البعث وانتهاء علاقتنا بالبرزخ

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٠١ - أغسطس - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

البعث وانتهاء علاقتنا بالبرزخ

مقدمة :

بالبعث تنتهى علاقتنا بالبرزخ . ولكن ما هى آلية البعث ؟

نحاول تدبر هذا من القرآن الكريم ، ونحتاج الى تكرار بعض ما قلناه من قبل لتوضيح الصورة .

أولا  :  من البرزخ الى البعث

1 ـ جئنا من البرزخ ، ونعود اليه مؤقتا بالنوم ، ثم نعود اليه نهائيا بالموت. نهائيا ليست كلمة دقيقة لأننا لن نبقى فى البرزخ خالدين فيه ، بل سنغادره بالبعث. ندخله بالموت ونغادره بالبعث. كلمة ( نهائيا ) عن الموت تأتى مقارنة بدخول البرزخ مؤقتا بالنوم.

2 ـ قال جل وعلا :( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)المؤمنون) . قوله جل وعلا : (وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) يعنى إننا سنظل فى هذا البرزخ ثم سنغادره بالبعث .الموت يكون لكل نفس إذا جاء أجلها ، ولكن البعث يكون لجميع الأنفس البشرية فى وقت واحد .

3 ـ بالموت تدخل النفس البرزخ ، وتبقى فيه ميتة لا تحس بغيرها ، حتى لا تعرف متى سيكون بعثها ، قال جل وعلا : ( أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) النحل ). وحين البعث يتصور المجرمون أنهم ماتوا يوما أو بعض يوم ، أو ساعة شأن يقظتهم من النوم ، قال جل وعلا : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) الروم ). وهذا ينفى خرافة عذاب القبر ونعيمه .

4 ـ البعث لا يكون من الأرض المادية التى نحيا عليها الآن ولكن من واحدة من الأرضين الستة ، أو البرازخ الستة . الأرض المادية التى نعيش عليها وما حولها من كواكب ونجوم ومجرات  سيتم تدميرها ليعود الكون الى نقطة الصفر التى بدأ منها .

ثانيا : تقديم أمثلة واقعية للبعث

1 ـ يحدث البعث فى مسيرة الانسان . الإنسان يأكل طعام الأرض فيتحول فى داخله الى طاقة وبروتينات وحيوانات منوية وبويضات . ثم باللقاء الجنسى يتقابل الحيوان المنوى بالبويضة ، ويحدث الحمل ، ويولد الانسان من هذا الطعام الميت ، ويكبر بالغذاء من الطعام ، وتخرج فضلاته فتكون ترابا وماءا ، وتتكرر الدورة ، يأكل وينجب ، ثم يموت فيتحول جسده الى تراب فى الأرض . من الأرض الميتة كانت الحياة ثم كان الموت ثم الحياة . هذا نموذج للبعث يتكرر فينا .

ثم هناك نموذج آخر فى الأرض ؛ تكون ميتة ثم ينزل عليها الماء فتنبض بالحياة من كائنات دقيقة ونبات ، ويأتى الجفاف فتموت الأرض ومن عليها ثم ينزل الماء فيتكرر إخراج الحى من الميت والميت من الحى ، قال جل وعلا للناس يقرّب لهم فكرة البعث : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ( وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) الحج )

2 ـ وقال جل وعلا : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) يس ) . هنا شخص منكر للبعث يتساءل عن من يحيى العظام الرميم . ويأتيه الرد بأن الذى خلق هو الذى أنشأها من لا شىء. ثم برهان آخر ، هو الشجر الأخضر وهو مادة يتحول الى طاقة بالحرق ، ثم يكون ترابه سمادا ، تنبت فيه الشجر الأخضر مرة أخرى.

ثالثا :   آلية البعث

الأمثلة السابقة عن البعث تحدث فى هذه الأرض المادية ، ولكن البعث الذى نتكلم عنه للبشر سيحدث فى البرزخ .

1 ـ من البرزخ تدخل نفس الشخص فى الجنين الخاص بها. يولد الانسان ومعه وعاءان ، أحدهما ممتلىء ، وهو وعاء الزمن المحدد فيه العُمر الذى سيحياه فى هذه الدنيا ، والوعاء الآخر هو وعاء العمل . ويبدأ العد التنازلى للإنسان من لحظة ولادته . وكل لحظة تمر تنزلق من وعاء الزمن ( العُمر ) تحمل ما عمله الانسان. وبالتالى يتناقص وعاء العمر بمرور الزمن ويتصاعد تسجيل العمل بنفس المقدار . وعندما ينتهى تماما وعاء الزمن يكون الموت ، ويفنى الجسد وتعود النفس الى برزخها التى أتت منه ومعها وعاء عملها . أو كتاب عملها.

2 ـ تستمر العملية ، أى كل نفس فى البرزخ تأتى لترتدى جسدها وتظل فيه الى أن تغادرة عائدة الى البرزخ بالموت ، ومعها كتاب أعمالها. يستمر هذا الى أن تدخل كل النفوس البشرية فى إختبار الحياة الدنيا ، بعدها تكون الساعة وتدمير هذا العالم ومجىء اليوم الآخر.

3 ـ قبيل تدمير هذه الأرض ببرازخها ــ وفى عصر اللازمن ـ يتم بعث الأنفس من البرزخ الأرضى .

4 ـ النفس لها ملامح جسدها ، وإذا كان للجسد المادى الفانى خصوصيته التى تميزه من البصمات المختلفة وال ( دى إن إيه )  فلكل نفس البصمات الخاصة بها وال دى إن إيه الخاصة بها. قال جل وعلا : (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) القيامة )

4 ـ يتم البعث بإنفجار هائل فى البرزخ قال جل وعلا : ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِوَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68 ) الزمر ) . الانفجار الأول  هو عن تدمير العالم وقيام الساعة. الانفجار الآخر عن البعث .

5 ـ ينتج عن إنفجار البعث سقوط ( ماء الحياة ) الذى يتم به بعث الأنفس . والله جل وعلا يذكر دور المطر فى إحياء الأرض فى هذا العالم ، ويقول إنه نفس الطريقة فى البعث والنشور .

5 / 1 : قال جل وعلا :( وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) فاطر ) . نتدبر قوله جل وعلا : ( كَذَلِكَ النُّشُورُ ).

5 / 2 : قال جل وعلا : ( وَالَّذِي نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) الزخرف ). قوله جل وعلا : ( كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ)، يعنى البعث والخروج من القبور البرزخية.

5 / 3 : قال جل وعلا عن الماء : ( رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) ق ) : ( كَذَلِكَ الْخُرُوجُ) يعنى البعث.

5 / 4 : قال جل وعلا فى نفس المعنى : ( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) الروم )

6 ـ بين البعث والخلق الأول : قال جل وعلا : ( مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) (28) لقمان ). الله جل وعلا خلقنا من نفس واحدة هى نفس آدم، قال جل وعلا  : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً  ) (1) النساء) .

حتى نفهم هذا نتصور طاقة الضوء . يقولون عن الضوء الذى نراه أنه حزم صغيرة منفصلة متصلة هى الفوتونات. نتخيل النفس الأولى هى الفوتون الأول الذى تتابعت منه الفوتونات أو الأنفس التالية ، غير إن كل نفس تخرج من برزخها فى موعد محدد وتدخل جنينها فى موعد محدد ، ثم تموت فى الأجل المحدد ، ثم بعد أن تدخل آخر نفس فى جنينها تقوم الساعة ، وحينئذ لا مجال للحمل أو الولادة . قال جل وعلا يحذرنا ونحن فى آخر الزمان : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) الحج ).

وكل نفس بشرية تحمل فى داخلها مستقرا ورثته من الأنفس السابقة لها من أسلافها ، كما تحمل فى داخلها مستودعا للفوتونات أو النفس التى ستنحدر منها. قال جل وعلا :( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) الانعام ).

7 ـ البعث عملية عكسية للخلق

  7 / 1 : قال جل وعلا : ( كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) الاعراف ) . والعود يعنى عملية عكسية للخلق . وهو نفس المعنى فى قوله جل وعلا : ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) الانبياء ) وفى قوله جل وعلا عن الخلق والبعث : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)  ) الروم )

7 / 2 : وبتعبير آخر يقول جل وعلا : ( وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) العنكبوت )

7 / 3 : يترتب على هذا أن تبرز النفس فى البعث ليس برأسها بل بساقيها ، ينكشف عنها تراب البرزخ ، قال جل وعلا : ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) القلم ) ، ويتم سوق الجميع فى الحشر الى رب العزة جل وعلا : ( وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) القيامة)

اجمالي القراءات 5805