مواطنون لا غزاة
مواطنون لا غزاة

أحمد أحمد في الخميس ٣١ - مايو - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

مواطنون لا غزاة
من يتابع كتابات بعض السادة الأفاضل من المصريين المسيحيين، يلاحظ تناقضاً غريباً، و أصف التناقض بالغريب لعدة أسباب، بعضها تاريخي و علمي، و بعضها الأخر لتناقضه مع قيم المواطنة و الحداثة و المدنية، التي ما برح المسيحيون يطالبون بها، و هي قيم بالتأكيد يقف معهم في المطالبة بها كل مصري وطني مستنير، يدرك عظم الأخطار التي تحيق بمستقبل هذا الوطن، و يأمل لمصر مستقبل أخر.

بعض النشطاء المصريين المسيحيين، من متابعة أدبياتهم، وجدت إنهم يتبنون قولين بشأن إخوانهم في الوطن من المصريين المسلمين، فتارة نحن نسل الغزاة الذين يصفونهم باللصوص و المتوحشين البرابرة، أما هم فهم المصريين الحقيقيين الذين كانوا يعيشون في سلام حتى طرقنا بابهم، و إستعمرنا بلادهم، و كأن مصر كانت مستقلة آنذاك، و كأن العلاقات بين شعب مصر، في ذلك العهد، و بيزنطة، سمن و عسل، و لم ينتهك هذا السلام، و يلوث هذا العسل، و يفسد ذاك السمن، سوى دخول العرب، و هذا عندما يكون حديثهم عن إضطهاد اليوم.

و تارة يكون الحديث عن قصص الأسلمة القسرية، بالسيف و الجزية و الإغتصاب، و هذا عندما يكون حديثهم عن إضطهادات الماضي.

القولان متناقضان، فتارة نحن عرب أقحاح، نسل من ينعتوهم بالغزاة، و تارة نحن أقباط مسلمين، ضحايا السيف و الجزية و الإغتصاب، و كل قول لمناسبة مختلفة كما أوضحت سابقاً.

لنفد القولان المتضادان.

من المعلوم أن العرب لم يحكموا مصر فعلياً سوى ثلاثة قرون فقط، إنتهت بإستيلاء أحمد بن طولون التركي على مقاليد السلطة الفعلية في مصر، و من بعده الإخشيديين الأتراك، ثم الفاطميين العرب – و من المعلوم بأن عصر الفاطميين كان عصراً ذهبياً لجميع المصريين بما فيهم المسيحيين و اليهود، بإستثناء فترة قصيرة في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي، و ذلك بشهادة المؤرخين المصريين المسلمين كالمقريزي، أو بشهادة المؤرخين المسيحيين كابن الراهب و الأب غريغوريس المعروف بابن العبري و يحيى بن سعيد الأنطاكي مؤلف صلة تاريخ أوتيخا وغيرهم كثير، أو بشهادة المؤرخين الأجانب الذين يعتد بقولهم البعض و يعدونه القول الفصل إمتداداً لعقدة الخواجة - ثم عصر المماليك الذين في أغلبيتهم كانوا أتراك و شراكسة من القوقاز و أوروبيين خاصة من الأروام، ثم العثمانيين الأتراك، ثم أسرة محمد علي، التي كان عصرها العصر الذهبي الثاني للمسيحيين، بعد دخول الإسلام، و العصر الذهبي الثالث لليهود المصريين، بعد الدولة البطلمية و الدولة الفاطمية.

كما إنه من المعلوم تاريخياً أن الخلفاء العرب، في العصرين الأموي و العباسي، كان دخلهم الأساسي قائم على الجزية، و بالتالي كانوا يعرقلون دخول غير العرب الإسلام، و من ذلك ما قام به أحد الولاة في فارس و خراسان، أي شرق إيران و غرب أفغانستان حالياً، من إمتحان الراغبين في الإسلام بقراءة بعض سور القرآن، و عدم إكتفاءه بالشهادتين، بعد أن لمس التناقص الخطير - من وجهة نظره بالطبع - في دخل ولايته. كذلك ما أتبعه ولاة الأمويين في مصر، من رفض رفع الجزية عن الداخلين في الإسلام، و جعل الداخل في الإسلام يدفع الجزية القديمة مضافاً لها الزكاة أيضاً بحكم إنه مسلم، حتى يبطأوا من تناقص دخل الدولة.

لقد دخل العرب مصر، و المصريين في أغلبيتهم الساحقة مسيحيين، مع أقلية يهودية، و إنتهى حكمهم الفعلي بعد ثلاثة قرون، مع تولي ابن طولون الحكم، و المصريين في أغلبيتهم لازالوا مسيحيين، و إن تناقصت النسبة بالطبع، بل إن بعض الباحثين يقدرون نسبة المسيحيين في مصر في العصر الفاطمي، أي بعد إنتهاء حكم العرب الفعلي، و سقوط الدولتان الطولونية و الإخشيدية، بثلث سكان مصر علي الأقل، و يحضرني هنا بعض النصوص التاريخية:

كتب ابن حوقل الذي عاش في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري: معظم رساتيق مصر و قراها في الحوف و الريف، و أهلها قبط، و لهم البيع- أي الكنائس – الكثيرة العزيزة الواسعة، و إنهم أهل يسار و ذخائر و أموال. ابن حوقل، صورة الأرض، مطبعة دار الحياة بيروت، صفحة 150.

كما كتب المقريزي، نقلاً عن أبو الصلت الأندلسي، الذي زار مصر في عصر الخليفة الآمر بأحكام الله الفاطمي، و المتوفي، و أعني أبو الصلت في القرن الرابع الهجري، و تحديدا في عام 528 للهجرة النبوية المباركة:

سكان أرض مصر أخلاط من الناس مختلفو الأصناف و الأجناس من قبط، و روم – أي يونانيين، - و عرب، و أكراد، و ديلم – أي من سكان شمال إيران – و حبشان، و غير ذلك من الأصناف، إلا أن جمهورهم قبط، أي أغلبيتهم قبط.

هاتان الشهادتان تكفيان لدحض القول بالإستيطان العربي لمصر، لأن برغم مرور فترة طويلة على إنتهاء السيادة العربية على مصر، ظل المصريين أغلبية في بلادهم، و يكفي أن أبو الصلت، العلامة الأندلسي، ذكر العرب في الترتيب الثالث، بعد القبط و الروم، و قبل الأكراد و الديلم و الأحباش، أي أن العرب، و حتى عام 528 للهجرة - و يلاحظ أن الفتح الإسلامي تم في العقد الثالث للهجرة، أي بعد قرابة خمسة قرون على الفتح، كانوا أقلية في مصر تأتي بعد اليونانيين، و بالطبع بعد القبط، أي المصريين.

و هذا لا يتناقض مع قول بعض الباحثين، بأن نسبة المسيحيين في مصر كانت تقدر في العصر الفاطمي بالثلث، لأن القبط، تعني المصريين، فقد كان علماء و رحالة العصر الإسلامي، يفرقون بين النسب القومي، و الدين، تماماً كما ظلت السيدة أم المؤمنين مارية القبطية، رضي الله عنها، و صلى الله و سلم على زوجها و أبو ولدها، قبطية بعد إسلامها، أي ظلت مصرية.

هذه الشواهد التاريخية، التي جاءت بأقلام مؤرخين و رحالة، مسلمين و مسيحيين و يهود مشهود لهم بالنزاهة و الحيدة، تدعمها اليوم الأبحاث الجينية الحديثة التي أثبتت أن المصريين الذين يمتون لأصل سامي، من خط الأباء، هم أقل من نصف المصريين المعاصرين، و يتركز أغلبهم في بحري مصر، حيث يشكلون في بحري، أعلى الأماكن للتركز السامي، فقط 51.9% من السكان، و في صعيد مصر و النوبة، النسبة المئوية هي على التوالي 24.4 و 17.4، حسب أحد الدراسات، و بالتالي فعلى مستوى مصر ككل يصبح من ينتمون لأصل سامي هم أقل من نصف المصريين، فما بالنا، إذا فحصنا أيضا خط الأمهات، و بقية الجينات الوراثية، لتلك الشريحة التي تمت للعنصر السامي بخط الذكور، فسوف نكتشف أن جيناتها في أغلبيتها مصرية، بحكم الإختلاط، خاصة أن مصر لم تعرف الطبقات المغلقة، يشهد على ذلك ملامحنا المتشابهة، مسلمين و مسيحيين.

على إنه يجب أن يلاحظ أن دراسة أخرى أجريت على عينتين تمثل احداهما سكان منطقة المنصورة في بحري مصر، و العينة الأخرى صعيد مصر، و قد أثبتت تلك الدراسة أن نسبة المنتمين للعرب هي أقل من الربع في منطقة المنصورة، أما في صعيد مصر فالمنتمين للعرب هم اقل من النصف و أكثر من الربع، أي في دراستين مختلفتين لم تصل نسبة العروبة إلى أن تكون أغلبية على مستوى مصر الأمة.

إلا إنه تبقى في هذا الشأن ملاحظة علمية ذات شأن، تقول بأن حتى الهابلوجروب الذكري الذي يسمى تجاوزاً بالهابلوجروب السامي، نسبة إلى الشعوب السامية و منها العرب، فأنه كان متواجداً في مصر من قبل ظهور الإسلام، حيث إنه ظهر منذ أكثر من عشرة آلاف عام إلى خمسة عشر ألف عام في جنوب الهلال الخصيب، و يشكل أحد مكونات المصريين القدماء، و إنه تحرك جنوباً فيما يشبه الضغط من الشمال للجنوب، ليدخل في التركيب الجيني لسكان مصر العليا و النوبة، مثلما أن بعض الباحثين يعتقدون بأن الأسرة التاسعة عشرة، التي ينتمي إليها رمسيس الثاني الشهير، من المحتمل أنها سامية الأصل، يدعم ذلك إنحدارها من شرق الدلتا، التي نقلوا إليها عاصمتهم بدلاً من الأقصر، كما أن رمسيس الثاني كانت إحدى بناته، تسمى ببنت عنات، و و بنت تعني بالكنعانية ابنة، و عنات، هي آلهة سامية، أصلها الهلال الخصيب، ذلك الهلال الجغرافي الذي يمثل الأودية الخصبة في العراق و كردستان و سوريا و لبنان و فلسطين، و لنُذكر أيضاً بما ثبت من تواجد عناصر أرمينية في مصر إستقر بعضها بالجيزة في عصر الأسرة الثالثة، أي قبل بناء الهرم الأكبر، الذي بني في عصر الأسرة الرابعة، و أرض أرمينيا التاريخية تقع أقصى شمال الهلال الخصيب، أي إنه لا يوجد ما يمكن أن يقال بأن هناك ما يعرف بالعنصر المصري، حيث المصريين القدماء كانوا عنصر خليط في الأساس، و بالتالي لا يمكن القول بأن هذا مصري، و ذاك وافد غازي .

إذاً خلاصة القول، هو أن العرب لم يرتكبوا الفظائع التي يحلو للبعض إنشادها و التباكي لها، مثلما يجب الكف عن ترديد أن المصريين المسلمين الحاليين، هم نسل الغزاة العرب، و إنهم أجانب على البلاد، لأن ذلك يتنافى مع الشواهد التاريخية، مثلما يتنافى مع العلم الحديث، الذي لا يميل مع الأهواء الشخصية لبعض البشر، مثلما هو يتناقض مع منطق المواطنة في العصر الحديث.

إذا يبقى السؤال، هل حدث إضطهاد إسلامي؟


مثلما نأخذ بالمقريزي، للإستشهاد بأن أغلب سكان مصر، مسلمين و مسيحيين، كانوا مصريين، فإننا كذلك علينا أن نقبل بما قال من حدوث بعض موجات الإضطهاد ضد المسيحيين المصريين، كتلك التي وقعت في عهد السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون، و عهد ابنه السلطان الصالح صالح بن محمد بن قلاوون، و هي موجات عابرة لا سياسة منظمة، و إلا لكانت مصر اليوم مسلمة كلية مثل تركيا بعد مذابح الأرمن، و كما أن أسبانيا و البرتغال مسيحيتان بعد محاكم التفتيش و طرد المسلمين و اليهود، كما أن علينا أن نسأل كم من المسلمين المصريين حالياً يمتون إلى المماليك بأصل؟؟؟ هذا إذا كان علينا القبول بمبدأ وراثة الأخطاء، و الذي يتناقض مع القرآن و مع ما في سفر حزقيال، الفصل الثامن عشر، في شأن المسئولية الشخصية المنفصلة لكل شخص، حين يُحمل المسلمين الحاليين وزر أعمال الأجيال الغابرة، و التي في حقيقة الأمر لا يمتون لها بأصل أو نسب، و حتى لو كان البعض ينتمي لها بالأصل إلا إنه لا أحد يجب أن يحاسب على ما ارتكب أسلافه.

هذا ما يقول التاريخ، أما ما أراه شخصياً، فإنه سواء كان هناك إضطهاد إسلامي، أو لم يكن، أو كان في شكل فترات عابرة، و الرأي الأخير هو الرأي الصحيح تاريخياً، فإنه ليس من حق المسيحيين المصريين اليوم التحدث عن ذلك، لأن هذا الإضطهاد لم يمس أسلافهم، و إذا كان هذا الإضطهاد حقيقة، فإن المعني به هو أسلاف المصريين المسلمين في الوقت الحاضر، و هم، أي المسلمين المصريين في الوقت الراهن، في أغلبيتهم الساحقة - إن لم يكن كلهم - راضين بإسلامهم، و لا يريدون عنه بديلاً، و حتى لو فرضنا أن تحول بعض أسلافهم للإسلام كان قسراً، و هذا غير صحيح، فإنهم يغفرون لمن فعل ذلك مع أسلافهم، لأنهم راضين تماماً اليوم بإسلامهم، إنها قضيتنا لا قضيتكم.

إذاً ليلتفت المصريين المسيحيين لمشاكل الحاضر، و ليغلقوا ملف الماضي البعيد، لأننا، نحن المسلمين المصريين، مصريين مثلهم، بالتاريخ و الأدلة العلمية و الإقامة، و حتى من ينتمون لأصل عربي هم مواطنين كغيرهم، و هذه بلاد المسلمين و المسيحيين و غير ذلك، أي كل من يحمل الجنسية المصرية، و كل منا على قدم المساواة، و إننا راضين بإسلامنا، و لا نفكر للحظة في الخروج عنه، و كل من الإسلام و المسيحية وافدين على مصر، فليغلقوا باب الحديث عن إضطهاد الماضي لأنه لا نحن و لا أسلافنا من إرتكبه، كما أن التاريخ المسيحي المصري لا يسلم من صفحات الإضطهادات الحالكة، و التي مارسها المسيحيين المصريين بتوجيه من قادتهم الروحيين آنذاك، بحق الوثنيين و الفلاسفة و اليهود، و الشواهد التاريخية متوافرة، و من مصادر تاريخية لا غبار عليها، و مقتل الفيلسوفة السكندرية هيباشيا، بأبشع الصور، يكفي كمثال موثق بمصادر لا يعتريها الشك، و إن كان مثال غير وحيد.

لنغلق ملف الماضي، و سواء كان المصريين المسلمين، عرب أقحاح، أو مصريين أصلاء أسلموا، أو أتراك أو شراكسة أو أكراد أو مغاربة أو أوروبيين في أصولهم، و سواء كان المصريين المسيحيين، من أصل فرعوني أو يوناني أو أرمني أو حبشي أو أوروبي، فالجميع اليوم مواطنين مصريين.

إن كل من يردد أقوال بشأن الأصل العرقي لأي فرد أو جماعة، و يستثنيها بناء على ذلك الإدعاء، من حق المواطنة الكاملة، و كل من يريد أن يحمل، كذباً أو صدقاً، أبناء الحاضر، أوزار الماضي، لا يحق له أن يتحدث عن حقوق المواطنة، أو يطالب بدولة مدنية حديثة، لأنه في سريرته لا يؤمن بقيمها، لأنه لو كان يؤمن بها، لما نطق بما يخالف قيمها الأساسية، و لو حدث و قبض على مقاليد الأمور في مصر، أو أي مكان أخر، فإن دولته لن تختلف عن دول التطرف، مثل أسبانيا و البرتغال في عهد محاكم التفتيش الكنسية.

لنعيش في الحاضر، و لنقف معاً، ضد التطرف و التمييز و الكراهية، بكل أشكالهم و مسمياتهم و ذرائعهم.

ها هي فرنسا، قلعة التقاليد المحافظة، و المعتدة بفرنسيتها حتى النخاع، و التي سبق في 2005 أن رفضت الدستور الأوروبي خوفاً على هويتها المميزة، تنتخب رئيساً - بصرف النظر عن إختلاف الأراء فيه - نصفه من أصل مجري، و ربعه من أصل يوناني، و فقط الربع المتبقي فرنسي، لكنها لم تراه سوى فرنسي، مفضلة إياه على الفرنسي القح جان ماري لوبن، الذي تبجح بالقول إنه نبت التراب الفرنسي و الأخر نبت الهجرة، و لتأتمنه - و أعني فرنسا مع ساركوزي - على أمنها و إقتصادها، و مستقبلها، لمدة خمسة أعوام، على الأقل، معطية إياه ثقة حجبتها عن الفرنسية الأصيلة رويال.

فهل المصريين المسلمين أقل إنتساب لوطنهم، من إنتساب ساركوزي لفرنسا؟؟؟؟؟

هذه ليست دعوة للسكوت على جرائم العصر الحالي التي ترتكب بحق المصريين جميعا، مسلمين و مسيحيين و غير ذلك، و إن إختلفت نوعية الجرائم و درجتها، إنما هي دعوة لإخواني في الوطن، من المصريين المسيحيين للعيش و التعايش في الوقت الحاضر، و إغلاق ملفات ماضي سحيق لا يد لأحد اليوم فيه، و الإنتباه للغد، بالتخطيط، مع إخوانهم المصريين المسلمين، لمستقبل أفضل من هذا الذي نعيشه جميعاً، و نكتوي بناره.

أحمد حسنين الحسنية 

21-05-2007

اجمالي القراءات 4503