صديق من المغرب يسأل: طالما علمانيين مصر كثير على الفيس بوك لماذا لا ينشأوا حزب؟
قلت: أفشل تجربة حزبية هي إنشاء حزب علماني في مصر لعدة أسباب:
أولا: علمانيين مصر ليسوا بالنضوج والوعي الذي يمكنهم من الوحدة في إطار حزبي، هذه معاركهم على التواصل الاجتماعي كلها شخصية، وقادة الحزب إما عامليين 3/4 علمانيين مصر بلوك، أو بيشتموا علمانيين آخرين لتصرفاتهم الشخصية..
ثانيا: أشهر قادة العلمانية في مصر مؤيدين لنظام السيسي ويبررون له كل شئ بحجة الإخوان، غير مدركين لطبيعة العالم الآن الرافض لكل الأنظمة الشمولية والقمعية المنعزلة، دمّروا بنيتهم الثقافية التي نشأوا عليها ، ولم يجدوا سوى الحديث الآن عن الإسلام السياسي بطريقة لا يحسنوها..شبيهة بنظريات أمن الدولة عن الإسلاميين في السبعينات اللي تخيلوا بيها الإخواني بدقن وجلابية بيضاء والسواك في جيبه..!
ثالثا: قلت لصديق علماني مؤيد على درجة من الفكر، ياصديقي لو بحثت في كل علوم ونظريات الأرض الفكرية والثقافية الآن سترى أنك على خطـأ..وهذا سيجبرك على حصر جهودك فقط ضد الإخوان متغاضيا عن كل صنوف الخطر الأخرى المهددة للعلمانية كالفقر والجهل والنُظُم الرجعية، والمحافظة الشعبية، وتحالف رجال الدين مع رجال المال والسلطة..
رابعا: الليبرالية ليست متجذرة في الشعب المصري، بل هو إسلامي صِرف ، ما زال يرى حكم الدولة وظيفة دينية..هذا جعل خطاب العلمانية في مصر (نخبوي) بعيد عن رجل الشارع..كان الحل في الاحتكاك بالشعب وتقديم بديل طيب يخاطب قيم الانفتاح..ولكن كل هذا ضاع بفقدان العلمانيين الزعامة والقوة وتسلط البلهاء والسذج على خطابهم الثقافي..
يكفي العلم أن أحد قادة الحزب العلماني متفرغ بقاله 4 سنوات لبيع روايته بطبعات منوعة، بينما على الصعيد السياسي غير موجود، وعلى خلاف مع أكثر شباب الجامعات الليبرالي..وعندما يقدموه في الإعلام فهو زعيم حزب..وفي الحقيقة..هذا تاجر مالوش قضية.
خامسا: الليبرالية ليست دين أو حزب لندعو الناس إليه كما يظن بعض العلمانيين، هذه تنشأ نتيجة وجود مناخ من الحريات الفكرية والسياسية، يعني هي حالة شعورية تصنع خطاب ثقافي يشكل كل مناحي الحياه..يعني فكرة تكوين حزب علماني الآن بدون حريات هي فكرة فاشلة وتنم عن غباء أصحابها..
سادسا: ضعف قيادات العلمانية في مصر أنتج شباب منتمي ظاهريا للعلمانية، إنما جوهره (عنصري وطائفي) متشبع بكل قيم الإسلاميين من الكراهية والعنف..
سابعا: ضعف قيادات العلمانية في مصر أنتج شباب جاهل ظن لمجرد قراءة كتاب أو رواية أنه امتلك مفاتيح الفكر وأصبح سقراط زمانه، وفي حوار مع أحدهم قديما قلت له : ما الفرق بين الفكر والتنمية، وكيف تفكر بدون تنمية ، وكيف تنمي من غير فكر؟..والنتيجة احتار..لا يدرك أن هذا السؤال هو جوهر ما قامت عليه الاشتراكية والرأسمالية فيما سمي بالبناء الفوقي والبناء التحتي..
هو حافظ مصطلحات هؤلاء، لكن لا يفهم معناها الأدبي اللي ممكن تعبر عنها بعشرات المرادفات..
ثامنا: الوعي بالسياسة الدولية والإقليمية هو أساس بناء الحزب، وليس بمجرد الوعي الداخلي، تقريبا كل دعاة الأحزاب في مصر ليست لهم رؤية مستقلة عن محاور الإقليم، فهم إما تابعين لمحور إيران/ سوريا/ لبنان أو محور السعودية/ الإمارات/ إسرائيل، بمن فيهم قادة الحزب العلماني الحالي، فهم دعائيا مستسلمين تماما لإعلام الخليج ضد محور المقاومة، وثقافيا مستسلمين تماما لخطاب الإمارات عن الإخوان..والنتيجة ربطوا الإخوان بالمقاومة..وهذا غير صحيح، الإخوان ليسوا مقاومين أو حتى "معتدلين" هذه جماعة سرية سلفية مذهبية غير منتمية إلا لمصالح مكتب الإرشاد.
تاسعا: البناء الحزبي في مصر يلزمه برنامج اقتصادي، وعلمانيين مصر من أولهم لآخرهم لا يتحدثون في الاقتصاد، ولا يقربوا منه أبدأ كأنه "شعلة نار" تلسعهم..اللهم إلا بعض الخواطر الفيسبوكية مترجمة من مجلات اقتصادية أجنبية لا علاقة لها بالوضع المصري.
تاسعا: تعريف العلمانية نفسه غير واضح، فما زال البعض منهم يعرفه كسلوك لاهوتي ضد رجال الدين، والآخرين يفسروه بطريقة نفعية..وكلا التعريفين لا علاقة لهم بمبدأ "حقوق الإنسان" اللي قامت عليه علمانية القرن 20 ما بعد الفلسفة التحليلية..وسبق شرحت ذلك في بحوث منفصلة قلت فيها: أن تعريف العلمانية الآن مختلف عن جوهره في القرن 19، وتطور مع الزمن حتى أصبح قيمة ملازمة لحقوق الإنسان في الحرية والمواطنة، وهذا يعني أن الدعوة للعلمانية الآن بدون حريات يعني فاشية جديدة تتسلط على الناس باسم الأمن كما فعل هتلر والقذافي وصدام حسين.
عاشرا وأخيرا: لكل بلد نموذجها العلماني، بريطانيا ارتبطت علمانيتها بالتسامح والحريات الخاصة أكثر، بينما فرنسا ارتبطت فيها بالديمقراطية والتعددية الحزبية أكثر..أما في اليابان ارتبطت بالسلام والصناعة وكراهية الحرب..والسؤال المشروع: ما نموذج مصر العلماني؟
الإجابة على السؤال الأخير لا يمكن إلا باستقلال فكري ورسوخ ثقافي شامل يجعل من مصر (قدوة ومُعلّم) بينما مصر الآن تابعة وفارغة من الكفاءات..هذا يجعل التفكير في حزب علماني مجرد كلام مكتوب لا يساوي في قيمته ثمن الحِبر..