معضلة الوصول في قضايا الإيمان

سامح عسكر في الأحد ٢٢ - يوليو - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

أكثر مشكلة تواجه قضايا الإيمان هي غياب الصلة بين الآلهة والعباد، وهذا يعني أنه وبمجرد الصلة تُحل المشكلة، لكن حسنا..الأمر ليس هين، فقضايا الإيمان كلها بلا استثناء غيبية تضع البرهان وسيلة للوصول العقلي والشعوري، وليس الحسي والمادي، وهذا يعني أن الإيمان سيبقى معضلة ما دام الوصول عقلي وشعوري، وما دام الحس البدهي غائب عن المشهد..

هذا الغياب للصلة أدى لنوعين من الفصام للبشر، فئة رأت أن الوصول بدهي ومادي بالأساس فانغلقت عن واقع غير موصول، وهؤلاء هم من تطرفوا في تفسير واختراع المعجزات والكرامات، وظنوا أنه ومجرد منام وصلوا أنفسهم بالله، أما الفئة الثانية رأت الوصول كله مادي ولا يؤمنون لا بالوصول العقلي أو الشعوري، وهؤلاء طائفة من اللادينيين فسرت كل قضايا الحس بمنظور ديني، رغم أن الدين كما قلنا قضيته الرئيسية هي الغيب الميتافيزيقي، أي لا علاقة بجوهر الدين عن تصورهم له.

حتى في الدين نفسه وجدت تلك المعضلة، وهي أن الوصول العقلي والشعوري ظل حِكرا على الكهنة، ففسروه للناس وفعلوه ظاهريا دون إدراك جماهيري لباطنه ، فظهر للعالم نوعين من التدين، الأول هو تدين رجال الدين والكهنة..وهو خليط من شفرات وسلوكيات غير مفهومة تم توظيفها في الغالب لصالح السلطة السياسية، فالحاكم يهمه أن لا يدرك العامة جوهر الدين الثائر على الظلم..لأن حجم استثارة شعور العامة دينيا سيكون كبير.

أما النوع الثاني فهو تدين العوام..وهو سلوك شكلي صرف بعيد عن الممارسات الجوهرية ، والأخير نوع قاصر بذاته غير قادر على الوصول العقلي، لكن يرى في نفسه القدرة على الوصول الشعوري في ممارسة الصلوات يوميا، لكن حتى هذا الجانب الشعوري ليس بدرجة شعور الكهنة، فالجانب العقلي عند الكهنة جعل من شعورهم متزن يتوافق مع الأصول العامة للبشر..وهذا هو السر وراء تقديس الكهنة لأن العوام يرونهم عقلاء متزنين بالأساس لا يقارن إيمانهم بأحد..كذلك فالمركز الاجتماعي – والسياسي – للكاهن أجبره على ممارسة شعورية محدودة كي لا يُفرط في استخدامها فيضيع اتزانه وبالتالي يفقد مركزه، وهذا هو السر وراء رؤية العوام للكهان (كمنافقين) أحيانا..

وقد يستغرب البعض كيف يرى العامة رجال الدين عقلاء ومنافقين في ذات الوقت؟

قلت: أن تدين العوام منزوع العقل ، وهذا الفصل بين العقلانية والنفاق من سمات ذوي العقول، هنا العامي سيتعامل مع الكاهن برؤيتين (جماعية وفردية) الأولى سيكون فيها أكثر عُزلة وتبعية للقطيع ، وجمهور العوام مع الدين الشكلي بالعموم الذين رأوا من خلاله اتزانا شكليا وعقليا للكاهن، أما الرؤية الفردية فهي تخص (الضمير) وهذا سر الاعترافات وأمور التوبة في الأديان، أي الضمير لا يعمل جماعيا بالأساس، لأن العمل الجماعي يلزمه أسلوب القطيع منزوع العقل والضمير، هنا سنرى العامي يؤمن بنفاق وفساد الكاهن بينه وبين نفسه، لكنه مضطر لإعلان رأي آخر في العلن بين الجماعة، وهذا الاضطرار لا يفسره بقهر أو ظلم..بل بثقافة مجتمع يتعايش تماما مع هذا النوع..وهو ما قصدته (بفصام الوصل) في المقدمة..

هذه العلاقة معقدة يصعب على الناس فهمها، أو بالأحرى العقلاء، لأن البعض لا يفصل بين رؤية الناس للحياه بمنظور فردي والرؤية الأخرى بمنظور جماعي، رغم أن ذلك الفصل من شروط الثقافة، وأحيانا يصبح حجة وأعذار للناس والمشهد المنافق برمته، بينما التغيير لا يحدث سوى بالمكاشفة والوضوح، فلو قلنا للناس أنه ولكي يصلوا أنفسهم بالله عليهم كما صدقوا بينهم وبين أنفسهم أن يَصدقوا بينهم وبين بعض.. سَتُحلَ أغلب مشاكل الدين، فالتدين السائد هو تدين اجتماعي بالأساس وليس سلوكا عقليا أو شعوريا..مجرد عادات تعود الناس على فعلها كل فترة.

طب هل يوجد مثال على ذلك؟

الجواب: نعم..ما تسمى "بحرب الأيقونات البيزنطية" هذه حرب صور بين المسيحيين الأرثوذكس في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين، أي وفي عز الخطر الإسلامي والعربي على المسيحيين انشغلوا بنوع تافه من الصراعات وهو (التماثيل والصور) في الكنائس، وكأن المسيحية بعثت من جديد أو لم يفهمها أحد منهم بعد، وهذا الصراع (الشكلي) مس اعتقاد الكهنة في الوصول العقلي بالأساس، فقالوا أن كل صور وتماثيل الكنائس يجب أن تُمحَى وتُدمّر كما دمرنا صور وتماثيل الوثنيين، بينما لم يتعرضوا لرمزيتهم الخاصة في الدين المسيحي..بمعنى إذا كانت تماثيل الكنائس خطر على إيمان الناس..فهذا أمر حسي يمكن علاجه..لكن ماذا سيقولون في (التماثيل والصور في الأذهان) تلك التي عبد الناس بها الرهبان واعتقدوا فيهم القداسة...!

لاحظ أن كل ثورة على الدين الشكلي لا تصدر فقط من ملحدين ولادينيين، بل من متدينين أيضا، وفي زمننا هذا نجد مسلمين ومثقفين من كل الأديان ينتقدون كل الصنوف الشكلية للتدين، وهذا يشير إلى (قاسم مشترك) بين المؤمنين والملحدين هو أن بعضهم ينطلق في تبرير عقيدته من منطلقات إنسانية وعقلية، وهذا ما قصدته بإنكار الوصول المادي والحسي فقط للملحدين، لأن نظرائهم من نفس الطبيعة والهدف وصلوا بطرق أخرى ونادوا بكل ما نادى به الملحدون عدا إنكار الإله..

بالعودة إلى حرب الأيقونات أزعم أن الوصول المادي والحسي لازم من لوازم الدين أيضا، فكل مصادر المعرفة الإنسانية أساسها الحس، والدين يقوم على معارف، هنا أصبح إنكار الحس المادي مقدمة لإنكار الحقائق، وأولى تلك الحقائق أن كهنة حرب الأيقونات خاضوا هذا الصراع من أجل مناصبهم وسمعتهم ليس إلا..فلو حرصوا على الدين ما حملوا الناس على تقديسهم أو الاعتقاد بكرامتهم ومعجزاتهم، ولو رفضوا تماثيل الحجر فالأحرى بهم رفض تماثيل الذهن، ولو ثاروا على وثنية الرموز والصور فالأحرى بهم الثورة على وثنية الأذهان وأصنام العقل والروح، لأن أساس تقديس الناس لبعضهم صور عقلية في الأخير يتم ترجمتها لصور مادية كالأصنام..إنما الأصل هي صور العقل التي تخيلوا بها الكهنة مقدسين..

وهنا سؤال مهم: ماذا لو كانت تلك الأصنام للكهنة التي رفضوها؟

أي جاء واحدا من الكهنة لكنيسة فوجد مجموعة من الصور والتماثيل، وقبل أن يقوم بتحطيمها نظر فيها فوجد أن جميعها له شخصيا، هل سيتهم وقتها المتعبدون بالكفر والطاغوت والزندقة، أما سيُخفف اتهامه بمجرد نصح وإرشاد، أما سيتركهم لأنهم احترموه وبجّلوه؟

هنا سنعود بالسيرة لحادثة أصنام مكة وتحطيمها، وكذلك أصنام قوم إبراهيم..ماذا لو كانت تلك التماثيل لله هل سيحطمها المسلمون؟..أم لأنها لأرباب أخرى قاموا بتحطيمها؟..فورا العقل الديني سيُجيب وبرهان الكهنة سيعمل، سنحطمها أيضا لأن الله لا يجب أن تكون له صور..ولو فرضنا أن أبي جهل كان في مكانهم هل سيبرر تماثيل آلهة قريش أم سيرد بنفس الجواب؟..هنا نستنتج أن أساس رفض المؤمنين للصور والأصنام الدينية ليس لذاتها..ولكن لأن الرب في تصورهم ليس مجرد رمز أو شئ مادي محسوس..وقتها الخلاف يظهر في إمكانية تصوير الإله من عدمه وليس عبادة أحد غير الله أو تعدد الآلهة، لأن ما نظنه يعبد غير الله قد يكون يعبده ولكن بشكل آخر لا نتصوره في الحقيقة..وهذا عمدة برهان من قال بإيمان الفراعنة والسومريين..كمثال..

هذا السؤال يثير حفيظة الكهنة لأن أصعب سؤال يوجه لرجال الدين هو: هل تحرصون على عدم تقديسكم كما حرصتم على عدم تقديس آلهة وأئمة الخصوم؟..وماذا فعلتم في إقرار بشريتكم وأنكم تصيبون وتخطئون؟..ثم ماذا لو رآكم العامة مقدسين هل ستُسألون بتصديركم لصوركم الشخصية منزهين عن الخطأ..أم جهل من العوام؟..ولو كان جهلا للعامة فلماذا لا تعلموهم بأنكم تخطئون أو على الأقل تثبتوا لهم ذلك بتجارب عملية..

يبقى أن الوصول في الدين متعلق بمكانة وقدرة الإله أو الرمز، فبعض الأديان لا تعبد آلهة في الحقيقة بل لها رموز فلسفية كالبوذية، هنا الوصول في البوذية متعلق بمكانة بوذا التي شفعت لوسيلته في الوصول المشهورة (بالنيرفانا) بالتالي أًصبح وصول البوذي للنيرفانا مشروط بمكانة بوذا العقلية والروحية..فكلما كانت تلك المكانة مقدسة ومنزهة كلما زاد اليقين بالوصول للنيرفانا بنفس طريقته..والعكس صحيح، كذلك في الأديان التعددية يقيسون عظمة الإله بقدراته العظيمة وتحكمه في الكون، وأعظم تلك القدرات هي الخلق، فالخالق في كل الأديان هو الله في منظور الأديان الإبراهيمية (كلي القدرة) وفي الإسلام (ليس كمثله شئ)..ولو عبر عنه التعدديون بألفاظ أخرى لا ينفي أنه يعبدون نفس الرب.

كذلك فالوصول متعلق بأثر الإله أو الرمز، مكان مقدس مثلا أصبح فيه الوصول أعلى وأضمن من أمكنة أخرى، كذلك مكان حدثت فيه معجزة أو كرامة المسلمون يتسابقون في الوصول من خلاله كأضرحة الأولياء مثلا والمساجد الكبرى كالنبوي والأقصى، أما في المسيحية نقل وول ديورانت في قصة الحضارة أن الكنائس في القرون الوسطى تنافست في الزعم بامتلاك الصليب الأصلي أو أجزاء منه..بما فيها الحربة التي قتل بها السيد المسيح (قصة الحضارة ج16 صـ 24) هنا كما وصل المسيحي بآثار المسيح وصل الصوفيون أيضا بآثار أوليائهم كقميص الحسين وابن حنبل وسيف علي وحذاء النبي...إلخ..

الوصول من هذا النوع محدد بشعور وليس عقل أو مادة طبعا، فما حمل المؤمن على تقديس مكان أو شئ هو (العاطفة الشعورية) وليس العقل الذي يرفض ترميز الدين وحصره في مُكوّن بسيط..كما ثار الكهنة منذ قليل في حرب الأيقونات، وهنا أسجل مرة أخرى ضرورة الوصول المادي والحسي لأن إنكار الحس مقدمة لإنكار العقل، وإنكار العقل يعني شيوع الخرافة والظلم..هنا أنادي بعمل كل أنواع الوصول مع بعض لئلا يطغى نوع على آخر فيفقد مزايا الآخرين..

اجمالي القراءات 4321