الفصل الأول
الفتح الإسلامي
والاستراتيجية السياسية لمصر
بعد الفتح
أولا - استراتيجية مصر السياسيةقبل الفتح الإسلامي
استراتيجية مصر السياسية في العصر الفرعوني :
بدأ الإنسان بالاستقرار وتكوين الدولة المكتملة على أرض وادي النيل في مصر , وفي هذا العصر المبكر منذ أكثر من خمسين قرنا من الزمان قامت الأسر الحاكمة في الدولة القديمة بمصر وعرف المصريون الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي والنبوغ المعماري حيث أقيمت الأهرامات في عصر الأسرة الرابعة (2720- 2560 ق0م) 0
وفي هذا العصر المبكر عرف الإنسان لأول مرة أن لكل دولة دورة تبدأ بالضعف ثم القوة ثم تعود للضعف و الاضمحلال ، وهذا ما حدث في الدولة المصرية القديمة (3200-2250ق0م )الذي بدأ (مينا) تاريخه بتوحيدها ثم وصلت إلى مرحلة القوة والازدهار في عصر الأسرة الرابعة ثم بدأ الضعف والانهيار إلى أن جاء الانهيار التام في نهاية الأسرة السادسة حوالي 2250 ق0م 0 وبدأت دورة تالية في عصر الدولة الوسطى بتجميع البلاد وإتحادها ثم كان الازدهار في الأسرة الثانية عشرة (2000-1790) ثم تنتهي الدورة الحتمية بانهيار الدولة الوسطى بنهاية الأسرة الثالثة عشرة (1700 ق0م ) 0
فالأمم كالأفراد تبدأ من ضعف ثم تقوى وتشتد ثم تذبل وتموت ، وهذا ما عرفته الإنسانية لأول مرة في مصر حيث قامت فيها أولى الدول في العالم في وقت كان الإنسان فيه يحترف الصيد والرعي ولما يعرف بعد الاستقرار وتكوين الدول .
وقد انهارت الدولة القديمة في مصر وتفككت مصر إلى مقاطعات وأجزاء وسادها الاضطراب الذي استمر من الأسرة السادسة في الدولة القديمة إلى الأسرة الثانية عشرة (2250 ق0م – 2000 ) حيث أمكن ثانيا توحيد القطرين . ومع هذا فإن انهيار مصر وتفككها إلى مقاطعات في ذلك الوقت لم ينجم عنه غزو خارجي ، لأنه في ذلك العهد المبكر لم توجد على حدود مصر قوة تهددها .
وتمر الأيام وتنتهي الدورة الحتمية بالدولة الوسطى في مصر بالانهيار التام وتظهر قوة الرعاة في الشرق فينحدرون إلى مصر عبر الشام وسيناء ويبدأ حكم الهكسوس حوالي سنة 1700 ق0م 0
ويبدأ مع تحكم الهكسوس في المصريين أول صفحة من صفحات الغزو والاستعمار في التاريخ العالمي ، ويبدأ المصريون في طيبة في كتابة أول صفحة في سفر المقاومة ضد المستعمر .. وينجح أحمس الأول في طرد الهكسوس وتحرير مصر ولكن لم تعد مصر أحمس كمصر السابقة ، لقد بدأ في مصر (في الدول الحديثة) عصر القوة والفتح وصارت لها إستراتيجيتها السياسية منذ عهد أحمس وحتى الآن .
في الدولة القديمة لم يكن يوجد خطر خارجي يهدد حدود مصر لذا فإن انهيار الدولة القديمة لم ينتج عنه طمع الأمم المجاورة في مصر لأنه لم توجد بعد أمم مجاورة . ولكن تمر الأيام ويصبح لمصر جيران من الممكن أن يستثمروا ضعفها وهذا ما حدث بعد انهيار الدولة الوسطى في غزو الهكسوس لمصر الذين استولوا على الشام ثم عبروا منه لمصر ..
من هنا تتكون الإستراتيجية السياسية لمصر والتي تتلخص في ( أن حماية مصر هي في السيطرة على الشام لأن الخطر يأتي لمصر عبر الشام، فمن يتحكم في الشام لا يحس بالأمن إلا إذا سيطر على مصر ) .
وقد طبق أحمس الأول هذه الاستراتيجية حرفيا فلم يكتف بطرد الهكسوس من مصر وإنما طاردهم في الشام إلى حدود العراق واخضع لسيطرته المنطقة مابين سيناء والفرات لتأمين حدود مصر . أي أن (أحمس ) فهم أن الشام ضروري لأمن مصر والحاكم القوي في مصر لابد له أن يسيطر على الشام حماية لمصر . لأن ضعف قبضة مصر على الشام معناها أن يتحكم في الشام حاكم قوي يهدد حدود مصر .
لقد وضع أحمس لمصر أسس الاستراتيجية السياسية وحولها إلى أمة حربية فاتحة تسيطر على الشام وتنقل معارك الدفاع عن مصر إلى الشام , وسار على نهج أحمس خلفاؤه من بعده وأهمهم تحتمس الثالث من الأسرة الثامنة عشر ورمسيس الثاني من الأسرة التاسعة عشر , وخلد التاريخ معاركهم في الشام وأهمها مجدو وقادش .
إلا إن هذه الدولة الحديثة التي أقامها أحمس وبلغت ذروة عظمتها في عهد تحتمس الثالث ورمسيس الثاني لم تلبث أن أتمت دورتها بالانهيار والضعف حتى لقد تحكم في مصر حكام ليبيون في الأسرة الثانية والعشرين (1950 - 740 . ق.م) وتهيأت مصر بهذا الانهيار لاستقبال الغزاة الآشوريين .
وقد توسع الآشوريون في العراق على حساب العيلاميين وفي غضون ألف عام توسعوا في كل اتجاه على حساب الحيثين في الغرب والجنوب الغربي , ثم اتجهوا للشام وقد كان تابعا لمصر فاستولوا عليه إلى فلسطين وأتم الملك الآشوري بنحريب فتح مصر سنة 760 ق . م وكان أعظم ملوك آشور هو آشور باينبال الذي تولى 669 ق. م وقد ركز كل قوته لإخماد ثورات المصريين إلى درجة أن أعداءه العيلاميين انتهزوا فرصة انشغاله بإخماد الثورات المصرية فهاجموه في مملكته ببابل وحملوا منها الغنائم [1] وتخلصت مصر من السيطرة الآشورية إلا إنها لم تتخلص من عوامل الضعف إبان حكم الأسرة السادسة والعشرين (663 - 525 ق. م ) مما أوقع مصر تحت سيطرة غزو آخر قادم من الشرق عبر الشام . ففي منتصف القرن السادس قبل الميلاد ظهرت دول فارسية جديدة هي دولة ميديا التي قضت على الدولة البابلية وورثت أملاكها بين النهرين وتوسعت إلى فينيقيا وفلسطين .. وكان لابد أن تنحدر إلى مصر. وتم فتح مصر على يد كابوجيه ( قمبيز ) سنة 525 [2] ق.م. ومنذ ذلك الوقت دخلت مصر - كالعهد بها في مقاومة الغزو الأجنبي - في صراع مع الفرس حتى عام 332 ق.م حين حضر الاسكندر الأكبر.
المهم أن ضعف مصر في الداخل وزوال سيطرتها عن الشام في الخارج مكن الآشوريين ثم الفرس من السيطرة على الشام ثم فتح مصر . وأكد ذلك أن الشام هو البوابة الآسيوية لمصر التي يأتي منها الخطر والتحكم في هذه البوابة الشرقية كفيل بحماية مصر من مخاطر الغزو الشرقي .
وما لبث الضعف أن أصاب الإمبراطورية الفارسية في عهد دارا الثالث , وشهد عهده نمو قوة الاسكندر الأكبر وتوحيده للإغريق, والإغريق هم العدو التقليدي للفرس وقتها . وقد استطاع الاسكندر الأكبر أن يثأر من عدوه الفارسي في معركة أيسوس سنة 323 ق. م في آسيا الصغرى . وكان منتظرا أن يطارد الاسكندر عدوه الفارسي إلى العاصمة الفارسية (صوص) ولكنه غير اتجاهه فانحدر جنوبا واستولى على ممتلكات الفرس في الشام , حتى يؤمن ظهره , ويحصر الأسطول الفارسي في البحر المتوسط ويقطع الصلة بينه وبين قوة الفرس البرية , وبعد استيلائه على الشام دخل الاسكندر مصر بدون مقاومة ووجد من المصريين ترحيبا إذ خلصهم من الحكم الفارسي البغيض لنفوسهم , كما إن الصلات كانت وثيقة بين اليونانيين والمصريين . وقد وجد المصريون عونا من اليونانيين في ثورتهم ضد الفرس [3] .
وبعد أن أستخلص الاسكندر مصر من عدوه الفارسي وبعد أن أخضع لسيطرته الشام مع مصر استأنف غزوه فتحرك من مصر قاصدا الفرات سنة 331 فأجهز على الإمبراطورية الفارسية وظل في توسعه إلى أن مات [4] . 323 ق. م بعد أن خلق إمبراطورية واسعة الأرجاء . وكانت مصر من نصيب قائده بطليموس وأسس فيها دولة ( البطالمة) .
استراتيجية مصر السياسية في العصر البطلمي:
كان النزاع أهم ما يميز خلفاء الاسكندر الأكبر الذين اقتسموا أملاكه في مقدونيا واليونان وآسيا الصغرى ومصر والشام والعراق . وما يهمنا من هذا الصراع هو ما دار بين السلوقيين في الشام والبطالمة في مصر . فقد أسفرت القسمة عن انفراد سيلوقس بالشام والعراق وبطليموس بمصر, ومصر والشام وحدة استراتيجية واحدة لا تتسع إلا لحاكم قوي واحد . فالحاكم القوي في الشام لا يأمن على نفسه إلا بالسيطرة على مصر , والحاكم القوي في مصر لابد أن يكون الشام في حوزته . ومن هنا كان لابد من الصراع بينهما لكي يتمكن الأقوى منهما من التحكم في مصر والشام معا .
وقد فهم بطليموس الأول استراتيجية الموقع المصري وحدد هدفه منذ البداية في تأمين سلطانه بمصر ورأى الوسيلة المثلى لتحقيق ذلك في ضم جنوب الشام لمصر بالإضافة إلى السيطرة على بعض الجزر في بحر ايجه اليوناني ليأمن منافسيه من الإغريق في مقدونيا واليونان . وقد اتبع خلفاء بطليموس الأقوياء سياسته فدخلوا مثله في صراع حربي مستمر في سبيل السيطرة على سوريا أو جنوبها لتأمين مصر . ونتتبع هذا الصراع على النحو التالي :
1 - في عهد بطليموس الأول (23 3 - 283 ق. م ) : كان بطليموس ينتهز الفرصة للاستيلاء على سوريا , وقد وجدها إبان النزاع الذي جد بين ورثة الاسكندر بعد موت انتيباثروس سنة 319 ق. م وفي غمرة التحالفات والحروب زحف بطليموس إلى سوريا فاستولى على جنوب الشام ولكنه ما لبث أن تراجع عنها أمام ضغط خصومه وأبرزهم انتيجوس في آسيا الصغرى .
ثم توسع انتيجوس في أملاك الاسكندر الآسيوية وضيق الخناق على سيليقوس في الشام , فاضطر سيليقوس للفرار إلى غريمه بطليموس في مصر , وبذلك أصبحت الإمبراطورية الفارسية سابقا والتي افتتحها الاسكندر الأكبر تحت سيطرة خليفته انتيجوس - ما عدا مصر .
وتشبث بطليموس بموقعه في مصر إذ إن سيطرة انتيجوس على الشام معناها أن سلطانه سيمتد إلى مصر , وجمع بطليموس تحالفا من القواد الإغريق وأرسلوا إنذارا موحدا إلى انتيجوس بالتنازل عن معظم المناطق التي استولى عليها أخيرا وأن تعود بابل إلى سيليقوس وسوريا الجنوبية إلى بطليموس في مصر .
والمهم هنا أن التحالف الإغريقي الذي أفلح بطليموس في تجميعه ضد انتيجوس - اعترف لبطليموس في حقوقه على سوريا الجنوبية تأمينا لموقعه في مصر .
ودارت الحرب بين انتيجوس من جهة وبطليموس ومن معه من جهة أخرى , وقد زحف انتيجوس إلى سوريا الجنوبية ورد عنها بطليموس , ثم قام بطليموس بشن هجوم جديد على سوريا الجنوبية فانتصر في موقعة غزة سنة 312 ق. م وتابع بطليموس انتصاراته فاستولى على فلسطين وفينقيا , ثم حاقت به الهزيمة في شمال سوريا سنة311 ق . م فاضطر للانسحاب من فلسطين . وعقد اتفاق تنازل فيه بطليموس عن سوريا الجنوبية .
ثم اشتعل الخلاف مرة ثانية وعزم انتيجوس سنة 306 على الاستيلاء على مصر , فزحف برا عن طريق سوريا وفلسطين بينما تقدم ابنه ديمتريوس بأسطول بحري . وفشلت الحملة برا وبحرا .
وفي سنة 302 ق م تكون حلف جديد ضد انتيجوس كان أهم أعضائه بطليموس وسيليوقس , وبينما انشغل باقي الحلفاء بحرب انتيجوس في آسيا الصغرى فإن بطليموس أسرع بالاستيلاء على سوريا الجنوبية للمرة الثالثة . ثم أسرع بالانسحاب عنها بسبب إشاعة كاذبة عن انتصار انتيجوس على الحلفاء في آسيا الصغرى , ولكن الحلفاء كانوا قد انتصروا عليهم في موقعة فاصلة عند أبسوس سنة 301 وفيها قتل انتيجوس وفر ابنه ديمتريوس . وبسبب غياب بطليموس عن هذه الموقعة فقد تم توزيع أملاك انتيجوس أضيفت فيه سوريا لسلوقس في بابل ولم يعط بطليموس أكثر من مصر .
ولم يعترف بطليموس بذلك الاتفاق واحتل سوريا للمرة الرابعة وطالب بحقوقه فيها بينما تمسك سليوقس بالاتفاق وأعلن أن بطليموس فقد حقوقه في سوريا لأنه لم يشترك فعليا في القضاء على انتيجوس كما انه انسحب من سوريا بمجرد سماعه إشاعه . ولهذا طالب سليوقس حليفه بطليموس بالانسحاب من سوريا . وظل الحال على ما هو عليه إلى أن توفى بطليموس الأول سنة 283 ق. م .
2- في عهد بطليموس الثاني (285 – 246 ق . م ) :
استمرت في عهده الحروب بينه وبين السلوقيين حول جنوب الشام . ففي سنة 267 ق. م تقدمت قواته فاحتلت دمشق ولكن الملك السلوقي انتيجوس الأول استخلص دمشق ورد قوات بطليموس الثاني إلى فلسطين .
ثم توفى الملك السلوقى انتيجوس الأول وخلفه ابنه انتيجوس الثاني فهبت الحرب السورية الثانية وقد تحالف فيها مع السلوقيين كل من مقدونيا ورودس وافيسوس وملطية . تلاحقت الهزائم البحرية والبرية على بطليموس الثاني ، وانتهت الحرب بصلح تزوج به انتيوجس الثاني من ابنة بطليموس الثاني . وكانت لانتيوجس الثاني زوجة سوريه .
3- في عهد بطليموس الثالث (246 - 221 ق. م ):
بسبب النزاع الأسرى بين زوجتي انتيوجس الثاني تمكنت الزوجة الأولى من قتل زوجها انتيوجس ، ودار الصراع بين الزوجتين في بداية عهد بطليموس الثالث ، وهب الأخير لحماية أخته وصيانة حقوق ابنها على العرش بعد مقتل والده ، وقبل أن يتحرك بادرت الزوجة الأولى بقتل بنت بطليموس وابنها . وبذلك اشتعلت الحرب السورية الثالثة .
وزحف بطليموس الثالث سنة 246 ق.م فوصل للفرات وعبره إلى سيلوقية على نهر دجلة ، إلا إنه اضطر للعودة لمواجهة أزمة داخلية في مصر فانتهز سليوقس الذي تولى العرش في سوريا واستخلص سوريا الشمالية وبقيت في أيدى المصريين سوريا الجنوبية بما فيها فينيقيا وفلسطين .
واكتفى بطليموس الثالث بتوطيد نفوذه في جنوب الشام واستغل الحرب الأهلية التي اشتعلت بين صفوف خصومه في الدولة السلوقية في تحريض الطرفين كل على الآخر فبقيت الدولة السلوقية منقسمة على نفسها وبقيت سوريا الجنوبية في يد بطليموس الثالث حتى وفاته .
4- في عهد بطليموس الرابع ( 221- 205 ق.م ) .
كان خاملا مترددا سيطر عليه أحد أتباعه وهو سوسيبيوس . وقد عاصره في الدولة السيلوقية انتيوجس الثالث الذي ورث دولة مفككة فاستطاع توحيدها وعزم على الاستيلاء على سوريا الجنوبية من مصر وهو يعلم ضعف بطليموس الرابع . ولكن القائد البطلمي في فينقيا استطاع رده عنها .
وتولى سوسيبيوس أمر الإعداد للحرب الرابعة ، فعمل على ازدياد الخلاف داخل الدولة السلوقية استمرارا لسياسة بطليموس الثالث عن طريق الرشوة والمؤامرات . وكي يكسب الوقت بعث يفاوض الملك السلوقى ويوهمه بأن يكون الاتفاق في صالحه ثم يماطل في هذه المفاوضات اعتمادا على انشغال الملك السلوقى بمواجهة الثورات الداخلية التي يشعل نارها سوسيبيوس من خلف ظهره . وفى هذه الأثناء أعد سوسيبيوس جيشا من الفلاحين المصريين الأشداء دربه في عامين بواسطة ضباط مقدونيين في سرية تامة .
وبعدها كان انتيوجس الثالث قد أكمل توحيد دولته ويأس من مماطلات سوسيبيوس فتقدم بقواته حتى وصل غزة , فوجد الجيش المصري في انتظاره عند رفح سنة 217 ق.م تحت قيادة الملك البطلمى نفسه .
وفى بداية المعركة انهزم الفرسان البطالمة وهرب بطليموس الرابع إلا إن الجنود المشاة المصريين ثبتوا في أول معركة يخوضونها منذ قرون طويلة . وحولوا الهزيمة إلى نصر وعاد الفارون وفى مقدمتهم بطليموس الرابع واحتفظت مصر بسيادتها على جنوب الشام.
5- في عصر الضعف البطلمي :
ودخلت الدولة البطلمية في عهد الضعف فتمكن انتيوجس الثالث سنة 200 ق. م من انتزاع جنوب الشام من مصر . ثم ازداد ضعف البطالمة وازدادت تبعيتهم غير الرسمية لروما التي أخذت تتدخل في الصراع الأسري داخل البيت البطلمي (من سنة 180 ق. م _ 51ق. م ) وفي هذه الأثناء أصبح السلوقيون في الشام خطرا على مصر بعد انتزاعهم لجنوب الشام من البطالمة وازدياد ضعف البطالمة , وهكذا زحف انتيوجس الرابع السلوقي سنة 170 ق. م فاستولى على مصر وتوج في ممفيس فرعونا مصريا حسب التقاليد المصرية . ثم حدث نزاع أسري في أسرة البطلمية في الاسكندرية نتج عنه فرار بطليموس السادس ووقوعه في أسر الملك السوري المقيم في ممفيس واستعدت الاسكندرية لمواجهة الغزو المرتقب لانتيوجس , ولكن بعض السفراء الإغريق تمكنوا من حمل انتيوجس على الرحيل عن مصر . لكنه عاد سنة 168 فاستولى على مصر وحاصر الإسكندرية إلا إن الروم أجبروه على الرحيل [5] .
وظلت روما تتدخل في شئون البطالمة إلى أن تمكنت من ضمها رسميا بعد مقتل كليوباترا ( 30ق.م ) .
في العصر الروماني :
كانت مصر آخر قطر في شرق البحر المتوسط سقط في أيدي الرومان عقب موقعة أكتيوم البحرية ودخول أكتافيوس – أغسطس مصر سنة 30 ق.م وإن كانت مصر قبل ذلك قد وقعت تحت النفوذ الروماني في عصر الضعف البطلمي إلى أن انتهى بمصرع كليوباترا .
وأصبحت مصر ولاية رومانية شأنها في ذلك شأن الشام وباقي الولايات الرومانية , ومن ثم لم يعد لها تاريخ مستقل في ذلك العهد أو سياسة مستقلة , وإنما كانت سياستها وأحداثها رد فعل للسياسة التي ترسمها روما .
على إن المصريين لم يذعنوا للاستعمار الروماني فلم يكد اكتافيوس - أغسطس - يغادر مصر حتى اشتعلت نيران الثورة سنة 29 ق . وانتشرت في الدلتا والاسكندرية وطيبة والصعيد وتمكن أول وال روماني - هي جالوس - من إخماد الثورة بالكثير من العنف .
أثناء تبعية مصر للرومان تعاقب على حكم روما بعد أغسطس : الإمبراطور تيريوس , ثم كاليجولا ثم كلوديوس ثم نيرون ثم فسبسيان وهكذا إلى أن حل بروما في القرن الثالث الميلآدى محنة كبرى من التنازع على العرش وتدخل الجيش الروماني في تولية الأباطرة وعزلهم أو قتلهم , وكان المصريون من ناحيتهم يبيدون كل ثائر على الحكم الروماني كراهية في الرومان . وأملا في تدمير الإمبراطورية الرومانية .
وقد بلغت الفوضى السياسية والعسكرية في روما أوجها فيما بين ( 252- 268 م ) حيث كثر التتطاحن بين أدعياء العرش واشتد ضعف السلطة المركزية في روما . فأعلنت بعض الولايات استقلالها عن روما وكان من بينها مصر سنة 260 م . ثم تمكنت روما من استعادة سيطرتها على مصر بعد كثير من المذابح .
استيلاء زنوبيا ملكة تدمر على مصر :
أثناء القرون الثلاثة من الإمبراطورية ازدهرت في الشرق إمارة تدمر في الصحراء التي تفصل بين سوريا وبابل واعتمد نشاطها على النقل التجاري بين الشرق والغرب , ثم خضعت تدمر لسلطان روما وإن تمتعت بنوع من الاستقلال الداخلي .
واستطاع أ ودينات التدمرى أن يكون جيشا بماله من عدة وعتاد وساعد بجيشه الإمبراطور جالينيوس فعينه الإمبراطور قائدا عاما على ولايات الشرق . وتوفى أودينات فخلفته زوجته ( زنوبيا ) التي طمحت لتكوين إمبراطورية منتهزة فرصة الضعف الذي حل بالإمبراطورية الرومانية .
ومن ثم أرسلت زنوبيا جيشا ضخما سنة 269 احتل مصر واقتطعها عن الإمبراطورية الرومانية ، و اضطرت روما للاعتراف بالأمر الواقع فاعترفت بوهب اللات بن زنوبيا شريكا في الحكم , وبعد عام واحد رفض وهب اللات الحكم المشترك وأعلن نفسه إمبراطورا , وهبت الحرب بين روما وتدمر وتمكنت روما من تدمير تدمر إذ أرسلت جيشا من الشمال عبر آسيا الصغرى وجيشا آخر إلى مصر وعادت مصر من جديد للرومان سنة 27 م[6] .
في مصر البيزنطية :
وقد حاول دقلدياقوس ( 284 - 305 م ) إجراء بعض الإصلاحات في الدولة الرومانية لينقذها من الاضمحلال بوضع قواعد جديدة , وقد ظلت تلك القواعد معمولا بها إلى عهد الإمبراطور البيزنطي جستنيان في القرن السادس إلا إن أوضاع الإمبراطورية استعصت على الحل وانهارت روما أمام غارات البرابرة وقبلها انتقل مركز الحكم إلى القسطنطينية التي بناها الإمبراطور قسطنطين . واحتفظت الإمبراطورية البيزنطية بالسيطرة على مصر والشام تاركة أملاكها في أوربا للبرابرة من الهون والجرمان والفرنجة من القبائل المتبربرة [7] .
إلا إن نمو القوة الرومية في القسطنطينية واجه نمو قوة أخرى في فارس حيث قوي الأكاسرة من بنى ساسان ودار الصراع بين القوتين الشرقية الفارسية والغربية الرومية حيث كان خلفاء جستنيان أقل مقدرة منه فانتشرت الفوضى داخل الإمبراطورية البيزنطية خصوصا مع الانقسام الديني المسيحي مما مكن كسرى من هزيمة فوكاس الرومي وتوغل في الشام واستولى على بيت المقدس وتمكن قائده شهر براز من فتح مصر ودخل الإسكندرية سنة 616 م . بينما وصل جيش فارسي آخر إلى القرب من القسطنطينية . وبهذا تم استيلاء الفرس على كل بلاد آسيا الصغرى وسوريا وفلسطين ومصر وحاول - هرقل - الذي خلف فوكاس - الهرب يأسا .
وهناك في مكة بعيدا عن مجرى الأحداث كان خاتم الأنبياء عليه السلام وأصحابه في إشفاق على ما أصاب الروم من هزائم وهم أهل كتاب أمام مجوس الفرس ونزل قوله تعالى ( آلم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ) .
وفعلا في بضع سنين عبر هرقل بجيشه الدردنيل وانتصر على الفرس في أرمنيا سنة 622 م ثم انتصر عليهم مرة ثانية داخل إيران , وعلى مدى عشر سنوات تمكن هرقل من استعادة الشام ومصر [8] .
ولم ينعم الروم بمصر طويلا إذ هبت قوة جديدة من داخل الجزيرة العربية تحمل الإسلام الدين العالمي ولا يمر وقت طويل حتى تحيل سيوف المسلمين إمبراطورية كسرى إلى أثر بعد عين وتطرد الروم إلى ما وراء البحار . وتصبح مصر مع الشام إمارات إسلامية ,ويدخل تاريخ العالم في منعطف جديد .
وقبل أن نعيش مع مصر في وضعها الجديد تحت حكم المسلمين نتوقف لنستعيد عناصر الاستراتيجية السياسية لمصر قبل الفتح الاسلامى لنرى بعدئذ هل استمرت تلك الاستراتيجية أو تغيرت . .
1- فمصر - شأنها شأن كل البلاد - شهدت عصورا من القوة والضعف في دورة تاريخية تمر بها الأمم تبدأ بالضعف ثم تقوى وتتحد وتزدهر ثم تضمحل وتضعف وتنقسم .
&nb">
[1] حسن بيرنيا: تاريخ إيران القديم. ترجمة د. نور الدين عبد المنعم, د. السباعي محمد السباعي : 44 , 47 . مكتبة الانجلو سنة 1979 .
[2] حسن بيرنيا: تاريخ إيران القديم. ترجمة د. نور الدين عبد المنعم ,د. السباعي محمد السباعي:87 ,88 . مكتبة الانجلو سنة 1979 .
[3] ألعبادي : مصر من الاسكندر إلى الفتح العربي. 18 ,19 مكتبة الانجلو. سنة 1972 .
[4] تاريخ إيران القديم : 138 .
[5] ألعبادي : مصر من الإسكندر إلى الفتح : 32 , 41 ,55 :60 , 65 :67 , 72 : 75 ,78 : 79 , 86 : 87 .
[6] ألعبادي : مصر من الإسكندر إلى الفتح : 164 , 191 , 197 , 198 : 199 .
[7] ويلز : موجز تاريخ العالم : 182 : 192 , العبادى : مصر من الإسكندر إلى الفتح : 290 .
[8] ويلز : موجز تاريخ العالم : 192 : 196 , العبادى : مصر من الإسكندر إلى الفتح : 309 , 310 , وتاريخ إيران القديم 272 .
الفصل الأول
الفتح الإسلامي والاستراتيجية السياسية لمصر بعد الفتح
ثانيا- الفتح الإسلامي لمصر
فتح مصر بعد فتح الشام
بدأ الفتح الإسلامي بالشام والعراق حيث لا توجد موانع طبيعية بين شبه الجزيرة العربية وبين الشام, إذ إنهما امتداد للجزيرة العربية وقد تعودت قريش في الجاهلية أن تقوم بالنقل التجاري بين الشام واليمن في رحلتي الشتاء والصيف,وقد وجه النبي عليه السلام إلى تخوم الشام غزو مؤته وقاد بنفسه غزوة تبوك .
وهكذا فالشام والعراق لم يكونا غريبين بالنسبة للعرب فكان منتظرا أن تبدأ بهما الفتوحات الإسلامية . واختلف الحال بالنسبة لمصر فهناك حائل منيع يفصل مصر عن الحجاز يتمثل في البحر الأحمر وما تحيطه من مرتفعات على جانبيه الشرقي والغربي , فلم يكن ثمة اتصال على نطاق واسع بين العرب ومصر قبيل الفتح الإسلامي .
ولم يفكر العرب المسلمون في فتح مصر إلا بعد أن وصلت جيوشهم الفاتحة إلى جنوبي الشام بعد الانتصار في معركة اليرموك الفاصلة . وقد تولى عمرو بن العاص فتح جنوب الشام فاستولى على بيت المقدس ( 15هـ – 636 م ) وشهد عمرو فلول الروم المنهزمين مع قائدهم أرطبون يفرون إلى مصر فأيقن عمرو ضرورة فتح مصر لتأمين الفتح الاسلامى في الشام .
وقد كان لعمرو بن العاص علم بأحوال مصر إذ زارها في الجاهلية ولمس ما فيها من خيرات وثراء , ثم إذ تولى بنفسه فتح جنوب الشام أدرك أن بقاء مصر في يد الروم يشكل خطورة على المسلمين في الشام , ومن هنا فرضت استراتيجية الموقع المشترك بين مصر والشام فتح مصر بعد فتح الشام .
ولم يكن الخليفة عمر بن الخطاب متحمسا للمزيد من الفتوحات خصوصا مصر التي يفصلها عن الحجاز بحر منيع لا طاقة للمسلمين به , وكان الفاروق يرى ضرورة التريث وعدم التسرع حتى لا يغرر بالمسلمين في مواضع لا علم لهم بها , إذ إن حياة المسلم عنده أثمن من عروش كسرى وقيصر , وقد تقابل الخليفة مع عمرو بن العاص حين قدم الخليفة من المدينة ليتسلم بنفسه بيت المقدس بعد أن استولى عليه عمرو ابن العاص . وفى اللقاء بينهما استأذنه عمرو في فتح مصر وأبان له أن فتح مصر ضروري لحماية أرواح المسلمين والفتوحات الإسلامية في الشام ووافق الخليفة على الفتح بشرط إذا وافاه كتاب منه في الطريق قبل أن يدخل مصر فلابد أن يعود أما إذا دخلها فليمض في سيره فاتحا مستعينا بالله حتى لا يطمع فيه الروم .
وحين وصل كتاب الخليفة إلى عمرو أثناء زحفه نحو مصر فإنه لم يتسلمه إلا بعد أن أيقن أنه دخل حدود مصر فعلا وبذلك بدأ الفتح الاسلامى لمصر .
بدأ فتح مصر أساسا لتأمين المسلمين في الشام ، وقدر لمصر أن تلعب نفس الدور طيلة الدولة الأموية التي استقرت بالشام .
حوادث فتح مصر :-
سار عمرو في نفس الطريق الذي سار فيه قبله فاتحو مصر عبر الطريق الساحلي لسيناء ، ولم يكن معه حين تحرك من فلسطين أكثر من أربعة ألاف جندي فاستولى بهم على العريش بسهولة في أواخر ( سنة 18 هـ 632 م ) ثم قصد الفرما وقد كان موقعا حصينا للرومان – شرقي
بور سعيد الآن – وحاصرها شهرا وأمكنه أن يستولى عليها في أوائل سنة 19هـ 640م .
واجتاز عمرو سيناء بعد أن أمن مواصلاته مع الشام والحجاز فاخترق شرق الدلتا إلى بلبيس وحاصرها وقد أقام فيها ارطبون بحامية للروم . واستمر القتال بينهما شهرا استسلمت بعده المدينة في مارس 640 م . ثم تقدم عمرو جنوبا واشتبك مع الروم في قتال مرير عند قرية ( أم دنين ) وموقعها الآن حديقة الازبكية ولم يسفر القتال عن نتيجة في بادىء الأمر ورأى عمرو قلة جيشه فبعث للخليفة يطلب المدد . وقبل وصول المدد هزم عمرو الروم في أم دنين ففرو إلى حصن بابليون .
ولم يشأ عمرو الهجوم على حصن بابليون المنيع بقواته المحدودة ، ولم يشأ أيضا أن يظل بلا حراك منتظرا وصول المدد فعبر النيل بجنده ليفا جيء الروم في الصعيد وليحصل على المؤن اللازمة . وانتصر على جيش رومى في معركة الفيوم ، وقبل أن يستولى على الفيوم علم بوصول المدد الذي ينتظره فعاد إلى عين شمس وهو يستاق أمامه ما وجده في طريقه من الأنعام . وفى عين شمس التقى بالمدد وهو يتكون من جيش باثني عشر ألفا يقودهم أربعة من أبطال المسلمين وقوادهم هم الزبير ابن العوام والمقداد بن الأسود وعبادة بن الصامت وخارجه بن حذافة والواحد منهم بألف كما قال عمر بن الخطاب ، وبذلك تم جيش عمرو ستة عشر ألف جندي .
واستعد عمرو لمعركة حاسمة مع الروم فاختبر مكان المعركة في عين شمس ووزع قواته فزرع كمينا في الجبل الأحمر ، وكمينا أخر قرب أم دنين ووقف مع بقية الجيش ينتظر تيودور قائد الروم ومعه عشرون ألف مقاتل . وبدا عمرو هجومه بمن معه على الروم فتراجع جناح الروم نحو الجبل الأحمر ففوجئوا بالكمين يخرج عليهم فحاولوا التراجع إلى أم دنين فحصرهم الكمين الأخر فيها فحاقت بهم الهزيمة ومن نجا منهم اعتصم بحصن بابليون .
وكان حصن بابليون أعظم الحصون الرومانية بناه الإمبراطور ترا جان سنة 100 م على انقاض حصن قديم كان يقيم به بعض الأسرى البابليين فنسب إليهم . وقد لجأ إلى حصن بابليون جموع الروم الفارين أمام عمرو فبلغت عدتهم خمسة آلاف ، وكانت المياه تحيط بالحصن من جهاته الثلاثة ، ولم يكن مع العرب أدوات للحصار فطالت مدة الحصار حتى بلغت سبعة اشهر .
ودارت المفاوضات بين عمرو و الروم أثناء حصاره للحصن إذ أيقن المقوقس – حاكم مصر الروميةــ تصميم المسلمين على فتح الحصن . وصمم المسلمون على أن يختار الروم واحدا من ثلاثة إما الإسلام وإما الجزية وإما القتال . ومال المقوقس إلى الموافقة على الجزية وبعث يستشير الإمبراطور فاتهمه بالعجز وعزله ونفاه .
ومات هرقل فارتفعت الروح المعنوية للمسلمين وانحصرت مياه الفيضان حول الحصن وردم المسلمون جانبا من الخندق المحيط بالحصن ، وتسلل الزبير بن العوام للحصن فعلاه وهتف ( الله أكبر ) فارتاع الروم بداخل الحصن وتحمس المسلمون وتبعوه في اقتحام الحصن بعد أن فتح لهم الباب ، وبذالك سقط الحصن وتسلمه المسلمون من قائده وخرج منه الروم وليس معهم سوا زاد يكفى بضعة أيام .
وبسقوط حصن بابليون لم يبق أمام العرب من تجمعات للروم إلا في الإسكندرية وهي العاصمة يومئذ وكانت ثاني المدن في الإمبراطورية البيزنطية في التحصين والمنعة , فالبحر المتوسط يحميها من الشمال بالأسطول البيزنطي وبحيرة مريوط تحميها من الغرب والجنوب الغربي , أما من الشرق والجنوب حيث وصل عمرو فكانت تحيط بها أسوار عالية ذات أبراج قوية وليس لدى عمرو من أدوات للحصار . وبذلك أمتد الحصار للإسكندرية أربعة شهور , ولم يحتمل عمرو الوقوف ساكنا أمام أسوار المدينة فترك قوة من جيشه مقيمة على الحصار وتجول في شمال الدلتا يقضي على الجيوب الرومية حتى وصل دمياط ثم عاد للاسكندرية .
وأبطأ الفتح على الخليفة فكتب يحث عمروا على فتحها وقال ( ما أبطأ بفتحها إلا لما أحدثوا ) وبعث لعمرو يقول له ( أما بعد فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر إنكم تقاتلون منذ سنتين ما ذاك إلا لما أحدثتم أحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم وإن الله لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم .. ) .
واستعد عمرو لاقتحام الإسكندرية ولكن الظروف في الإمبراطورية البيزنطية ساعدته إذ توفى خليفة هرقل في نفس العام الذي مات فيه هرقل سنة 641 وظهر انقسام في الجيش وفتن مع تولى الإمبراطور قنسطانز فأصدر أوامره للمقوقس بأن يفاوض المسلمين ليتسلم الإسكندرية حتى يتفرغ قنسطانز لمشاكله الداخلية .
وعقد المقوقس مع عمرو معاهدة في أكتوبر 641 تضمنت عقد هدنة إحدى عشر شهرا يتم جلاء الروم خلالها نهائيا عن مصر وألا يحاول الروم استرداد مصر فيما بعد وأن يقدم الروم رهائن للمسلمين لضمان تنفيذ المعاهدة ودفع الأقباط الجزية دينارين ويدفعها جنود الروم إذا سافروا برا وتأمين المسيحيين وكنائسهم وكذلك اليهود .
وبعد انقضاء الهدنة ورحيل الروم دخل المسلمون الإسكندرية في سبتمبر 642 وصارت مصر ولاية إسلامية وصار المصريون أهل ذمة في حماية المسلمين .
محاولات الاسترداد الرومية :-
ولم يسكت قنسطانز عن سقوط مصر والشام في أيدي المسلمين , ورأى أن يبدأ باستعادة مصر وبعدها يمكنه استرداد الشام, وخطط للاستيلاء على الإسكندرية كبداية لاسترداد مصر , ولم يكن للمسلمين في الإسكندرية إلا ألف جندي فاستطاع أسطول الروم في الإسكندرية أن يقضي عليهم وسهل على الأسطول البيزنطي أن يعزز الوجود الرومي في الإسكندرية إذ لم يكن للعرب عهد بركوب البحر ولا القتال فيه.
وبعد استيلائهم على الإسكندرية تقدموا إلى الداخل ,وكان الوالي وقتها عبدالله بن أبى السرح في خلافة عثمان بن عفان , ولم يستطع صدهم فاضطر الخليفة عثمان لإرسال عمرو بما له من خبرة في قتال الروم .
وتمكن عمرو من هزيمة الروم عند منوف ثم طاردهم فتحصنوا في الإسكندرية وأغلقوا أبوابها في وجه عمرو , واستمر الحصار للمرة الثانية حتى أقسم عمرو ليهد من أسوارها إذا أمكنه الله منها , وبر بقسمه بعد أن فتحها عنوة وطرد الروم منها .
وأدرك عبد الله بن أبى السرح أهمية تكوين بحرية إسلامية حتى لا يظل البحر المتوسط حكرا على الأسطول الرومي يهدد سواحل المسلمين في الشام ومصر , وتعاون ابن أبى السرح مع معاوية والي الشام في تكوين أول اسطول إسلامي بمعونة أبناء البلاد الساحلية الذين دخلوا في الإسلام .
ورأى قسطنطين أن يقوم بإجهاض البحرية الإسلامية الناشئة عله يتمكن من العودة للشام ومصر عن طريق البحر ودارت معركة ذات الصواري ( 34هـ _ 654م ) بين الأسطول الإسلامي يقوده عبد الله بن أبي السرح وتعداده مائتا سفينة, والأسطول البيزنطي يقوده الإمبراطور قسطنطين الرابع بنفسه وتعداده خمسمائة سفينة . وانتصرت البحرية الإسلامية الناشئة وهرب أسطول الروم وجرح الإمبراطور ولجأ إلى صقلية حيث قتله أتباعه لتخاذله أمام المسلمين , وبذلك أصبح البحر المتوسط بحرا إسلاميا وضاع أي أمل للبيزنطيين في استرجاع مصر والشام .
وبدأت مصر والشام عهدا جديدا في الدولة الإسلامية .
وبعد فقد كان الاستيلاء على الشام مقدمة للاستيلاء على مصر في الفتوح الإسلامية, وهذه حقيقة ظهرت قبل ذلك في الفتوح التي أتت لمصر في العصور السابقة للفتح الإسلامي . بدءا من الهكسوس ومرورا بالاشورين والفرس , فقد استولوا على الشام وانحدروا منه إلى مصر .
لقد كانت مصر في بداية الفتوح عمقا استراتيجيا للفتوح الإسلامية في الشام, وكان الشام وقتها مع العراق يشكل واسطة العقد في البلاد المفتوحة , وحتى بعد أن وصلت الفتوحات الإسلامية غربا إلى المغرب والأندلس فقد ظلت مصر عمقا للأمويين في الشام يحمي ظهورهم أمام منافسيهم الذين يتركزون في العراق والشرق والحجاز .
كان ذلك دور مصر طيلة العصر الأموي بل منذ الحرب الأهلية بين على ومعاوية .
المراجع عن الفتح الإسلامي لمصر:
*ابن عبد الحكم فتوح مصر : 56: 73 .
* تاريخ الطبري : 4/ 104 : 111 بتحقيق أبو الفضل إبراهيم .دار المعارف .
* خطط المقريزي 1 / 353 : 315 ,54 : 551 ط. دار الشعب .
* السيوطي: حسن المحاضرة : 1 / 106 : 124 تحقيق أبو الفضل