"أشقر" خبير في السكة الحديد، هو مواطن إنجليزي محترف في مهنته، وحاصل على أعلى الدرجات العلمية، ووجدته إدارته أفضل من يسافر إلى "البلد البني" لحل معضلة هناك في السكة الحديد، وجاء موعد السفر، ورحل أشقر صاحب الشكل الأشقر، إلى "البلد البنية" التي لا يعرف عنها إلى القليل.
وبعد وصوله نزل من سلم الطائرة ليستقبل حرارة الشمس ولهيبها، فصرخ ما هذا، أين أنا، هل سافرت "للبلد البني" أم إلى جهنم ؟، ونزل مسرعاً ليستقل الباص ليذهب إلى المطار، وكان الباص مكيفاً، لكن بابه ظل مفتوح لفترة طويلة بدون داعي، مما أثر على درجة الحرارة داخله !.
وصل الباص إلى المطار ووقف الرجل في طابور مراجعة جوازات السفر والإقامة، لكن كان المناخ حار جداً، غضب أشقر من عدم وجود تكييف، فصاح بصوت عال .. ألا يوجد تكييف هنا.
فأجابوه يوجد لكنه به عطل !، فبدت الرحلة إلى الرجل رحلة صعبة من بدايتها، فرفع رأسه إلى السماء يطلب من الله أن يلهمه الصبر على فترة بقائه في "البلد البني"، وبعد أن إنتهى من فحص جواز سفره، وراجع تأشيرة إقامته، ذهب ليتسلم حقيبته، فإذ بالأمن يخبره بالتالي :
- الأمن : الحقائب أمامها ساعتين حتى تأتي.
- أشقر : تعجب الرجل وسأل .. ولماذا التأخير.
- الأمن : ستأتي حقائب أربع طائرات مجتمعة، كما ستأتي شحنة حقائب كانت مفقودة.
- أشقر : وماذا سأفعل فيمن ينتظرني من بلادكم بصالة الوصول، إنه مسئول كبير في حكومتكم.
- الأمن : من أي جهة هو.
- أشقر : من وزارة المواصلات، هيئة السكة الحديد.
الأمن : سننادي عليه عبر الإذاعة الداخلية، ليعلم أنك ستتأخر بسبب تأخر إستلام الحقائب.
وبعد ساعة جاء الأمن إلى أشقر ليخبره أنه لا يوجد أحد ينتظره !، وبعد ساعتين ونصف، إستلم أشقر حقيبته ثم خرج لصالة الوصول، فلم يجد في إنتظاره أي أحد، ففتح هاتفه المحمول، واتصل بالمسئول الحكومي وكان إسمه .. "كيم".
فأجابه بأنه في طريقه إليه، غضب أشقر وسأل .. ولماذا لم تأتي مبكراً، فموعدنا كان قبل ثلاث ساعات مضت، فرد "كيم" إنها زحمة الطريق.
وصلت كيم بسيارة الوزارة بعد ثلاث ساعات متأخراً عن موعده، أي أن أشقر جلس نصف ساعة أخرى ينتظر سيارة الوزارة !.
نزل المسئول "كيم" من السيارة ليرحب بأشقر في "البلد البني"، وركبا معاً السيارة المكيفة، وبدا الإستياء على وجه أشقر، فسأله المسئول "كيم" لماذا أراك شاحب الوجه، فحكى له الرجل ما مر به في المطار، فتعجب "كيم" من تضرر أشقر مما حدث معه، فتلك أمور معتادة، وتعجب أشقر من تعجب كيم من تضرره !.
وصل أشقر إلى الفندق، وطلب من كيم، أن يمر عليه في المساء حتى يضعوا خريطة العمل معاً، وحدد معه موعد اللقاء.
وذهب أشقر إلى الموعد لكن كيم لم يأتي، ومرت نصف ساعة، ثم ساعة، فغضب أشقر فإتصل به على هاتفه المحمول، فوجد زوجة كيم تجيبه على الهاتف، وتخبره بأن زوجها عاد للمنزل متعباً، وأخبرها أن تخبره، بأن يؤجل موعدهما إلى صباح الغد.
وأتى الصباح وذهب المسئول "كيم" إلى أشقر، يعتذر له عن عدم إستطاعته لقاءه بالأمس لأنه كان متعباً، وذهب الإثنان إلى مقر هيئة السكة الحديد، بعد ساعة سير بالسيارة، مع أن المسافة كانت قصيرة، لكن .. الطريق بالفعل كانت مزدحمة، وسأل أشقر كيم :
- أشقر : ما هي مؤهلاتك العلمية، وخبراتك.
- "كيم" : أحمل شهادة متوسطة ولم أدخل جامعة، إلا أنني قد وصلت لما أنا فيه بكفاحي.
- أشقر : (تعجب أشقر في قرارة نفسه مما علمه عن شهادة تعليم كيم)، فكيف لمثله يتولى مثل هذا المنصب !، ثم سأله أخبرني إذاً عن خريطة العمل.
- كيم : نريد منك أن تضع لنا عروض شراء بعض القطارات، وخطة أخرى لتطوير بعض عربات القطار، وخطة أخرى لتسهيل عمل حركة ملاحة القطارات.
- أشقر : لكن هذه الطلبات ستحتاج فترة طويلة، وأنا مدة عملي هنا شهراً واحداً فقط، فكيف سأنتهي من إعداد كل هذا.
- كيم : لا تقلق، فإن إحتجنا إلى وقت آخر، سنخطر إدارتك في لندن، وسندفع ثمن إستعانتنا بك لوقت إضافي.
- أشقر : أنا أريد أن أنتهي من عملي بأقصى سرعة، فأرجوا تسهيل كافة الإجراءات أمامي حتى انتهي.
- كيم : ضحك كثيراً، ثم قال .. ولماذا العجلة، إن العجلة من الشيطان، لا أريدك أن تتعجل، ولا تحمل هماً لأية تكلفة أو مصاريف.
أشقر : أتعرف ما هو اكبر شيء لدينا في لندن.
- كيم : لا.
- أشقر : إنها ساعة بيج بن، لذا نحن قوم نهتم بالوقت، فإن لم نقطعه قطعنا، أفهمت قصدي.
- كيم : فهمت لكن لا تقلق، سترافق مساعدتي في كل تحركاتك، وهي حاصلة على الدكتوراه من جامعة غربية عالمية.
- أشقر : قال في قرارة نفسه .. (ما هذا البلد، مديرة مكتب هذا الجاهل حاصلة على الدكتوراه من جامعة غربية عالمية !)، ثم قال له إذاً أرجو أن تعجل بلقائي بها.
وأتت ساعة وصول مساعدة المسئول الحكومي "كيم"، وكانت فتاة في العقد الثالث من عمرها، وإسمها "باتا"، فتاة ذكية، وحاصلة على درجة الدكتوراه من جامعة غربية شهيرة، فقام "كيم" بتعريف كل منهما بالآخر، ثم تركهما ليحددا طريقة وخطة العمل.
وكان أول سؤال من أشقر إلى باتا :
- أشقر : كيف لمثلك أن يكون مساعداً لمثل هذا الجاهل.
- باتا : لسنا في قطاع خاص، بل قطاع حكومي، وفيه تكون الأولوية لأهل الثقة، لا أهل التخصص أو الخبرة.
- أشقر ما خطتنا إذاَ.
- باتا : سنذهب اليوم لإلقاء نظرة على القطارات، فمنها المتهالك بعض الشيء ونريد إصلاحه، وغداً سنتطلع على آلية عمل الحجوزات، والتعامل مع المسافرين، لتبدي لنا رأيك فيها.
- أشقر : إذاً هيا بنا فلست في حمل إنتظار أكثر من ذلك.
- باتا : لا ليس الآن، فأنا لم أتناول إفطاري بعد، ولم أشرب كوب الشاي، لتنتظر نصف ساعة.
- أشقر : ولماذا لم تتناولي إفطارك منذ الصباح، لنوفر الوقت.
- باتا : قد تعودت أن أتناول إفطاري بعد وصولي إلى العمل، تلك عادتي.
- أشقر : إذاً هيا بنا.
- باتا : إلى أين.
- أشقر : إلى المطعم لتتناولي إفطارك.
- باتا : ضحكت كثيراً، وقالت لا يوجد لدينا مطاعم هنا، سأتناول إفطاري في المكتب، ثم طرق الباب وأتى الساعي لـ باتا بكوب الشاي، بعدها أخرجت من حقيبة يدها كيس مليء بالساندوتشات، وبدأت تتناول ما فيه.
أشقر : قال في قرارة نفسه (ما هذا القرف، طعام في حقيبة اليد، أي إمرأة هذه، هل حقاً تلك المرأة حاصلة على شهادة من جامعة عالمية !.
وبعد أن إنتهت باتا من طعامها الذي قزز أشقر، قالت له لننطلق الآن، فأخذته في رحلة لزيارة القطارات المراد إصلاحها، وكانت الشمس ساطعة، وأشقر يتذمر من الحرارة، فقالت له باتا :
باتا : أتحب أن نأتي في المغيب.
أشقر : أحبُ أن ننهي عملنا.
وبعد دخول مخزن القطارت والمرور من بين عدد من القطارات المراد إصلاحها، كان بعضها متهالك قليلاً، والبعض الآخر متهالك بالمرة، فقالت باتا لـ أشقر.
- باتا : ما رأيك.
- أشقر : لم أكن بحاجة لرؤية متحف السكة الحديد، فأنا في عجلة من أمري.
- باتا : ليس بمتحف، تلك العربات التي نريد إصلاحها.
- أشقر : أي إصلاح !، إنها عربات فقدت صلاحيتها، ولا تصلح لنقل البضائع، أو الحيوانات، فكيف تريدون أن يركبها إنسان.
باتا : يبدو انك لا تعلم أننا لازلنا نشغل بعضاً من هذه العربات.
أشقر : إذاً أستطيع أن أعطيكِ تقرير لخطة العمل الأولى الآن.
باتا : حقاً .. تفضل.
أشقر : أرفض العمل على مشروع غير آدمي، والآن دعينا نبحث المشروع الثاني حتى لا نضيع الوقت.
وفي اليوم التالي إلتقى أشقر بـ باتا، وذهبا لرؤية آلية التعامل مع المسافرين، والحجوزات.
وسأل أشقر : أليس لديكم برنامج كمبيوتر حديث للحجز.
باتا : بلى لدينا، برنامج قمنا بشراءه بقيمة خمسة عشر مليون دولار، إلا أن رئيس الهيئة قد تغير، ولم يستكمل رئيس الهيئة الجديد العمل به، وظل حبيس الأدراج لقرابة الخمسة أعوام الماضية، فليس لدينا موظفين مدربين على التعامل معه.
أشقر : أرجو أن نلتقي بعد إسبوع من الآن، ساكون قد إنتهيت من إعداد عدد من العروض الخاصة ببرامج الكمبيوتر، وأنواع القطارات الجديدة، وأرجو أن تلتزمي بالموعد القادم دون تأخير.
باتا : ولماذا العجلة، الا تعلم أن العجلة من الشيطان، في التأني السلامة، وأنت لازال امامك أكثر من ثلاثة أسابيع، دعنا نمرح بعض الشيء، ولتنتهي من عملك على مهل.
أشقر : (تذكر أشقر أن نفس الكلمات سمعها من مديرها "كيم"، فادرك أن إهدار الوقت يبدو طبيعة البنيين جميعاً)، ثم قال لها .. أكبر شيء في لندن هو ساعة "بج بن"، إن الوقت لدينا ثمين.
وبعد إسبوع إلتقى أشقر بـ باتا، والمسئول الحكومي كيم، وعرض عليهم العروض التي أعدها، فإذا بالمسئول "كيم"، يختار العروض الأعلى سعراً في كل شيء، فقال له اشقر :
أشقر : لكن هذه العروض باهظة الثمن، وأنتم لازلتم تتعاملون مع الناس بما عفا عليه الزمن، ولستم بالبلد الغني، أو المؤهل لمثل تلك العروض.
كيم : من أجل ما ذكرت فإنني أختار العروض الأعلى والأغلى، لأنها الأفضل.
اشقر : وكيف تختار أنت منفرداً، دون وجود لجنة متخصصة، أي قانون هذا يعطيك مثل هذا الحق لتنفق مثل تلك المبالغ من أموال "الشعب البني".
كيم : إنه قانون بلادي البنية، أنا مفوض أن اختار منفرداً، فلا تقلق.
أشقر : لستُ قلقاً، لكن لن أكون مشاركاً في إتمام صفقة فاسدة، على حساب "الشعب البني"، ستدفعون الأموال الآن .. لتعود ثانية لك ولأمثالك، والله لن اوافق على إتمام الصفقة حتى وإن إستفادت بلادي.
كيم : إنك تعلم أن الصفقة لن تتم إلا بموافقتك، وبما أنك غاضب، فهذا أمر لا يرضيني، كم تريد من المال حتى نتمم الصفقة.
أشقر : إذاً فأنت تقر بالفساد، وإلا ما كنت تعرض علي الرشوة.
إنتهى الإجتماع، وكان أشقر قد قام بتسجيل كل ما دار فيه، وأبلغ السلطات في لندن، كما أبلغ السلطات في البلد البني، وغادر عائداً إلى بلاده، والحزن يعتصر قلبه، على ما وجده من فساد.
وبعد خمسة أعوام، طلبت منه إدارته في لندن، القيام بنفس رحلتة التي مر عليها نصف عقد، "للبلد البني"، إلا أن أشقر هذه المرة كان متحمساً لزيارة البلد البني والعمل بها، فخلال الخمسة أعوام الماضية حدثت تغيرات كثيرة، تم فيها كشف العديد من قضايا الفساد، فذهب وكله تفاؤل.
وبعد أن وصل أشقر إلى الفندق، جاءه المسئول الحكومي، والذي لم يكن "كيم" بكل تأكيد، بل كان شخص مؤهل علمياً.
إلا أنه إصطحب "أشقر" لمكتب الوزير أولاً، فهو من سيوقع الصفقة الجديدة، وطوال الطريق، والمسئول الحكومي الجديد يحدث أشقر عن التغيرات التي تمت في البلد البني، وعن الإصلاح الذي تحقق.
وبعد أن وصل "أشقر" إلى مكتب الوزير، إذ به يجد "كيم" موجوداً فسأله :
- أشقر : ماذا تفعل هنا.
- كيم : أنا الوزير يا سيد "اشقر".
شادي طلعت