الفصل الأول
الفتح الإسلامي والاستراتيجية السياسية لمصر بعد الفتح
ثالثا- مصر والأمويون
في الحرب الأهلية بين على ومعاوية :-
انفتح العرب على العالم الخارجي حين ورثوا أملاك الروم والفرس وتحكموا في بلاد زراعية ثرية مترفة. وبعد مقتل ( عمر ) الذي ساسهم بالحزم والصرامة تولى (عثمان ) وهو مشهور باللين والحياء والتردد والسخاء فانشغل العرب بالدنيا ووقع بينهم التنافس وتلاطمت أمواج الفتنة والشقاق وأودت بحياة ( عثمان ) .
وتفتحت شهية العرب للتمتع بثمار الفتوح ولم يكن ( علي ) بالشخص المناسب لذلك العهد , (فعلي ) يمثل الرعيل الأول من الصحابة واقرب الناس إلى طريقة ( عمر ) وحتى (عمر ) نفسه في عهده قد أحس بأن الناس قد ملت صرامته , ثم تطور الأمر بفتح (عثمان ) الأبواب أمامهم للتمتع فاغترفوا منها ولم يعد بوسعهم العودة لمنهج (عمر ) أو منهج (علي ) السائر على طريق (عمر ) .
لقد تبدل الناس غير الناس في خلافة (علي ) , لقد كان ( علي ) من رعية ( عمر ) فأصبح أبناء الدنيا والفتن والشقاق هم رعية (علي ) . من هنا فإن العصر لم يعد عصر (على ) وإنما عصر معاوية , عصر ملك يحكم ولا يتقيد بالدين إلا فيما يخدم سياسته ولا يتعارض معها , بهذا كانت سياسة معاوية الملك – بعد عصر الخلفاء الراشدين .
وقد عارض (أبو سفيان ) الإسلام في مكة وكان رأس حربة ضده بعد الهجرة للمدينة وذلك حرصا منه على مصالحه فلما تم فتح مكة وأصبح (أبو سفيان ) وآله الأمويون من مسلمة الفتح صمم على أن يتقدم الصفوف بأبنائه حرصا منه على بقاء مصالحه في الوضع الجديد , وكانت الفتوح فرصة أثبت فيها الأمويون جدارتهم الحربية ثم السياسية , وخرجوا من الفتوح وهم يحكمون الشام ومصر باسم الإسلام . وتعاظمت فرصة الأمويين بتولي (عثمان ) الخلافة وهو أموي الأصل , فسيطروا عليه في حياته واستغلوا مقتله في توطيد نفوذهم في الشام ومناوأة (علي ) حين تولى الخلافة بعد (عثمان ) وبادر بعزل ولاة (عثمان ) من الأمويين الذين افسدوا عليه الأمر وكانوا السبب الحقيقي في الفتنة وفي مقتله .
وأثناء انشغال (علي ) بأهل الجمل الثائرين عليه كان (معاوية ) في الشام يعد العدة للاستيلاء على مصر , لقد فهم (معاوية ) استراتيجية المنطقة وأيقن أن مصيره في الشام مرتبط بسيطرته على مصر , وأكد له ذلك الرأي حليفه ( عمرو بن العاص ) الذي بايعه على الخلافة . و(عمرو بن العاص ) هو فاتح مصر بعد فتحه جنوب الشام وأول من أدرك أهمية الموقع الجغرافي بين مصر والشام .
لذا فإن (عمرو ) و (معاوية) تعاونا معا في قتل ( ابن أبى حذيفة ) الناقم على الخليفة ( عثمان ) والذي أخرج من مصر واليها ( عبد الله بن أبى السرح ) في الوقت الذي تولى فيه ( على ) الخلافة , ولم يتريث ( معاوية ) و ( عمرو ) بل أسرعا – وقت انشغال ( علي) بمعركة الجمل - فحاولا دخول مصر للاستيلاء عليها, فلم يتمكنا فلجأ ( عمرو ) للخديعة وما زال ( بابن حذيفة ) يخادعه حتى أخرجه إلى العريش في ألف رجل وتحصن بها وحاصره فيها ( عمرو ) و ( معاوية ) ونصبا عليه المنجنيق حتى نزل في ثلاثين من أصحابه فقتلوهم .
وبعث ( على ) واليا من قبله على مصر هو ( قيس بن سعد بن عبادة ) المشهور بالدهاء فدخل مصر , واستقام له أمر الناس وكان في مصر جماعة من أتباع ( عثمان ) اعتصموا بقرية يقال لها ( خربتا ) ورأى ( قيس ) مهادنتهم فاستجابوا له قائلين ( إنا لا نقاتلك فابعث عمالك فالأرض أرضك لكن أقرنا على حالنا حتى ننظر إلى ما يصير أمر الناس ) ودعا – مسلمة بن مخلد الانصارى ) للأخذ بثأر عثمان وأيده جماعة من الأنصار , فبعث إليه ( قيس بن سعد ) وهو أنصارى مثله – يقول له ( ويحك على تثب ؟ فوالله ما أحب أن لي ملك الشام إلى مصر وأنى قتلتك ) فبعث إليه مسلمة ( أنى كاف عنك ما دمت أنت في مصر ).
ولم يكن ( معاوية ) ليهدأ وهو يرى ( عليا ) ينتصر في الجمل ويرى والى ( علي ) في مصر يمهد أمرها له , فأيقن بالهلاك إن لم يسيطر على مصر لأنه إن لم يفعل فأمامه (علي) في العراق وخلفه( قيس بن سعد بن عبادة) في مصر وسيحاصرانه بينهما . فحاول بالدهاء والتهديد أن يسير حال ( قيس ) فكتب إليه ( قيس يلاطفه ويباعده ولم يقتنع معاوية فكتب لقيس . أما بعد فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فـأعدك سلما ولم أرك تباعد فأعدك حربا . ليس مثلي يصانع المخادع ولا يتنزع للمكايد ومعه عدو الرجال وبيده أعنة الخيل . لما قرأ قيس كتاب معاوية ورأى أنه لا يقبل المهادنة والملاطفة كتب إليه بموقفه الصريح في الولاء ( لعلى ) والخصومة له ومن معه .
ولما لم يفلح ( معاوية ) مع ( قيس ) عزم على الإيقاع بينه وبين ( علي ) ليعزله ( علي ) عن مصر . فقال ( معاوية ) لأهل الشام ( لا تسبوا قيس بن سعد ولا تدعوا إلى غزوه فإنه لنا شيمة يأتينا كيس نصحه سرا , ألا ترون ما يفعل بإخوانكم الذين عنده من أهل خربتا يجرى عليهم اعطياتهم .. ويؤمن سربهم ويحسن إلى كل راكب قدم عليه منكم ) وبلغ ذلك جواسيس ( علي ) بالشام فأوصلوا الحديث ( لعلي ) .
واختلق ( معاوية ) كتابا من ( قيس بن سعد ) ادعى أن ( قيسا ) كتبه إليه فقرأه على أهل الشام فيه التأييد( لمعاوية ) أقتنع ( علي) بأن قيس بن سعد يماليء معاوية , إذ أرسل (علي ) إليه يطالبه بقتل أهل خربتا ولكن (قيس بن سعد) رفض قائلا (أتأمرني بقتال قوم كافين عنك مفرغيك لقتال عدوك , وإنك متى حاربتهم ساعدوا عليك عدوك ) .
وهكذا أفلحت خدعة معاوية فجعل عليا يعزل قيسا عن مصر ويستريح معاوية من وال حازم داهية كان شوكة في جنبه بمصر .
فيما بعد التقى (قيس ) بالخليفة ( علي ) وفهم ( علي) جلية الأمر ولكن بعد فوات الأوان وعين (علي ) (الاشتر النخعي ) واليا على مصر (والاشتر) هو قائد ( علي ) في معركة صفين والذي استطاع أن يصل بخيله إلى فسطاطا (معاوية) في المعركة , أي أن (عليا) يقصد أن يقهر (الاشتر) ( معاوية) في مصر كما قهره في صفين , ويتمكن (علي) من الضغط على(معاوية) من الشرق ويضغط عليه (الاشتر) من الغرب , وأحس معاوية بالخطر إذا وصل(الاشتر) إلى مصر و(الاشتر ) شديد البأس والحماس فدس معاوية له من سقاه سما في الطريق كان فيه حتفه .
وأرسل (علي) واليا آخر على مصر هو (محمد بن أبي بكر الصديق ) ومكانته معروفة باعتباره ابنا (لأبي بكر الصديق) صاحب رسول الله عليه السلام وأول الخلفاء الراشدين وكان (محمد بن أبي بكر ) من مؤيدي (علي ) من البداية للنهاية, إلا إن (محمد بن أبي بكر ) لم يكن في دهاء (قيس بن سعد ) وحكمته في التعامل مع أصحاب (خربتا) الناقمين على قتل( عثمان) والمطالبين بثأره , والذين وادعهم (قيس بن سعد ) في ولايته وكف شرهم عنه.
وقد بادر (محمد بن أبي بكر ) بالهجوم عليهم ونهب دورهم فشبت بينهم الحرب , وعقد صلح بينهم وسمح لهم بمقتضاه أن يلحقوا بمعاوية في الشام , وبذلك أدت سياسة (محمد بن أبي بكر) إلى تعضيد (معاوية ) في حربه ضد( علي) بإرسال مقاتلين جدد هم أصحاب (خربتا ) .
أحس معاوية بأن الأحوال مناسبة له لينتزع مصر من ( محمد بن أبى بكر ) فأرسل إليه من يفوقه دهاء ومقدرة حربية ودراية بأحوال مصر , وهو فاتحها ( عمرو بن العاص حليفه في الخلاف ضد ( علي ) , والذي بمشورته في صفين استطاع أن ينجو من هزيمة ساحقة وأن يبث الخلاف بين أتباع ( علي ) فيخرج عليه ( الخوارج ) حين أشار بتحكيم كتاب الله .
أي وأنه وكما تنازل ( علي ) عن قائده ( الاشتر ) وهو في أشد الحاجة له في مواجهة الخوارج وفضل إرساله إلى مصر نكاية في معاوية , فان معاوية .. بعد التخلص من ( الاشتر ) أرسل لمصر حليفه ( عمرو ) وثاني رجل بعده في الخلاف ليستحوذ على ( مصر ) من ( محمد بن أبى بكر ) وقد تمكن ( عمرو ) من هزيمة ( محمد بن أبى بكر ) و قتله سنة 38هـ [1] .
ويلاحظ (أن معاوية) بعث (عمروا) لمصر على انه إذا فتحها تكون طعمة له أي ضيعة خاصة يجنى خيرها لنفسه, ومعناه أن ثراء مصر المشهور وما تضيفه إلى بيت المال من خراج وجزية لا يعدل عند (معاوية) أهميتها الاستراتيجية , فتنازل عن مواردها المالية الوفيرة (لعمرو) في نظير أن تكون مصر له عمقا استراتيجيا في مواجهة (علي) بالعراق , أي انه أيقن أن بقاء الشام مرتبط بمصر وتلك استراتيجية الموقع التي أحسها كل من غزا الشام وأدرك أن بقاءه فيه لا يتم بدون مصر . ومن هنا كانت الفتوحات والغزوات الآتية من المشرق تتم غزوها بالعبور لمصر .. هذا ما فعله ( عمرو ) بعد فتحه جنوب الشام , وهو عين ما يفعله الآن لصالح ( معاوية ) الذي استقر بالشام وجعله قصبة ملكه ولن يأمن على ملكه أمام عدوه (علي ) في العراق إلا بعد أن تكون ( مصر) تابعة له ولو بدون ايراد مالي .
ومن سمات استراتيجية الموقع بين مصر والشام أن يكون هناك تنافس بين حاكمي الإقليمين إذا تساويا في القوة , أما إذا تفوق أحدهما فلابد أن يعبر للآخر ويخضعه , وهذا ما شهدناه في العصر الفرعوني منذ الدولة الوسطى وفي العصر البطلمي في الصراع بين (البطالمة) في مصر و(السيلوقيين ) في الشام .
ومن الطريف أن ما يشبه ذلك التنافس حدث بين ( معاوية ) و(عمرو ) بعد أن استقرت الخلافة ( لمعاوية ) في الشام وتوطد نفوذه في الدولة الإسلامية وفي عاصمته دمشق . هذا مع أن (عمرو ) كان واليا تابعا ( لمعاوية ) والفسطاط تابعة لدمشق . ذلك أن استقرار الأمور ( لعمرو) في مصر جعل معاوية يخشاه خصوصا وأن ( عمرو ) تمتع بحب المصريين بما قام به من اصلاحات زراعية وضريبية وهو نفس الولاء الذي كان يكنه الشاميون (لمعاوية).
وكان ( عمرو ) من ناحيته يطمع في الخلافة بعد ( معاوية )ولم يمنعه دهائه المعروف من أن يعرض لمعاوية بذلك أمامه , فقد دخل مرة على ( معاوية ) وقد ورد إليه كتاب فيه تعزية في بعض الصحابة فاسترجع ( معاوية ) فقال له عمرو:
تموت الصالحون وأنت حي تخطاك المنايا لا تموت
فأجابه معاوية
أترجو أن أموت وأنت حي فلست بميت حتى تموت
ويبدو أن (عمرو ) كان يمهد لنفسه فعلا بعد( معاوية ) فقد نجح في جعل ( معاوية ) يولي على الكوفة ابنه (عبد الله بن عمرو ) ليسيطر بذلك ( عمرو ) على شرق البلاد الإسلامية وغربها ويحصر (معاوية ) في الشام بينه وبين ابنه . وقد فطن لذلك ( المغيرة بن شعبه ) الطامع في ولاية الكوفة فقال لمعاوية " يا أمير المؤمنين استعملت عبد الله بن عمرو على الكوفة وأباه على مصر فتكون أميرا بين نابي الأسد " فعزل (معاوية ) (عبد الله بن عمرو ) وولى (المغيرة ) مكانه .
وسير (عمرو ) الحملات لفتح الشمال الإفريقي التي كانت تخرج من مصر , ولم تتحقق آمال ( عمرو ) إذ مرض مرض الموت وهو لا يزال واليا (لمعاوية ) على مصر لم يأخذ منها سوى ما جمعه من مال أصبح لا يغني عنه وهو يحتضر – شيئا فاستحضر ما جمعه من دنانير وقد بلغ مائة وأربعين إردبا وقال لأولاده : من يأخذه ؟ فأبى ولداه أخذه وقالا: حتى ترد إلى كل ذي حق حقه وبلغ معاوية فأخذ المال [2] .
لقد ندم ( عمرو ) حين الموت على أن حالف معاوية ضد من يستحق الأمر وهو ( علي ) وكانت النتيجة أنه حرم من آماله في تولي الخلافة بعده ولم يجن من مسعاه إلا أكواما من الدنانير جاءته من مصر التي أعطاها معاوية له ضيعة خاصة ,ولم يحاول معاوية أن يكافىء أولاد (عمرو ) فعزل عبد الله بن عمرو عن مصر التي ارتبطت باسم (عمرو ) بعد اشهر من ولايته وأسرع فولى عليها أخاه (عتبة بن أبي سفيان ) حتى يضمن السيطرة التامة لنفسه على مصر والشام .
في الحرب بين الأمويين وعبد الله بن الزبير : -
عهد( معاوية ) بالخلافة لابنه يزيد مخالفا بذلك ما عهده المسلمون في الاستخلاف , ومن الطبيعي أن ينقم أعيان المسلمين على تحويل معاوية الاستخلاف إلى ملك يورثه لابنه , وهكذا تولى يزيد الخلافة ليشهد عهده القصير ثلاثة فواجع : قتل الحسين , وموقعة الحرة ونهب المدينة , وغزو مكة وضرب الكعبة بالمجانيق ..
واستغل عبد الله بن الزبير مأساة مصرع الحسين وأهله واستياء الرأي العام الإسلامي فدعا لنفسه بالخلافة , ثم تطور أمره بموت ( يزيد بن معاوية ) وتولى ابنه ( معاوية بن يزيد ) الذي تنازل عن الخلافة وما أعقب ذلك من صراع بين الأمويين لتولى الخلافة بعد ( معاوية بن يزيد ) . فأسرع الكثيرون في الدخول في بيعة عبد الله بن الزبير .
وفى مصر نقم الناس على واليها من قبل ( يزيد ) وهو ( سعيد بن يزيد الازدى ) ولما ظهرت دعوة ( أبن الزبير ) بعد موت ( يزيد بن معاوية تطوع الكثيرون في مصر بإظهار الدعوة له بغضا في ( سعيد بن يزيد ) والى الأمويين , وبعث ( ابن الزبير ) واليا على مصر وهو ( عبد الرحمن بن جحدم الفهرى ) فأظهر أمره وبايعه الجند .
واستفحل أمر الزبير إذ انضم إليه العراق وولى عليه أخاه ( مصعب ابن الزبير ) بل قبيلة ( قيس ) المؤيدة للأمويين في الشام خلعت طاعة الأمويين وانضمت ( لابن الزبير ) بزعامة قائدها ( الضحاك بن قيس الفهرى ) وأكثر من ذلك انضم فريق آخر من قبيلة كلب اليمنية لابن الزبير عامة ( زفر بن الحارث الكلابي ) الذي وثب على قنسرين وبايع فيها لابن الزبير وتبعه النعمان بن بشير في حمص و ( نائل بن قيس ) في فلسطين .
هذا في الوقت الذي يتنازع فيه كبار الأمويين الطامعين في الخلافة وهم ( مروان بن الحكم ) و ( عمرو بن سعيد بن العاص ) ( وخالد بن يزيد بن معاوية ) حتى يئس ( مروا ن بن الحكم ) وهم بالسير للحجاز ليبايع ( ابن الزبير ) وينسحب , إلا إن ( عبيد الله بن زياد ) عامل الأمويين على العراق والذي فر أمام الزبيرين من العراق للشام أقنع ( مروان بن الحكم ) بألا ييأس وفى النهاية تم الاتفاق في مؤتمر الجابية على تولية ( مروان بن الحكم ) ثم ( خالد بن يزيد ) ثم ( عمرو بن سعيد بن العاص ) بالترتيب . وإذ اجتمعت كلمة الأمويين وأنصارهم وتولى الخلافة ( مروان بن الحكم ) فقد بدأ باستخلاص الشام من دعاة ( ابن الزبير ) فهزم ( الضحاك بن قيس ) في موقعه ( مرج راهط ) وقتل الضحاك وكثيرين من قومه وفر ( النعمان بن بشير) و ( زفر بن الحارث ) وخلت الشام للأمويين .
وبعد ( مرج راهط ) واستخلاص الشام أسرع ( مروان بن الحكم ) بالمسير إلى مصر وبعث بابنه ( عبد العزيز بن مروان ) بجيش آخر يدخل مصر من ناحية ( آيلة ) . وأجمع ابن ( جحدم ) على حربه وحفر خندقا ونشبت الحرب بينهما ثم اصطلحا ودخل ( مروان ) مصر وبايعت له سنة 65 . وقتل ثمانين رجلا رفضوا البيعة . وولى ( مروان ) ابنه ( عبد العزيز ) على مصر وجعلها طعمة له . كشأن ( عمرو ) في خلافة ( معاوية ) .
وبعد أن استخلص (مروان ) مصر لنفسه وأمر عليها ابنه جهز حملتين للقضاء على ابن الزبير أحداهما للعراق الذي يسيطر عليه ( مصعب بن الزبير ) والأخرى للحجاز معقل ابن الزبير . إلا إن المنية عاجلت ( مروان ) فمات بعد أن عهد بالخلافة إلى ابنيه ( عبد الملك بن مروان ) ثم ( عبد العزيز ابن مروان ) مخالفا بذلك قرارات مؤتمر الجابية .
وما كان ( مروان ) ليجرى على اغتصاب ولاية العهد من ( خالد بن يزيد ) ( وعمرو بن سعيد بن العاص ) ولهما أعوان لولا أنه أمن على موقفه بعد أن تمت له السيطرة على مصر والشام وجعل ابنه الأكبر ولى عهده الأول ( عبد الملك ) في الشام وابنه الآخر الذي يليه في العهد – في مصر ( وهو عبد العزيز ).
وتولى الخلافة ( عبد الملك بن مروان ) وهو آمن على ظهره بوجود أخيه ( عبد العزيز بن مروان ) في مصر . فاتجه إلى العراق حيث ( مصعب ابن الزبير ) وقد أنهكته حرب الخوارج والشيعة فهزمه وقتله . ثم وجه الحجاج بن يوسف في جيش إلى (ابن الزبير ) في مكة فحاصره وأجهده ثم اقتحم مكة وقتله [3] . وبهذا أعاد ( عبد الملك بن مروان ) وحدة الدولة الإسلامية تحت قيادة الأمويين للمرة الثانية . وكانت البداية استخلاص مصر والشام وتوحيد قيادتهما في يد واحدة .
تم ملك ( عبد الملك بن مروان ) بالقضاء على ( ابن الزبير ) إلا أنه لم يسترح لوجود أخيه ( عبد العزيز بن مروان ) بمصر وهو الوالي عليها المتصرف فيها وهو ولى عهده فيما بعد حسب قرار أبيهما ( مروان بن الحكم ) وقد ألمحنا إلى حتمية التنافس بين حاكمي مصر والشام وقد ألقى ذلك التنافس بظلال ثقيلة على علاقة الأخوين أبناء ( مروان بن الحكم ) في دمشق والفسطاط . وربما حالت مشاكل ( عبد الملك ) مع العراقيين وثوراتهم المتعاقبة من خوارج وشيعة وموالى كما في فتنة عبد الرحمن بن الأشعث – من اتخاذ إجراء معين ضد أخيه(عبد العزيز بن مروان ) في مصر خصوصا وأن عبد الملك يريد أن يخلع أخاه من ولاية العهد ليحل محله ابنه ( الوليد ابن عبد الملك ) إلا أن ( عبد العزيز ) رفض وتمسك بحقه .
ولما لم يرد ( عبد الملك ) أن يثير المشاكل لنفسه في مصر اكتفاء بمشاكله مع العراق فقد اكتفى بانتزاع ولاية أفريقية من عبد العزيز – وكانت قبلا تتبع والى مصر . فولى ( عبد الملك ) ( زهير بن قيس ) برقة وأمره باسترداد المغرب الأقصى . وبعد مقتل زهير وهزيمته أرسل قائدا آخر هو ( حسان بن النعمان ) الذي استرد شمال أفريقيا ووطد نفوذ المسلمين هناك .
وظل الجفاء بين الأخوين إلى أن مات ( عبد العزيز ) سنة 86 هـ بعد ولايته لمصر مدة عشرين سنة . فاستراح ( عبد الملك ) وعهد بالخلافة لابنيه ( الوليد ) ثم ( سليمان ). وبعث واليا على مصر ابنه الآخر ( عبد الله بن عبد الملك ) [4]. وضمن بذلك أن يكون حكم مصر والشام – ومن ثم الدولة الإسلامية كلها – في أيدي أبنائه . وذلك ما حدث تقريبا .
مصر وانهيار الدولة الأموية :
انهارت الدولة الأموية في ريعان شبابها لعدة أسباب تتجمع في سياسة واحدة استخدمها الأمويون في وصولهم للحكم واستمرارهم فيه وهي ( العصبية ) ولقد خدمت العصبية الأمويين طالما كانوا أقوياء . فلما ضعفوا ارتد سلاح العصبية إلي عنق الدولة فأصابها في مقتل .
والأمويون عرب بالسليقة والسلوك ولم تكن لهم ملازمة بالرسول أو بمدرسة المدينة حتى يتشربوا التربية الإسلامية شأن الصحابة السابقين في الإسلام – بل على العكس كان الأمويون في مكة حرب على الإسلام بدافع التعصب الأسري إلى أن تم فتح مكة فأسرعوا يقفزون إلى الصف الأول في الفتوح حتى يكونوا في الصدارة دائما .
والإسلام يشجب العصبية بشتى أنواعها , العصبية للجنس أو للقبيلة أو للأسرة أو للابن على حساب الأخ وقد مارس الأمويون العصبية بجميع أنواعها . تعصبوا جنسيا للعرب ضد الموالي فأثاروا عليهم الموالي فلم يتخلف الموالي عن نصرة كل ثائر ضد الأمويين سواء كان ذلك الثائر من الشيعة أومن الخوارج أو حتى كان بلا انتماء مثل ثورة ( ابن الأشعث ) على( الحجاج بن يوسف ) .
ومارس الأمويون ( العصبية القبلية ) التي أماتها الإسلام فانحازوا لليمنيين ضد( قيس ) في مرج راهط ثم انحازوا فيما بعد إلى ( قيس ) و (مضر ) في خلافة ( يزيد بن عبد الملك ) إبان ثورة ( ابن المهلب ) , وانقلب الحال في عهد ( يزيد بن الوليد ) فأيد ( اليمنية ) ضد ( القيسية ) ثم جاء آخر الخلفاء (مروان بن محمد ) فأيد ( القيسية ) ضد ( اليمنية ) وتحول الصراع في أواخر الدولة إلى سلاح أجهز على حياتها وحياة آخر خلفائها [5].
وفي داخل الإطار القبلي – في قريش – مارس الأمويون عصبية أسرية على نطاق ضيق , فالأمويون يجمعهم مع الهاشميين ( عبد مناف ) . ولكنهم وقفوا ضد الإسلام في مكة تعصبا منهم ضد( محمد) الهاشمي , حتى إن غزوة( بدر) كانت في حقيقة الأمر مواجهة بين الأمويين والهاشميين , ثم كانت ( أحد ) انتقاما من الهاشميين , وحين تولى أبو بكر الخلافة حاول أبو سفيان إثارة (علي ) لان ( بيت أبي بكر ) في نظر أبي سفيان أقل بيوت قريش , ولكن ( عليا ) صده . ثم واتت الأمويون فرصتهم في خلافة ( عثمان ) فاعتبروه ملكهم وزايدوا على قتله حتى أقاموا دولتهم على جثث المسلمين وفي مقدمتهم آل البيت من بني هاشم وأبناء ( علي ) بالذات .
وحتى في داخل الأسرة الأموية مارس الأمويون عصبية أخرى على نطاق أضيق , فالخليفة يعزل أخاه ويولي ولديه تعصبا لأولاده ضد أخيه , وهذا ما أرسته قرارات مؤتمر الجابة استمر معمولا به إلى نهاية الدولة الأموية وسبب انشقاق الأسرة إلى أحزاب يستعين كل حزب بالقبيلة التي تناصره مما أدى بالدولة في النهاية إلي مقتل .
وبينما كان ( مروان بن محمد ) يقاتل خصومه من قبائل كلب اليمنية في حمص والغوطة وطبرية وتدمر وبينما كان يواجه العلويين في العراق والخوارج في العراق والحجاز واليمن إذ بالخطر العباسي يأتيه من خراسان يرفع السواد داعيا للرضى من آل محمد .
وتمكن أبو مسلم الخراساني قائد العباسيين من استمالة قبائل اليمن بخراسان وأفتتح فارس ثم العراق حيث بويع أبو العباس السفاح أول خليفة عباسي في الكوفة ( 132 هـ - 749 م ) وبعث الخليفة العباسي بجيش أوقع بالخليفة الأموي في الزاب . وهرب ( مروان بن محمد ) آخر خلفاء الأمويين فأين موقع مصر من ذلك كله ؟
بعد هزيمة ( مروان بن محمد ) أمام العباسيين تراجع لا للشام ولكن لمصر إذ إنه أدرك أن بقاءه بالشام لا يضمن له مصر ولا الشام وأعداؤه أمامه في العراق . فترك صهره وابن عمه ( الوليد بن معاوية ) واليا على دمشق باسمه وتراجع إلى مصر , وكان يأمل أن يصمد ابن عمه في دمشق أمام جيش العباسيين ريثما يوطد ( مروان ) أموره في مصر ويجعلها عمقا آمنا له يمكن به مواجهة العباسين في العراق .
ولكن العباسين لم يتيحوا وقتا ( لمروان بن محمد ) إذ طاردوه من بلد إلى بلد ولم يتركوا له فسحة من الوقت في مصر إذ إن الخليفة العباسي ( أبا العباس ) ولى على مصر والشام ( صالح بن على بن عبد الله بن عباس ) فتعقب ( مروان ) حتى قتله في الجيزة . وكان أول ولاة بنى العباس على مصر وجنوب الشام .
ودخلت مصر في عهد جديد . وقبل أن نودع الدولة الأموية نذكر خصائص الموقع الاستراتيجي الذي يجمع مصر بالشام والذي أثر على سياسة الدولة الأموية بالشام نحو مصر :
1- فقد كان فتح مصر تأمينا للفتوح الإسلامية بالشام , واستمر دور مصر في تأمين الوجود الأموي في الشام أمام أعدائهم في العراق على وجه الخصوص .
2- لذلك رأينا ( معاوية ) يحرص على امتلاك مصر أثناء نزاعه مع ( على ) ولا يستريح إلا إذا أعاد حليفه ( عمرو بن العاص ) فتح مصر لصالحه .
3- ورأينا في فترة الصراع الأموي الزبيري أن ( مروان بن الحكم ) بادر بعد استخلاص الشام من دعاة بن الزبير بغزو مصر فاستخلصها منهم وبعدها تمكن ابنه من مواجهة أعدائه في العراق و الحجاز .
4- وحين انهزم ( مروان بن محمد ) آخر خلفاء بنى أمية أمام العباسيين فإنه تراجع لمصر وترك دمشق لإدراكه أن الشام لا يجدي بدون مصر , إلا إن العباسيين أدركوا خطته فلم يضيعوا وقتا فعقدوا ولاية الشام والعراق ( لصالح بن على ) الذي استمر في مطاردة ( مروان ) إلى أن قتله قبل أن ينفذ خطته .
5- ونظرا لأن الشام وحدة إستراتجية واحدة مع مصر , وأن مصر هي صاحبة الثقل في الإستراتجية فإن والى مصر إذا كان طموحا فإنه يمثل تهديدا للخليفة الأموي في الشام مع أنه تابع له و المسافة بينهما قريبة لا تشجع الوالي على الاستقلال . ولكن قيمة مصر بالنسبة لحماية الشام كانت تجعل مركز الوالي فيها أثقل من مركز الخليفة في دمشق . ولمسنا بعض ذلك في علاقة ( معاوية ) ( بعمرو ) وعلاقة الأخوين ( عبد الملك وعبد العزيز ابني مروان ) أثناء خلافة ( عبد الملك بن مروان ) .
6- وكان العراق موطن المعارضة ضد الأمويين منذ الصراع بين ( على ومعاوية ) إلى الحرب بين ( العباسيين والأمويين ) في الزاب . وقد حرص الأمويون في ذلك الصراع على وجود مصر عمقا دفاعيا لهم أمام المعارضة في العراق حتى إن ( مروان بن محمد ) حين فقد النصر في موقعة وحيدة أمام العباسيين أسرع باللجوء إلى مصر وكان لم يفقد الشام بعد .
ومن الطبيعي أن يتغير موقف مصر الاستراتيجي بعد انتقال العاصمة للعراق في ( الكوفة ) ثم ( بغداد ) . فالشام الآن أصبح – بعد زوال الحكم الأموي– منطقة خامدة سياسيا أي لابد أن يعود إلى وضعه الطبيعي تابعا لمصر وحرما لها في وقت تستطيع فيه مصر أن تنهض لتنافس بغداد , ويكون الشام هو المجال الذي يدور فيه الصراع بين بغداد ومصر .وهذا ما حدث في الدولة العباسية .[6]
[1] تاريخ الطبري 4 / 546 : 558 , خطط المقريزى 1 / 562 : 565 .حسن المحاضرة 1 / 581 : 585 .
[2] تاريخ ابن الأثير 3/ 210 تاريخ ابن كثير 8/138 . خطط المقريزي 1 /564 .
[3] تاريخ الطبري 5 / 530 : 544 , 609 , 6 /151 : 162 , 174 : 175 , 187: 193 خطط المقريزى 1 / 566 .
[4] تاريخ الطبري 6 / 412 : 417 , خطط المقريزى 1 / 567 , حسن المحاضرة 1 / 586 .
[5] أحمد صبحي منصور : أثر العصبية القبلية في الدولة الأموية 50 : 52 بحث ماجستير غير منشور . كلية اللغة العربية , قسم التاريخ
[6] تاريخ الطبري 7 / 432 : 435 , 437 : 443 . خطط المقريزى 1 / 571 .