا بالقرآن . لذا قال له ربه جل وعلا : ( فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ۚ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ ۚ وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴿١٢﴾ هود ). تعبير (ضيق الصدر) هنا أبلغ فى تصوير مشاعر الحزن . وتكرر هذا فى قوله جل وعلا : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴿٩٧﴾ الحجر). ونعيد القول أنه عندما يضيق صدر الانسان يظهر هذا على ملامح وجهه وتصرفاته. أى إن ضيق النفس تظهر على الجسد الذى تتصدر به النفس للرائين.

4 / 5 : ولهذا قال جل وعلا لخاتم الأنبياء :

4 / 5 / 1 : ألّا تتحرج نفسه ، أو يجد حرجا فى صدره من تبليغ الدعوة : ( كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿٢﴾ الاعراف )

4 / 5 / 2 : وفى النهاية شرح الله جل وعلا له صدره ورفع ذكره : ( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴿١﴾ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ﴿٢﴾ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ﴿٣﴾ الشرح ).

5 ـ مصطلح القلب يأتى أيضا مرادفا للصدر فى :

5 / 1 : شرح الصدر ( اى القلب ) . قال جل وعلا :

5 / 1 / 1 :( أَفَمَن شَرَحَ اللَّـهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّـهِ ) ﴿٢٢﴾ الزمر )

5 / 1 / 2 : ( مَن كَفَرَ بِاللَّـهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّـهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿١٠٦﴾ النحل ). الذى شرح صدره بالكفر نقيضه الذى إطمأن قلبه بالايمان . القلب هنا مرادف للصدر .

5 / 2 : وشفاء الصدور نقيضه غيظ القلوب ، قال جل وعلا : ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّـهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14﴾ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ )﴿١٥﴾ التوبة )

5 / 3 : فى التعقل ، فالقلوب أى النفوس هى داخل الصدور أى الأجساد ، قال جل وعلا : ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴿٤٦﴾ الحج )

5 / 4 : ( ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ۖوَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّـهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ ۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّـهِ ۗ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ ۖ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ۗ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ۖ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّـهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿١٥٤﴾ آل عمران ). الحديث هنا عن المنافقين الذين ( أهمتهم أنفسهم ) ، الابتلاء لما فى صدورهم والتمحيص لما فى قلوبهم. أى النفوس والصدور والقلوب مترادفات.

5 / 5 :  عن أهل الجنة يقول جل وعلا :  ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ )  ﴿٤٣﴾ الاعراف ) ( وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴿٤٧﴾ الحجر ) . الغل أى الكراهية فى الصدور ، وهى أيضا فى القلوب وهو ما جاء فى قوله جل وعلا عن المؤمنين : ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿١٠﴾ الحشر )

 

 

 

 

القلب هو النفس ، والقالب هو الجسد المادى. ( 1 )

 

مقدمة

1 ـ هناك (قلب ) و( قالب ). القالب هو الشىء الخارجى ، والقلب هو ما بداخل القالب. أى إن

القلب هو النفس التى داخل الصدر ، أى داخل الجسد البشرى المتصدر للرؤيا فى هذه الدنيا .

ومن هنا يأتى وصف النفس بالصفتين معا : (القلب ) و (ذات الصدور ).

1 / 1 :يقول جل وعلا عن الكافرين :(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ( الحج 46 )، فالنفس هى التى تعقل ، وهى التى تسمع أى تطيع ما تسمعه بأذنيها ، وهذا إذا كانت نفسا مؤمنة ، أما إن كانت نفسا كافرة معاندة فهى عمياء حتى مع وجود عينين لأن العمى هنا فى القلب أى النفس التى هى داخل الجسد أو الصدر .

1 / 2 : ويقول جل وعلا للمؤمنين : ( وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )( آل عمران 154 ). النفس هى التى ( ما فى الصدور ) أى الجسد ، والابتلاء هو التمحيص ، وما فى القلوب هو ما فى النفس والنفوس ، والله جل وعلا عليم بالنفوس التى هى داخل الصدور.

1/ 3 : ويقول جل وعلا  عن تحكمه فى الوحى القرآنى حين كان يتنزل على قلب النبى محمد وفؤاده :(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) ( الشورى 24 ). جاء هذا فى معرض الرد على اتهامهم للنبى محمد عليه السلام إنه إفترى القرآن من عنده ، الرد أنه عليه السلام لا يملك خيارا فى موضوع الوحى الذى يتنزل على قلبه ، فإن الله جل وعلا هو المتحكم فى قلب النبى ، فلو جاءت وسوسة شيطانية تؤثر فى تلقيه الوحى القرآنى فإن الله جل وعلا قادر على محوها ليحق الحقّ ويبطل الباطل ، فهذه مرحلة من مراحل حفظ الله جل وعلا للقرآن الكريم ( عند نزوله على قلب النبى ). أن قلب النبى فى قوله جل وعلا (يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ) هو ذات الصدور : (بِذَاتِ الصُّدُورِ  ) أى نفس النبى عليه السلام.

ونعطى بعض التفصيلات :

أولا : القلب والقالب

1 ـ ( الفعل : قلب ، يقلب ، يقلّب ) ، تقول ( قلب الشىء ) أى جعله عكس ما كان. جاء هذا المعنى فى قوله جل وعلا :

1 / 1 :  ( لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ ﴿١٢٧﴾ آل عمران ). بعد إعتقادهم بالنصر ينقلبون خاسرين

1 / 2 : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚوَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّـهَ شَيْئًا ) ﴿١٤٤﴾ آل عمران ) . بعد إيمانهم ينقلبون كافرين.
1 / 3 : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ )  ﴿١٤٩﴾ آل عمران ). المؤمنون إن أطاعوا الكافرين ينقلبون خاسرين.

1 ، 4 : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّـهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴿١١﴾ الحج ). إن أصابته فتنة الابتلاء إنقلب من الايمان الى الكفر والخسران .

2 ـ وتقول ( قلّب الشىء ) بتضعيف اللام يعنى إستمرار تقليب الشىء ،  وهذا المعنى جاء فى قوله جل وعلا :

2 / 1 : (  وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا ) ﴿٤٢﴾ الكهف ). مفهوم معنى ( يقلّب كفيه ) وهذا ما يفعله الانسان عند الجزع أو التعجب .

2 / 2 : ( يُقَلِّبُ اللَّـهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ )﴿٤٤﴾ النور) النهار ينقلب ليلا والليل ينقلب نهارا,

2 / 3 : عن أهل الكهف :(  وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ۚ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ  ) ﴿١٨﴾ الكهف ). مفهوم تقليبهم من اليمين الى العكس .

3 ـ النفس فى جسدها فى هذه الحياة الدنيا هى عكس جسدها. الجسد مرئى وهى غير مرئية . فى البعث تنقلب الأوضاع تكون النفس مرئية بدون جسدها الذى فنى وبلى . لذا يأتى مصطلح  (قلب ) ومشتقاته بمعنى البعث . والبعث يعنى عملية عكسية للخلق. فى الخلق كانت الأنفس أولا ، ثم خلق الجسد الخاص بكل نفس ، يكون جنينيا ثم تدخل فيه النفس ، ويخرج طفلا  ويعيش العُمر المحدد له ثم يموت ، فتفارق النفس جسدها وتتركه يبلى ويفنى . فى البعث يكون العكس أو ( القلب ) تستيقظ النفس من برزخها أو من قبرها البرزخى بلا جسد ، تخرج الساقان ثم بقية أجزائها ، ثم تستلم كتاب عملها ليكون جسدها الجديد لاحقا ، به تخلد فى الجنة أو فى الجحيم حسب عملها. ، وفى هذا المعنى يقول جل وعلا :

3 / 1 : ( يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَاءُ ۖ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ﴿٢١﴾ العنكبوت ). أى ترجعون وتبعثون .

3 / 2 : (  وَاللَّـهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴿١٩﴾ محمد ) . المتقلّب هو البعث ثم مثوانا خلودا فى الجنة أو فى النار.

3 / 3 : ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ﴿٢٢٧﴾ الشعراء )، ببعثهم يكون إنقلابهم فى الآخرة ، وحينها سيعلمون سوء منقلبهم .

3 / 4 : يقول المؤمنون : ( وَإِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ﴿١٤﴾ الزخرف )، أى راجعون مبعوثون . وقالها سحرة فرعون ردا على تهديده لهم بالقتل والصلب وتقطيع الأطراف : ( قَالُوا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ﴿١٢٥﴾ الاعراف ) ( قَالُوا لَا ضَيْرَ ۖ إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ ﴿٥٠﴾ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿٥١﴾ الشعراء )

4 ـ من معانى الفعل ( قلب ) رجع ، لأن ( رجع ) عكس ( قدم ) من القدوم ، و( جاء ) من المجىء ) .  والله جل وعلا أخذ العهد على الأنفس فى عالم البرزخ بأنه لا إله إلا الله ، وهذا هو اللقاء الأول ، ثم يكون اللقاء الآخر فى اليوم الآخر حيث ( يرجع ) الناس الى لقاء ربهم جل وعلا.  قال جل وعلا : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـٰذَا غَافِلِينَ ﴿١٧٢﴾ الاعراف ) .

هذا الرجوع يكون بعد البعث. البعث رجوع ، ولقاء الله جل وعلا يوم الحساب رجوع هو الأخر والأخير. وعن الرجوع الى الله جل وعلا جاءت آيات كثيرة ، منها قوله جل وعلا :

4 / 1 : ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّـهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ﴿٢٨﴾ البقرة ). الأنفس كانت موتى فى البرزخ ، ثم دخلت كل نفس فى طور الحياة الدنيا المحدد لها ، ثم تموت وترجع الى البرزخ فى الموعد المحدد لها ، ثم يكون بعثها حية مرة أخرى ، ثم ترجع الى لقاء الله جل وعلا يوم الحساب . 

4 / 2 ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ )  ﴿٢٨١﴾ البقرة ). يوم الرجوع الى الله جل وعلى يكون فيه الحساب وتوفية كل نفس عملها بلا ظلم.

4 / 3 :(  إِلَى اللَّـهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴿٤٨﴾ المائدة ) (  إِلَى اللَّـهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿١٠٥﴾ المائدة ) (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ۖ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿٦٠﴾  الانعام ) ،(قُلْ أَغَيْرَ اللَّـهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ۚ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا    وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ )﴿١٦٤﴾ الانعام ) يوم الرجوع الى الله جل وعلى يكون فيه الحساب وتعرف كل نفس عملها.

 ثانيا : القلب هو النفس

 يرى الناس أن القلب فى جسد الانسان هو الجهاز الذى يقوم بضخ الدم الى الشرايين . ولكن ( القلب ) فى المصطلح القرآنى هو ( النفس ) ، هى ( القلب ) غير المرئى لهذا ( القالب ) الذى هو الجسد المرئى.

وفى العموم جاءت النفس بمعنى القلب فى آيات كثيرة ، منها قوله جل وعلا :

1 ـ ( مَّا جَعَلَ اللَّـهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ  )﴿٤﴾ الاحزاب ) . ( رجل ) هنا يعنى ( إنسان مترجل ) ، وبهذا المعنى جاءت كلمة (رجال ) فى ( البقرة 239 )،( الأعراف 46 )، ( التوبة 108 ) ( الحج 27 ) ( النور 37 ) . كل إنسان توجد فى جسده نفس واحدة ، أو (قلب ) واحد ، فما جعل الله جل وعلا قلبين فى جسد إنسان واحد.

2 ـ ( أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّـهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ﴿٦٣﴾ النساء ). هذا عن المنافقين. وجاءت كلمة ( قلوبهم ) وبعدها كلمة ( نفوسهم ) لتدل على القلب .

3 ـ ( ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَىٰ طَائِفَةً مِّنكُمْ ۖوَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّـهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْءٍ ۗ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّـهِ ۗ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ ۖ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا ۗ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ ۖ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّـهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۗ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿١٥٤﴾ آل عمران ). جاءت هنا كلمة نفوسهم مرتين ، وتبعتها كلمة ( قلوبكم ) و( ذات الصدور ) أى النفس ، وكلها مترادفات.

4 ـ (  أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴿٤٦﴾ الحج ).  القلوب هى الأنفس التى فى داخل الصدور .

5 ـ ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴿٦٠﴾ أُولَـٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴿٦١﴾ وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ ۚ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿٦٢﴾ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَـٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ )  ﴿٦٣﴾ المؤمنون ) . هنا مقارنة بين المتقين المخبتين الذين يعملون الصالحات وفى نفوسهم أو ( قلوبهم ) خشية ألّا تكون أعمالهم مقبولة من ربهم جل وعلا. وفى المقابل هناك الكافرون الذين ( نفوسهم ) أو ( قلوبهم )  لاهية ، أو فى غمرة .

5 ـ ( كَلَّا ۖ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿١٤﴾ المطففين ): كلما إرتكبت النفس عصيانا ولم تتب منه تستمر فى عصيانها تبرره وتشرّعه ، ويزداد الصدأ عليها بإستمرار إبتعادها عن الهدى الإلهى . هذا يعنى أنه ران على قلوبهم أو نفوسهم ما كانوا يكسبون. وبهذا الصدأ وتلك الظُّلمة يأتون يوم القيامة وقد إسودت وجوههم ، أى وجوه أنفسهم . قال جل وعلا : (يوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴿١٠٦﴾  آل عمران ) .

6 ـ بعد هذا هناك تفصيلات عن القلب بمعنى النفس وأحوالها.

 

القلب هو النفس ، والقالب هو الجسد المادى. ( 2 )

حرية النفس أو القلب فى مشيئة الهداية أو الضلالة

خصائص النفس تتكرر للقلب بما يؤكد أن النفس هى القلب ، ومنها حرية النفس أو القلب فى مشيئة الهداية أو الضلالة . وقد سبق الحديث عن حرية النفس فى مشيئة الهدى أو الضلال ، ومسئوليتها على هذا يوم القيامة بالخلود فى الجنة أو الخلود فى الجحيم ، ويتكرر نفس المعنى عن ( النفس ) بإستعمال مصطلح ( القلب ) . ونرتب هذا الموضوع كالآتى :

أولا : إختيار الهداية

1 ـ هو إختيار وإختبار . إختيار الهداية والايمان معناه أن يتعرض الانسان الى إختبار الفتنة والاضطهاد لأن الأغلبية فى كل مجتمع ضالة مضلة ، وإذا سيطر عليها الكنوت كما فى مجتمعات المحمديين تكون محنة الابتلاء قاسية وشديدة. بعض الناس يظن أنه بمجرد أن يعلن إيمانه ستتنزل عليه البركات ، ولقد حذّر رب العزة من هذا مقدما فقال بسؤال إنكارى:( أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴿٢﴾ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّـهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴿٣﴾ العنكبوت ).  وفى إختبار الابتلاء يسقط من يعبد الله جل وعلا على حرف ، قال جل وعلا : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّـهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴿١١﴾ الحج )،

2 ـ وفى الإختبار يفوز المؤمن صحيح الايمان ، ويضل المنافق .

2 / 1 : قال جل وعلا عن صحيح الايمان : ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّـهِ ۗوَمَن يُؤْمِن بِاللَّـهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿١١﴾ التغابن ). عند المصيبة يهتدى قلب المؤمن ، أى نفسه . وهؤلاء عندما يمتحن الله جل وعلا قلوبهم ( نفوسهم ) ينجحون فى الامتحان أو الاختبار. قال عنهم جل وعلا : (أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّـهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ ۚ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴿٣﴾ الحجرات ). ( إمتحن قلوبهم ) أى نفوسهم .

وبناء عليهم يزيد الله جل وعلا إيمانهم هدى ، قال جل وعلا : ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّـهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ   ﴿٧﴾ الحجرات )

2 / 2 :  أما المنافقون فهم يتعرضون لامتحانات الابتلاءات فلا يتوبون ولا يتذكرون ، قال جل وعلا عنهم :  ( أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴿١٢٦﴾ التوبة ). وعن هؤلاء المنافقين قال جل وعلا : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّـهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّـهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّـهِ وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ۚأَوَلَيْسَ اللَّـهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴿١٠﴾ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ﴿١١﴾ العنكبوت ).

ثانيا : إختيار الضلال

1 ـ مهما بلغ ضلال القلب فلا بد أن يتسلل شىء من نور القرآن اليه متفقا مع الفطرة التى لا يمكن محوها داخل كل نفس أو قلب . يظل الايمان بالله جل وعلا وكتابه داخلا مستقرا مهما جحد وعاند الضال ، قال جل وعلا : ( كَذَٰلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ﴿١٢﴾ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ﴿١٣﴾ الحجر ) ( كَذَٰلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ﴿٢٠٠﴾ لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴿٢٠١) الشعراء ). ( قلوب المجرمين ) اى نفوسهم.

2 ـ إلا إن الذى يختار الضلالة يقيض الله جل وعلا سيطانا يقترن به يزيده ضلالا بأن يزين الحق باطلا والباطل حقا ، فيظل مخدوعا بهذا الى أن يلقى قرينه يوم الدين فيتبرأ منه حيث لا ينفع الندم ، قال جل وعلا : ( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ﴿٣٦﴾ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ﴿٣٧﴾ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ﴿٣٨﴾ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ﴿٣٩﴾الزخرف ) ( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ  إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴿٢٥﴾ فصلت ).

وهذا لا فائدة ولا جدوى من دعوته ولا ينبغى أن نحزن من اجله لأنه شاء الضلال فأضله الله جل وعلا إذ تركه لقرينه الشيطانى يضله متحكما فى نفسه أو فى قلبه، قال جل وعلا : ( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّـهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۖ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴿٨﴾  فاطر ).

لذا قال جل وعلا عن الكافرين فى كل زمان ومكان : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴿٦﴾ خَتَمَ اللَّـهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ )  (٧﴾ البقرة )، أى لا فائدة من دعوتهم فقد ختم الله على قلوبهم وعلى أفئدتهم ( أسماعهم وأبصارهم داخل نفوسهم ) . أى فى قلوبهم مرض الكفر فزادهم الله جل وعلا مرضا وكفرا ، قال جل وعلا عن المنافقين فى كل زمان ومكان: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّـهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴿٨﴾ يُخَادِعُونَ اللَّـهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿٩﴾ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّـهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴿١٠﴾ البقرة ) .

3 ـ فى كل الأحوال فالنفس أو ( القلب ) هو الذى يختار الضلال فيضله الله جل وعلا . ونأخذ أمثلة :

3 / 1 ـ عن المنافقين قال جل وعلا : ( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا ۚ صَرَفَ اللَّـهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ ﴿١٢٧﴾ التوبة ) . إنصرفوا عن القرآن فصرف الله جل وعلا قلوبهم عن القرآن .

3 / 2 : عن علماء السُّوء الذين يعبدون أهواءهم قال جل وعلا : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّـهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّـهِ ۚأَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴿٢٣﴾ الجاثية ). طالما سار وراء هواه مختارا الضلال فقد أضله الله جل وعلا ، فأصبح برغم علمه ضالا ، وختم على فؤاده أو سمعه وبصره فى داخل نفسه.

3 / 3 : عن بعض الصحابة الذين إرتدوا قال جل وعلا :  ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖيَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللَّـهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّـهِ شَيْئًا ۚ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّـهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ) ﴿٤١﴾ المائدة ). هم سارعوا فى الكفر بعد الايمان وأدمنوا السماع للكافرين مما أحزن الرسول عليه السلام . رضوا لأنفسهم الكفر بعد الايمان فرضى الله جل وعلا لهم ما إرتضوه لأنفسهم ولم يرد أن يطهّر لهم قلوبهم ، اى نفوسهم.

3 / 4 : ومنهم من عاهد الله جل وعلا إن جعله الله جل وعلا ثريا غنيا أن يتصدق ، فلما أعطاه المال بخل ونكث عهده مع ربه جل وعلا ، قال جل وعلا عن عاقبته : ( فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّـهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴿٧٧﴾ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّـهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴿٧٨﴾ التوبة ). ( فى قلوبهم ) أى فى نفوسهم .

3 / 5 : عن كفار مكة الأثرياء قال جل وعلا لخاتم المرسلين :  ( وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴿٢٨﴾ الكهف ) . هذا الكافر إتبع هواه وتطرف فى كفره فجعل الله جل وعلا قلبه غافلا عن ذكره جل وعلا.

3 / 6 : وعن قوم موسى عليه السلام قال جل وعلا :( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّـهُ قُلُوبَهُمْ ) ﴿٥﴾ الصف ). هم ( زاغوا ) عن الحق ف ( أزاغ ) الله جل وعلا نفوسهم أو قلوبهم.

ثالثأ : طبع القلب

عن تصميم نفس الضال على الكفر يأتى وصفها بالقلب ، أى تم طبع قلبه على الكفر ، أو( تغلّف ) بالكفر قلبه أو نفسه ، ويرتبط بوصفهم بأنهم لا يفقهون ولا يعلمون أى لا يؤمنون ولا فائدة من دعوتهم.  ونعطى أمثلة . قال جل وعلا :

1 ـ عن عموم الكافرين :

1 / 1 : قال جل وعلا : ( كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّـهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٥٩﴾ الروم ) الذين لا يعلمون هنا هم الذين لا يؤمنون . لأن القرآن (علم ) . ومن لا يؤمن به يطبع الله جل وعلا على قلبه.

1 / 2  : عن الذين لا يؤمنون باليوم الآخر قال جل وعلا :

1 / 2 / 1 : ( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿١٠٧﴾ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّـهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴿١٠٨﴾  النحل ). الايمان باليوم الآخر يستوجب العمل له بالصالحات وبالايمان الخالص به جل وعلا وحده والالتزام بالتقوى ، وهذا يتعارض مع حبهم للدنيا ، لذا يطبع الله جل وعلا على قلوبهم فيعيشون فى غفلة الى ان يستيقظوا من غفلتهم عند الاحتضار فيهتف أحدهم يرجو فرصة أخرى يعمل فيها صالحا : (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ  (٩٩﴾ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿١٠٠﴾ المؤمنون )

1 / 2 / 2 : فى حياته الدنيا التى يستحبها ومن أجلها يكفر بالآخرة يتأسّس بينه وبين القرآن ( أكنّة ) أو حجابا مستورا فلا يفقه قلبه ولا تسمع أذنا نفسه ، ويعرض نفورا إذا سمع القرآن وحده مذكورا فيه إسم الله جل وعلا وحده. قال جل وعلا : ( وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا ﴿٤٥﴾ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ﴿٤٦﴾ الاسراء )

2 : عن الأمم السابقة التى أهلكها الله جل وعلا :

2 / 1 : كانوا كافرين معتدين فطبع الله جل وعلا على قلوبهم ، قال جل وعلا : ( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ ۚ كَذَٰلِكَ نَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ﴿٧٤﴾ يونس )

2 / 2 : وقال جل وعلا  عنهم وعن غيرهم : ( أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّـهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّـهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴿٩٩﴾ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ۚ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ( 100 ) تِلْكَ الْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ ۚ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّـهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ﴿١٠١﴾ الاعراف) .

3 ـ  عن المنافقين :

3 / 1 : عموما قال جل وعلا : ( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ) ( 3﴾ المنافقون ). كفروا فطبع الله جل وعلا على قلوبهم هذا الكفر فأصبحوا لا يفقهون أى لا يؤمنون. كانوا يرقضون الهداية ، قال جل وعلا عنهم : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّـهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ﴿٥﴾ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّـهُ لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴿٦﴾ المنافقون )

 3 / 2: وفى تفصيلات أخرى قال جل وعلا عن تقاعسهم عن القتال الدفاعى :  ( رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّـهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٩٣﴾ التوبة ) ( رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴿٨٧﴾ التوبة )

3 / 3 : وعن إستماعهم للقرآن ثم إستهزائهم به قال جل وعلا : ( وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا ۚ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّـهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ﴿١٦﴾ محمد )

4 ـ عن الذين يجادلون فى آيات الله قال جل وعلا :

4 / 1 : عن كفار قريش فى عهد النبى محمد عليه السلام: ( وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ ۖ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۚ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا ۚ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَـٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴿٢٥﴾وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ۖ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴿٢٦﴾ الانعام ). هم رافضون للقرآن الكريم ينهون عنه وينأون عنه ، ومع ذلك يأتون للرسول يجادلونه فى القرآن الكريم ، فإستحقوا أن يجعل الله على قلوبهم حجابا مكنونا وقد تعطلت أفئدتهم فأصبحوا لا يسمعون ولا يفقهون .

4 / 2 : وعموما قال جل وعلا عن المجادلين فى آيات الله جل وعلا : 

4 / 2 / 1 ( الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّـهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ۖ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ﴿٣٥﴾ غافر ). طبع الله جل وعلا على قلوبهم المتكبرة الجبارة فى كفرها فهم يجادلون فى آيات الله ، فإستحقوا مقت الله جل وعلا .

وكفار المحمديين يجادلون فى آيات الله ويسعون فى آيات الله معاجزين ، يسألون عن مواقيت الصلاة وكيفيتها يكفرون بما أكّده رب العزة من أنه جل وعلا ما فرّط شيئا فى كتابه يكون تركه تفريطا ، وانه جل وعلا أنزل كتابه تبيانا كتابه يبين كل شىء يحتاج الى تبيين. هم لم يفقهوا منهج القرآن فى التعرض للعبادات المتوارثة من ملة ابراهيم . وقد أوضحنا هذا فى كتاب ( الصلاة فى القرآن الكريم ) . ويهمنا هنا أنهم يجادلون فى آيات الله بغير سلطان ، أى بلا هدى وبلا كتاب منير ( الحج 3: 4 ، 8 : 10 )

4 / 2 / 2  : ( وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ۖ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا ﴿٥٦﴾ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ۚ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ۖ وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ﴿٥٧﴾ الكهف ). يجادلون فى آيات الله معاجزين يريدون دحض الحق ، ومستهزئين بآيات الله والاعراض عنها ، لذا جعل الله جل وعلا أكنّة على قلوبهم فلا يسمعون ولن يهتدوا أبدا.

ولهذا لا سبيل الى هداية المحمدين الذين يجادلون فى آيات الله يسعون فى كتابه معاجزين ، قال جل وعلا (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴿٥١﴾ الحج  ) ( وَالَّذِينَ سَعَوْفِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ﴿٥﴾سبأ  ) ( وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَـٰئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴿٣٨﴾ سبأ )

5 ـ إعترافهم بأن فى قلوبهم (غُلفا ) أى أحجبة تحجب عنهم الايمان :

5 / 1 : قالها كفار اهل الكتاب : ( وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّـهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ ﴿٨٨﴾ البقرة ) ( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّـهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّـهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴿١٥٥﴾ النساء )

 5 / 2 / وقالها كفار العرب للنبى محمد عليه السلام ( وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴿٥﴾ فصلت )

6 ـ مقارنة

6 / 1 ـ عن الاستماع للقرآن الكريم : المؤمنون يزدادون إيمانا ( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴿١٢٤﴾ التوبة ) والمنافقون يزدادون رجسا : ( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴿١٢٥﴾ التوبة )

6 / 2 : عن الفارق بين الراسخين فى العلم القرآنى ومن فى قلوبهم زيغ يتلاعبون بآيات الله قال جل وعلا : ( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴿٧﴾ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ﴿٨﴾  آل عمران )

رابعا : المسئولية قرينة الحرية

1 ـ قال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّـهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴿٢٤﴾ الانفال ). الله جل وعلا يعظ المؤمنين بأن يستجيبوا للقرآن الذى يحيي نفوسهم وقلوبهم ، فيوم الحشر سيحول الله جل وعلا بين الانسان ( المرء ) وقلبه أى نفسه . المرؤ فى هذا الدنيا جسد ونفس أو جسد وقلب. يوم القيامة ليس له ذلك الجسد الذى كان له فى الدنيا ، لذا عليه أن يستجيب قلبه فى هذه الدنيا قبل موته وفناء جسده.

2 ـ لولا حريتهم فى الطاعة أو المعصية ما وعظهم الله جل وعلا ودعاهم لما يحيى نفوسهم أو قلوبهم قبل أن يُحال بين المرء وقلبه أو نفسه.

 

القلب هو النفس ، والقالب هو الجسد المادى. ( 3 )

 علم الله جل وعلا بالقلوب ( بالنفوس )

تكررت حقيقة أنه جل وعلا يعلم الغيب والشهادة، ومن علمه بالغيب أنه جل وعلا يعلم السرائر ومافى الأنفس سواء أعلن الانسان ما فى نفسه أو كتمه. ويأتى احيانا هذا عن النفس البشرية ، كقوله جل وعلا : ( لِّلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّـهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٢٨٤﴾ البقرة ) . ويأتى عن النفس بوصفها ( القلب ). وهذا موضوعنا هنا , ونرتبه كالآتى :

أولا : علمه جل وعلا ما فى قلوب الصحابة عموما :

1 ـ قال جل وعلا  لهم جميعا : ( وَاللَّـهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ۚوَكَانَ اللَّـهُ عَلِيمًا حَلِيمًا ﴿٥١﴾ الاحزاب )

2 ـ أهمية موضوع الصحابة هنا أن رب العزة جل وعلا أنزل آيات من القرآن تتعامل مع الواقع المُعاش وقتها ، حيث كان حول النبى مؤمنون وكان هناك أيضا منافقون ، أكثريتهم تمتلىء ( قلبوبهم ) بالكفر ، وتظهر ملامحه فى حركاتهم العدائية والسلبية ( كالتقاعد عن الدفاع عن المدينة ) ، ومن المنافقين من ( مرد على النفاق  )، وضبط لسانه وأحكم السيطرة على جوارحه فلم يظهر منه ما يفضح نفاقه خوفا من أن ينزل القرآن يعلق على أفعالهم وأقوالهم. وبالتالى نزل التنبيه عليهم مع إشارة الى أنهم لن يتوبوا عن نفاقهم ، وسيلقون عذابا مرتين فى الدنيا ثم عذاب عظيم فى الآخرة. ومستفاد منه أنهم سيرتكبون جُرما عظيما فى حق الاسلام بعد موت النبى محمد وإنتهاء القرآن الكريم نزولا ، وانهم سيظلون فى إجرامهم لا يتوبون الى الموت ، وبالتالى يستحقون العذاب العظيم فى الآخرة. ثم هناك السابقون من الصحابة بإيمانهم وعملهم أخلاصا فى الدين ، وهذا غيب لا يعلمه إلا الرحمن الرحيم. ثم هناك الكفار الظاهرون بإعتدائهم وحروبهم الهجومية على دولة النبى محمد المُسالمة . ولم يتعرض القرآن لهم كثيرا لأنه لم يكن لديهم ما يخفونه مثل المنافقين .

3 ـ تقسيمات الصحابة فى المدينة وحولها قال جل وعلا :

3 / 1 : قال جل وعلا عن السابقين إيمانا وعملا صالحا مخلصا : ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿١٠٠﴾ التوبة ). هؤلاء يوم القيامة سيكونون من السابقين المقربين أصحاب الجنة  ( الواقعة :  10 : 26 ) .

3 / 2 : عن المنافقين والذين مردوا على النفاق من أهل المدينة ومن حولها من الأعراب قال جل وعلا فى الآية التالية : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴿١٠١﴾ التوبة )

3 / 3 : وقال جل وعلا : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّـهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿١٠٢﴾ التوبة ) هؤلاء مؤمنون إعترفوا بذنوبهم ، وهذا ما كان يرفضه المنافقون . وحتى يكونوا يوم القيامة من أهل اليمين أصحاب الجنة أمرهم رب العزة أن يقدموا الصدقة تأكيدا على توبتهم :( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّـهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴿١٠٣﴾ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّـهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿١٠٤ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّـهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿١٠٥﴾ . هؤلاء لو حافظوا على توبتهم وتطهير قلوبهم سيكونون يوم القيامة من أصحاب اليمين فى الجنة ( الواقعة 8 ، 27 : 40 ) .

ومنهم من إقتربت نهايته ويلزمه وقت كاف لتأكيد توبته ، لذا أمره مُرجأ لرب العزة حسب ما سيظهر من عمله وحسب ما إصلاحه قلبه ، قال جل وعلا :  ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّـهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۗ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿١٠٦﴾ التوبة ) 

4 ـ الصحابة المؤمنون من حيث الظاهر كانوا وهم حول النبى أشدّاء على الكفار رُحماء بينهم ، وعلى الصلاة يداومون بحيث يظهر أثر السجود على وجوههم . من حيث القلوب فالأمر مختلف ، وقد عاش بعضهم بعد موت القرآن الكريم ، منهم من شارك فى جرائم الفتوحات والفتنة الكبرى متنكبا ما كان عليه وهو مع النبى محمد عليه السلام. ومنهم من حافظ على تطهير قلبه وإبتعد فلم يحظ بالتسجيل التاريخى ، ولكن حظى برضا الله جل وعلا ، وهو الأعظم. قال جل وعلا عن الصحابة الذين كانوا حول النبى الرسول :(   مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّـهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖتَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) هذا فى الدنيا. أما فى الآخرة فليسوا كلهم هكذا ، قال جل وعلا : ( وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴿٢٩﴾ الفتح ). لم يقل ( وعدهم أو وعدهم جميعا ) بل قال : (  الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم ). اى بعضهم.

ثانيا  : ـ علمه جل وعلا بقلوب المؤمنين الصحابة

جاء هذا تعليقا على بعض المواقف :

 1 ـ كان هناك من يتطفل على بيوت النبى يدخلون بلا إستئذان يأكلون ويجلسون يثرثرون ، فيتأذى النبى منهم ولكن يستحى من تنبيههم ، بل كان منهم من يخاطب نساء النبى ، ففرض رب العزة جل وعلا أن يكون بينهم وبين نساء النبى ( حجاب ) ذلك أطهر لقلوبهم وقلوبهن ، قال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَـٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ۖ وَاللَّـهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ۚوَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّـهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّـهِ عَظِيمًا ﴿٥٣﴾  الاحزاب )

2 ـ منعت قريش النبى محمدا عليه السلام وأصحابه من دخول مكة للحج ، ودارت مفاوضات ، وضح فيها عنت قريش وتصميمها على الحرب ، وولأن النبى وأصحابه كانوا قادمين مُسالمين بلا إستعداد حربى فقد وجدتها قريش فرصة لحملهم على الحرب ليسوا لها مستعدين. ولكن المؤمنين مع النبى قابلوا هذا بأن عاهدوا الله جل وعلا على الصمود ،  كانت هذه البيعة تحت شجرة ، قال جل وعلا عن هذا الموقف : (  لَّقَدْ رَضِيَ اللَّـهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴿١٨﴾ الحجرات ). هذا الفتح سبقت الاشارة فى مقدمة السورة، قال جل وعلا للنبى عليه السلام : (  إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ﴿١﴾ لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّـهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا ﴿٢﴾وَيَنصُرَكَ اللَّـهُ نَصْرًا عَزِيزًا ﴿٣﴾ الفتح ) . وقال جل وعلا عن أولئك المؤمنين الذين بايعوه ورضى جل وعلا عنهم :( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ۗ وَلِلَّـهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّـهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿٤﴾ الفتح ). لم يكن الذين مردوا على النفاق ضمن من رضى الله جل وعلا عنهم. بعدها تتابع الصحابة يبايعون النبى منهم من مرد على النفاق ، فقال جل وعلا محذرا : (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّـهَ يَدُ اللَّـهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّـهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿١٠﴾ الفتح )

3 ـ موقعة ( ذات العسرة ) نزلت فيها آيات كثيرة فى سورة التوبة ، إذ تقاعس المنافقون عن الخروج دفاعا عن المدينة متحججا بالصيف شديد الحرارة. وفيها أخبر رب العزة جل وعلا أن بعض الصحابة المؤمنين كادت قلوبهم أن تزيغ فتاب الله جل وعلا عنهم . قال جل وعلا :(  لَّقَد تَّابَ اللَّـهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿١١٧﴾ التوبة )

ثالثا : علمه جل وعلا بقلوب الأعراب الصحابة

1 ـ أخبر الله جل وعلا مقدما ما سيقوله الأعراب للنبى كذبا فى إعتذارهم عن الخروج للقتال الدفاعى ، وانهم سيقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم : (  سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا ۚ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّـهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا ۚ بَلْ كَانَ اللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿١١﴾ الفتح ) .  وجاء الرد عليهم  بأن أخبر الله جل وعلا بما فى قلوبهم من توقعهم هزيمة كاسحة للنبى والمؤمنين : ( بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا ﴿١٢﴾ الفتح )

2 ـ كان من الأعرب منافقون موصوفون بأنهم الأشد كفرا ونفاقا . وكان منهم مؤمنون حقيقيون ، أخبر بذلك علّام الغيوب ( التوبة 97 : 99 ). . وقال جل وعلا عن بعضهم : (  قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَـٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّـهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿١٤﴾ الحجرات ). زعموا أنهم آمنوا إيمانا قلبيا حقيقيا فرد عليهم رب العزة الذى يعلم خفايا القلوب بأنهم لم يؤمنوا إيمانا حقيقيا ، هم فقط ( اسلموا ) أى دخلوا فى الاسلام السلوكى بمعنى السلام ، ممتنعين عن حرب النبى ودولته. وجاء تشجيعهم على الايمان القلبى  والاسلام القلبى بأن يطيعوا الله جل وعلا ورسوله .

عن الصحابة المنافقين

1 ـ فى موقعة ( أُحُد ) رفض المنافقون الخروج دفاعا عن المدينة بحُجّة أنهم لا يعرفون القتال. الله جل وعلا الذى يعلم ما فى قلوبهم أخبر إنهم حين قالوا هذا الكلام كانوا الى الكفر اقرب منهم الى الإيمان ، وأنه جل وعلا هو الأعلم بما فى قلوبهم يكتمون ، قال جل وعلا :   ( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا ۚ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ أَوِ ادْفَعُوا ۖ قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ ۗ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ۚ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ۗوَاللَّـهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ﴿١٦٧﴾ آل عمران )

2 ـ وكان بعضهم يخشى أن ينزل قرآن يفضح ما فى قلوبهم ، فقال جل وعلا : ( يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّـهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ﴿٦٤﴾ التوبة )

ثالثا : عن الكافرين فى عهد النبى محمد عليه السلام :

1 ـ بعض الكافرين الذين وقعوا فى الأسر بعد إنتصار المؤمنين فى موقعة ( بدر ) أطلق النبى سراحهم بالمال.ونزل توبيخ للنبى والمؤمنين فى هذا ( الانفال  67 : 68) ، لأن التشريع بشأن الأسرى هو المنُّ عليهم بإطلاق سراحهم ، أو أن يكون إطلاق سراحهم بتبادل الأسرى ( محمد 4 ، التوبة 6 ). أمر الله جل وعلا النبى أن يقول لأولئك الذين دفعوا اموالا لإطلاق سراحهم : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللَّـهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗوَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿٧٠﴾  الانفال )

2 ـ بعد خول أهل مكة فى الاسلام ( السلوكى بمعنى اسلام ) إندلعت حركة مسلحة من قريش نكثت العهد ، فنزل بشأنهم تشريع بإعطائهم مهلة الأشهر الأربعة الحُرُم ليتوبوا ويكفوا عن القتال . فإذا أنتهت المهلة فعلى المؤمنين قتالهم حتى يعودوا الى السلام ويكونوا أُخوة فى دين السلام أو الاسلام السلوكى ( التوبة 1 : 7 ) بعدها قال جل وعلا عن أئمتهم : ( كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ﴿٨﴾ التوبة ), أى هم منافقون . وهذا ما حدث ، إذ أن الأمويين نافقوا ، ثم فيما بعد تحالفوا مع الذين مردوا على النفاق فكانت حرب الردة والفتوحات والفتنة الكبرى، وقد شرحنا هذا هنا فى كتاب ( المسكوت عنه من تاريخ الخلفاء الراشدين ) .

رابعا : فى عموم الناس

حيث يوجد ناس فمنهم ( رجال الكهنوت ) الذين يخدعون الجماهير بمعسول القول ، وبإستغلال الدين ، والحلف برب العزة كذبا . قال عنهم جل وعلا : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّـهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴿٢٠٤﴾ البقرة )

خامسا : فى التشريع :

1 ـ فى أحسن حالاته يتأسّس التشريع البشرى على ( الضبطية القضائية ) ، فالمتهم برىء حتى تثبت إدانته. وتثبت إدانته ب ( الضبطية القضائية ) . فى دولة المستبد ترى العكس ، فالبرىء متهم دون الحاجة لإثبات إدانته. التشريع الاسلامى مؤسس على تقوى الله ، فالمؤمن يخشى الله جل وعلا ، قبل أن يخشى القانون. من هنا يأتى تذييل آيات التشريع بالتقوى والخوف ليس من البشر ولكن من الرحمن جل وعلا .ومن هنا ايضا يأتى فى التشريع الاسلام التاكيد على ( التعمد ). والتعمد هو فى القلب لا يعلمه إلا علّم الغيوب . ونعطى أمثلة عن التعمُّد القلبى :

1 ـ قال جل وعلا :( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ )﴿٥﴾ الاحزاب ) ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّـهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴿٩٣﴾ النساء ) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۗ عَفَا اللَّـهُ عَمَّا سَلَفَ ۚ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّـهُ مِنْهُ ۗ وَاللَّـهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ﴿٩٥﴾ المائدة )

2 ـ وفى معنى التعمد قال جل وعلا : ( وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴿٢٨٣﴾ البقرة ) ( لَّا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّـهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ۗ وَاللَّـهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴿٢٢٥﴾ البقرة )( لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّـهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَانَ ۖ )﴿٨٩﴾ المائدة ).

 

القلب هو النفس ، والقالب هو الجسد المادى. ( 4 )

( القلب / النفس ) بين المرض والشفاء
مقدمة :

1 ـ هناك طب للجسد ، للبشر فيه خبرة متوارثة وعلم حديث تأسست عليه أبحاث وكليات جامعية. ثم ظهر ( الطب النفسى ) يقترب من الفضاء الداخلى للنفس بالتحليل النفسى مستغلا العلاقة بين النفس وجسدها وتأثيرها فيه .

2 ـ وللطب الجسدى والنفسى مصطلحات . والقرآن الكريم له أيضا مصطلحاته الخاصة يستعمل فيها ( القلب ) فى الحديث عن المرض النفسى وبالاسلوب المجازى. معلوم انه هناك الاسلوب العلمى التقريرى ، والاسلوب المجازى الذى يستعمل التشبيه والكناية والاستعارة والمشاكلة. وسبق شرح هذا. ونتعرض له هنا عن المرض والشفاء بين الجسد والنفس. ( القلب ).

أولا : المرض الحسى الجسدى :

جاء التعبير عنه بالاسلوب التقريرى ، خصوصا فى آيات التشريع التى تأتى بهذا الاسلوب   . جاء المرض ضمن الأعذار المقبولة فى تأدية العبادات ، حيث قامت تشريعات الاسلام التعبدية على رفع الحرج ، ونعطى أمثلة :
1 ـ الافطار فى رمضانقال جل وعلا : (وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ )(البقرة 185)
2 ـ تقديم الفدية عند حلق الرأس فى حالة الاحرام بالحج أو العمرةقال جل وعلا : (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) ( البقرة 196) 
3
ـ التيمم بدلا من الغسل والوضوءقال جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا ) ( النساء 43 ) ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا )(المائدة 6).
4 ـ التخفف من حمل السلاح عند قصر الصلاة وقت الخوف فى القتال أو المطاردة. قال جل وعلا : ( وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ ) ( النساء 102). 
5
ـ عدم الخروج للجهاد : قال جل وعلا :( لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ)( التوبة)91) ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ)(الفتح 17)
6 ـ التخفف من قيام الليلقال جل وعلا : ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)     (المزمل 20). 
7
ـ التخفف من الآداب الاجتماعيةقال جل وعلا : ( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ  )(النور61)
ثانياالشفاء من المرض الحسى الجسدى 

جاء أيضا بالتعبير العلمى التقريرى
1 ـ مرجعه الحقيقى الى الله جل وعلا:( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ )(الشعراء80 )
2 ـ وقد أشار رب العزة الى بعض أنواع الدواء الطبيعى الذى ليست له آثار جانبية ، وهو عسل النحل : ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ)( النحل 68 ـ 69). 
ثالثاالمرض المعنوى ( الضلال والكفر و الشرك)
هنا يأتى المرض المعنوى مرتبطا بالقلب ، وقلنا إن القلب فى مصطلحات القرآن الكريم هو النفس والفؤاد والصدر، وليس تلك العضلة التى تضخ الدماء فى الأوردة و الشرايين . وبالتالى فالمرض هنا يعنى الضلال و الكفر والنفاق والرغبة فى الزنا بحيث لا يراعى ذلك الشخص حرمة البيوت التى يدخلها
ونعطى أمثلة
1
ـ عن المنافقين الذين يخفون الكفر و يتظاهرون بالايمان .يقول جل وعلا : 

1/1 : (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ) هذا عن تصرفاتهم فى الخداع، ومنبع هذا الخداع هو ما وقر فى قلوبهم من ضلال وكفر ، أو ( مرض ) بالتعبير القرآنى ، وبالتالى فلن يزيدهم الله تعالى إلا كفرا ومرضا ، يقول جل وعلا : ( فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً) (البقرة 10 ــ ) .
1 / 2 : ـ ويأتى الوصف بالمرض القلبى مرادفا للمنافقين معطوفا عليه عطف بيان ، مما يفيد التوضيح والبيان والتأكيد على أن المرض القلبى من لوازم النفاق ومن ملامح المنافقين النفسية ، يقول جل وعلا : ( إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ) (الانفال 49 ) هم هنا ليسوا طائفتين بل هم طائفة واحدة جمع بينهم وجود مرض الضلال فى نفوسهم وقلوبهم وعقائدهم
1 / 3ـ ويقول جل وعلا عن أدوار المنافقين وطوائفهم وقت محنة حصار المدينة فى غزوة الأحزاب:

1/  3 / 1 : ( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّـهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴿١٢﴾ الاحزاب ). وعد الله جل وعلا بأن يصرف عنهم المعتدين الكافرين من الأحزاب الذين حاصروا المدينة. المنافقون عند الحصار وفى غمرة رعبهم قالوا هذا مستهزئين بوعد الله جل وعلا ورسوله.

1 / 3 / 2 :  ( لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا )(الأحزاب 60 ). هم هنا اقتربوا من الخط الأحمر ، فكان لا بد من تحذيرهم ، فلهم حق المعارضة ولكن ليس الى درجة رفع السلاح فى وجه دولة يمارسون فيها ـ سلميا ــ حريتهم الدينية والسياسية.
1 / 4 : ـ ونفس الحال حين تحالفوا مع اليهود و النصارى فى اعتداءاتهم على المسلمين ، وهنا إشارة الى وقائع حربية أهملتها ما تسمى بالسيرة النبوية ، يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ .فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ )( المائدة ـ 52 ). تكرر النهى للمؤمنين عن التحالف مع العدو المعتدى على المؤمنين ، ولكن لم يطع المنافقون لأن فى قلوبهم مرضا
1 / 5 ـ وعن موقفهم من القرآن كان الضلال أو المرض المستقر فى قلوبهم يجعلهم يسخرون من نزول القرآن وقت نزول آياته ومعرفة وهداية المسلمين بها ، ونزل قوله جل وعلا يرد عليهم : ( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ ) ( التوبةـ 125) 
1 / 6ـ وبعضهم كان يرتعب عندما يسمع بنزول آية تأمر بالقتال ، ويأتى تصويرهم فى هذه الحالة فى قوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) ( محمد 20) 
1 / 7  ـ وكان المنافقون يرفضون الاحتكام الى القرآن الكريم ، و يرفضون المجىء للرسول عليه السلام إلا إذا كان لهم الحق فى تلك المنازعات والخصومات ، يقول جل وعلا : ( أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( النور 50 )

1 / 8 : وقال لهم جل وعلا ولأمثالهم : ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّـهُ أَضْغَانَهُمْ ﴿٢٩﴾ محمد )

2 ـ مرض القلب ( النفس) للكافرين :

2 / 1 : ويأتى وصف الكافرين المشركين عموما بالمرض القلبى مصاحبا لقسوة القلب . وتأتى تلك القسوة فى القلب أو ذلك المرض فى القلب بسبب الايمان بالحديث الشيطانى المعروف الان بالسنة النبوية ، فلا يمكن أن يجتمع الايمان بالقرآن مع الايمان بتلك الأحاديث ، ولا يمكن الايمان بنقيضين ينفى أحدهما الاخر ، فتلك الأحاديث يلقيها الشيطان ليصادر أمنية النبى فى هداية الناس جميعا ، ويأذن الله تعالى بوجودها وكتابتها ونسخها فى نسخ وتدوينها فى كتب وطباعتها فتستمر فتنة واختبارا ، من يتبعها يكفر بالقرآن ويتبع سبيل الشيطان ، ويصاب قلبه بالمرض والضلال ، يقول جل وعلا عن الأحاديث الشيطانية ودورها فى تاريخ كل نبى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ثم يقول جل وعلا عن دورها فى فتنة وضلال الناس حين تجعلهم قاسية قلوبهم مريضة بالضلال والظلم والتفرق : ( لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ )( الحج ـ 53) 
2 / 2  ـ ويقول جل وعلا عن ( سقر ) وهو اسم لجهنم : : (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ ) ويقول عن عدد الملائكة القائمين بها : ( عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) ثم يقول عن هذا العدد : (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) ( المدثر 31 ). يهمنا هنا قوله جل وعلا : (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ ) فهنا عطف بيان بالواو ، يفيد أن الكافرين هم أنفسهم الذين فى قلوبهم مرض
3ـ ويأتى المرض القلبى بمعنى شهوة الزنا حين تسيطر على قلب إنسان فيطمع فى الزنا بكل إمرأة يراها أو يتكلم معها ، بحيث لا يراعى حرمة البيوت أو حرمة العلاقات مع الآخرين. نحن هنا أمام مدمن للزنا أفقده هذا الادمان كل مروءة للفرد العادى فأصبح يحمل معه هذا المرض اينما سار ، تتحرك عينه الخائنة أينما سار وفى كل بيت يدخله ومع كل أنثى تتحدث معه . يقول جل وعلا : ( يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) ( الاحزاب 32) . وقد قال جل وعلا يصف أولئك الذين فى قلوبهم مرض الفاحشة تتحرك به أعينهم الخائنة : ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴿١٩﴾ غافر )
رابعاالشفاء المعنوى ( الهداية) 
1
ـ القرآن الكريم هو وصفة الهداية من المرض القلبى المعنوى او الضلال ، وهو وصفة ناجحة للناس جميعا . ولكن ليس كل الناس يرغبون فى هذا الدواء، فمعظم الناس يصدّ عنه راغبا عنه وليس راغبا فيه ، ولذلك لا يستفيد منه إلا المؤمنون به ، أى فمع أنه شفاء لعموم الناس إلا إن المنتفعين بهذا الشفاء هم المؤمنون وحدهم ، إذ يكون القرآن الكريم لهم هدى للصدور ورحمة يوم القيامة . قال جل وعلا يخاطب الناس جميعا :( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ) (يونس 57)
2 ـ بل أكثر من ذلك ، فبعض الذى يرفض الشفاء القرآنى يحاول التلاعب بآياته فيزداد بهذا التلاعب مرضا على مرض ، وخسارا على خسار ، وبالتالى يكون القرآن الكريم شفاء ورحمة للمؤمنين به ، وفى نفس الوقت يكون خسارا على الذين يحرفون معانيه ويلحدون فى آياته ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا )( الاسراء 82). أى إن القرآن شفاء أو رحمة للمؤمنين وخسار و (عمى )على من لا يؤمن به حتى وهو يقرؤه .  يقرؤه ، ولكن هذا يزداد به إيمانا وذاك يزداد به عمى وضلالا : يقول جل وعلا : ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ) (فصلت 44).

أخيرا : هناك عامل مشترك بين الطب البشرى ( النفسى والجسدى ) وبين إشارات القرآن عن الهدى بالنسبة ل ( النفس /  القلب ) . الطب يعترف بتأثير العوامل النفسية على الصحة الجسدية ، فالانفعالات من التوتر والقلق وغيرها تؤثر على القلب والمعدة ووظائف الجسد الحيوية. وهو نفس الحال فى القرآن الكريم . فالمؤمن يطمئن ( قلبه ) ، والذى يطمئن قلبه يعيش فى سلام نفسى ( قلبى ) يرضى ويصبر ويتسامح ويحمد ربه لأنه يؤمن باليوم الآخر ، وأن هذه الدنيا هى فترة زمنية محددة يعيشها ، وعليه أن يتزود لمستقبله فى الآخرة حيث الخلود ، وهو يرجو لقاء الله جل وعلا ويتجهز لهذا اللقاء بالايمان الخالص والعمل الصالح . إذا أصابته مصيبة بالشر إستصغرها لأنها لا تساوى لحظة من عذاب الآخرة الخالد ، وإن أصابته مصيبة بالخير والنعمة قام بحقها شاكرا رب جل وعلا ، ولم يغتر بها لأنها عنده لا تساوى لحظة من نعيم الجنة الخالد. بهذا القلب المطمئن تتخفف آلامه  إذا أصابه مرض جسدى. أما هذا الذى يتصارع حول حطام الدنيا بقلبه أو نفسه فإن قلبه أو نفسه تصيب جسده مهما كانت قوته بأمراض لا تجدى معها العقاقير ولا المهدئات ولا المسكنات. هذا لأن الأصل هو مرض النفس، ولأن الانسان ( نفس / قلب ) اساسا والجسد مجرد ثوب وقتى لهذه النفس أو ذلك القلب.

 

القلب هو النفس ، والقالب هو الجسد المادى. ( 5 )

  القلب المؤمن ( النفس المؤمنة )

مقدمة :

هذه المضخة التى تقوم بضخ الدماء فى شرايين الجسد الانسانى ـ والتى نسميها فى ثقافتنا بالقلب  ــ لا علاقة لها بالايمان أو الكفر ، ولا علاقة لها بأى أحاسيس ، بل ترتعش طبقا لإحساس النفس بالفرح أو الحزن أو الخوف . هى تستقبل الإحساس وتتأثر به وليست التى يصدر عنها الإحساس. هذه المضخة تؤدى عملها فى جسد الانسان المؤمن أو الكافر ، وتمرض وتتوقف عن العمل فى جسد الانسان المؤمن أو الكافر. أى لا علاقة لها بإيمان الإنسان أو كفره.

النفس التى ترتدى هذا الجسد مؤقتا فى هذه الدنيا هى التى تؤمن وهى التى تكفر. ويأتى وصفها بالقلب فى سياق الايمان والكفر والنفاق . نتوقف سريعا مع القلب المؤمن أو النفس المؤمنة .

أولا : عموما القلب الانسانى ( النفس الانسانية )

النفس ( القلب ) يحزن ويخاف

1 ـ  ( الحزن ) : كل نفس إنسانية تحزن . وحين تحزن قد توصف بالقلب ، فالقلب هو النفس التى تتقلب فيها المشاعر والعواطف  . و( نفس / قلب ) الأم هو الأكثر لهفة على وليدها . فماذا إذا  أوحى الله جل وعلا لأم أن تلقى بوليدها فى الماء ووعدها جل وعلا أن يرجعه اليها. ( أم موسى ) تعرضت لهذا الإختبار ، وأطاعت ووضعت وليدها فى تابوت وأودعته أمواج نهر النيل ، ثم علمت أن النيل أوصل الأمانة الى قصر الفرعون الطاغية الذى يذبح أطفال بنى إسرائيل ، وسيعلم انه طفل إسرائيلى . تخيل قلب أم موسى عندئذ ؟ أروع تعبير هو قوله جل وعلا : ( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١٠﴾ القصص).هنا يأتى وصف نفس ( أم موسى ) بالفؤاد حين ( سمعت ) بوصول تابوت ابنها الى الفرعون ، ويأتى وصف ( نفس ) ام موسى بالقلب حين ربط الله جل وعلا على قلبها ، أى طمأن الله جل وعلا ( قلبها ) لتكون من المؤمنين ، اى ليكون قلبها مطمئنا بالايمان. وهذا يعنى أن قلبها صدّق بوعد الرحمن لها لأنه جل وعلا لا يخلف وعده. بغضّ النظر عن هذه الحالة الفريدة التى تخص أم موسى فإن النفس الانسانية أو القلب الانسانى يحزن ويخاف مهما كان مؤمنا أو كافرا.

2 ـ ( الغيظ ) : المؤمنون فى المدينة تعرضوا لإعتداءت حربية متكررة من قريش ، ثم تم عقد صلح ودخلت مكة سلميا فى الاسلام ، ثم نكث كبار قريش العهد وإعتدوا ، فنزلت آيات سورة التوبة تعطيهم مهلة الأربعة أشهر الحرم ليرجعوا عن إعتداءاتهم ، فإن إنقضت الأشهر الحرم وهم على إعتداءاتهم ونكثهم للعهد فيجب على المؤمنين قتالهم ، وهى فرصة للإنتقام منهم ، وشفاء (قلوب المؤمنين ) من الغيظ ، قال جل وعلا : (قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّـهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴿١٤﴾ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ۗ وَيَتُوبُ اللَّـهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿١٥﴾ التوبة ). الغيظ إحساس يشعر به المؤمنون كما يشعر به غير المؤمنين. غير إن المؤمن المسالم يشعر بالغيظ عند الإعتداء عليه ظلما ، وهذا حق مشروع له. المعتدى قد يشعر بالغيظ لأسباب أخرى تتصل بمرض ( الشُّح ).

3 ـ  ( الخوف ) من هذه المشاعر الانسانية التى تنتاب القلب ( النفس ).

3 / 1 : حين حوصر سكان المدينة فى عصر النبى بجيوش الأحزاب بلغ منهم الخوف مبلغه ، قال جل وعلا يصف حالهم : ( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّـهِ الظُّنُونَا ﴿١٠﴾ الاحزاب ). التعبير المجازى ( بلغت القلوب الحناجر ) هو إستعارة رائعة فى التعبير عن الخوف .

3 / 2 : ولا ضير على الإطلاق من أن يشعر الانسان بالخوف مهما كان شجاعا أو كان مؤمنا. المؤمن ينتابه شعور الخوف ، ثم بعدها يسترجع قلبه الإطمئنان ، يكفى أن يتذكر قوله جل وعلا : ( إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿١٧٥﴾ آل عمران ). حين يخاف قلب المؤمن ربه ويتقى ربه يزول منه الخوف  من المخلوقات . حين يذكر ربه جل وعلا يطمئن قلبه بعد خوف ، قال جل وعلا (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّـهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴿٢٨﴾ الرعد  ).

3 / 3 : المؤمنون فى أول إستقرارهم فى المدينة لم يكن مأذونا لهم بالقتال الدفاعى مع انهم تعرضوا لهجمات حربية من قريش أعاشتهم فى خوف مستمر ، فنزل وعد الله جل وعلا بأن يبدلهم من خوفهم أمنا ، قال جل وعلا : (  وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿٥٥﴾ النور ). ثم نزل الإذن بالقتال ، وكانت موقعة ( بدر ) إختبارا نفسيا حقيقيا للمؤمنين إذ جعلتهم ينتصرون على الخوف الذى تربوا عليه من هيمنة قريش وسطوتها ، وكان إنتصارهم فى موقعة بدر ليس فقط على قريش بل كان إنتصارا فى الأساس على الخوف فى قلوبهم ، قال لهم رب العزة بعدها يذكّرهم بما كانوا عليه من خوف : (  وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿٢٦﴾ الانفال ).

ثانيا : أحوال القلب المؤمن :

 إطمئنان القلب المؤمن

1 ـ نتذكر قوله جل وعلا عن موقعة ( بدر ) :

1 / 1 : ( مَا جَعَلَهُ اللَّـهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّـهِ ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴿١٠﴾ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ ﴿١١﴾ الانفال ) ( وَمَا جَعَلَهُ اللَّـهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ ۗوَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّـهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴿١٢٦﴾ آل عمران ).

1 / 2 : هنا ربط البشرى بالنصر و بالإطمئنان. وقد أمرهم الله جل وعلا وهم فى القتال أن يذكروه لتطمئن قلوبهم ، قال جل وعلا : (  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّـهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٤٥﴾) الانفال ). وسبق التذكير بقوله جل وعلا : (  الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّـهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴿٢٨﴾ الرعد)

2 ـ ولا بأس بأن يطلب المؤمن تثبيتا يطمئن به قلبه.

2 / 1 : ابراهيم عليه السلام طلب هذا من ربه جل وعلا : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚوَاعْلَمْ أَنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿٢٦٠﴾ البقرة )

2 / 2 : والحواريون طلبوا من عيسى عليه السلام آية حسية ، مائدة تنزل عليهم من السماء لتطمئن قلوبهم ، وإستجاب الله جل وعلا لهم: ( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّـهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿١١٢﴾ قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ﴿١١٣﴾ المائدة ).

3 ـ ولا ضير على المؤمن الذى يطمئن قلبه بالايمان أن يقول كلمة الكفر وهو تحت الإكراه ، قال جل وعلا : ( مَن كَفَرَ بِاللَّـهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّـهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿١٠٦﴾ النحل )

4 ـ ويأتى تعبير ( السكينة ) فى القلب المؤمن بمعنى الطمأنينة . فى وقفة المؤمنين الى جانب النبى محمد عليه السلام ضد قريش حين أتى للحج مسالما قال جل وعلا :

4 / 1 :( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ۗ وَلِلَّـهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّـهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿٤﴾ الفتح )

4 / 2 : ( إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّـهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَىٰ وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ۚ وَكَانَ اللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴿٢٦﴾  الفتح )

5 ـ وسبق أن قلنا إن التعبير المجازى بالربط على القلب المؤمن يعنى الطمأنينية ، وإستشهدنا بما جاء عن أم موسى : ( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١٠﴾ القصص ) . ونضيف الى ذلك قوله جل وعلا عن فتية أهل الكهف : ( نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴿١٣﴾ وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَـٰهًا ۖ لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ﴿١٤﴾  الكهف ). هم تركوا قومهم خوفا ، وربط الله جل وعلا على قلوبهم ، أى بث الطمأنينة فى قلوبهم.

تقوى القلب المؤمن : لها مظاهر :

1 ـ خشوع القلب المؤمن  ، قال جل وعلا :

1 / 1 : ( إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّـهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴿٢﴾ الانفال ).

1 / 2 : ( وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ﴿٣٤﴾ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّـهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴿٣٥﴾ الحج )

2 ـ تعظيم شعائر الله جل وعلا : ( ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴿٣٢﴾ الحج )

3 ـ التوبة : قال جل وعلا لزوجتين متمردتين من زوجات النبى محمد عليه السلام : ( إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّـهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ۖ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّـهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَٰلِكَ ظَهِيرٌ ﴿٤﴾ التحريم )

4 ـ التسامح : ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿١٠﴾ الحشر )

5 ـ تأليف القلوب : طالما تجتمع القلوب على أنه ( لا إله إلا الله ) يكون سهلا أن تتآلف قلوبهم بفضل الله جل وعلا ونعمته ، قال جل وعلا :

5 / 1 : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚوَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴿١٠٣﴾ آل عمران )

5 / 2 : ( وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿٦٣﴾ الانفال )

أخيرا :  صاحب القلب السليم هو الفائز فى الآخرة فى الآخرة . قال جل وعلا :

1 ـ  فى قصة ابراهيم عليه السلام : ( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿٨٨﴾ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّـهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿٨٩﴾  الشعراء ) ( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴿٨٤﴾ الصافات )

2 ـ وعن الفائزين فى يوم الدين : ( مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَـٰنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ﴿٣٣﴾ ق )

3 ـ وعن الوعظ تذكيرا بيوم الدين : ( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴿٣٧﴾ ق )

4 ـ عن حزب الله المفلحين يوم الدين : ( لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚأُولَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا  رَضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَـٰئِكَ حِزْبُ اللَّـهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّـهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿٢٢﴾ المجادلة ).

 

 

 

القلب هو النفس ، والقالب هو الجسد المادى. ( 6 )

القلب الكافر ( النفس الكافرة )

أولا : تهديد الكافرين بالختم على قلوبهم ( انفسهم )

يقول جل وعلا : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّـهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ اللَّـهِ يَأْتِيكُم بِهِ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ﴿٤٦﴾ الانعام ). هذا سؤال يعظ البشر . فالله جل وعلا هو وحده الخالق ، وهو الذى وهب للنفس السمع والبصر بصفتها الفؤاد ، وهو الذى يملك الختم على ( القلب ) أى الفؤاد والنفس ، أى تعطيلها عن الإدراك فيصبح الانسان مجنونا يعيش ويتحرك غائبا عن الوعى ، أو يكون فى مثل إدراك الطفل الوليد حديثا الذى لم يستعمل بعد خاصية السمع وخاصية البصر داخل نفسه. الذى يملك تعطيل النفس عن الإدراك هو خالقها جل وعلا. وإذا ختم الله جل وعلا على القلب ( النفس ) فمن غيره يأتينا بما أخذ ؟ تخيل نفسك الواعية المدركة وقد غابت وتعطلت وأصبحت طفلا لا تعلم شيئا أو مثل النائم الذى غابت عنه نفسه المدركة أو قلبه الواعى ، كالذى يسير نائما. وضع خطير لا يرتضيه أى منّا . هى عظة ينبغى أن نتعقلها. ولكن الذى يهم هنا  أن الوعظ  ب( ختم القلب )  هو موجّه للكافرين ، الذين يصرّف الله جل وعلا لهم الآيات متنوعة ثم هم يصدفون ويُعرضون.

أخيرا :

أحوال القلب الكافر ( النفس الكافرة )

الاستكبار

1 ـ عن الذين لا يؤمنون بالآخرة ولا يؤمنون بالله الواحد الأحد قال جل وعلا : ( إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ۚ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ﴿٢٢﴾ النحل )

2 ـ وهذا حكم عام على كل الكافرين فى كل زمان ومكان . وفى القصص القرآنى عن الأمم السابقة نرى تشابها بينهم جميعا ـ ولذلك قال جل وعلا فى التعليق على بعض أهل الكتاب الكافرين فى عصر النبى محمد عليه السلام : ( وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّـهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ ۘ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ۗ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴿١١٨﴾ البقرة )

تحكم قلوبهم ( أنفسهم ) الكافرة فى السمع :

1 ـ للجسد أجهزة للسمع والرؤية ، ولكنها ما تسمعه وما تراه يخضع لسيطرة النفس بما فيها من سمع وبصر ( فؤاد ) . والنفس الكافرة أو القلب الكافر يرفض إستقبال صوت الحق الذى يسمعه الشخص بإذنيه المادتين ، بينما يحتفل بما يسمعه من الباطل. وهذا موصوف قرآنيا بأنهم لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها بها ولهم أذان لا يسمعون بها ، قال جل وعلا عن أصحاب الجحيم : ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَـٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴿١٧٩﴾ الاعراف )

2 ـ من هنا يرفضون سماع الحق ، مثل أهل الكتاب الكافرين الذين تشربت قلوبهم عبادة العجل الذهبى ، قال جل وعلا عنهم : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ۖ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿٩٣﴾ البقرة )

3 ـ وفى الوقت الذى يرفضون صوت الحق تسمعه آذانهم وترفضه قلوبهم تراهم ( سمّاعين ) أى مدمنين لسماع الباطل ، تسمعه آذانهم المادية وتحتفل به آذانهم النفسية القلبية . ونعطى أمثلة :

3 / 1 : عن بعض أهل الكتاب قال جل وعلا :

3 / 1 / 1 : (  يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ۛ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا ۛ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ۖيَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ۚ وَمَن يُرِدِ اللَّـهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّـهِ شَيْئًا  ۚ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّـهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿٤١﴾ المائدة ). هؤلاء بدءوا بالمسارعة بالكفر ، ومن قبل أعلنوا الايمان بألسنتهم فقط وقلوبهم منكرة  لذا سارعوا الى إعلان الكفر ، وحزن الرسول فنهاه الله جل وعلا عن أن يحزن من اجلهم ، لأنهم ( سمّاعون للكذب ) أى انهم أدمنوا السماع للكذب ، ولهذا يحرفون الكلام الالهى الذى أنزله الله جل وعلا اليهم ـ يحرفونه من بعد مواضعه . ولأنهم بدءوا بالكفر المتطرف هذا فلم يرد أن يطهّر قلوبهم وينتظرهم خزى فى الدنيا وعذاب عظيم فى الآخرة . 

3 / 1 / 2 : ( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ )﴿٤٢﴾ المائدة ). بالإضافة الى إدمانهم سماع الكذب من الأحاديث الكاذبة فهم مدمنون لأكل الحرام(السُّحت)، يبيعون لهم صكوك الغفران . وهذا ينطبق الآن على الكهنوت عند المسيحيين وعند المحمديين. هم جميعا ( سمّاعون للكذب ) وهم جميعا ( أكّالون للسحت ).

4 ـ وكان  فى المدينة من أدمن السماع للمنافقين ، فأولئك المنافقون كانوا قبل مجىء النبى هم السادة والملأ ، وكانوا لا يزالون الأكثر ثراءا ، ولهم أتباع يسمعون لهم أو ( سمّاعون ) لهم ، ولو خرج أولئك المنافقون للقتال الدفاعى مع المؤمنين للقتال فسيستخدمون نفوذهم على أولئك المؤمنين ليهبطوا بخلالهم وأخلاقهم الى مستوى الوضاعة ، قال جل وعلا تعليقا على رفض أولئك المنافقين الخروج للقتال : ( وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَـٰكِن كَرِهَ اللَّـهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴿٤٦﴾ لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ  وَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴿٤٧﴾ التوبة ).

5 ـ وفى كل زمان ومكان وفى تاريخ كل الأنبياء يكون لكل نبى عدو من شياطين الانس والجنّ يفترون أحاديث يزعمونها وحيا إلاهيا يحاربون الرسالة أو الكتاب الذى أنزله الله جل وعلا على هذا النبى ، ويكون كلامهم مزخرفا يدمن الإستماع اليه الضالون وعلى أساسه يقترفون المعاصى ويحسبون أنهم يحسنون صنعا. قال جل وعلا :( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴿١١٢﴾ وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ﴿١١٣﴾ الانعام )

قسوة القلب الكافر:

1 ـ الله جل وعلا أرسل خاتم المرسلين بالقرآن الكريم رحمة للعالمين ( الأنبياء 107 ) ووصفه جل وعلا بالرحمة والرأفة ( التوبة 61 ، 128 ). وقال له ربُّه جل وعلا : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ )﴿١٥٩﴾آل عمران). ما كان عليه السلام فظّا غليظ القلب ، ولذا أجتمع حوله المؤمنين . ولكن الكافرين كانوا غلاظ القلوب ، قلوبهم قاسية . ونعطى بعض أمثلة عن قسوة قلوبهم : قال جل وعلا :

1 / 1 : عن الأمم السابقة التى أهلكها رب العزة جل وعلا : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴿٤٢﴾ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿٤٣﴾ الانعام)

1 / 2 : عن الكافرين من أهل الكتاب :

1 / 2 / 1 : فى البداية هناك منهم من آمن فجعل رب العزة جل وعلا فى قلوبهم رأفة ورحمة ، قال جل وعلا :( ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّـهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ ) ﴿٢٧﴾ الحديد )

1 / 2 / 2 : عن نقضهم الميثاق ، قال جل وعلا : ( فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿١٣﴾ المائدة ). بسبب نقضهم الميثاق الذى أخذه الله جل وعليهم لعنهم الله جل وعلا وترك قلوبهم تملؤها القسوة ، وبها يحرفون كلام الله جل وعلا عن مواضعه.

1 / 2/ 3 : ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚوَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّـهِ ۗ وَمَا اللَّـهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴿٧٤﴾ البقرة ). قست قلوبهم فأصبحت كالحجارة أو أشد قسوة .

1 / 3 : ولهذا وعظ الله جل وعلا المؤمنين ألا يكونوا مثل أهل الكتاب الذين قست قلوبهم : ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّـهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿١٦﴾ الحديد )

2 ـ  مقارنة بين قسوة القلب للكافرين وخشوع القلب للمؤمنين

2 / 1 : الكافرون قُساة القلوب يخترعون الأحاديث الضالة التى يرفعونها فوق الكتاب الإلهى بينما المؤمنون من العلماء بالاسلام تخبت وتخشع قلوبهم لما أنزل الله جل وعلا : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّـهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّـهُ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿٥٢﴾لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴿٥٣﴾ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ اللَّـهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿٥٤﴾ الحج )

2 / 2 : المؤمنون الذين شاءوا الايمان بحديث الله جل وعلا وحده فى القرآن وحده تخشع قلوبهم وتقشعر جلودهم عند قراءة القرآن الكريم ( احسن الحديث ) بينما قلوب الكافرين قاسية لا تصل اليها أنوار القرآن الكافريم ، فهناك على قلوبهم أكنّة وحجابا مستورا ، قال جل وعلا : ( أَفَمَن شَرَحَ اللَّـهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّـهِ ۚ أُولَـٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿٢٢﴾ اللَّـهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّـهِ ۚذَٰلِكَ هُدَى اللَّـهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّـهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴿٢٣﴾  الزمر )

2 / 3 : لذا لا يطيقون الاستماع الى ذكر الله جل وعلا وحده. إذا قيلت لهم شهادة الاسلام الواحدة :( لا إله إلا الله ) يشمئزون أما إذا سمعوا الشهادتين بإضافة محمد إذا هم يستبشرون . إذا خطب خطيب بالقرآن فقط إشمأزت قلوبهم ، أما إذا خطب فيهم بالأحاديث الشيطانية من البخارى وغيره تراهم يستبشرون. قال جل وعلا : ( وَإِذَا ذُكِرَ اللَّـهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ۖ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) ﴿٤٥﴾ الزمر )

 2 / 4 : ولهذا وعظ الله جل وعلا المنافقين بأن يتدبروا القرآن حتى تزول عن قلوبهم الأكنّة والحجاب ( الحاجز ) و( الأقفال ) ، قال جل وعلا عنهم : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴿٢٤﴾ محمد )

إرتياب القلب الكافر:

1 ـ المؤمن الحق على بصيرة من ربه لا يتصور معه إلاها . أما الكافر فإن كوابيس آلهته تجعله فى ريب دائما ، وخصوصا إذا كان منافقا يعيش بشخصيتين . قال جل وعلا عن المنافقين :

1 / 1 : عن إقامتهم المسجد الضرار : ( لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ۗ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿١١٠﴾ التوبة )

1 / 2 : عن إستئذانهم للقعود عن القتال الدفاعى : ( إنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴿٤٥﴾  التوبة )

1 / 3 : عن رفضهم التحاكم الى الرسول :( أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّـهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ۚ بَلْ أُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴿٥٠﴾ النور )

 الغفلة فى القلب الكافر :

وهذا حال أكثرية الخلق ، فقد إقترب قيام الساعة وهم فى غفلتهم معرضون عن الحق لاهية قلوبهم ، قال جل وعلا :( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ ﴿١﴾ مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴿٢﴾ لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ) ﴿٣﴾ الانبياء ). وهذا ينطبق تماما على وقتنا بعد نزول القرآن الكريم بأكثر من 14 قرنا.

رعب القلب الكافر

قلب المؤمن قد يقع فى الخوف ثم يطمئن قلبه بذكر الله جل وعلا وتذكر اليوم الآخر ولقاء الله جل وعلا ، أما الذى يشاء الضلال فإن الخوف عنده يتحول الى ( رُعب) . قال جل وعلا :

1 ـ ( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّـهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًاۖ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۚ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ﴿١٥١﴾ آل عمران )

2 ـ وعن موقعة بدر : تثبيت قلوب المؤمنين وقذف الرعب فى قلوب الكافرين : ( إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴿١٢﴾ الانفال )

3 ـ وعن أهل الكتاب المعتدين :

3 / 1 : ( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّـهِ فَأَتَاهُمُ اللَّـهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴿٢﴾ الحشر ). لم يعتبر المحمديون لأنهم ليسوا من أولى الأبصار ، لذا فهم الآن يدمرون بلادهم بأيديهم وايدى غيرهم...ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.!!

3 / 2 : (  وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ﴿٢٦﴾ الاحزاب )

3 / 3 : هذا لأنهم متشاكسون مختلفون ، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى : ( لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ ﴿١٤﴾ الحشر ). وهذا أيضا ينطبق الآن على المحمديين ، فهم بأسهم بينهم شديد ، مع جهرهم بنفس التراث الكافر.

4 ـ وعن الصحابة المنافقين : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ۖ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ۙ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ ﴿٢٠﴾ محمد )

5 ـ وفى الآخرة يتعظم رعبهم . قال جل وعلا عن الكافرين يوم الدين :

5 / 1 : ( وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ۚ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴿١٨﴾ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴿١٩﴾ غافر )

5 / 2 : ( قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ ﴿٨﴾ النازعات )

 

 

 

 

 

 

مقالات الفصل الثالث : النفس فى الآخرة 

خلق وموت وبعث الكون كله

  مقدمة :

1 ـ لكل نفس بشرية جسدان ،أولهما مادى ينتمى الى هذا العالم ،أى من ماء وتراب ، والآخر هو طاقة ـ أى عمل الانسان ، وستتجسد تلك الطاقة لتكون ثوبا ترتديه النفس حين البعث ، بعد أن تأخذ حظها فى الحياة على هذا الكوكب ثم تموت.

2 ـ خلق الانسان وموته وبعثه مرتبط بخلق وموت وبعث الكون ، كلها تفصيلات فى خريطة البداية و النهاية التى أنشأها وفطرها الخالق جل وعلا، الذى لم نقدره حق قدره فجعلنا بعض مخلوقاته قرينا له ..سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا

 3 ـ والانسان الظالم لربه جل وعلا والذى لم يقدر ربه جل وعلا ينكر البعث ، ويرد عليه رب العزة بالتذكير بأن الذى خلق السماوات والأرض ـ بلا تعب ـ قادر على أن يحييهم بعد موتهم : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ( الأحقاف 33 ). وفى تفصيل آخر يقول جل وعلا:(  وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ( الروم 25 " 27 )، فالبعث أهون من خلق السماوات والأرض وتدميرهما وإعادة خلقهما ، فهذا هو المثل الأعلى لما سيجرى للانسان من خلق ثم موت ثم بعث.

ولأن كل شىء محسوب بأدق ما يمكن تصوره من تفصيلات فإن خلق الانسان ونفسه وجسده الأول وجسده الأخير كلها تفصيلات فى منظومة كبرى غاية فى التعقيد وغاية فى التنظيم والحساب والتقدير. دعنا نبدأ قصة الكون من أولها الى نهايتها من خلال القرآن العظيم:

 أولاخلق الكون : ( الانفجار الأول : انفجار الميلاد)

 1  : يقولون بنظرية الانفجار الكونى الهائل ، أى إن الكون كان فى بدايته على هيئة مادة مكدسة الى أبعد الحدود ، ولما زاد الضغط عليها انفجرت وتناثرت وأخذت تتمدد وتنتشر الى يومنا هذا ، ونشأ عنها الكون المعروف لنا من الأرض والكواكب والنجوم والمجرات .ونشرت جريدة الأخبار بتاريخ 14 نوفمبر 1989 ان وكالة الفضاء الأمريكية ناسا تبدأ فى ذلك الوقت تنفيذ برنامج علمى يتكلف 400 مليون دولار يستخدم قمرا صناعيا لدراسة الاشعاعات المتخلفة عن الانفجار الاكبر الذى وقع منذ 15 مليار عام ، وتمخض عنه الكون بما فيه من نجوم ومجرات.

وهناك رأى آخر يجعل حدوث الانفجار الأول من 18 مليار عام ، وقد اكتشف العلماء عام 1965 صدى لموجات كهرومغناطيسية ضعيفة فسروها بأنها صدى هذا الانفجار الأول ، وأنه يمكن رصدها حتى الآن .وفى 11 ابريل عام 1990 نشرت الأخبار أن التليسكوب العملاق هابل تم إطلاقه فى مهمة تستغرق 15 عاما لتحديد تاريخ نشأة الكون ، من وقت الانفجار الأكبر الذى يتراوح بين 10 اى 20 مليار سنة ضوئية.

2 : وقبلهم يقول رب العزة (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا )( الأنبياء 30 ). ( الرتق ) اى الذى لا مسام فيه ، و( الفتق ) هو الانفجار الآتى من الداخل ، وهو تصوير معجز لمادة مكثفة مكدسة تفجرت من داخلها ، وجاء التعبير مكثفا بأقل كلمات ممكنة باللغة العربية فى وصف ما يسمونه بالانفجار الأكبر(  Big bang).

 3 : ولكن رب العزة يضيف لنا مقدما ما لم نصل الى معرفته بعد.

*فالانفجار لا يقتصر على ما نسميه بالكون ( أى الكواكب والنجوم والمجرات ) ولكن يشمل السماوات السبع ، وهى التى لم يصل اليها علمنا الراهن بعد.

*كما إنه لم يصل بعد الى حكمة التخصيص الدائم للأرض وجعلها مقرونة بتلك السماوات.

بل إن الأرض تتكون من سبع أرضين ، لا نعرف منهن سوى التى نعيش عليها : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ) ( الطلاق 12).

*بل إن هذا الكون ـ  بنجومه ومجراته والذى تعتبر الأرض حبة رمل فى صحرائه ـ لا يساوى فى التقييم الالهى سوى فاصل يقع بين الأرض والسماوات ،أو هو ( ما بينهما ) :(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) ( السجدة 4)

 ثانيا : تخليق كونين متناقضين يجريان ، واتساعهما وامتدادهما فى اتجاهين مختلفين:

  1 ـ أكّد رب العزة أنه جل وعلا هو الأحد الصمد الذى لازوجة له بينما يوجد زوج أو نقيض لكل المخلوقات من جماد وطاقة وحيوان ونبات وانسان وجن وملائكة وكون ونجوم ومجرات وارض وسماوات ،يقول جل وعلا :(وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا) ( الزخرف 12).

2 ـ وهذه الزوجية تصاحب توسع الكون وامتداداته ، يقول جل وعلا: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ  ) ( الذاريات  47 : 49 )، فهنا تأكيد على اتساع الكون :(وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ )، وهذا التوسع والامتداد فى المجرات وفى السماوات يرتبط بقانون الزوجية ، أى خلق الله جل وعلا خلال هذا التوسع والامتداد زوجين من كل شىء : (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ )، أى فكل شىء نعرفه أو لا نعرفه له زوج أو نقيض ، نفهم هذا من قوله جل وعلا :(سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ  ) ( يس 36 ) أى إن قانون الزوجية ـ أو التناقض ـ يسرى على كل الكائنات والمخلوقات ، من الانسان ( ذكروأنثى ) ومن النبات ـ ومما لا يعرفه البشر.

ثالثا : ( الانفجار الثانى : انفجار الموت ): تلاقى الكونين المتناقضين وانفجارهما وتدميرهما والعودة الى نقطة الصفر:

  يقول جل وعلا (  يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) ( الأنبياء 104 ) التشبيه هنا غاية فى الايجاز والاعجاز ، أى من نقطة الصفر انفتح الكتاب ، ثم أعيد قفله بالتقاء الطرفين المتباعدين ، بما يعنى شيئين : أن البداية من الصفر والنهاية الى الصفر ، وأن الامتداد محسوب الى (أجل مسمى ) حيث يسير الطرفان النقيضان ( الزوجان ) فى مسار مقوس ينتهى ىبهما الى الالتقاء ، والالتقاء يعنى الصدام ، والصدام يعنى الانفجار ، والانفجار يعنى العودة لنقطة الصفر ، أى مجىء الانفجار الثانى بالموت بعد أن جاء الانفجار الأول بالميلاد.

إن كتاب الكون بعد أن يكتمل انفتاحه وتوسعه تلتقى حافتاه فيحدث الانفجار الثانى ويتدمر أو يموت راجعا الى نقطة الصفر الأولى.

رابعا :البعث والقيامة يعنى مجىء الله جل وعلا ولقاؤه:

ويبدأ بعدها خلق أو بعث عالم جديد ، يقول جل وعلا:(يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ  ) ( الأنبياء 104 : 105)، فانفجار الموت يعنى بعثا لكون جديد بأرض جديدة يرثها العباد الصالحون ، وكما بدأ الله جل وعلا أول خلق فهو يعيد خلقه بالبعث ، غاية ما هناك أن تأتى أرض خالدة وسماوات  خالدة لتحل محل الأرض الزائلة و السماوات الزائلة.

وهذا العالم الخالد الجديد هو الذى يتحمل مجىء الواحد القهار:(يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار ) ( ابراهيم 48 ). إنه يوم القيامة حين يقوم الناس لرب العالمين ، والذى ينكره الظالمون (أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) ( المطففين 4 : 6 ). فيه تتدمر الأرض ويأتى ربك والملك صفا صفا وتأتى جهنم ويندم الانسان المخطىء الخاسر: ( كَلاَّإِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُوَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي )( الفجر 21 : 24).

خامسا : يومان : يوم الدنيا ويوم الآخرة :إذن هما يومان ، يوم زائل ويوم خالد.

1 ـ اليوم الزائل له بداية ونهاية ، من الانفجار الأكبر الأول الى الانفجار الثانى بتدمير هذه الأرض والسماوات ومابينهما وما يتخللهما من عوالم البرزخ . اليوم الآخر الذى لا ثالث له هو اليوم الخالد الذى يبدأ ببعث أو إعادةخلق الارض والسماوات وبعث البشر، ورجوعهم الى الله جل وعلا  ، فاليه المصير واليه ترجعون ، ويكون حسابهم ومآلهم ـ حسب عملهم ـ خالدين فى الجنة أو خالدين فى النار.

2 ـ فى اليوم الأول الزائل ( الدنيا ) يكون للانسان جسدان ، أحدهما مادى تتخلله النفس والآخر يخلقه الانسان بعمله خلال المدة التى يعيشها فى هذه الدنيا ، ثم يموت جسده المادى ويعود الى الأرض وتعود نفسه الى البرزخ وينتظرها عملها ، ولكن حين يتم البعث يكون للنفس جسد واحد ، إذ ترتدى النفس ثوب عملها الذى عملته ،فإن كان صالحا ونورنيا أصبحت به صالحة لدخول الجنة .وإن كان شرا وظلما وظلاما اسود به وجهها ودخلت به النار تتعذب فيها أبد الآبدين.

3 ـ فى اليوم الأول يتمتع البشر بالحرية المطلقة فى التفكير والتدبير والطاعة والمعصية والايمان والكفروالقول والفعل وعدم الفعل. ويفقدون هذه الحرية عند الاحتضار ، ويؤتى بهم جميعا فى اليوم الآخر فاقدى الحرية فى البعث والحشر والعرض والحساب . وبعدها ينقسمون الى قسمين ، من يدخل الجنة يستعيد حريته ويقضى حياته منعما حرا ، ومن يدخل النار يتجرع العذاب ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ، ولا يستطيع الفرار ولا أمل له فى التخفيف أو الامهال أو الانتظار أو حتى الموت ..ويظل هكذا أبد الآبدين.

سادسا :مقدار اليوم الأول

1 ـ يبقى التساؤل الهام : إذا كان اليوم الأول الزائل له بداية وله نهاية ، فكم مقداره من بدايته الى نهايته ؟ كم هو عمر هذه الدنيا من بداية الانفجار الكبير الأول الى تدمير العالم بالانفجار الثانى القادم ؟ يمكن أن نعرف الاجابة من بداية سورة المعارج : (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) ( المعارج 1 ـ).

2 ـ نتصورمن خلال فهمنا القاصر للقرآن الكريم أن الله جل وعلا أخذ قطعة ضئيلة من الزمن الخالد وفجّرها فكان منها الانفجار الأول الأكبر حيث تحولت تلك القطعة الضئيلة من الزمن الخالد الى زمن متحرك يتخلل مادة وطاقة منبعثة منه بأبعادها الثلاثة ويصبح الزمن فيها الضلع الرابع المصاحب للمادة . ولأنه أصبح زمنا متحركا فتختلف درجات هذا الزمن باختلاف سرعة المادة وحركتها ودرجة اهتزاز ذراتها . ويتوسع الكون بجزئيه المتناقضين ويستمر التوسع المقوس الى ان يلتقى النقيضان فيحدث الاتفجار ويتم تدمير هذا العالم الحادث الزائل ويبقى منه الأصل وهو تلك القطعة الزمنية المأخوذة من الزمن الأبدى الخالد ،وقد التصق بها عمل كل انسان فى بطاقته الخاصة به ، والتى ستكون الوصلة بالنفس حين البعث. قطعة الزمن هذه ستعود الى الأصل الذى جاءت منه ، وهو الزمن الخالد  والذى يكون أساس وجود اليوم الآخر الذى لاماض فيه ولا مستقبل . زمن حال مضارع راهن لا نستطيع تصوره.

 3 ـ هذه القطعة المأخوذة من الزمن الخالد ـ بعد تفجيرها الى مادة وطاقة تم مدها لتغطى مادة الكون وتتخلله ، وفى امتدادها تحولت الى زمن متحرك طوله خمسون ألف عام بالحساب الالهى ، وليس بحسابنا البشرى ،  خلال هذه الزمن أوكل الله تعالى للروح ( جبريل ) والملائكة تصريف هذا العالم فيما يخص الانسان ، فالروح لنفخ النفس والوحى الالهى والنزول بالحتميات ، وهناك ملائكة لحفظ الأعمال وملائكة للموت . وهم يصحبون الكون فى هذا اليوم ويعرجون به الى الله جل وعلا ، وحين تنتهى مدته ( الخمسون ألف عام بالحساب الالهى ) يكون لقاء الله جل وعلا وحساب البشر :( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ  ).

4 ـ الخمسون الأف عام هى بالحساب الالهى وليس بحسابنا ، إنه الحساب الذى على أساسه خلق الله السماوات والأرض فى ستة أيام:( وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ )( هود7 ). ستة أيام غير أيامنا بالطبع . ومعروف اختلاف اليوم الأرضى عن أيام الكواكب الأخرى فما بالك بالنجوم والمجرات وبلايين السنوات الضوئية ؟ وما هو الحال فيما وراء ذلك فى البرزخ ؟ وفى السماوات السبع التى لا يعرف العلم الحديث عنها شيئا بعد ؟

جدير بالذكر ذلك الاختلاف فى تقديرات الزمن حسب مستويات العوالم، يقول جل وعلا (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) ( الحج 47 ). هم يستعجلون العذاب ، والرد أنه آت ، وأن يوما بالتقدير الالهى مثل ألف سنة بالتقدير البشرى .( لاحظ كلمة ( مثل ) أى مجرد تشبيه هنا وليس باسلوب التقرير الدقيق ). وفى تدبير الأمر الالهى بين السماء والأرض وعروجه للرحمن يقول جل وعلا : (يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ )( لاحظ عدم استعمال كلمة (مثل ) هنا لارتباطها بليلة القدر وتقدير الحتميات المحسوبة بدقة للبشر).

ولكن فى الحالتين قال جل وعلا (مِّمَّا تَعُدُّونَ ). ولكن فى موضوع الخمسن ألف عام لم يقل مما تعدون ،أى الخمسون ألف عام هى زمن الاهى يستحيل علينا تخيله.

5 ـ ومع ذلك فهو قريب :(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا).

لقد اقترب موعد هذا اليوم ، ومن 14 قرنا نزلت آخر رسالة الاهية للبشر دليلا على اقتراب القيامة  وفى هذا الكتاب جاء التأكيد بأن الله جل وعلا خلق السماوات والأرض ليختبر الانسان : (وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) ( هود  7)وأن الله جل وعلا سيدمر السماوات والأرض واليه سيرجع الخلق.

وما بين هذا وذاك وخلال الخمسين ألف عام من الحساب الالهى ستتلقى الملائكة أوامر الرحمن بتدبير الحتميات الأربع الخاصة بالبشر، وهى الميلاد والوفاة و الرزق والمصائب ، وتنزل بها سنويا فى ليلة القدر . يقول جل وعلا :(  يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ) ( السجدة 5 ).( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ  ) ( سورة القدر)

ما يذكره القرآن الكريم غيوب ستتحقق . ربما يصل العلم لبعضها قبل اليوم الآخر ، ولكننا سنراها متحققة واقعة عين اليقين يوم الدينن وسنعلمها علم اليقين (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ  ) ( التكاثر5 : 7 ).عندها سنعرف أن القرآن الكريم هو الحق اليقين: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ) (  الحاقة 51) .

والعلم الحديث وصل الى مشارف بعض ما أخبر به رب العزة فى القرآن الكريم

أخيرا : بعض ماتوصل اليه العلم من حقائق القرآن الكريم:

ننقل من كتاب د/ عبد المحسن صالح ( الكون والكون النقيض ) هذه المعلومات عن طبيعة الكون المعروف لنا من نجوم ومجرات:

 خلق الكون من مادة وطاقة:

فالكون المعروف لنا يتكون من مادة وطاقة،وكل ما حولك وما فيك قد اتخذ شكل المادة ولكنها مادة مجسدة من طاقات جبارة أو أشعاعات مدمرة، والمادة والطاقة وجهان لشسئ واحد وتقود أحداهما للأخرى ، وبهذا تنبات أحدى معادلات النظرية النسبية التى تقول :الطاقة = الكتلة في مربع سرعة الضوء بالسنتيمتر في الثانية ،أو (ط= ك في س2 ). فالطاقة الرهيبة المدمرة التي تظهر عن التفجير هي جزء ضئيل من المادة تحول إلى طاقة تفوق تصورات البشر، وكذلك فإن الشمس والنجوم تحول جزءا من مادتها إلى طاقة . والكون كله مادة وطاقة وهما وجهان لشيء واحد ، فإذا إختفت المادة ظهرت على هيئة طاقة او موجات،وإذا تجسدت الطاقة ظهرت في صورة مادة..

  خلق الكون كونين : كون وكون نقيض ( قانون الزوجية فى القرآن : "وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ"

1 ـ أشارت معادلة ديراك إلى إمكان تجسيد الطاقة وتحويلها من قبسة ضوء جارفة واشعة جاما غير المنظورة إلى جسمين  سويين أحدهما نقيض الآخر.

واستطاع العلماء تخليق اللكترون ونقيضه في معاملهم الأرضية بالبلايين

في اكتوبر 1955 استطاع الأمريكان تخليق البروتون النقيض ، وقد انطلق بسرعة 10 الف كم في الثانية ومات بعد ان قطع مسافة 12 متر في 51 جزء من الف مليون جزء من الثانية . ومات لأنه لا ينتمي لهذا العالم.

وفى سنة 1977 توصل العلماء إلى تخليق نواة نقيضة لذرة الهيدروجين عندما نجحوا في السيطرة على تجميع بروتين نقيض مع نيترون نقيض في نواة ولكن النواة النقيضة ما لبثت أن ماتت في لحظة خاطفة لتتحول إلى موجات كهرومغناطيسية .وأصبح بالإمكان تخليق الأيدروجين النقيض والكربون النقيض والأوكسجين النقيض والنيتروجين النقيض.

2 ـ والذرة النقيضة لا تختلف عن الذرة العادية في صفاتها الطبيعية او الكيميائية، فلا تستطيع أن تفرق بين الذهب والذهب النقيض أو الماء والماء النقيض ، ولكن الفارق بين الذرة في عالمنا والذرة النقيضة هو أن الذرة النقيضة معكوسة الشحنات والمجالات والأقطاب المغناطيسية وحركة الدوران.

3 ـ وليس هناك مكان واحد امين على كوكبنا يستطيع أن يحتفظ  فيه بقطرة ماء نقيض ، اللهم إلا أذا أوجدنا لها فراغا مطلقا على أرضنا لتقف معلقة فيه بحيث لا تقربها ذرات عالمنا . والانسان مهما بلغت وسائله العلمية لا يستطيع أن يتوصل إلى  خلق فراغ مطلق ، ولهذا لا يمكن أن تعيش أي ذرة نقيضة في عالمنا إلا لحظة واحدة وبعدها تفني بمجرد ملامستها لأي ذرة أرضية وتختفي مادتها على هيئة موجات إشعاعية تنطلق في الكون بسرعة الضوء.

4 ـ المادة والمادة النقيضة لابد أن تتساويا تماما ، بمعنى أن نصف الأجرام السماوية من المادة ونصفها الآخر من مادة نقيضة . وهنا نستطيع القول بأن مبدأ الأزدواجية قد أكتمل على مستواه الكوني.  أو بتعبير آخر : عندما حدث الانفجار الأكبر انقسم الى فرعين متناقضين ، جرى كل منهما فى اجاه مناقض للآخر ، وتوسع كلاهما بنجومه ومجراته مبتعدا عن الآخر ، لأنه لو التقيا فسينفجران.

 اتساع الكون : ( وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)

تقول نظرية الميل الأحمر : كلما زادت سرعة النجم ابتعادا عن الأوض كان لونه ضاربا للحمرة وكلما ازدادت سرعته نحو الأرض أقترب لونه من الأزوق.

على أساس هذه النظرية قدر العلماء عمر الكون الذي بدأ بإنفجار هائل من حوالي 18  الف بليون سنة ، ومنذ ذلك الوقت بدأ الكون يتسع ، وبطريقة غير معروفة تكونت المجرات من المواد التي تخلفت عن الانفجار . والرأي السائد حاليا ان الكون سيستمر  في الاتساع والتمدد. وزيادة الميل إلى الأحمر يدل على أن الكون آخذ في الأتساع والتمدد .ويقول العالم البريطاني فرايد أنه كلما اتسع الكون ظهرت منه تكوينات جديدة من النجوم لملء الفراغ.

 ونظرية النسبية تقول أن الكون في حالة تمدد مستمر وانه مقوس وأثبت ذلك بالمعدلات الرياضية.

وأعلن العالم الروسي فريدمان 1922 تاكيد النظرية النسبية في تمدد الكون وانه في حالة حركة .وبعد ابحاث عشرين عاما قال العالم الأمريكي الين سانديج ان سرعة تمدد الكون 235 مليون ميل في الدقيقة وان تمدد الكون قد بدأ منذ 18 الف مليون سنة ومع ذلك فإن الكون تمدد بسرعة منتظمة وسريعة جدا وفي جميع الاتجاهات.

فى عام 1974 اعلن اربعة علماء متخصصون في الفلك برئاسة دكتور ريتشارد جوث من جامعة تكساس الامريكية في دراسة علمية هامة استغرقت سنوات طويلة ان الكون في حالة تمدد غير محدد المدى أي حالة تمدد لا نهائي وانه ليس معروفا ما سيحدث بعد ذلك وهل عندما يصل الكون اإلى حد معين هل سوف يبدأ في الأنكماش على نفسه مرة اخرى ولكن يقولون طبقا لنظرية اينشتاين في ان الكون مقوس فإنه سياخذ الشكل الدائري بالتقاء الأقواس أو انه اتخذ الشكل المقوس فعلا من ملايين السنين.)(الوفد 29 يولية 1987)

 والقرآن الكريم سبقهم فى إلتقاء طرفى الكونين ( الكون والكون النقيض ) (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) وعندها سيحدث الانفجار الثانى ويتلاشى العالم.

كيف ؟

عندما يلتقى الجسم مع مضاده في الفضاء يتلاشى الأثنان وتنطلق طاقة هائلة .  فإذا تقابل اليكترون بضده فلابد ان يفني أحدهما الآخر فناء تاما وتتحول مادتهما إلى حالة موجية أو الى ومضتين حارقتين تجريان في الكون بسرعة الضوء . فالألكترون ونقيضه يولدان معا في نفس اللحظة ونفس المكان ويموتان معا لو تقابلا في أي زمان ومكان .ولكي يولد الألكترون ونقيضه البوزيثرون لابد أن تصطدم كميه محدودة من الطاقة بهدف وعندئذ تتوقف وتتجسد إلى هيئة اليكترون ونقيضه ، والنقيض لا يستطيع أن يعيش في عالمنا لحظة واحدة.

فلابد أن يتقابل مع الألكترون في لمحة خاطفة ويأكل احدهما الآخر ويفنيان كمادة وتنطلق الطاقة من جديد.   

 ولنفرض انك كنت تمسك بيدك زجاجة بها لتر لبن وأنك خلطته – مجرد فرض ـ مع لتر آخر من لبن نقيض ، عندئذ يختفي كل اللبن ويختفي كل ما حولك حتى ولو كان مدينة كبيرة بها ملايين البشر، فقد تحول اللبن ونقيضه من حالتهما المادية إلى طاقات جبارة تهلك الناس والحجارة.

ونظرية النسبية تقول : ان الطاقة = الكتلة بالجرامات في  مربع سرعة الضوء بالسنتيمتر في الثانية ..أى :2 لتر لبن = 200 جرام وسرعة الضوء بالسنتيمتر في الثانية 30 الف مليون سم أذن فالطاقة = 2000 في 30 الف مليون في  30 الف مليون أرج . والأرج وحدة قياس الطاقة .أي يساوي 18 وأمامها 23  صفرا .وبالمعنى العملي = 44 مليون طن من مادة ال  ت  ن  ت  شديد الأنفجار .أو 220 قنبلة ذرية من نوع هيروشيما .  ماذا يحدث لو التقى نجم مع نقيضه .. لالتهم احدهما الآخر بعنف لا يمكن تصوره وكأنها القيامة. )

المصدرالعلمى  : كتاب الدكتور عبد المحسن صالح (هل لك فى الكون من نقيض ؟ الكون والكون النقيض) : 31، 43، 48، 120،52 – 53، عبدالمحسن 30 ، 4 ، 49 ،20 ، 21 ، 55 ، 142.  

 الكون : تنظيم ثم تدمير ثم بعث

مقدمة :

خلق الانسان وموته وبعثه مرتبط بخلق وموت وبعث الكون ، كلها تفصيلات فى خريطة البداية و النهاية التى أنشأها وفطرها الخالق جل وعلا، وقد تعرضنا فى الحلقة السابقة الى ميلاد الكون بالانفجار الكبير الأول ، وتوقف العلم الحديث عند اكتشاف الكون والكون النقيض بينما يستمر عطاء القرآن الكريم متحدثا عن السماوات والأرض من البداية الى النهاية حين يصطدم الكون والكون النقيض فيحدث الانفجار الثانى ـ انفجار الوفاة .

اعتمدنا علي الآيات التالية:

فى الانفجار الأول أى ميلاد الكون(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا )( الأنبياء 30 ).

فى اتساع الكون وقيامه على أساس الزوجية أو الكون والكون النقيض :(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(الذاريات  47 : 49 ).

فى  تدمير العالم كله حينما يلتقى الكونان النقيضان فيحدث الانفجار الثانى ، ويتدمر الكونان ويعودان الى نقطة الصفر الأولى:( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ)(الأنبياء 104 ). ويتلوه مولد اليوم الآخر أو الزمن الخالد بسماء خالدة وارض خالدة ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ  ) ( الأنبياء 104 : 105 )، وهذا العالم الخالد الجديد هو الذى يتحمل مجىء الواحد القهار:(يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار ) ( ابراهيم 48 ).  

 ونحاول الاجابة فى هذا المقال عما لم يصل اليه العلم عن  مظاهر يوم القيامة الفعلية حين يلتقى الكون بكل مجراته وسماواته بالكون النقيض المماثل له فيفنى كل منهما الآخر وتقوم الساعة .

 أولا :الحساب الدقيق أو(التقدير) فى الخلق والبعث :

يشمل هذا التقدير المحسوب خلق الكون وإعادة خلقه ، أو بعثه ، وهما عمليات محسوبة بدقة متناهية ومرتبطة ببعضها، يقول جل وعلا : (اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)( الروم 11)، فكما حدث انفجار الميلاد الايجابى يحدث انفجار عكسى سلبى بالوفاة ، ويعاد خلق وبعث الكون الميت وفق حسابات تنتظم الخلق الأول وتدميره ثم بعثه ،( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ) ( الأنبياء 104 ).

عن حياتنا الدنيا بما فيها من عوالم الغيب  والشهادة المرئية يقول جل وعلا :( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)( الفرقان 2 ).وهذا التقدير المحكم الذى يسرى على كل شىء فى هذا العالم الدنيوى هو موصول بالآخرة وقيام الساعة :(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍوَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) ( القمر 49 ).

إن عوامل الفناء تكمن داخل عوامل الحياة والبقاء والبعث ، وهى عمليات متصلة تجرى فينا نحن البشر كما تجرى حولنا فى الحشرات وفى النجوم على السواء كارهاصات لما يحدث فى الكون كله من ميلاد ووفاة وبعث. ونرى التنظيم فى أدق الأشياء وأكبرها ، دوران الاليكترون حول النواة ودوران الكواكب حول النجوم ، ونرى نفس الدورة من حياة وموت وبعث فى أطوارالحشرات كالذبابة والنحل والنمل ، وفى النجوم حيث يبدأ النجم صغيرا ويشتد عوده ثم يشيخ ويهرم ثم يموت وينفجر ويتحول الى ثقب أسود أو ثقب ابيض ،أى شبح من الطاقة يلتهم من يقترب منه من النجوم .

ثانيا : خلق الكون وتنظيمه

الخالق جل وعلا الذى يحفظ الاليكترون فى دورانه حول نواة الذرة هو الذى يحفظ الكواكب السيارة فى مداراتها حول نجومها ، ويحفظ المجرات فى مداراتها حول مركزها . ويفسر العلماء هذا التوازن فى الكون المرئى بوجود قوتين نقيضتين متعادلتين هما الجاذبية وقوة الطرد المركزية.

وقبلهم جاء التعبير القرآنى فى حفظ مدارات الأجرام السماوية بعبارات بسيطة موحية بتفصيلات متنوعة .

ونأخذ أمثلة :

1 ـ يقول جل وعلا : (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) ( الذاريات 7 )أى محكمة محبوكة ممسوكة .

2 ـ وليس فيها قصور: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ) ( الملك 3 )، اى إن الكون مبنى على حسابات ومعادلات دقيقة وصحيحة وسارية الى أن يشاء الخالق جل وعلا .

3ـ وليس فيها فروج أو ثغرات ( أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَاوَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ)( ق 6 ).

4 ـ ، وقد تكرر وصف السماء بالبناء كثيرا،يقول جل وعلا :(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَابِأَيْدٍ ) (الذاريات  47) أى بناها جل وعلا بقوة ، (وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا) ( الشمس 5) (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء)(البقرة 22 )(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً)(غافر 64). وبنظرنا القاصر نتطلع الى السماء فنتخيله فراغا ، بل نسميه فضاء ، ولكنه بناء راسخ محكم.

5 ـ وهذا البناء السماوى كله سقف مرفوع محفوظ:( وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا)(الأنبياء 32 ) ، وكونه كله سقفا مرفوعا يعنى أنه لا شىء بعد هذا السقف ، أى كل طبقات السماوات هى كلها سقف مرفوع :( أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ) ( نوح 15 )

6 ـ وهذا السقف المرفوع هو محفوظ بدون أعمدة مرئية لنا :(اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) ( الرعد 2 ). ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) ( لقمان 10 )

7 ـ وبالتعبير القرآنى فإن الله جل وعلا هو الذى يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا حين يأذن بقيام الساعة وتدمير الكون:(إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاوَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) ( فاطر 41 )(وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ) ( الحج 65 )

8ـ وهذا الكون فى انضباطه يؤكد قيامه على حسابات ومعادلات ، إكتشف الانسان بعضها فى القدم فيما يعرف بالحساب الفلكى ، فالشمس والقمرحركتهما محسوبة:(فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًاذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ )( الأنعام 96 )(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)( يونس 5 ).وعلى المعادلات الرياضية يتم اكتشاف الأجرام السماوية وبها تولدت نظرية النسبية وصدقت تنبؤاتها الحسابية .أى إن هناك ميزانا دقيقا يضبط حركة الكون الى أن يصل الى أجله المحتوم (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍوَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) ( الرحمن 5: 7 ) ولنتأمل قوله جل وعلا : (سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)( يس 36 : 40 ).

9 ـ ويصل التوازن والحساب الدقيق الى الأرض ، فهى مثل ثمرة برتقالة ، القشرة فيها تغطى جوفا ملتهبا ، وقد تم تثبيت تلك القشرة الخارجية بأوتاد هى الجبال ، ولمعادلة الضغوط الداخلية تتحرك القشرة فتحدث الزلازل ، أو تجد السوائل الملتهبة طريقا لها عبر البراكين ، وكله محسوب ومقدّر بدقة .

وعن دور الجبال كأوتاد للقشرة الأرضية ورواسى لها يقول جل وعلا (وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ) ( الأنبياء 31)، أى بدون الجبال ستنهار بنا القشرة الأرضية لنغرق فى جوف الأرض الملتهب ،ويقول جل وعلا عن كروية الأرض ودور الجبال فى ارسائها:(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ)( الرعد 3) (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ) ( ق :7 ) أى إن مصدر الجبال من غازات آتية من الفضاء الخارجى فتكثفت وتصلبت لتكون أوتادا للقشرة الملتهبة (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا)( النبأ 6 : 7 )

ونختم بقوله جل وعلا فى تنظيم الكون وحفظ الأرض: (أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ) ( النازعات 27 : 33 )

ثالثا : موجز تدمير الكون وموته ثم بعثه واعادة خلقه وبعث البشر و حشرهم

كل هذا النظام المحكم سيتدمر وينهار حين يلتقى الكونان النقيضان بما فيهما من كواكب ونجوم ومجرات وسماوات ، ونوجز الاشارة فى الآتى :

1ـ  فى ايجاز يقول جل وعلا :(وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةًتَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَفَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( يس 48 : 54 ): الانفجار الثانى صوت هائل يعبر عنه جل وعلا بالصيحة الناتجة عن تدمير الكون:(مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةًتَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ  ) والانفجار الثالث صوت ضخم (نفخ الصور)، وينتج عنه بعث البشر من القبور:(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ )،ثم انفجار رابع ينتج الحشر وحشد الناس وتسييرهم الى لقاء الله جل وعلا : (إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَفَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون).

2 ـ ونعطى تفصيلات قرآنية :

صوت الانفجار الثانى الذى يتم به تدمير العالم : (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) ( الحاقة 13 : 15 ) فى هذه النفخة الواحدة والتى تكون أول ما يسمع البشر الأحياء وقتها تندكّ الأرض وتقع الواقعة أى الساعة ، وتكون القيامة.وبعد الانفجار الثانى وتدمير هذا العالم يتم خلق عالم جديد مصاحبا لصوت الانفجار الثالث بالبعث ثم الرابع بالحشر فى قوله جل وعلا: ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ) ( الزمر 67 : 68 ). هنا يرتبط النفخ أو صوت الانفجار الثالث بالصعق ، وبالصعق يحدث البعث بالتحام الأنفس بأجسادها الجديدة المكونة من عملها فترتدى كل نفس عملها .وبعض الأنفس ماتت صغيرة بلا رصيد من عمل أو مسئولية ، لذلك لا يحدث لها صعق ،اى بعث بلا صعق، وهذا بمشيئته جل وعلا:(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ)،لذا يقول جل وعلا عن المعاندين المكذبين بالبعث:(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) (الطور 45 ).صوت الانفجار الرابع الذى يسمعه الناس فيحشرون والى ربهم يرجعون :( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ)،وعن هذه النفخة الأخيرة يقول جل وعلا:(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) ( النبأ 17 : 20 ). وتتميز النفخة الأخيرة أو صوت الانفجار الأخير بتعبيرات عميقة الدلالة مثل النقر فى الناقور(فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِفَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ  ) ( المدثر 8 : 10 )و(الصاخة) التى تأخذ بالسمع :(فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) ( عبس 33 ـ )

رابعا : بعض تفصيلات قرآنية فى تدمير النظام الكونى كله

1 ـ تدمير الجبال التى كانت رواسى الأرض ودك الأرض :

(إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا  ) ( الواقعة 4 : 6 )

(يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلا  ) ( المزمل 14 )

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ) ( طه  105 : 107) ( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ)( القارعة 5 )

 2ـ مع تدمير الجبال فى الأرض تتحول بحارها الى لهب متفجر ، وتنشق السماء وتنفتح وينهار نظامها الكونى و تتفجر النجوم وتنتثر الكواكب  وتمور السماء بأصوات الانفجارات وتتلون باللوم الأحمر مثل وردة مدهونة :(يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا )( الطور 9 ، 10 )(يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ) ( المعارج 8 : 9 )(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ) ( المرسلات 8 : 13 )(فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ  ) ( الرحمن 37 ) (وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا  ) ( النبأ 6 : 20 ) (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ)( التكوير 1 :   )(إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ) ( الانفطار  1 ـ  )

 وتأتى النهاية بموت هذا العالم بالانفجار الثانى .

 

 كيفية بعث الجسد الآخر

 مقدمة  :   

كل هذا النظام المحكم للكون سينهار حين يلتقى الكونان النقيضان وسيسمع البشر الأحياء وقتها صوت الانفجار الثانى الذى يتم به تدمير العالم : (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ) ( الحاقة 13 : 15 ) وبعد الانفجار الثانى وتدمير هذا العالم يتم خلق عالم جديد مصاحبا لصوت الانفجار الثالث بالبعث : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ )  هنا يرتبط النفخ أو صوت الانفجار الثالث بالصعق ، وبالصعق يحدث البعث بالتحام الأنفس بأجسادها الجديدة المكونة من عملها فترتدى كل نفس عملها .وبعض الأنفس ماتت صغيرة بلا رصيد من عمل أو مسئولية ، لذلك لا يحدث لها صعق ،اى بعث بلا صعق، وهذا بمشيئته جل وعلا. ثم يأتى صوت الانفجار الرابع الذى يسمعه الناس فيحشرون والى ربهم يرجعون :( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ)( الزمر 67 : 68 ).لذا يقول جل وعلا عن المعاندين المكذبين بالبعث :(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) (الطور 45 ). وعن هذه النفخة الأخيرة يقول جل وعلا:(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) ( النبأ 17 : 20 ). وتتميز النفخة الأخيرة أو صوت الانفجار الأخير بتعبيرات عميقة الدلالة مثل النقر فى الناقور(فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِفَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ)(االمدثر 8 : 10) و(الصاخة) التى تأخذ بالسمع :(فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)( عبس 33 ـ).

ونعطى بعض التفصيلات:

أولا : دورة الحياة والموت والبعث فى الكائنات:

1 ـ يقول جل وعلا : (اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، وهذا كلام عام عن كل المخلوقات ، من بشر وحيوان ونبات وجن وشياطين وملائكة وما لا نعلم من المخلوقات ، وبقية الآية تقول للبشر خصوصا :(ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)( الروم 11)، أى سنرجع الى الخالق جل وعلا فى يوم الحساب.

الكائنات العاقلة المسئولة هى التى تستمر دورتها الى النهاية ،اى الى يوم الحساب ولقاء الله جل وعلا.

والملائكة فى هذا الشأن نوعان : نوع لم يخلق بعد ، ومنهم ملائكة العذاب الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وهم  يظهرون بعد يوم الحساب وبمجىء النار التى سيكون وقودها أجساد الكفار والحجارة ، يقول جل وعلا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ  علَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) ( التحريم 6).

النوع الثانى له حرية يكون مساءلا على أساسها يوم القيامة ، يشمل هذا الانس والجن والملائكة ، ولذا نرى من الجن المؤمن والكافر (  وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ) ( الجن 14 : 15 ) ونرى الكفار من الجن والانس مع بعضهم فى نفس الموقف فى الدنيا والآخرة (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَاإِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ  ) ( الأنعام 128 ) (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِلَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) ( الأعراف 179 ). ونرى أيضا الملائكة فى وقت الرهبة عند العرض أمام الواحد القهار يوم القيامة (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لّا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ) (  النبأ 38 ) ونقرأ حديث رب العزة عن حسابهم فى نهاية يوم الحساب:( وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (الزمر 75) .

بقية الكائنات الحية التى تعيش بغريزتها دون ادراك لحريتها تنتهى دورتها الى يوم الحشر فقط دون يوم الحساب ولقاء الرحمن ، يقول جل وعلا :(وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)(الأنعام 38) ويقول (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ) (التكوير 5 ) . ويقول جل وعلا عن النبى يونس عليه السلام ( فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) ( الصافات 142 :144 )،أى لولا أنه كان من المسبحين وهو فى بطن الحوت ما أنقذه الله جل وعلا ، ومات فى بطن الحوت ، وأصبح ذلك الحوت قبرا له ، ويوم بعث ذلك الحوت سيبعث يونس منه ، وينتهى الحوت عند البعث ليكمل يونس بقية الدورة الى يوم الحساب وما يتلوهمن جنة أو نار.

هناك من الكائنات العاقلة من يفقد عقله وقدرته على الاختيار وبالتالى لا يكون موضوعا للاختبار ، أى فإن عمله لن يلتحم بنفسه عند البعث ، وبالتالى لن يحدث له الصعق:( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاءَ اللَّهُ ).ويلحق به من يموت دون التمييز وسن الرشد والتكليف والمسئولية.

ثانيا : دورة الحياة والموت والبعث بين الانسان والنبات:

 1 ـ كل شىء موزون فى هذا العالم ( الشهادة و الغيب )ومقدّر بأدق تقدير.

ويبدأ هذا بالماء أصل الحياة (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حىّ) ( الأنبياء 30 )، (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء  ) (النور 45 ) . ومحدد نزول عدد قطرات المطر فى أى مكان، إذ ينزل بتقدير الرحمن جل وعلا: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍفَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ)( المؤمنون 18)، ومن هذا التقدير الموزون ينبت النبات بحساب موزون دقيق مقدر محسوب:(وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ) ( الحجر 19 ).وهذا التقدير الموزون تتم به حياة النبات وتقوم عليه من حيوات الكائنات.

وهذا التقدير المحكم مستمر وموصول للعالم الآخر، فبنفس طريقة الحياة الحالية للنبات والانسان تتم طريقة البعث يوم القيامة ، وكما ينزل المطر فتحيا به الأرض الميتة سيهطل مطر آخر يتم به بعث الناس الموتى من القبور : ( وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ) ( الزخرف 11 )،(كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) ( الأعراف 29).

2 ـ  والله جل وعلا يلفت نظرنا الى دورة الحياة والموت والبعث فى النبات ، ويضرب الأمثال  فيقول:( إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(يونس 24 )،   (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُوَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا)(الكهف 45 ). والواضح هنا نلك الدورة ، ماء المطرالذى يحيا به النبات ، ثم ينمو النبات ويزدهر ، ثم يذبل ويندثر لتبقى منه بذرة تنتظر ماء المطر لتعود به الى دورة الحياة . ويذكر رب العزة جل وعلا لنا هذا لنعتبر ونتعظ ونرى من خلالها تكرار الموت والبعث حولنا.

3 ـ ويصل بنا التفكر والاعتبار الى النظر لأنفسنا على أننا نبات أيضا ، أو نبات متحرك عاقل ، ووجه الشبه هو نفس الدورة من الحياة والموت والبعث ، مع فارق أساس هو أننا نرى دورة الحياة والموت والبعث تتكرر فى النبات أمام أعيننا،أما بعثنا فهو مؤجل لم نشهده بعد ، ويأتى التمثيل بدورة النبات شاهدا ودليلا عليه . وبهذا نفهم قوله جل وعلا :( وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا) ( نوح 17 : 18 ). فالله جل وعلا أنبتنا من الأرض أحياء ثم يعيدنا اليها أمواتا ، ثم يخرجنا منها بالبعث أحياء فى اليوم الآخر.

ويأتى تفصيل أوضح فى قوله جل وعلا :(وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِوَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ)( ق 9 : 11). أى فالبعث والنشور والخروج من القبر هو بنفس دورة الحياة والموت والبعث للنبات ، ويلعب الماء الدور الرئيس فى هذه المراحل الثلاث.

4 ـ وقد نتوقف مع دور الماء فى هذه الدورة فى مقال قادم ، ولكن يعنينا هنا وجود الماء قبل خلق العالم :(وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍوَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء )(هود 7 ). ثم إن الماء هو أصل كل الكائنات فى عالم الغيب والشهادة من الانس والنبات والحيوان وعوالم البرزخ من الجن والملائكة ، فى هذا العالم والعالم النقيض له. وفى كل الأحوال يتقلب الماء فى أشكال شتى ،بسطها ما نراه فى عالمنا من ماء سائل ومتجمد وبخار غازى  أأ أبسطها ما نراه فى عالمنا المادى من ماء سائل الى ثلج وجليد متجمد الى بخار غازى ، وأعقدها ما لا نراه فى عوالم البرزخ وفى جنة المأوى حيث يعيش متنعما من يقتل فى سبيل الله (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ)( آل عمران 169 : 170 )، ثم يكون الماء فى الآخرة ضمن أدوات التنعيم فى الجنة ووسائل التعذيب فى النار ، فالجنة تجرى من تحتها الأنهار ، أما النار ففيها ماء حميم يشوى الوجوه وتتقطع منه الأمعاء (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ) ( الكهف 29 : 31).

الذى نعرفه هو نوعية من الماء تسقط من الغلاف الجوى فتنبت النبات ، هذا الماء المعروف لنا يسميه رب العزة ( مَاءً مُّبَارَكًا).وهناك نوعية أخرى من الماء لم نتعرف عليها بعد ، هى التى يتم بها البعث ، إذ بعد تدمير الأرض والبرزخ يتبقى النفس وعملها المحفوظ المقترن ببصمة الجسد الوراثية (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَه) (القيامة 3 : 4) ، النفس وعملها معا مثل البذرة التى للنبات ،ويهطل مطر البعث عليها فيتم البعث ، أى تلتحم النفس بعملها وبالبصمة المتبقية من جسدها الأرضى الذى فنى ، وينتج من الالتحام جسد جديد خالد صالح للنعيم أو للجحيم.

5 ـ وهذا البعث هو تفاعل لا ندرى كنهه ، ينتج عنه انفجار وصعق يصبح به الميت حيا مبعوثا من قبره ، قد ارتدت نفسه ثوب عمله . أى هنا بذرة وماء والتقاء يصحبه صعق وطاقة تتجسد الى مادة فى مستوى آخر من الحياة ، هى الحياة الخالدة التى لا موت فيها ولكن خلود فى الجنة أو فى النار حسب العمل والايمان.

ويستحق المزيد من التدبر قوله تعالى  (كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) فى آية :(وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِوَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ)( ق 9 : 11). والتدبر الصحيح يأتى من أولى التخصص فى العلوم الطبيعية . فالله جل وعلا يشبه بعث البشر ببعث النبات حين تسقط نقطة ماء على بذرة ميتة فتهتز بالحياة ويخرج منها برعم ضئيل يشق طريقه باصرار فوق أضعاف أضعاف وزنه من طبقات التربة . يستطيع العلم الحديث فى حاضرنا ومستقبلنا أن يصف لنا حركة تلك التفاعلات الكيماوية بالفمتوثانية وما ينتج عنها من صوت يكون انفجارا هائلا بالنسبة لحجم البذرة ، وما ينتج من طاقة يستطيع بها البرعم النابت فى البذرة تحمل الأثقال التى فوقه بل يخترقها. ومن المؤكد أن البحث العلمى فى بعث النبات سيكشف عن أسرار هامة سنراها يوم البعث.

6 ـ وللمزيد من التوضيح يقول جل وعلا :(أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ) ( يس 77 ـ ). رب العزة جل وعلا يستشهد على إمكانية البعث بدليل عقلى ودليل علمى . العقلى أن الذى خلق هو القادر على البعث ، والثانى هو تحويل الشجر الأخضر الى نار وطاقة، فالشجر الأخضر يتحول الى خشب ناشف يستخدم وقودا ،أى يتحول الى طاقة ، وبالضغط والحرارة لمدة آلاف القرون وتحت طبقات الارض يتحول الخشب الأخضر الى فحم او بترول ، وهما أهم مصدرين للطاقة ، والشجر الأخضر فى البداية هو طاقة شمسية تجسدت، ثم تتحول الى طاقة فى عمليات تبادلية بين المادة والطاقة ، وهو نوع من الحياة والموت والبعث تتجدد حولنا لتعطينا مثلا على ما سيحدث لنا يوم القيامة . وبالتالى فإن من ينكر البعث عليه أن ينظر حوله فى النبات والحشرات والشجر الأخضر الذى يتيبس فيكون خشبا وفحما وبترولا ومصدرا للطاقة.

وحتى ما نأكله من النبات يتحول بعضه الى مادة حية فى أجسادنا من بروتينيات تتجدد بها الخلايا بعد موتها وانسجة دهنية وكربوهيدراتية تتجسد بها الطاقة فى اجسادنا ،ونفايات ميتة صلبة وسائلة وغازية والى طاقة نتحرك بها ونتنفس ونمارس وظائفنا الحيوية والمعيشية . وفى كل الأحوال هى عناصر الأرض الميتة تتشكل بها الحياة وتعود للموت ثم تعود للحياة والبعث ، فى شكل النبات والحيوان ، فالطعام يأخذ نفس الدورة من نبات فنفايات وسماد فنبات وطعام ..الخ .. وكلها تجليات للبعث تحدث فى داخلنا وليس فقط حولنا.وانظر الى صورتك وانت طفل رضيع اين ذهب ذلك الجسد الطفل ؟ مات فى داخلك، فقد تحول الى جسد صبى ثم الى مراهق ثم الى رجل مكتمل ثم الى كهل وبعدها الى شيخ ثم الى أرذل العمر.

ثالثا : خلق وموت وبعث النفس

خلق الانسان مرّ بمرحلة برزخية تم فيها خلق النفس ، ثم مرحلة مادية تلبس فيها النفس رداءها الجسدى الأول الذى نتعارف به فى هذا العالم. لن نتعرض لخلق آدم من تراب وماء ثن نفخ جبريل أو ( الروح ) في آدم النفس فاستوى آدم حيا بجسد ونفس . ولن نتعرض لتكاثر البشر من آدم وحواء عبر التلاقى الجنسى وتكوين الجنين وولادته بعد نفخ النفس فيه .ولكن نتوقف مع خلق النفس ذاتها فى المرحلة البرزخية.

الواضح من القرآن الكريم هو خلق نفس واحدة ، هى نفس آدم ، ومنها انبثقت نفس حواء، ثم توالى خلق الأنفس جميعا فى عملية واحدة . غاية ماهنالك أن كل نفس تظل ميتة فى البرزخ تنتظر وقتها المحدد لها سلفا لتلتحم بالجنين الخاص بها فيتكون الانسان فلان الفلانى ، ثم بعد أن يعيش هذا الانسان ـ ذكرا أو أنثى ـ العمر المحدد له سلفا فى هذه الدنيا تفارق نفسه جسده فيموت بعودة النفس الى البرزخ الذى جاءت منه، وبعد أن تأخذ كل نفس دورها واختبارها فى هذه الحياة الدنيا ويتم اختبار البشر كلهم تقوم القيامة ويتدمر العالم ويتم بعث كل الأنفس مرة واحدة وتلتحم كل نفس بعملها الذى سيكون جسدها الذى تقابل به ربها و تلقى به مصيرها الى خلود فى الجنة أو خلود فى النار.

ومن هنا يوصى رب العزة البشر جميعا فيقول :(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَاوَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء  ) ( النساء 1 )،أى هى نفس واحدة تم خلق النفس الأخرى منها ، وبعد خلقهما بشرا تزوجا وانجبا وتزوجت الذرية وتكاثر العالم ولا يزال.ونفس المعنى فى الخلق من نفسواحدة يقول جل وعلا : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَالِيَسْكُنَ إِلَيْهَا  ) ( الأعراف 189).

من النفس الواحدة إنبثقت كل نفس تالية فى عملية ديناميكية متصلة حدثت فى البرزخ حيث تكمن الأنفس جميعا بعد خلقها ، وفى داخل كل منها ما يصلها بما فوقها وما يصلها بما بعدها ، ففى داخل كل نفس مستقر لما سبقها من أنفس ومستودع لما يليها من أنفس، يقول جل وعلا (وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) ( الأنعام 98 )، أى هى شبكة تفاعل متصلة ببعضهاموصولة بالنفس الأولى التى انبثقت عنها، ففى داخل نفسك مستقر يصلها بأسلافها الى نفس آدم ، وفى داخل نفسك مستودع لكل الأنفس من ذريتك الى نهاية العالم.

والله جل وعلا يربط البعث بالخلق الأول ،اى خلق النفس الأولى فى عملية ديناميكية متصلة وعكسية وبحسابات دقيقة فيقول (مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ) ( لقمان 28)، أى كما خلقنا من نفس واحدة سيبعثنا لنعود الى النفس الواحدة، ويتم البعث للجميع مرة واحدة، ولكن النفس سترتدى أو ستتزوج عملها ، أو بالتعبير القرآنى:  (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ)( التكوير 7  )

رابعا : صورة النفس هى صورة جسدها

حين خلق الله جل وعلا الأنفس مرة واحدة فى البرزخ أعطى كل نفس ملامحها الخاصة، يقول جل وعلا :(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ ) ( الأعراف 11 ) فالخلق هنا والتصوير للأتفس جميعا ، وبعده جاء خلق آدم والأمر بسجود الملائكة له.

وبعدها تناسلت ذرية آدم من خلال التلاقى الجنسى ، وفى الرحم تكون للجنين الواحد مئات الالوف من الاحتمالات للشكل الذى سيحمله من ملامح الوجه والجسد ، ويختار رب العزة له من تلك الاحتمالات شكلا محددا تتكون به صورة الجنين فى وجهه وعينيه ولونه وطوله وقصره وحجمه..الخ .. ثم يتحدد ايضا من البداية تطور تلك الملامح من وقت ولادته الى صباه الى بلوغه الى كهولته ثم الى شيخوخته ومماته. والبداية الأساس هى التصوير فى الأرحام ،أو الصورة التى يختارها لنا بمشيئته الرحمن ونحن فى الأرحام ، يقول جل وعلا : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءلاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ  ) ( آل عمران 6).

هذه الصورة التى يختارها لنا الرحمن ونحن فى الارحام هى نفس صورة النفس الخاصة بنا فى البرزخ . فكل جنين يحمل ملامح وجهه وأعضائه التى تم خلق نفسه بها . والنفس هى صورة كربونية للجسد الذى ستلتحم به وترتديه فى هذه الحياة الدنيا.

وبعد موت هذا الجسد وعودة النفس الى البرزخ تظل ملامحها هى نفس ملامح الجسد الذى كان . وعند البعث ترتدى النفس عملها ولكن تحتفظ بنفس ملامح الجسد الذى كان . ولذلك فان البشر عند البعث والحشر وسائر مواقف الآخرة يتعرف بعضهم على بعض ، لذا يتعرف الابن على ابيه والزوج على زوجه والأخ على أخيه ، وعند البعث والحشر يفرّ بعضهم من بعض بسبب هول الموقف يقول جل وعلا : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِلِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)(عبس 34 : 37).

آخر السطر

خاتم النبيين وجميع النبيين ـ كل منهم سيفر من أخيه وأمه وأبيه وزوجته وبنيه ، لأن لكل منهم شأنا يغنيه . وسيخسر من يموت وهو يعتقد فى شفاعة البشر..

 

 

 

 

التداخل بين عالمى الشهادة وعوالم البرزخ

أولا :سرعة الاهتزار فى عالم الشهادة : ( العالم المادى ):

1 ـ لست متخصصا فى العلوم الطبيعية ، وأطلب التصحيح لما أنقله هنا من أرقام ومعلومات.

2 ـ ذرات المادة الأرضية تتكون من مادة مرئية وضوء غيرمرئى . وحسب نظرية النسبية فالضوء مادة ، ولكن لا نراه بل نرى انعكاسه على المواد ، وهناك أشعة غير مرئية فى عالمنا المادى، وهى ايضا ضمن عالمنا المادى.ورؤية وعدم رؤية المادة الأرضية يتوقف على درجة اهتزاز ذراتها ، وذرات المادة الأرضية  تدور بسرعة تتراوح بين 400 ألف مليون دورة في الثانية الواحدة فى المواد المرئية لنا إلى 750 ألف مليون دورة فى العوالم المادية غير المرئية لنا ، ومن هنا نفهم قوله جل وعلا لنا (  فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ) ( الحاقة 38 : 39 ) فهناك مما لا نراه كائنات ومواد تقع ضمن عالمنا المادى ، وهناك منها ما يقع فى عوالم البرزخ وتتداخل معنا فى عالمنا المادى. لا نرى المواد التى تتجاوز سرعة اهتزازها سرعة اهتزاز المواد الصلبة من النبات والحيوان والجماد ، فسرعة المادة المتجسدة ( 400 الف مليون دورة فى الثانية) هى الأقل. وبعض العناصرالصلبة كالحديد تتحول الى السيولة فالتبخر ، تحت الحرارة الزائدة ،أى تتحول سرعة ذراته من 400 ألف مليون فى حالة الصلابة الى ما فوقها، ولو وصلت الى درجة التبخر فلن نراها، والسوائل كالماء يتحول الى بخار ، أى تزداد سرعة ذراته فتتعذر رؤيته ، فإذا تحول البخار لسائل مادى فالمعنى أنه قلّت سرعة اهتزاز ذراته فأمكن لنا رؤيته .

3 ـ والمواد الصلبة (400 ألف مليون فى الثانية) المرئية لنا لا نستطيع اختراقها ، فإذا تعرضت بفعل خارجى الى اهتزازات بنفس سرعة اهتزازات الغازات لن نستطيع رؤيتها ، فمثلا بمحرّك الطائرة تزداد سرعة أهتزازات مروحة الطائرة شيئا فشيئا وتختفى عن الرؤية شيئا فشيئا لتصبح غير مرئية لنا جزئيا ، فهى موجودة ولكن أصبحت غير مرئية لدخولها الى مستوى أعلى من حيث الاهتزازات . ولو وصلت سرعة اهتزازها الى مستوى الضوء والأشعة ( أى الى 750 بليون دورة فى الثانية الواحدة ) تحولت الى ضوء ، ولن نراها. ويمكن أن نخترقها وتخترقنا دون أن نحس بها .

4 ـ ولدينا ثلاث مستويات : مستويان فى هذه الدنيا ( عالم المادة وعوالم البرزخ ) ثم مستوى الآخرة حيث وجود أبدى خالد بدون برزخ . والحسابات الالهية تصل تلك المستويات ببعضها . ونتتبعها من خلال القرآن الكريم.

ثانيا :ارتباط حياة الانسان بهذا المستوى المادى الاهتزازى

1 ـ وحياة الانسان مرتبطة بهذا المستوى المادى لحركة ذرات جسده(400 ألف مليون دورة فى الثانية ) . وصحة الانسان العقلية تعتمد على توازن جسده المادى ، ولو تعرض انسان ما الى حركة دوران اهتزازية دائرية بسرعة تقترب من سرعة دوران المروحة مثلا اصيب بالتلف فى المخ ، وهى تجربة رأيتها فى إحدى القنوات العلمية الأمريكية. ومن طرق التعذيب المؤلمة تعليق الضحية فى مروحة تدور به لتصل به الى التلف لو استمر به التعذيب.

2 ـ حركة هذه الذرات تختلف فى هذا العالم المادى بين وجودها فى جسد مادى صلب ،أو خروجها فى شكل طاقة يتحرك بها الجسد المادى أو فى شكل سائل من دم وبول ،أو فى هيئة بخار للتنفس ، وكل ذلك فى إطار السرعة التى يعيش فيها عالمنا ( عالم الشهادة ) (من 400 ألف مليون دورة الى و غازى 750 ألف مليون دورة في الثانية الواحدة) ، ثم هناك حسابات أخرى لا طاقة لنا بادراكها فى عالم البرزخ حيث تعود النفس مؤقتا وقت النوم ، ثم تعود نهائيا بالموت. ثم هناك حسابات أكثر تعقيدا يوم القيامة بتدمير هذا العالم بأرضه وسمواته وبرزخه ، وبقاء تلك الحسابات ليقوم على أساسها البعث والحشروالحساب .

3 ـ وبموت الانسان فإن جسده المادى يعود الى عناصره الطبيعية الأولى المختلفة الاهتزازات ، أى الى تراب ( مواد صلبة) وغازات تتجول فى الهواء وتتخلل التربة .

واستحضارها فى عملية الخلق و عودتها الى عناصرها الأولى بعد الموت يأتى بحسابات الاهية لكل ذرة وسرعة اهتزازاتها ، والله جل وعلا يرد على تساؤل منكرى البعث وقولهم : (أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) فيقول جل وعلا : ( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ )(ق 3 : 4 ) . أى إن الحسابات الالهية تضبط وتحفظ حركة الذرات فى الجسد الانسانى ، تعرف بداية نشأتها ، ثم تخلقها وتحللها المؤقت وإعادة انتاجها، ثم عودتها بالموت الى عناصرها الأولى فى هذا العالم المادى ، ثم فى العالم البرزخى حيث يعاد بعثها خلقا جديدا لتأتى تترتدى عملها الصالح أو السىء.

4 ـ وكل تلك التحولات محفوظة ومضبوطة فى كتاب الاهى ، يسرى على الانسان كما يسرى على كل ما نراه حتى ورق الشجر وبذور الأرض قبل وبعد ظهورها للعيان ، من عوالم الغيب وعالم الشهادة المرئى منه وغير المرئى، يقول جل وعلا (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( الأنعام 59 ).

5 ـ ولكن فيما يخصّ الانسان فكل هذه التحولات تصل عوالم الغيب والشهادة فى هذه الدنيا بعالم الآخرة فى البعث والنشور و الحشر والعرض والحساب والجنة والنار.

ثالثا : جسد النبى محمد عليه السلام مثالا:

1 ـ ونعطى مثلا توضيحيا لتاريخ أى إنسان ، ونختار النبى محمدا عليه السلام ـ ردّا على المحمديين الذين يؤلهونه تحديا لرب العزة الذى لا اله معه ولا اله غيره .!.

2 ـ قبل أن يتزوج الشاب عبد الله بن عبد المطلب من الفتاة آمنة بنت وهب ، فقد تغذى جسدهما بالطعام المتاح فى مكة وقتها ، وهذا الطعام المادى ـ بعد هضمه وتمثيله غذائيا تحول الى طاقة ومادة تتجدد بها خلايا عبد الله وآمنة ، ومنها تم تخليق الحيوانات المنوية لدى عبد الله والبويضات لدى آمنة . وبزواجهما وعند الالتقاء الجنسى بينهما نجح حيوان منوى محدد فى الوصول الى البويضة فتم التلقيح وتكون الزيجوت ،أول خلية فى مشروع خلق انسان تسمى فيما بعد محمد بن عبدالله .

هذه الخلية الأولى تكاثرت وتحولت من خلق الى خلق فى قرار مكين داخل رحم آمنة ، عن طريق الدم الذى تتغذى به آمنة ، وهذا الدم هو نتيجة الطعام المتاح فى مكة ذلك الوقت ، وبعد الولادة رضع المولود، ولبن الرضاعة مستمد من الغذاء المتاح ، ثم بعدها تحول الى طفل يسعى ثم بلغ أشده واستوى ، ثم بلغ الكهولة الى أن مات .

فى كل تلك الأحوال دخل جسد ( محمد بن عبد الله ) مذ كان خلية واحدة الى أن مات ـ أنواع مختلفة من الطعام ، جرى هضمها وتمثيلها و إخراجها تنفسا وتبولا و غائطا ، لتعود الى الأرض . وكل شىء بحساب عند رب العزة ، يتعدى ما يحدث فى الدنيا الى البعث فى الآخرة أو كمايقول جل وعلا (وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ  ) (فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ). والله جل وعلا يربط البعث بالخلق الأول فى عملية ديناميكية متصلة وعكسية وبحسابات دقيقة فيقول (مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) ( لقمان 28) (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ) (الأنبياء 101 ).

نعود للقول بأن الحساب الالهى لذرات جسد محمد وما يدخل اليه من عناصر وما يخرج منه يتم بحساب دقيق من قبل ومن بعد ، الى أن مات محمد عليه السلام ، ورجعت نفسه للبرزخ الذى أتت منه ، وتحلل جسده لتعود كل ذرة منه الى مقرها الأول ، بنفس ما عادت نفسه الى مستقرها الأول شأن كل نفس بشرية ، والله جل وعلا يقول (وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ) ( الأنعام 98 )

3 ـ بموته عليه السلام عادت نفسه الى البرزخ الذى جاءت منه وانقطعت صلتها بهذا العالم ، فى موت ـ أو نوم ـ  ستستيقظ منه عند يوم البعث شأن كل من يموت . ولكن لجسده قصة أخرى

4 ـ بعد موته تحلل جسده الى تراب وماء وغازات شأن موت أى إنسان ، فالله جل وعلا خاطب خاتم النبيين وأعداءه بالتساوى فى استحقاق الموت ومعطيات الموت و كل ما يخص الموت البشرى فقال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)(الزمر 30 : 31  ). ومثلما تحلل جسد أبى جهل وأبى سفيان و أبى طالب وأبى بكر وأبى فلان وفلان تحلل جسد خاتم الأنبياء وكل الأنبياء ، وينطبق على الجميع قوله جل وعلا عن الأرض : (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) ( طه 55 )

وبالتالى لم يبق شىء الآن من جسد محمد عليه السلام . فخلال عدة ايام بعد موته ـ وفى البيئة الصحراوية الحارة ـ انتفخ جسده فى القبرثم انفجر وأكله الدود وتحلل ، ومات الدود وتحلل ، وتحول ما تبقى من الجسد بعد أشهر الى عظام نخرة ثم الى تراب وغازات وعناصر طبيعية كالتى تكون منها الغذاء الذى تغذت عليه أمه وأبوه والذى تغذى هو عليه حين كان حيا يسعى. أى كل ماكان يخص جسد محمد عليه السلام وكل اجساد الموتى من البشر قد تحول الى أرقام فى كتاب حفيظ :(قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ )(ق : 4 ).

 5 ـ وهل نسينا لغة الأرقام فى الأوزان الذرية للعناصر ، والمعادلات الرياضية للتفاعلات الكيماوية فى الذرات والحسابات الفلكية لحركات ومدارات وسرعات الكواكب والنجوم والمجرات ؟!

كل شىء موزون فى هذا العالم ( الشهادة و الغيب )ومقدّر بأدق تقدير.

ويبدأ هذا بالماء أصل الحياة (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ  ) ( الأنبياء 30 )، (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء  ) (النور 45 ) .

محدد نزول عدد قطرات المطر فى أى مكان، إذ ينزل بتقدير الرحمن جل وعلا: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ   ) ( المؤمنون 18) .

ودخول الماء الى الأودية يأتى بتقدير يناسبها:(أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا) ( الرعد 17)

وحتى فى طوفان نوح كان هناك حساب دقيق للمطر والماء المتفجر من الأرض ، والتقى الماء النازل والماء الصاعد بتقدير محكم وحسابات دقيقة :(فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) ( القمر 11، 12 ).

ومن هذا التقدير الموزون ينبت النبات بحساب موزون دقيق مقدر محسوب:(وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ  ) ( الحجر 19 ).

وهذا التقدير الموزون تتم به حياة النبات وتقوم عليه من حيوات للحيوان والانسان.

وهذا التقدير المحكم مستمر وموصول للعالم الآخر، فبنفس طريقة الحياة تلك للنبات والانسان تتم طريقة البعث يوم القيامة ، وكما ينزل المطر فتحيا به الأرض الميتة سيهطل مطر آخر يتم به بعث الناس الموتى من القبور : ( وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ  ) ( الزخرف 11 )،(كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ( الأعراف 29 ).

والأهم أن هذا التقدير يشمل كل شىء ويضع حسابا موزونا لكل شىء ، ولنتدبر قوله جل وعلا :(وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) ( الحجر 21 )،( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)( الفرقان 2 ).

وأيضا فهذا التقدير المحكم الذى يسرى على كل شىء فى هذا العالم الدنيوى هو موصول بالآخرة وقيام الساعة :(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) ( القمر 49 ).

6 ـ محمد عليه السلام هو مجرد تفصيلة ضئيلة جدا ضمن عوالم الدنيا ( المادية والبرزخية ) وعالم يوم القيامة، والتى يسيطر عليها التقدير الالهى المحكم .

ولنعط مثلا صغيرا : مهما بلغت قوة الانسان فلا يساوى شيئا بالنسبة للأرض ، واقرأ قوله جل وعلا:(وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا )( الاسراء 37).وهذا الكوكب  الأرضى مجرد ذرة رملية فى صحراء الكون المعروف لنا  ـ حتى الآن ـ بنجومه ومجراته .وهذا الكون المعروف لنا هو مجرد كلمة ( ما بينهما ) فى التعبير القرآنى عن خلق السماوات والأرض وما بينهما ، كقوله جل وعلا: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ ) (ق 38  )، هذا الكون المبهر لنا هو بنجومه اللامعة مجرد مصابيح للسماء الدنيا فقط : (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ )( فصلت 12 )، فما بالنا بالسماوات السبع التى تقع خارج تخيلنا ، والله جل وعلا يقول : (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (غافر 57  ).

7 ـ ولكن الذين لا يعلمون من المحمديين جعلوا محمدا المخلوق قرينا للخالق جل وعلا فى الشهادة وفى التوسل والدعاء والعبادة ، فما قدروا الله جل وعلا حق قدره ، وانطبق عليهم قوله جل وعلا : (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُيَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ  ) ( الحج 73 : 74 ). ودائما : صدق الله العظيم.!

 

 

 ( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ )( ق 3 : 4)

أولا:

1 ـ بموت الانسان فإن جسده المادى يعود الى عناصره الطبيعية الأولى المختلفة الاهتزازات ، أى الى تراب ( مواد صلبة) وغازات تتجول فى الهواء وتتخلل التربة، وطاقة يتم حفظها واختزانها .

واستحضار ذرات الانسان فى عملية الخلق وعودتها الى عناصرها الأولى بعد الموت يأتى بحسابات الاهية لكل ذرة وسرعة اهتزازاتها ، والله جل وعلا يرد على تساؤل منكرى البعث وقولهم : (أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) فيقول جل وعلا : ( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ )(ق 3 : 4 ) . أى إن الحسابات الالهية تضبط وتحفظ حركة الذرات فى الجسد الانسانى ، تعرف بداية نشأتها ، ثم تخلقها وتحللها المؤقت وإعادة انتاجها، ثم عودتها بالموت الى عناصرها الأولى فى هذا العالم المادى ، ثم فى العالم البرزخى حيث يعاد بعثها خلقا جديدا لتأتى وترتدى عملها الصالح أو السىء.  

2 ـ ونعيد التذكيربأن هذا الكون المادى يتكون أساسا من مادة الايدروجين، وما يتفاعل معها ، وتتقلب فى صور شتى من مادة وطاقة ، ومن مادة صلبة الى سائلة وغازية ، ومنها تتكون المجرات والنجوم والشجر والدواب والبشر لا فارق بين شعرة بيضاء فى رأس عالم فى معمل أو ريشة غراب أو حصاة فى كوكب أو صخرة فى نهر . وكما أن هناك دورة أو مدار للأفلاك والأقمار والكواكب والنجوم والمجرات على مستوى اعظم من النجوم والمجرات وهناك دورة على اضأل مستوى يدور به الالكترون حول النواة داخل الذرة، وهناك دورة حياة وموت بنفس الشكل الدائري نلحظها في تحول البذرة إلى شجرة والثمرة إلى بذرة في النبات ، والحيوان يأكل النبات والإنسان يأكل هذا وذاك ثم يموت الإنسان ويصبح سماداً يتغذى به النبات. وهكذا ..

الحسابات الإلهية تتعقب ذلك كله ، وتسجل ذلك كله من خلال كل الصور التي تتقلب وتتفاعل بها العناصروالتي تدخل بها في بناء الأجسام الحية من نبات وحيوان وإنسان، وما يخرج منها من عوادم ونفايات ، وما يعود منه إلى الأرض بعد موت الكائن الحي وتحلل جثته .

3 ـ وفي مرحلة محددة من تلك التحولات والتقلبات تأتي اللحظة الحاسمة للكائن الحي التي يضع فيها الله جل وعلا توقيعه على ذلك الكائن لتكون بصمته التي يتميز بها. ونحن نعرف الآن أن لكل كائن حي بصمته الوراثية (د . ن. أ) وعرفنا قبلها أن لكل فرد من البشر بصمته في جسده ؛ بصمة فى أنامله وفي عينيه وفي صوته وفي شفتيه يتميز بها . وما خفى أعظم .

  ونفهم من خلال القرآن الكريم أن للنفس البشرية أيضا بصمة ، وأن تلك البصمة لكل نفس بشرية لها تعلقً بأسلافها يصل بها إلى نفس آدم النفس الأولى ،كما أن لها تعلقاً  بذريتها إلى قيام الساعة . وبعد أن تلبس النفس جسدها البشري وتدخل في عالم الحياة الدنيا وتصدر عنها أعمال صالحة أو طالحة فإن هذه الأعمال تأخذ بصمة النفس .

4 ـ إن أعمال الإنسان ثلاثة اشكال : نية وصوت وحركة .

النية أو التفكير تصدر مباشرة من النفس تحمل بصمتها ، الصوت يخرج من الجسد يحمل بصمة صاحبه ، والحركة هى طاقة تحمل نفس البصمة،  والله سبحانه وتعالى يقول : (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا )(الإسراء 13 : 14) أي ما يطير عن الإنسان من أفعال لا تصبح عدماً ، ولكن يتم تسجيلها وكتابتها لتلتصق بعنق صاحبها يوم القيامة أي بنفس صاحبها فتأتي نفسه يوم القيامة وقد ارتدت كتاب أعماله . نفس الحال مع الصوت فالصوت الذى يحمل بصمة صاحبه لا يضيع ولكن يتم تسجيله ، وهناك رقيب وعتيد يسجلان كل ما يلفظ به الفرد . 

5 ـ وفي النهاية يتم تسجيل كل اعمال الانسان واقواله ومشاعره وأفكاره في (فيديو) إلهي لكل فرد بشر في مجتمعه وفي خلوته، أي في كتاب أعمال جماعي وفي كتاب أعمال فردي ، ومن كتاب الأعمال الجماعي تؤخذ نسخة لكل فرد :( وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)( الجاثية 28 : 29) ويعرض كتاب الأعمال الجماعي لكل امة ولكل مجتمع يحكي تاريخا صادقا صدقا مطلقا حيث يرى الناس أعمالهم بالصوت والضوء والألوان الطبيعية (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ )( الزلزلة 6 : 8 ).

عندها يكون ندم المجرمين هائلا فالله سبحانه وتعالى لم يترك شيئا دون تسجيل وتدوين (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) ( الكهف 49).

ونعيد التأكيد على أن كل ذلك محسوب بدقة إلهية يشمل البشر جميعا كمجموع ويشمل البشر جميعا فردا فردا (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ) (مريم 93 : 95) .

6 ـ الأرقام هى أساس هذا الحساب الدقيق . ونحن نعلم الآن بالحسابات أوزان العناصر وتفاعلاتها على مستوى الأوزان الذرية ، وبالأوزان والحسابات نعرف المسافات بين النجوم والمجرات ،ويوم القيامة سيكون (الحساب ) على مستوى الذرة :( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ )( الزلزلة 7 : 8 ).

ثانيا :

1 ـ ونعود إلى قوله (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ ) : تفيد علم الله جل وعلا المسبق بما تنقص الارض من البشر ، والله تعالى يعبر بالماضي لأن علمه فوق الزمان وقبل الزمان.

ما معنى تنقص الأرض منهم ؟ وما الذي نستهلكه نحن البشر من موارد الأرض على مستوى الفرد ومجموع البشر كلهم ؟  

منذ تكون أول خلية للجنين في بطن أمه يبدأ استهلاك صاحبها للغذاء عبر الرحم من دم الأم، ليس الغذاء بالطعام وحده فقط ولكن بالماء والأكسجين ، ويتطور ويتشكل الجنين عبر الطعام ويخرج طفلاً، وتبدأ دورة الرضاعة وإخراج النفايات من بول وغائط وزفير وثاني اكسيد الكربون.وخلال الاستهلاك لموارد الأرض من طعام وماء واكسجين تتولد طاقة الإنسان التي يتحرك بها ليعمل عملا صالحا وآخر سيئا ، وكل ذلك تتعقبه بالتسجيل والحفظ الحسابات الإلهية .

2 ـ ونعطي مثالا :

كم (طنا) استهلكها في حياته محمد عليه السلام في الطعام والشراب والتنفس مذ كان جنينا إلى أن مات ؟.

لنفترض أنه استهلك ( 100000 كجم ـ مائة ألف كيلو جرام ) من الموارد الطبيعية من طعام وشراب واوكسجين) كم طنا خرجت من جسده خلال حياته عليه السلام (بول ،براز، تنفس)؟ لنفترض أنها 50000 خمسون ألف كيلو جرام حتى لحظة وفاته.

ما هو وزن جسده عند الوفاة ؟ نفترض أنه 100 مائة كيلو جرام .

هنا نستطيع أن نحسب ما أنقصه محمد عليه السلام من الأرض خلال حياته بأن نضيف وزن جسده عند الموت زائد النفايات التي خرجت منه:( خمسين ألف + مائة كيلوا جرام) ، وحين نطرحها مما استهلكه من الأرض : ( 100000 كجم ـ50100 = 49000 كجم .أو يتبقي تسعة وأربعون ألف ومائة كيلوا جرام  . هذا الرقم يمثل الطاقة التي بذلها واستنفذها وتحرك بها محمد عليه السلام . وهذه الحركة هى (العمل).

3 ـ ينطبق هذا على كل فرد من البشر. فكل ما يستهلكه الفرد من البشر من موارد الأرض يعود إليها في صورة جسده الميت وما خرج منه من نفايات، إلا الطاقة التي كان يتحرك بها ، أو (العمل ) . فهذا العمل ليس شيئا ماديا مثل البول والبراز والغائط والتنفس والزفير والجسد الميت الذى يتحلل ويعود للأرض.

هذا العمل ( الطاقة) هو الذي ينقصه الإنسان من موارد الأرض . هذا العمل هو المقصود بقوله تعالى (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ). هذا العمل هو الذي يتبقى بعد تدمير الأرض ، فكل ما في الأرض من موارد وعناصر وطعام وشراب يتم تدميره ولا يتبقى سوى العمل الذى عمله الانسان.

وبالتالي فإن لكل نفس بشرية جسدين ؛ جسد يذوب في الأرض بما استهلك منها من موارد وطعام وأكسجين ، ثم جسد آخر هو العمل أو الطاقة التي بذلها الإنسان في حياته في الخير أو في الشر . وهذا العمل هو الذي يتبقى .

4 ـ يقول جل وعلا (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا)( الكهف 7) كل هذه الزينة على الأرض تتحول إلى نفايات على الأرض ثم تتدمر مع الأرض وتصبح هباءا، ولا يبقى نافعا للإنسان إلا عمله الصالح(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا )(الكهف 46 )

5 ـ ونعود للتأكيد بأن الحسابات الإلهية تسجل كل ما يدخل في جسد الإنسان من رزق وكل ما يخرج عنه من نفايات وكل ما تقترفه النفس من سيئات وما تفعله من حسنات ، يسري هذا على كل دابة حية (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (هود 6.)

أي أن كل الأرزاق وكل الموارد مسجلة ، وايضا يعلم الله جل وعلا ما سننقصه من الأرض، وبالتالي فإن الكتاب المبين الذي يسجل الأرزاق سيكون مثله كتاب آخر يحفظ ويسجل ويدون الأعمال أو الجزء الناقص الذي ينقص من الأرض .

6 ـ ونسترجع الاية الكريمة كلها (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ )

فالكتاب الحفيظ هذا يحفظ ما استهلكه البشر من الأرض وعاد إليها في نفايات وأجساد ميتة كما يحفظ الطاقة التي تجلت في أعمال خير أو شر للبشر.وقوله تعالى (وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ) يعني نوعين من الحفظ : حفظ كمي وحفظ كيفي .الحفظ الكمي يعني حفظ الكمية التي استهلكها الإنسان في حياته من موارد الأرض وما رجع إليها من نفايات وجسد ميت . أما الحفظ الكيفي فهو خاص بنوعية النشاط أو الحركة التي استهلكها كل فرد في تلك الطاقة .

هنا الكيف أي نوعية العمل من خير أو شر ، من عمل صالح أو سىء ، وتأثير النية أو العقيدة فيما يفعله الإنسان وهل كان متعمدا أو ناسيا أو مرغما وهل تاب وقبلت توبته أم لا ، فالحفظ الكيفي له مستويان : مستوى الإحاطة الأفقية بكل العمل من خير أو شر ، ومستوى قبول العمل حسب العقيدة والنية والتوبة.  وكل ذلك في إطار قوله تعالى (وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ  ) .

هذا الحفظ الكيفي للأعمال يقوم به الملائكة الحفظة.:( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ  ) ( الانفطار 10 : 12 )( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) ( الزخرف 80 )

6 ـ ويلاحظ هنا ذلك الاتصال بين جسدي كل نفس بشرية ،الجسد المادي وما يصدر عنه من عمل والجسد البرزخى الذى يتكون شيئا فشيئا من خلال تراكم العمل الذى تسجله ملائكة الحفظ ، كما يلاحظ الاتصال بين هذا المستوى الحسي من الوجود الذي نعيشه والمستوى البرزخي حيث النفس وملائكة تسجيل الأعمال ، ثم مستوى القيامة عند تدمير الأرض والكون والجسد البشري وبعث النفس لتعود حية لترتدي عملها الصالح أو الطالح .

 

 

كتاب أعمال النفس هو بصمتها الوراثية

 

مقدمة :

1 ـ يقول جل وعلا :( مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ﴿٥١﴾ الكهف ). نحن لم نشهد خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسنا. هذا غيب عنا. وليس لنا أن نتكلم فيه إلا من خلال تدبر الآيات القرآنية ، فالله جل وعلا أخبر فى كتابه ببعض الغيبيات ، وفي آياتها نتدبر ، وليس لنا أن نتكلم عما لم يأت فى القرآن ، كما ليس لنا أن نفترض شيئا ثم نبحث عن دليل له فى القرآن ، لأن هذا يجعلنا نلجأ الى الانتقاء وتحريف معانى القرآن لتتفق مع أهوائنا. الذى يتدبر القرآن لا يبدأ بفكرة مسبقة يحاول إثباتها بالقرآن فينتقى ما يراه من ظاهر الآيات متفقا معها ويتجاهل غيرها من الايات. الذى يتدبر القرآن ــ مبتغيا رضوان الله جل وعلا وحده بلا أى هوى أو غرض دنيوى ــ يحسّ بمسئولية ما يكتب وما يقول ، لأنه سيؤثر على الآخرين ، قد يضلُّون بما يقول . لذا يجتهد متدبرا دون أن يزعم إمتلاك الحقيقة ، بل يؤكّد على أن ما يقوله وجهة نطر تقبل التصويب ، حتى يُخلى مسئوليته مقدما ، وحتى يشجّع الآخرين على النقاش وعلى المزيد من التدبّر . ونحن لا زلنا جيل الحوار . ونحتاج حوار قرآنيا نظيفا نقيا يبتغى رضا الرحمن جل وعلا.

2 ـ من خلال التدبر القرآنى فى موضوع النفس ، نضع آيات القرآن الكريم (إماما ) لنا ، نسير ( دُبُر الآيات ) فهذا هو التدبر ، نسير خلفها نتفكر ونتدبر ، فالقرآن لنا هو ال ( إمام ) الذى به نهتدى.

3 ـ ندخل فى موضوع جديد عن البصمة الوراثية للنفس . يحتاج الموضوع الى مقدمات ، ونرتبه كالآتى :

أولا : التركيز على الجسد المادى يؤدى الى إنكار بعث الأنفس

1 ـ التركيز على أن الانسان مجرد جسد دفع الجاهليين الى إنكار البعث ، فتساءلوا كيف يحيى الله جل وعلا العظام وهى رميم (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﴿٧٨﴾ يس ) وجاء الرد من رب العزة جل وعلا : ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴿٧٩﴾ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ﴿٨٠﴾ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴿٨١﴾ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿٨٢﴾ يس )

2 ـ هذا التركيز على أن الانسان مجرد جسد جعلهم يتساءلون : هذا الجسد سينتهى ويضيع فى الأرض فكيف يكون البعث : ( وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ  بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ﴿١٠﴾ السجدة ) . وجاء الرد من رب العزة جل وعلا : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴿١١﴾ السجدة ). أى إن النفس يتوفاها ملك الموت المختصُّ بها ، ثم يكون بعثها. فالحديث هنا ليس عن الجسد ولكن عن  النفس. هى التى تذوق الموت وتموت ، وهى التى يتوفاها ملك الموت ، وهى التى يتم بعثها.

ثانيا : التركيز على القبور المادية يؤدى الى إنكار القبور البرزخية :

هذا يدخل بنا على نوعى القبور .

1 ـ هناك قبور مادية للجسد المادى فى هذه الأرض المادية .

1 / 1 : قال جل وعلا : ( وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّـهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ﴿٢٢﴾ إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ ﴿٢٣﴾ فاطر ) هنا جاء لفظ ( القبور ) يدل على القبور المادية التى لا يستطيع الموتى أن يسمعوا شأنهم شأن الكافرين المعاندين.

1 / 2 : وهناك القبور المادية  المقدسة والتى يعبدها الجاهليون ــ ولا يزالون ــ ولم يرد هنا لفظ القبور ، فهو مفهوم من السياق ، ولأن التركيز هنا على أن الجسد المقبور هنا تحول ترابا لا يسمع ولا يعى .

1 / 2 / 1 : قال جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿١٩٤﴾ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا ۖ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ ﴿١٩٥﴾ الاعراف )

1 / 2 / 2 : وقال جل وعلا : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴿٢٠﴾ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ۖ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴿٢١﴾ النحل  )

1 / 2 / 3 : هذا الجسد المادى قد تحلل فى الأرض وعاد الى مكوناتها وعناصرها ، وحتى فى تحلله هذا يكون بعلم الله جل وعلا ، وهذا يشمل النفس التى بعد تحلل جسدها يتم حفظها مع كتاب أعمالها الذى يحفظ ويؤرشف سيرتها الدنيوية بعد فناء جسدها ، وهذا فى : ( كتاب حفيظ ) . وهذا ما لم يعرفه الجاهليون حين قالوا : (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَٰلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ﴿٣﴾ ق ) وجاء الردُّ عليهم : ( قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ﴿٤﴾ ق )  . وهو نفس قولهم : (أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ﴿١٠﴾ السجدة )

2 ـ وهناك قبور برزخية لأنفس الموتى فى البرزخ . وفيها قال جل وعلا :

 2 / 1:( إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ﴿١﴾ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ﴿٢﴾ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ﴿٣﴾ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ﴿٤﴾ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴿٥﴾ الانفطار ). عند قيام الساعة تكون قبور بلايين البشر قد زالت فعلا وتحولت الى تراب ، فالحديث هنا عن القبور البرزخية عندما تتبعثر ، وعندها تعلم كل نفس من كتاب أعمالها ما قدمت وما أخرت.

2 / 2 : ( أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ﴿٩﴾ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ﴿١٠﴾ إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ﴿١١﴾ العاديات  ). السياق هنا عن بعثرة القبور البرزخية وعندها يتم تحصيل كتاب الأعمال الذى سجّل ما كان فى الصدور.

2 / 3 :( ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ﴿٢١﴾ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ ﴿٢٢﴾عبس ). (أقبر) هنا بمعنى ( أخفى ) . والقبر المخفى هو الذى للميت فى البرزخ.

2 / 4 : ( ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴿٦﴾ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّـهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ﴿٧﴾ الحج ). السياق هنا عن البعث وإحياء الموتى وبعث أنفس الموتى من قبورهم البرزخية.

ثالثا : التركيز على الجسد المادى يؤدى الى إنكار ملائكة البرزخ الذين يقومون بتسجيل وحفظ الأعمال. قال جل وعلا :

1 ـ ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۖوَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴿٦١﴾ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّـهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ) ﴿٦٢﴾ الانعام ) الله جل وعلا يرسل ملائكة ( حفظة ) تحفظ أعمالنا حتى يحين الموت ، وعند الموت تتم توفية عمره وعمله ، أى يتم ( حفظه ) مسجلا فى كتاب أعماله.

2 ـ ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ﴿١٠﴾ كِرَامًا كَاتِبِينَ ﴿١١﴾ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ )﴿١٢﴾ الانفطار ). وصف ملائكة تسجيل وحفظ الأعمال بأنهم الحافظون الكاتبون الذين يعلمون ما نفعل.

3 ــ (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّـهِ )﴿١١﴾ الرعد) ملائكة ( الحفظ ) موصوفون بأنهم ( معقبات ) أى بمجرد العمل يعقبونه بالحفظ والتسجيل ، وهذا ( من امر الله )، اى تنفيذا لأمر الله جل وعلا. 

4 ـ (إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ﴿٤﴾ الطارق ) . أى هذا يشمل كل نفس بشرية .

5 ـ (  إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ﴿١٧﴾ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴿١٨﴾ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ )﴿١٩﴾ ق ). وهذا الحافظ هما إثنان من الملائكة ( رقيب وعتيد )عن اليمين والشمال ، يسجلان ويحفظان كل بادرة ، يواصلان عملهما الى أن تحين لحظة سكرات الموت .

رابعا : آلية تسجيل الأعمال

1 ـ قال جل وعلا : (وَاللَّـهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا ۚ وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَىٰ وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ۚ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ۚإِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّـهِ يَسِيرٌ ﴿١١﴾ فاطر). قلنا إنه بمجرد ولادة الطفل يأتى ومعه وعاءان ، أحدهما ممتلىء بعمره المحدد له سلفا أن يعيشه فى هذه الدنيا ، والوعاء الآخر هو ما يصدر عنه من فعل وصوت وقول وحركة. ويبدأ العدُّ التنازلى لحياته بمجرد ولادته ، وكل ثانية يعيشها تنزلق من وعاء عمره تسقط فى وعاء عمله ، أى يتناقص وعاء العمر ثانية ثانية ويزيد وعاء العمل ثانية ثانية ، وفى وعاء العمل يتم حفظ كل شىء من أول صرخة يطلقها المولود الى آخر شهقة قبل موته وتوفية عمره وتوفية كتاب أعماله.

2 ـ تموت النفس وترجع الى البرزخ الذى أتت منه ، وعند  قيام الساعة وتدمير هذا العالم بأرضه وبرازخها وسمواته وبرازخها تنتقل الأنفس من برزخها الأرضى الى اليوم الآخر يوم البعث ، قال جل وعلا عن تدمير العالم وقيام الساعة : ( إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ ﴿١﴾ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ﴿٢﴾ الانشقاق ) وعن حال الأرض وبرازخها قال جل وعلا : ( وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ  ﴿٣﴾  وأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ﴿٤﴾ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴿٥﴾ الانشقاق )، أى تطيع الأرض أمر ربها فتمتد وتتخلى عما فيها من أنفس فى برزخها. بعدها يقول جل وعلا عن كتاب الأعمال : ( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴿٦﴾فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴿٧﴾ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴿٨﴾ وَيَنقَلِبُ إِلَىٰ أَهْلِهِ مَسْرُورًا ﴿٩﴾ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ﴿١٠﴾ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ﴿١١﴾ وَيَصْلَىٰ سَعِيرًا ﴿١٢﴾ الانشقاق ).

3 ـ وعن نهاية العالم وقيام الساعة يقول جل وعلا : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴿١﴾ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ﴿٢﴾ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ﴿٣﴾ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ﴿٤﴾ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ﴿٥﴾ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ﴿٦﴾ التكوير ) بعدها يقول جل وعلا : ( وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴿٧﴾ التكوير). النفوس تتزاوج مع عملها .

4 ـ وعن تدمير العالم والأرض وبرازخها قال جل وعلا:( إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ﴿١﴾ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ﴿٢﴾ الزلزلة ) ليس المقصود بالأثقال هنا الجبال المادية ، لأن هذه الجبال عند تدمير العالم ستكون مثل الصوف المنفوش ، قال جل وعلا : ( يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ﴿٨﴾ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ﴿٩﴾ المعارج ) ( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ﴿٥﴾ القارعة ) ، أو تكون مثل الرمال المنهارة ، قال جل وعلا: (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا ﴿١٤﴾ المزمل ) . فالأثقال هى كتب العمال المثقلة بما فيها.

نرجع الى سورة الزلزلة ، قال جل وعلا : ( وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا ﴿٣﴾ الزلزلة ) أى يتساءل الانسان عند البعث عما حدث . ثم يقول جل وعلا عن هذه الأرض التى تدمرت ببرازخها : ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴿٤﴾ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ﴿٥﴾ الزلزلة ). أخبارها أى كتب الأعمال التى كانت مخفية فيها ، وهذا بوحى الرحمن جل وعلا.  بعدها الحديث عن الحشر : (  يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ﴿٦﴾فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿٧﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴿٨﴾ الزلزلة )

5 ـ وتأتى الأنفس يوم القيامة تحمل عملها ، قال جل وعلا عن الظالمين : (  قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّـهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ ۚ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴿٣١﴾ الانعام ) . هم يحملون أوزارهم على ظهورهم. العمل السىء يكون أثقالا لصاحبه ، قال جل وعلا عن الكافرين :  (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ۖ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴿١٣﴾ العنكبوت )

خامسا :  ماهية البصمة الخاصة بالنفس البشرية

1 ـ قلنا أنه من نفس واحدة ( آدم )  جاءت نفس حواء ، خلق الله جل وعلا الأنفس مرة واحدة ، كان نفخ نفس آدم أولا ، ثم منها نفس حواء ومنهما تتالت وتناسلت الأنفس الأخرى ، قال جل وعلا : ( النساء:1 )( الاعراف 189 ) (الزمر:6 ). وكل نفس تدخل الجنين الخاص بها فى الموعد المحدد ، وتدخل إختبار الحياة ، ثم تموت تفارق جسدها المادى وتحمل عوضا عنه جسدا آخر هو عملها الذى تم تسجيله. ثم يكون البعث عملية عكسية للخلق ، قال جل وعلا : (مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ  ) لقمان:28 ).

2 ـ ولكن مع الخلق من نفس واحدة وإعادة الخلق بالبعث كنفس واحدة فإن لكل نفس بشرية خصوصيتها . قال جل وعلا : ( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ  ) الأنعام:98 ). أى كل نفس تحمل فى داخلها مستقرا لأنفس أسلافها ، وتكون هى مستودعا لأنفس نسلها. وبين هذا وذاك تكون هى فريدة بعملها . هذا يدخل بنا على ماهية البصمة البرزخية للنفس البشرية .

3 ـ يقول جل وعلا ردا على من ينكر البعث : ( أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ ﴿٣﴾ بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴿٤﴾ القيامة ). أى يكون البعث بناءا على بصمة البنان ، أى بصمة الأصابع . ونعرف أن النفس تأخذ شكل جسدها بدليل أن الناس يوم القيامة يتعارفون ويفر الفرد من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. بالتالى تكون للنفس وجه صاحبها ، وملائكة الموت يصفعون وجه نفس الكافر ويضربون مؤخرته ( الأنفال 50 )( محمد 27 ). بالتالى تكون له بصمة أصابع هى نفس بصمات اصابع جسده المادى الذى كان وانتهى .

4 ـ وأصبح معلوما أن لكل جسد مادى بصمات أخرى غير الأصابع ، وأحدثها بصمة ال دى إن إيه. أو البصمة الوراثية . ومنها يمكن إثبات نسب الشخص الى أبيه وأمه . أى إن البصمة الوراثية تحمل مشتركات كثيرة من الأسلاف من ناحية الوالدين ، ولكن تظل بصمة لصاحبها ( جسد صاحبها ) فريدة ومتميزة عن كل البشر حتى الوالدين . هذا يذكرنا بقوله جل وعلا عن النفس البشرية :( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ  ) الأنعام:98 ). وبالبصمة الوراثية تطورت تكنولوجيا البحث الجنائى ، لم يعد البحث قاصرا على بصمات الأصابع فى مسرح الجريمة ، بل تعدى هذا الى البحث عن ال دى إن إيه ، أو البصمة الوراثية ، فوجود الانسان فى مكان ما معناه أن يترك بعض ال دى إن إيه الخاصة به. وتكون دليلا على مرتكب الجريمة .

5 ـ بمعنى آخر أن عمل الانسان المادى يخلّف وراءه أثارا من بصمته الوراثية . هذا فى الدنيا وفى عالمنا المادى . فكيف بعمل الانسان الذى يتم حفظه وتسجيله وأرشفته فى البرزخ ؟ يقول جل وعلا : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ﴿١٣﴾اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴿١٤﴾ الاسراء ). حين تتحرك يدك تترك آثارا يمكن تصوير حركتها بكاميرات بالغة الحساسية بعد إنتهاء هذه الحركة . وهذا ايضا فتح جديد فى الاختراعات الحديثة. الذى لم يصل اليه العلم بعدُ هو أن حركة اليد هذه ( تطير ) ليتم تسجيلها وحفظها فى كتاب الأعمال . ويظل كتاب الأعمال مفتوحا يستقبل كل ما يصدر عن الانسان من حركة أو صوت أو نبض أو قول الى لحظة الوفاة والموت ، ويوم القيامة يرى كتاب أعماله منشورا ، ويقال له : إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبأ.

6 ـ وأذا كان عمل الانسان المادى يحمل بصمته الوراثية ويمكن بها كشف مرتكب الجريمة فإن نفس العمل الذى يتم تسجيله فى كتاب أعمال النفس فى البرزخ يحمل ال دى إن إيه الخاصة بهذه النفس وهى نفس ال دى إن إيه الخاصة بجسد هذه النفس .

8 ـ ويوم القيامة يتم تزويج هذه النفس بعملها الذى يحمل بصمتها ، قال جل وعلا :( وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴿٧﴾ التكوير).

 

 

موازين الأنفس يوم الحساب على أساس المشاعر وليس الظواهر

مقدمة:   

1 ـ كتاب الأعمال شىء ووزنه شىء آخر . فى اليوم الآخر تاتى النفس من برزخها تحمل عملها بعد فناء جسدها المادى ولم يبق منه إلا كتاب الأعمال. 

2 ـ ما تقوم به النفس بجسدها من عمل يتكون من شقين متداخلين : الشق المرئى والمسموع ، والشق غير المرئى الذى تشعر به النفس . التسجيل يتم للشقين معا . ولكن الوزن يوم الحساب يكون فيه الشق النفسى فقط .

3 ـ يرى الناس صورة حية لأعمالهم بالصوت والصورة. قال جل وعلا : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَـٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴿٤٩﴾ الكهف)( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ﴿٦﴾فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿٧﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴿٨﴾ الزلزلة ). أما ميزان العمل والذى يتوقف عليه الخلود فى الجنة أو الخلود فى النار فله شأن آخر . نعطى بعض التفصيل :

أولا : بين موازين الدنيا وموازين الآخرة

1 ـ موازين الدنيا المادية لها كفتان : كفة يوضع فيها معيار الوزن من ( كيلو أو رطل أو قنطار ..الخ ) ، ثم الكفة الأخرى التى يوضع المطلوب وزنه. موازين الآخرة غير المادية لها أيضا كفتان. فى كفة يوضع الكتاب الالهى ، وفى الأخرى يوضع كتاب أعمال الشخص. الكتاب الالهى هو المعيار. كتاب العمل  هو المطلوب وزنه.

2 ـ  يوجد إتفاق بين موازين الدنيا والآخرة . فهناك معيار واحد للوزن . فى موازين الدنيا يكون المعيار واحدا فقط . لا يوضع فى كفة المعيار رطل وكيلو وقنطار. بل معيار واحد فقط. وفى موازين الآخرة يوجد معيار واحد فقط هو الكتاب الالهى . أى كتاب واحد . لا يوجد ما يقوله الجاهليون المحمديون من ثنائية الكتاب والسُّنة . هو الكتاب وفقط .

3 ـ الاختلاف بين موازين الدنيا والآخرة

3 / 1 : أن موازين الدنيا تقوم على التساوى ، فأنت تضع معيار الوزن ( كيلو) ومقابله سلعة تزن كيلو . وبهذا التساوى يكون العدل والقسط ، وبدونه يكون الخسران ، وهذا معنى قوله جل وعلا : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ﴿٩﴾ الرحمن )(  وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴿٣٥﴾ الاسراء ) (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ ﴿١٨١﴾ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ﴿١٨٢﴾ الشعراء )( وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (١﴾ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ﴿٢﴾وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴿٣﴾ المطففين ) .

3 / 2 : موازين اليوم الآخر مختلفة ، لا بد أن تثقل كفة ميزان العمل ليفوز صاحبه بالجنة. بالتالى فإن من يخف ميزان كتاب عمله يدخل النار. قال جل وعلا: ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ۚ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿٨﴾ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَـٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴿٩﴾ الاعراف )( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿١٠٢﴾ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَـٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴿١٠٣﴾ المؤمنون )( فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴿٦﴾ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴿٧﴾ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴿٨﴾ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴿٩﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ﴿١٠﴾ نَارٌ حَامِيَةٌ ﴿١١﴾ القارعة ).

3 / 3 : هذا هو القسط فى موازين الآخرة ، قال جل وعلا : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ ) ﴿٤٧﴾ الانبياء ).

ثانيا : كفتا الميزان فى الآخرة :

1 ـ فى البداية يوضع الكتاب الإلهى : قال جل وعلا : ( وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ ) بعده يؤتى بالناس للحساب والميزان ، أولهم  أنفس الأنبياء والشهداء على أقوامهم ، ثم تليهم بقية ( أنفس ) الأمم : ( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴿٦٩﴾ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴿٧٠﴾ الزمر ).

2 ـ تأتى كل نفس بكتاب عملها ليوضع فى الكفة الأخرى مقابل الكتاب الالهى ، فإذا خفّت كفة ميزان عمله فالمعنى أنه كان ظالما بكتاب الله أو بآيات الله ، هذا معنى قوله جل وعلا : ( وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ۚ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿٨﴾ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَـٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴿٩﴾ الاعراف ). هذا هو الوزن ( الحق ).

3 ـ يضاف الى هذا شهادة الأشهاد على أقوامهم . وبالمناسبة فإن الشهادة على المحمديين ستتركز فى إتهامهم القرآن الكريم أنه ما نزل تبيانا لكل شىء يحتاج الى تبيان ، قال جل وعلا : ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ﴿٨٩﴾ النحل ).

ثالثا : ميزان الآخرة للنفس ومشاعرها وليس لظواهر الأعمال .

1 ـ يوم الحساب هو للناس جميعا مع إختلاف ألسنتهم . قال جل وعلا : (ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ﴿١٠٣﴾ هود ) ولكن تكون كل امة مع بعضها يجمعها كتاب أعمالها الجماعى ، ومنه تأتى نسخ فردية لكل فرد ، قال جل وعلا : (وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ۚ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴿٢٨﴾ هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿٢٩﴾ الجاثية )

2 ـ الوزن والحساب ليس بما كانت تتكلم به كل أمة ، ولكن بما تتفق عليه الأنفس البشرية ، وهو ما يمكن تسميته ب ( لغة المشاعر ) .

3 ـ لغة المشاعر هى التى تجمع كل الأنفس البشرية مع إختلاف الزمان والمكان . هى نفس مشاعر الايمان أو الكفر، والتقديس والعبادة لله جل وعلا او له ولغيره ، والاخلاص فى الدين أو عدم الاخلاص فى الدين ، الغفلة فى الصلاة أو الخشوع ، إستحلال المحرمات أو تقوى الله جل وعلا . هى ( لغة واحدة ) ، وتختلف فيها الأنفس ، منها من كانت تقدس الله جل وعلا وحده وتؤمن به وحده لا شريك ، ومنها من تؤمن بالله وغيره تشرك به آلهة أخرى ، وتقدس معه البشر والحجر ، منها ما يؤمن بالقرآن الكريم وحده حديثا ومنها من يؤمن بأحاديث أخرى مع القرآن وترفعها فوق القرآن.

4 ـ بناءا على هذا  ترى شخصين يصليان : أحدهما خاشع القلب فى صلاته ، وقد لا يبدو هذا على وجهه ، والآخر يصطنع الخشوع مرائيا منافقا. المفلحون من المؤمنين وصفهم رب العزة بصفات أولها الخشوع فى الصلاة : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴿١﴾ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴿٢﴾ المؤمنون )، هؤلاء المفلحون هم الذين تثقل موازين أعمالهم ، قال جل وعلا : ( فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿٨﴾ الاعراف ) ( المؤمنون 102 )  . وقال جل وعلا عن صلاة المنافقين : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّـهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّـهَ إِلَّا قَلِيلًا ) ١٤٢﴾ النساء )( وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ ) ﴿٥٤﴾ التوبة ). (  أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ﴿١﴾ فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ﴿٢﴾وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴿٣﴾ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ﴿٤﴾ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴿٥﴾ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ﴿٦﴾ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ﴿٧﴾ الماعون ) هؤلاء المنافقون هم ضمن ما قال عنهم رب العزة جل وعلا : ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَـٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴿٩﴾ الاعراف ) ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَـٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴿١٠٣﴾ المؤمنون ). هذا الخشوع (لغة عالمية ) . ونقيضه أيضا لغة عالمية .

5 ـ وهناك من يدعو الله جل وعلا متضرعا يطبق أمر الله جل وعلا : ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴿٥٥﴾ الاعراف ) ( وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ ﴿٢٠٥) الاعراف ). وهناك من يعتدى فى دعائه يحوله الى أغانى وموسيقى ولهو ولعب ، مثل الأغانى الدينية والإنشاد الدينى عند المحمديين والمسيحيين وغيرهم. وعند وقوع مصيبة يتضرع الناس بنفس المشاعر ، مع إختلاف اللسان والزمان والمكان ، قال جل وعلا : (قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴿٦٣﴾الانعام  ). هذا التضرع ونقيضه ( لغة مشاعر عالمية )

6 ـ هناك من يعبد الله جل وعلا مخلصا له الدين ، يطبق قول الله جل وعلا : ( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ۖ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۚ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) ﴿٢٩﴾ الاعراف )( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّـهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ﴿٢﴾ الزمر )( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّـهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ﴿١١﴾ الزمر )( فَادْعُوا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴿١٤﴾ غافر ). وهناك من يفتقر الى هذا الاخلاص فى الدين فلا يؤمن بالله جل وعلا إلّا وهو يشرك معه إيمانا بآلة أخرى ، وهى الأكثرية من البشر ، قال جل وعلا : (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّـهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ﴿١٠٦﴾ يوسف ). والباب مفتوح للتوبة لمن أراد أن يعبد الله جل وعلا مخلصا له الدين ، وهذا يشمل المنافقين فى حياتهم قبل الموت ، قال جل وعلا عمّن يموت منهم على نفاقه : ( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴿١٤٥﴾ النساء ) وإستثنى منهم من يتوب توبة صادقة مخلصة : ( إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّـهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّـهِ فَأُولَـٰئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّـهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿١٤٦﴾ النساء ). وفى وقت الشدة يفزع الناس الى ربهم يستغيثون به مخلصين له الدين فى توبة وقتية ، قال جل وعلا : ( هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ۙ دَعَوُا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴿٢٢﴾ فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنفُسِكُم ۖ مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿٢٣﴾يونس ). إخلاص الدين أو عدمه لغة مشاعر عالمية . موازين الآخرة تتعامل مع هذه المشاعر النفسية .

7 ـ هناك من يتقى ربه جل وعلا ويموت متقيا. والذى يموت متقيا يثقل كتاب أعماله فيدخل الجنة ، إذ لا يدخل الجنة إلا المتقون ، قال جل وعلا : ( تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا﴿٦٣﴾ مريم )( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴿٧٣﴾ الزمر ). ولكن هؤلاء المتقين لا يعلمهم إلا الله جل وعلا القائل : ( وَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴿١١٥﴾ آل عمران ) (  وَاللَّـهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴿٤٤﴾ التوبة ) . 

8 ـ غير المتقين مصيرهم أن تخف أعمالهم فيخلدون فى النار . بالتأكيد لهم أعمال صالحة ، إذ لا يخلو أى إنسان من عمل صالح. ولكن الله جل وعلا يحبط عملهم الصالح فى الوزن .

خامسا : إحباط الأعمال الصالحة للكافرين المشركين حين وزن أعمالهم

1 ـ جاء فى الكتب الالهية أن من يشرك بربه يحبط الله جل وعلا عمله الصالح ، قال جل وعلا : ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿٦٥﴾ الزمر). بإحباط عمله الصالح لا يتبقى له سوى عمله السىء فيكون من الخاسرين.

2 ـ أى بالتالى لا يقيم لهم الرحمن وزنا ، قال جل وعلا : . ( أولَـٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴿١٠٥﴾ الكهف )

3 ـ يشمل هذا من يرتد عن الاسلام ويموت كافرا وقد عمل بعض الصالحات ـ فينتهى الى الخلود فى النار ، قال جل وعلا : ( وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴿٢١٧﴾ البقرة )، ويشمل الذين يقيمون مساجد ضرارا يقدسون فيها أولياء مع الله جل وعلا ، قال جل وعلا : ( مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّـهِ شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ۚ أُولَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ﴿١٧﴾ التوبة ).

4 ـ فى كل الأحوال يكون إحباط العمل هو تضييعه ، يقول جل وعلا : ( وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ﴿٢٣﴾ الفرقان ).

سادسا : معنى إحباط العمل فى آلية الميزان يوم القيامة

1 ـ ممكن أن تتساوى الأعمال الصالحة والأعمال السيئة ، وحينئذ تتعادل كفتا الميزان . ولكن ليس هناك تعادل فى كفتى الميزان يوم القيامة، إمّا أن تثقل الموازين وإما أن تخفّ .

2 ـ هنا يكون تأثير الايمان. إذا كان خالصا بالله جل وعلا وحده وبكتابه وحده يثقل الميزان . تخف كفة الميزان إذا كان الايمان مشتركا ، بإيمان بالله  جل وعلا وبإيمان بغيره وبتقديس الله جل وعلا وتقديس البشر والحجر وبالايمان بحديث الله فى القرآن وأحاديث البخارى وغيره. فالله جل وهلا يحبط أى يضيع أعمال الكافر فلا يتبقى له إلا ما يخلد به فى النار .

أخيرا :

فى وزن الأعمال يتم التفتيش على سريرة النفس ، قال جل وعلا عن البعث : ( إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ﴿٨﴾ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴿٩﴾ الطارق ). ويكون الوزن على ما فى هذه السرائر من مشاعر هى الأصل فى حركات الانسان . فليس الوزن للظواهر بل للمشاعر .

 

 

عذاب الجسد المادى وعذاب الجسد الأخروى

مقدمة

الشائع بين الناس أن للنفس جسداً واحداً هو الذي نعيش به في هذا العالم ونتركه بالموت . والشائع بين الناس أن العذاب مرتبط بالآخرة فقط .

ومن القرآن نعلم أن للنفس جسدين ، الجسد الذي نحيا به الآن ثم الجسد الجديد الذي نبعث به يوم القيامة ويتكون من أعمالنا إن خيراً أو شراً .

ونعلم من القرآن أيضاً أن هناك عذاباً دنيوياً يصيب الجسد الإنساني في هذه الدنيا ، بالإضافة إلى عذاب آخر (قد) يصيبه في الآخرة لو كان مصيره النار.

أولاً: عذاب الدنيا

القاعدة الأساسية في عذاب الدنيا هى قوله تعالى( مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) (النساء123) . أي أن أى عمل سيء يصدر من الإنسان سواء كان مؤمناً أو فاسقاً لابد أن يعاقب به ، وقد يكون الجزاء مصيبة تلحق بالمذنب ، وقد يكون الجزاء أقل مشمولا بعفو الله عزّوجل حين يتوب المذنب ويستغفر ويبدأ عهداً جديداً من الإيمان والصلاح . يفسر هذا قوله جل وعلا (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى 30). أى أن المصائب التي تحدث تتسبب عن سيئات وكبائر نقترفها ، والله جل وعلا يعفو عن كثير.

وقوله جل وعلا (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) يستفاد منه أن الجزاء من جنس العمل . والعادة أن الإنسان في صراعه من أجل الأموال والأولاد يظلم ويبغي ويرتكب المحرمات ، ثم يكون أولاده وأمواله سببا في شقائه . والمنافقون في المدينة كانوا أغنى الناس وأكثرهم أموالاً وأولادا ، وأكد رب العزة في آيتين أنهم سيقاسون في الدنيا من عذاب يكون مصدره أموالهم وأولادهم (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) (وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ )( التوبه 55، 85).

وفي حياتنا الواقعية نجد التأكيد لهذا، فأبناء المترفين والظلمة والمفسدين وآكلي أموال الناس بالباطل هم سبب شقاء آبائهم ، فالأب لا يجد وقتاً لرعاية أبنائه وتهذيبهم ، ويجد التعويض عن انشغاله عنهم بإغراقهم بالأموال وإحاطتهم بالخدم والوصيفات، وينشأ الصبي مدللاً فاسداً ينتهي به الأمر إلى الإدمان أو أن يكون أعدى أعداء والده .

والله جل وعلا قال لعيسى عليه السلام   (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران 55: 57) أي أن الكافرين يتوعدهم الله جل وعلا بعذاب شديد في الدنيا والآخرة ،(  فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) .

عذاب الكفار فى الدنيا المشار اليه فى سورة آل عمران ( آية 56 )وهو نفس العذاب الذي توعد به الله جل وعلا المنافقين في عصر خاتم النبيين ، وهو نفس العذاب الذي ينتظر كل ظالم في الدنيا . ويتنوع هذا العذاب الدنيوي إلى أنواع شتى نراه في حياتنا الدنيوية تبدأ بالقلق والأزمات النفسية ولا تنتهي بالمرض والكوارث وخسارة الأموال والأولاد ، وأكثر رواد العيادات النفسية هم من الذين جعلوا الدنيا والتطاحن فيها جوهر حياتهم ، وأكثر الأمراض العضوية تأتي من مؤثرات نفسية أهمها القلق وعدم الإحساس بالأمان .

وفى المقابل فالمؤمنون لهم (بالاضافة الى الجنة فى الآخرة ) متاع دنيوى أساسه الرضا وراحة البال والسعادة النفسية ، يقول جل وعلا : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (النحل 97 ). فالذي يؤمن بالله واليوم الآخر يعيش في صحة نفسية عالية، أو بالتعبير القرآني :( يطمئن قلبه ) (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد28) ، وتستمر سعادتهم في الآخرة ، يقول جل وعلا(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ)، ( سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ)(محمد 2 ،5،  6 )

وبعض العذاب الدنيوي يستمر مع صاحبه إذا مات كافراً فيعذبه الله بما كان يعبده في الدنيا ، فالذي يبخل بالمال ويأتي يوم القيامة بخيلاً سيكون ماله عذاباً له (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)( آل عمران 180).

يؤكد هذا قوله جل وعلا عن الأحبار والرهبان ورجال الدين الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا ويجعلون دين الله تجارة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة 34، 35) فالذي يكنز الذهب والفضة ويجمع الأموال بالباطل مصيره في الآخرة أن يعذب بتلك الأموال.

وليس كل من يعذب في الدنيا يكون في الآخرة من أصحاب النار لأن عذاب الدنيا ليس انتقاما ولكنه نذيرً للظالم كي يتوب ، أي جرس إنذار له ليصحوا من غفلته، يقول جل وعلا عن عذاب من يموت فاسقا كافرا :(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ) ويقول جل وعلا عن عذابهم فى الدنيا الذى يكون تنبيها لهم وانذارا لكى ينجو من عذاب الآخرة الخالد:( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) ( السجدة 20 : 21 )   أي يذيقه الله بعض العذاب كي يتذكر ولعله يرجع ويتوب وينجو من عذاب الآخرة.

ومن هنا تكرر في القرآن الكريم أن الإنسان إذا مسه مرض أو خاف الغرق استنجد بالله جل وعلا داعياً تائباً مخلصاً ثم ينسى الله بعد الشفاء والنجاة (الزمر 8 ، 49  ) ( الاسراء 66 : 69 ) ( يونس 21 : 23 ). وفى حياة كل عاص وفاسق تتكرر الانذارات والابتلاءات كى يفوق ويتذكر ربه و يتعظ ، وبعضهم يتعظ وينجو وبعضهم يظل سادرا فى غيّه الى أن يموت عاصيا ، ويقول رب العزة جل وعلا عن المنافقين: ( أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ) ( التوبة126)

وأولئك الذين لا يتوبون ولا يتذكرون برغم كل الإنذارات هم الذين طبع على قلوبهم وزين لهم الشيطان سوء عملهم فرأوه حسناً، وأولئك لا فائدة من نصحهم : (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ )( فاطر 8 ). وهم الذين قال عنهم رب العزة جل وعلا (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (المطففين 14) .

أولئك هم أصحاب النار الذين نتوقف معهم الآن :    

ثانياً عذاب الجسد الآخر في الآخرة .

ذلك القلب الذي ران عليه الخطأ فتغطى بالسواد : (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ )   هو التعبير القرآني البليغ عن العمل السئ الذي تكسبه النفس وتأتي به يوم القيامة تحمله ويكون جسدا لها، ويتحول هذا الجسد حطبا للنار ووقودا لها، وهذا ما حذر الله جل وعلا منه المؤمنين مقدما (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)(التحريم 6).

ونبدأ القصة من أولها .

فالله جل وعلا هو نور السماوات والأرض، والنور هو الهدايه (  اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لّا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء)(النور35) .

ونور الله أو هدايته – ينزل به الكتاب السماوي، فيوصف بأنه نور:( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ) (وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِين ) (المائدة 15، 16 ، 44، 46).

وموقف الناس من هذا النور الإلهى ينقسم إلى قسمين في الدنيا؛ مؤمن وكافر ، فالذي يتمسك بالنور (الكتاب السماوي) يكون له هدى: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (الأنعام 122)، فالموت هنا هو موت للنفس والحياة لها هى بالهدى، والنور الذي يتصرف به بين الناس هو ضميره المنير الذي يعمل بالكتاب . من أجل ذلك إذا مسه طائف من الشيطان تذكر فأبصر، عكس الذين يسيطر عليهم الشيطان فيسقطون في الظلمات: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ) الأعراف 201: 202). وبهذا يتكون ضمير تقى للمؤمن المتمسك بالهدي القرآني أو فرقان يمارس به تقوى الله جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ )(الأنفال  29).

هذا النور المعنوي (الهداية ) يتحول في الآخرة إلى نور حقيقي يؤهل صاحبه للجنة، أو (يصلح) به صاحبه لدخول الجنة: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ) (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )(الحديد 12-13 ، 19).

الصنف الآخر هو الذي يعرض عن نور الهداية وعندها يتسلط عليه شيطان يقترن به يزين له السوء خيرا والخير سوءا، ويظل يسيطر عليه يحبب له المعصية ويبغض له الطاعة ، إلى أن يأتي العاصى يوم القيامة وقد ترك جسده المادي وارتدى عمله السيء وانكشف عنه الحجاب ، فيجد قرينه الشيطاني إلى جانبه ، ويصور هذا رب العزة بقوله جل وعلا : (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ )(الزخرف36: 39) . وقوله تعالى : ( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ) لأن العشى الليلي معناه العجز عن رؤية النور، وذكر الرحمن هو النور الذي ينزل به الكتاب السماوي ، فصاحبنا الذي لا يرى النور يكون حتماً عليه أن يعيش في الظلام فتتلقفه شياطين الظلام فيقترن به واحد منهم يصده عن السبيل ويقنعه أنه على الحق ، ويظل هكذا إلى أن يموت ضالا فيفاجأ بالقرين فيقول له يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين . وهناك تفصيلات أخرى في سورة (ق) من (16: 31) .

القلب هو االنفس . وطالما صدأت النفس واسودت وارتدت عملها السيء فإن صاحبها يأتي يوم القيامة وقد اسود وجهه . وأكثرهم سوادا هم أئمة الكفر الذين يحترفون صناعة الأديان الأرضية بصناعة الأحاديث والوحى الكاذب :(وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ) (الزمر 60) وفي المقابل يقول جل وعلا عن اتباع الدين الحق (  أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ )(الزمر 22، 23) .

وفي النهاية فإن الجسدالآخر يكتسب ملامح النفس التي هى صورة كربونية من ملامحنا في الدنيا ، غاية ما هنالك أن الحتميات الأربع في هذه الدنيا تحتوي على حتمية الميلاد ، ومنها لون الإنسان ،  فالله هو الذي يشاء أن يكون لون هذا اسود أو أحمر ، والله جل وعلا جعل من آياته اختلاف الوان البشر: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ )( الروم. 22 ) .

ولكن الإنسان هو صاحب القرار في اللون الذي سيظهر به يوم القيامة ، وهنا حريته في الإيمان أو الكفر ، فلو قرر أن يأتي يوم القيامة بوجه منير فعليه فى الدنيا أن يؤمن إيمانا حقيقيا وأن يخلص وجهه لله جل وعلا ، عندها سيأتي يوم القيامة بوجه منير سواء كان في دنياه وفي جسده الأرضي أبيض أو أسود أو ملونا ، أما إذا شاء الغفلة والظلم فسيأتي يوم القيامة بوجه أسود يعكس كفره وعصيانه ، وليس مهما عندها لون وجهه السابق في الدنيا سواء كان لون وجهه أسود أو أبيض.

وفى المقارنة بين الفريقين يقول جل وعلا(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(آل عمران 106 ، 107) (  وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ )(عبس 38: 42).

الخاتمة .

هنا تتجلى عدالة الرحمن .

فالفرد هو الذي يختار مصيره إذا شاء الهداية هداه الله وإذا شاء الغواية أضله الله . وإذا قرر أن يأتي رب العزة بقلب سليم ووجه أبيض وعمل بذلك في حياته فإن الله لا يخلف الميعاد ، ولو شاء العكس فسيجد جهنم في انتظاره.

لأن لكل نفس سعيها ولا تنفع نفس نفسا ولا تجزي نفس عن نفس ، ولا تحمل نفس وزر نفس أخرى (أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ) (النجم 38: 41) (  وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)(فاطر 81) (  مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً )( الإسراء 15)  

إن النفس تنعم بعملها إذا كانت من أصحاب الجنة ، وتعذب بعملها إن كانت من أصحاب النار ،أى هو عملك وسعيك الذى سيكون به نعيمك أو عذابك ، أى إن الله جل وعلا لم يظلم اصحاب النار بل هم الذين ظلموا أنفسهم :(وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )( النحل 118  ) فالنار هى جزاء ما فعلوه :(وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ  )( النمل 90 ).

ودائما : صدق الله العظيم.

 

 

  الزوجية والحور العين وملائكة الجحيم

أولا :

منذ أكثر من 14 قرنا ذكر القرآن قانون الزوجية ، وموجزه أن الخالق وحده جل وعلا هو الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا احد والذي ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأن ما عداه من المخلوقات يخضع لقانون الزوجية ، أي سالب وموجب،  ذكر وأنثى .إلخ . يسري هذا على الإنسان والحيوان والنبات كما يسري على الكون والسماوات والأرض ، فهناك كون وكون نقيض ، وهناك ذرة وذرة نقيضة ، وماء وماء نقيض ،يقول جل وعلا : ( سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَ&ae;نفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ) (يس 36 : 36 )( وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ )( الزخرف 12 ) .

2 ـ بالنسبة لنا نحن البشر فالزوجية تعني اننا خلقنا من ذكر وانثى وكل منا إما ذكر أو أنثى ( وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً ) (النحل 72 )( وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى ) ( النجم 45 : 47 ).والنشأة الأخرى المشار لها هنا تعنى الجسد الآخر يوم البعث .

3 ـ إلا أن الزوجية بالنسبة لنا لا تبلغ درجة التناقض التام كما هو الحال في الذرة والذرة النقيضة والكون والكون النقيض اي العالم المادي ، فلو التقى الكون بالكون النقيض تدمر العالم كله ، أما بالنسبة لنا فالذي يحدث هو العكس ، فاللقاء الجنسي أو التلقيح الجنسى بالنسبة للذكر والأنثى في الإنسان والحيوان والنبات لا يعني تدميرهما وإنما يعني إنجاب وتوليد المزيد منهما.

وهناك فرق آخر، فالفروق بين الذكر والأنثى لا تبلغ حد التناقض بل هى مجرد اختلافات لأن الله سبحانه وتعالى خلق (نفس ) آدم وخلق منها زوجها : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) (النساء 1 )، أي أن حواء مخلوقة من آدم ، أى هى جزء منه ،  فهناك اختلاف ولكنه ليس تاما. فمعروف أن في كل ذكر نسبة من الأنوثة وأن في كل أنثي نسبة من الذكورة، والحيوان المنوي هو الذي يحدد نوعية الجنين .بل هناك من يولد(خنثى ) ليس ذكرا وليس أنثى . وهناك ميول جنسية شاذة يكون بعضها داخل الجينات يجعل صاحبها يميل جنسيا إلى نوعه اي يميل الذكر للذكر والأنثى للأنثى .

4 ـ أهمية هذه الحقائق تكمن في موضوع هذا المقال الذي يتحدث عن الزوجية والحور العين ليثبت حقيقة قرآنية لم تكن معروفة من قبل ، وهى إن الحور العين ليست للذكور المؤمنين فقط ولكن للنساء المؤمنات أيضا ، نقصد من كان ذكرا وانثى فى الدنيا وآمن وعمل صالحا واستحق الجنة . إن الجسد الأول لكل نفس بشرية التي تعيش به في هذه الدنيا ، والذي يكون ذكرا أو أنثى سينتج عنه عمل، لو كان عملا صالحاً فسيخلق الله له الحور العين . أي أن الحور العين ستكون للصالحين في الجنة الذين كانوا من قبل في الدنيا ذكورا وإناثا. دعنا نشرح هذا .

نفترض  أن ( محمدا )  قد تزوج (سلمى) في الدنيا وعمل عملا صالحا وعند دخولهما الجنة لن يكون محمد ذكرا وسلمى انثى ،  وإنما سيكونان من جنس واحد هما جنس أهل الجنة ، وسيكون لكل منهما حور عين .

بشرح أكثر فإن محمد وسلمى صدر عنهما عمل صالح ،هذا العمل الصالح ليس ذكرا وليس انثى ، فهما كانا يصليان ويقدمان الصدقات ويحجان إلى البيت الحرام ، ويؤمنان بالله جل وعلا وباليوم الآخر ويتقيان الله جل وعلا ويبتعدان عن الفواحش . كل هذه الأعمال وكل هذه المعتقدات لا تنتمي إلى ذكورة أو أنوثة ، فالصلاة منهما هى هى وكذلك الزكاة والحج والعمل الصالح والتقوى ، كلها لا فارق فيها بين ذكر وأنثى ، فكلها نوعية واحدة ، وبالتالى فعند البعث ترتدي نفس محمد عملها وترتدي نفس سلمى  نفس العمل الصالح فيصبحان جنسا واحدا . وكل منهما يبيض وجهه ويصحبه نور عمله ، وكل منهما ينطبق عليه وصف أصحاب الجنة .

5 ـ وكل منهما يتمتع بما في الجنة من نعيم ، جاء وصفه في القرآن الكريم بطريقة المجاز كقوله تعالى (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ )(محمد 15) ، فالله جل وعلا يضرب مثلا لما في الجنة نستطيع أن نفهمه من خلال مداركنا الدنيوية ، أما حقيقة نعيم الجنة فلا يمكن إدراكه بعقولنا الحالية ، يقول جل وعلا ( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )(السجدة  17). وهذا منطقي ، فنحن في عالمنا هذا لو افترضنا أننا نخاطب جنينا في بطن أمه ونصف له طعامنا وشرابنا ومتنزهاتنا وسائر متعنا فلن نستطيع إفهامه إلا من خلال البيئة التي يعيش فيها الجنين وهو يتغذى من خلال دم الأم .ونحن ـ بعد ـ  لا زلنا اسرى هذا العالم واسرى الزمن المتحرك الذي يصاحبه، ويوم القيامة سيتم تدمير هذا العالم ويأتي عالم جديد مختلف تماما ، يصحبه زمن جديد خالد باق ليس فيه ماضي ولا مستقبل . هو زمن لا يمكن للعقل البشري ان يتخيله ، وبالتالي لا يمكن أن يتصور حقائق النعيم في الجنة ومنها حقائق الحور العين .

وكل ما نعرفه عن الحور العين هو الوصف التمثيلي المجازي الذي جاء في القرآن الكريم ، ومنه نفهم بعض اللمحات من خلال إدراكاتنا البشرية في هذا العالم .

 ثانيا :  صفات الحور العين :

   تتزوج كل نفس عملها مصداقا لقوله جل وعلا : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) ( التكوير 7 )، فإن كان عملها صالحا لبست ثوبها النورانى ، وتزوجت زوجة نورانية ، هى الحور العين ، يقول جل وعلا :( كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ  ) (الدخان 54 ). ونتعرف على بعض ملامح الحور العين زوجات أهل الجنة :

فخلافا للأنثى فى الدنيا وما تعانيه من حيض وخلافه فإن الحور العين زوجة موصوفة بالطهر، أو (أزواج مطهرة ) : ( وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( البقرة 25 )، (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ )( ال عمران 15 ).

و قد تم خلقهن عذارى فى مستوى أخروى (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ) ( الرحمن 56 )، ومفهوم هنا أن الجن والانس يعيشون سواء فى ذلك العالم الأخروى بحيث يستطيع ـ من الناحية النظرية ـ أن يتزوج الانس نفس ما يتزوجه الجن . ولكن الحور العين خلقهن الله جل وعلا عذارى قد خصصّن زوجات لأصحاب الجنة.

ولأن أصحاب الجنة فى درجتان : السابقون المقربون ، ثم أصحاب اليمين فإن لكل صنف منهما الحور العين المختص به . فالمقربون السابقون أصحاب الدرجة العليا فى الجنة يقول جل وعلا عن زوجاتهم من  الحور العين : (وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ  ) ( الواقعة 22 : 24 ) (  فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ  ) ( الرحمن 56 : 60 ) ، فهن هنا مثل اللؤلؤ المحفوظ  والياقوت والمرجان ، وهن عذارى متصفات بالحياء .

أما زوجات الحور العين لأهل اليمين  فقد قال عنهن رب العزة جل وعلا : (وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ  ) ( الواقعة 34 : 38 )،أى خلقهن الله جل وعلا خلقا جديدا فجعلهن أبكارا متحببات للزوج . ويقول رب العزة عنهن أيضا : (حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) ( الرحمن 72 : 78 )

وجميعهن يجالسن أزواجهن على سرر مصفوفة ويتكئون على الأرائك ، ويتنعمون معا بخيراتها : (مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ )(الطور 20 )( إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِؤُونَ)( يس 55 : 56 )( الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ )( الزخرف 69 : 70 ). وجميعهن مخلوقات على الحياء ويشع منهن النور: (وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ  ) ( الصافات 48 : 49 )

ثالثا  

لنفترض أن محمدا وسلمى زوجان ، وقد احترفا الإجرام والعصيان وكفرا بالنعمة وكفرا بالخالق جل وعلا وآمنا بالأولياء وبشفاعة البشر وماتا دون توبة ، وقد أعرضا طيلة حياتهما عن ذكر الرحمن فترتب عليه أن قيض الله لكل منهما شيطانا يصده عن السبيل وزين له الخير شرا والشر خيرا.عند البعث سترتدي نفس محمد عملها السيء وسترتدى نفس سلمى عملها السيء . وهو عمل لا يقال انه ذكر أو أنثى ، فالقتل والسرقة والظلم والطغيان والبخل والعصيان هو نفس الفعل الذي صدر من محمد ومن سلمى ، وبهذه الأعمال  والمعتقدات السيئة يصبح محمد وسلمى جنسا واحدا ليس ذكرا أو أنثى إنما هو جنس أهل النار أو أصحاب النار. ويتحول جسد كل منهما إلى وقود للنار يستمر به العذاب في جهنم أبد الآبدين (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ)  (فاطر36 : 37 ). فالذين كفروا هنا تشمل من كان ذكرا أو أنثى وأدى به عمله السيء واعتقاده الباطل إلى هذا المصير ، لذا يتمنى كل منهم وهو في النار أن يخرج لكي يعمل عملا صالحا ينجو به من النار ويدخل به الجنة .

وكما يخلق الله جل وعلا لأصحاب الجنة الحور العين فإنه جل وعلا يخلق لأصحاب النار أزواجا من النار مختلفة مجهولة لنا  : ( هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ )( ص 57 : 58 )،  ومن المعلوم لنا منهم الملائكة الغلاظ الشداد الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، يقول جل وعلا محذرا المؤمنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) ( التحريم 6 ).

ومفهوم أن هذه الملائكة  ـ التي ستخلق مع الجحيم ـ ستكون أقوى من الجحيم ولا تتأثر ولا تتعذب بهذا الجحيم ، أي أنه بقدر ما في الحور العين من جمال ونورانية وحسن خلق ومتعة سيكون على العكس تماما أولئك الملائكة الغلاظ الشداد الذين سيقومون بالتعذيب – ليس فقط العصاة من أبناء آدم وإنما تعذيب الشياطين وإبليس والجن العصاة .

وعلى رأس ملائكة العذاب سيكون (مالك) الذي سيجأر إليه أصحاب النار من قسوة العذاب يسألونه أن يمن الله عليهم بالموت ويأتي الجواب بالتقريع والتوبيخ والرفض (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ) (الزخرف 77 : 78) .

 وهكذا فإن قانون الزوجية ينتهي بانتهاء هذا العالم على مستوى الكون والكون النقيض حين يلتقي الكونان فيدمر كل منهما الآخر وتأتي الساعة وتقوم القيامة . وأيضا  سينتهى على مستوى الوجود الإنساني فالزوجية بين الذكر والأنثى من أبناء آدم تنتج النسل وتتكاثر البشرية بالزوجية ثم تنتهي الزوجية بتدمير هذا العالم وتدمير هذا الجسد الذكري والأنثوي وبقيام الساعة تضع كل انثى حملها وتلهو كل مرضعة عما أرضعت ويموت الجميع ويتدمر العالم ،ويأتي تقسيم جديد في الآخرة على اساس العمل ، فمن يؤمن ويعمل صالحا يكون من أهل الجنة يتنعم فيها ويخلق الله له الحور العين سواء كان من قبل في الدنيا ذكرا أو أنثى . وأصحاب النار الذين كانوا من قبل ذكورا وإناثا يخلق الله لهم ملائكة العذاب . 

آخر السطر

من أسباب سوء فهم القرآن الكريم أننا نظن أن قوله تعالى (الذين آمنوا ) مقصود به الذكور فقط . 

 

 

 

خاتمة كتاب ( لكل نفس بشرية جسدان )

أولا :

1 ـ قبل آدم خلق الله جل وعلا الأنفس البشرية كلها ذكرا وأنثى . ثم تدخل كل نفس جنينها فى الموعد المحدد لها . الله جل وعلا يجعل الحيوان المنوى الذى يتحدد به نوع الجنين ذكرا كان أو أنثى بما يتفق مع نفسه. إن كانت النفس ذكرا فالحيوان المنوى الذى يسبق ملايين الحيوانات المنوبة الأخرى يكون ذكرا ، وإن كانت النفس أنثى فالحيوان المنوى الذى يقتحم البويضة يكون أنثى . ثم يتشكل الجنين بملامح نفسه ذكرا كان أو أنثى.

2 ـ يولد الانسان طفلا يصرخ ويحرك ذراعيه وساقيه ويتبول ويتبرز ويرضع بالغريزة ، ثم تتشكل فى نفسه (الفؤاد ) أى أجهزة السمع والبصر ، فيبدأ بتوجيه سمعه وبصره متفاعلا مع ما حوله ومن حوله ، ويستطيع التعرف على أمه وأبيه ويبدا بالنطق مستجيبا ويتعلم . ثم إذا كانت نفسه أنثى بدأت فى وعيه أحاسيس الأنثى ومنها غريزة الأمومة ، فتحرص الطفلة على اللُّعب الخاصة بالأنثى مثل ( العروسة ) والخاصة بالأمومة مثل  لعبة تمثل طفلا يحتاج الى الرضاعة والعناية. ثم تنظر الى الطفل الذكر نظرة الأنثى الى الذكر. ونفس الحال مع الطفل الذكر فيما يخص اللّعب الخاصة بالذكور والنظرة للأنثى. ويسير فى حياته ذكرا أو أنثى على هذا الأساس .

3 ـ للنفس جهاز سمع وجهاز بصر وبقية الأحاسيس مثل لجسدها المادى . وهى بأجهزتها السمعة والبصرية تسيطر على أجهزة الجسد الحسية . تفعل مثل أجهزة الرقابية فى دولة المستبد الشرقى، ترى وتسمع ولكن تحجب مالا تريده مما تسمع ومما تبصر. ولهذا يسمع المحمديون آيات القرآن الكريم التى تنفى شفاعة البشر بآذانهم المادية ولكن الوعى بها ممنوع لأن نفسه الكافرة تؤمن بأحاديث الشفاعة فتحجب وصول الوعظ والهدى القرآنى الى الوعى . وما أروع قوله جل وعلا : (وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا  وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴿١٩٨﴾ الاعراف ) . ينظر اليك بعينيه ولكن نفسه لا تبصرك .( التعقل ) و ( التفقه ) و ( التبصر ) يتم حجبه ، فيرى الانسان الضال بعينيه ويسمع بأذنيه ولكن بينه وبين الحق حجابا مستورا. والمثل الفاضح لهذا أن العقل المجرد ينفى أن يكون الإله شخصا مولودا من أنثى ، ثم تنتهى حياته مصلوبا لم يستطع حماية نفسه من التعذيب والقتل والصلب . كما يزعم المسيحيون فى إلاههم الذى أسموه (المسيح ). ومع هذا يتم حجب التعقل لتتسيد الخرافة وتصبح دينا. ونفس الحال مع المحمديين الذى يقدسون قبورهم المقدسة ، يصنعونها ثم يتوسلون بها ، ويزعموم أن التراب المدفون يسمع ويبصر ويتحكم فى مصائر الناس ، ولو خرج لهم (شبح ) من تحت التراب لهربوا منه رُعبا. وهم يقدسون كتاب ( البخارى ) دون العلم به ، وحين فضحنا ما جاء فى البخارى أتحفونا سبّا وشتما وتكفيرا ، تحيزا لكتابهم المقدس دون أن يتفكروا فيما إفتراه البخارى. ثم هناك من يعبد البقر ومن يعبد الفئران والنسانيس . وإذهب الى الهند فترى العجب .!!

4 ـ هذا يدخل بنا على مستويات النفس. هى نفس واحدة داخل جسدها ولكن لها مستويات .

4 / 1 : هناك المستوى الغريزى الذى يتشارك فيه الإنسان مع الحيوان . أذكر أننى عام 1974 كنت أسكن فى الحى الشعبى ( بولاق الدكرور ) ، وكنت مدرسا مساعدا ، فى بداية الاعداد لرسالة الدكتوراة عن ( أثر التصوف فى مصر العصر المملوكى) ، كنت أجمع المادة العلمية للبحث من مكتبة جامعة القاهرة ، وهى تبعد حوالى اربعة كيلومترات عن شقتى . كنت أعمل من الصباح حتى قبيل العصر ، ثم أسير على قدمى مشغولا بما جمعت، أذهب للغذاء ثم أعود بعد ساعتين ، وفى الليل أسهر على ما جمعت من مادة علمية أوزعها وأعلق عليها. فى ذهابى سيرا من شقتى الى مكتبة جامعة القاهرة وعودتى منها مرتين يوميا كنت أسير متكلما مع نفسى مركّزا التفكير على المادة العلمية التى أجمعها وأرتبها وأعلق عليها، أسير بقدمى الطريق ( شارع همفرس )  المزدحم بالناس والسيارت ثم أعبر السكة الحديد التى تفصل بولاق الدكرور عن حى الدقى ، وأتفادى الأشخاص القطارات والسيارات ، كل هذا وأنا لا أحسُّ بما يجرى حولى لأن التركيز على التفكير فى البحث. وحدث أن إصطدم بى صديق وحيّانى فلم أره ولم أشعر به ، وعاتبنى ، فشرحت له حالى. تحليل ذلك أن هناك مستوى أدنى من النفس يقوم بتسيير الجسد ، بمثل المستوى الذى للحمار مثلا ، فالحمار يعرف الطريق من البيت الى الحقل وبالعكس ويسير يتفادى العقبات دون وعى . ثم هناك مستوى الإدراك وهو الأعلى ، وبه يتميز الانسان عن الحيوان. وبهذا المستوى الأعلى من الإدراك كنت أجمع المادة العلمية منشغلا بها أقوم بتحليلها حتى وأنا اسير غير شاعر بما يحيط بى .

4 / 2 : المستوى الأعلى من الإدراك والذى تتميز به نفس الإنسان ، هو الخاص بمشيئة الانسان . ليست للحيوان مشيئة ، هو يتصرف بغريزته فى البحث عن الطعام وفى التكاثر. وليس عليه تكليف وليس مساءلا يوم القيامة. مشيئة النفس هى فى مستوى إدراكها . فالله جل وعلا خلق النفس البشرية وألهمها الفجور والتقوى ، ثم تشاء النفس أن تختار الفجور أو أن تختار التقوى ، حين تختار الفجور تكون ( النفس الأمّارة بالسوء ) وحين تشاء التقوى تكون ( النفس اللّوّامة ) . قال جل وعلا : ( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿٧﴾  فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿٨﴾ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴿٩﴾ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴿١٠﴾ الشمس ). النفس التى تشاء أن تتزكى تفلح يوم القيامة، والنفس التى تشاء أن تكبت الفطرة تخيب يوم القيامة.

5 : وحيث أن النفس هى التى تقوم بتسيير الجسد الذى ترتديه فالجسد هنا محايد مطيع لما تأمره به النفس. ونعطى أمثلة :

5 / 1 : الطفل قبل أن تتحرك فيه نفسه المُدركة ( الفؤاد ) لا يشعر بما حوله ولا بمن حوله ، وكذلك المجنون والنائم ، وكلاهما (غائب عن الوعى ). الجسد هنا يتحرك بالغريزة فى غياب النفس أوالوعى. الوعى هو النفس المدركة أو ( الفؤاد ) الذى يسمع ويبصر .

5 / 2 : يصل الطفل الى مرحلة البلوغ ويكون ( مكلّفا ) أى مسئولا عن أفعاله شرعا طالما لم يكن مجنونا . وهنا نلاحظ :

5 / 2 / 1 : حين يقع إكراه على النفس فلا مؤاخذة عليها ، حتى لو قالت كفرا ( النحل 106 ) أو أرتكبت الزنا إغتصابا بدون إرادة ( النور 33 ) المؤاخذة تكون عند التعمد فقط ( الأحزاب 5) . وعليه فقد ترى فعلا تعتبره حراما ولكن ليس من يفعله مؤاخذا عليه ، كمن يأكل لحم خنرير فى مطعم وهو لا يعلم ، وكمن يفطر فى نهار رمضان يستخدم رُخصة المرض أو السفر . مرجعية هذا للنفس المدركة ، ولا يعلم ما فى القلوب إلا الرحمن جل وعلا.

5 / 2 / 2 : نظرة العين : العين المادية ترى وتنظر ، والنفس المّدركة بعينها هى التى توجّه هذه النظرة . مثلا : قال جل وعلا : ( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗإِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴿٣٠﴾ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ) 31 ) النور  ) النفس المؤمنة يقع نظرها المادى على ما تشتهيه من الجنس الآخر ، فتغض عينها المادية . النفس الفاجرة يقع نظرها المادى على ما تشتهيه فتركّز عليه ، بل هى تبحث عمدا عن رؤية المحرمات. وما ينطبق على المنظور ينطبق على المسموع .

5 / 2 / 3 : القتل لنفس واحدة أو لآلاف النفس ، قد يكون فرضا فى تشريعات القتال الدفاعى فى الاسلام حين يهاجم المعتدون دولة اسلامية مسالمة ، وقد يدافع شخص مسالم عن نفسه ضد عدو يهاجمه ليقتله ، وتنتهى المعركة بقتل المهاجم المعتدى. فى الحالتين يكون قتل المعتدى أو المعتدين حلالا . هو نفس الفعل ولكن يختلف الحكم. محل الاختلاف يقع فى دائرة النفس التى توجّه جسدها للقتل . إن كانت نفسا مؤمنة مسالمة فالقتل دفاعا مباح ، وإن كانت نفسا معتدية فاجرة فما تفعله من قتل هو حرام. والأشد تحريما هو أن تستحل النفس الفاجرة قتل الأبرياء ، اوالأفظع أن تعبره فريضة ودينا وجهادا فى سبيل الله ، كما فعل الخلفاء الفاسقون ومن يسير على نهجهم اليوم.

6 ـ النفس البشرية فى هذه الدنيا :

6 / 1 : بمشيئة الحرة تنسج بعملها جسدها الآخر الذى ستاتى يوم القيامة تحمله ، وبه يكون خلودها فى الجنة أو خلودها فى الجحيم.

6 / 2 : النفس البشرية لا تختار ملامحها ولا لونها ولا موعد مولدها ولا موعد ومكان موتها ولا نصيبها من الرزق أو ما يحدث من مصائب وإبتلاءات بالشّر أو الخير. لا تختار تلك الحتميات المقدرة لها سلفا . ولكن هذا فقط فيما يخصُّ عمرها القصير فى هذه الدنيا.

6 / 3 : هى تملك بمشيئتها الحرة ما هو أعظم وأفدح ، تملك بمشيئتها الحرة أن تهتدى وتتقى فتدخل الجنة خالدة مخلدة ، أو أن تضل وتطغى فتدخل النار خالدة مخلدة.  الله جل وعلا خلق النفس حُرّة ، ووعد المتقين بالجنة ووعد الظالمين الكفار بالجحيم. والله جل وعلا لا يخلف وعده.

7 ـ ومن عجب أن يقع الانسان فى عبادة جسده المؤقت ويهمل تزكية نفسه الخالدة بالتقوى . هذا مع أن :

7 / 1 ـ هذا الجسد المادى مجرد رداء سيفنى وسيموت ، وليس مثل النفس خالدا .

7 / 2 : هذا الجسد متغير ، يبدا ضعيفا هشّا ثم يقوى ثم يعود ضعيفا هشا ، قال جل وعلا : ( اللَّـهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚيَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴿٥٤﴾ الروم ). هى حتميات يمُرُّ بها الجسد البشرى إذا إستمر يحيا من طفولته الى شيخوخته . وكل ما يبذله العلم الحديث من تأخير الشيخوخة وإطالة الشباب لا تجدى ولا تنفع ، فهى حتميات شأن الموت .

7 / 3 : كل ما يبذله العلم وتكنولوجيا التجميل لا تجدى فى إخفاء ملامح الشيخوخة فى الوجه ، وهو مرآة الانسان وبطاقته الشخصية . عمليات التجميل تزيد وجه المرأة الشمطاء قُبحا . قال جل وعلا : (وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ۖ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ﴿٦٨﴾ يس ). العاقلات من فاتنات السينما حين يتقدمن فى السن وتعجز عمليات التجميل عن إصلاح الوضع يبتعدن عن الأضواء حفاظا على صورتهن فى أعين الجماهير . يشعر المعجبون بالحزن حين يرون صورة النجمات الفاتنات ( سابقا ) وهن فى الشيخوخة والفارق البشع بين شبابهن وشيخوختهن .

أخيرا

1 : هذا الجسد هو مجرد ثوب ، وهو يتعرض للقدم والتمزق ثم يُلقى به فى الزبالة ( القبر ) شأن أى ثوب . ومن الحمق أن يركز الانسان على ( إصلاح ) ثوب وقتى ويهمل إصلاح نفسه الباقية الخالدة بأن يسجل هذا عملا صالحا فى كتاب أعماله أو فى جسده الآخر الذى سيأتى به يوم القيامة .

2 ـ أليس كذلك ؟

اجمالي القراءات 19778