الفصل الأول : الفتح الإسلامي والاستراتيجية السياسية لمصر بعد الفتح
أولا: استراتيجية مصر قبل الفتح الإسلامي
في العصر الفرعوني , في العصر البطلمي
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
1 ـ (الفتح الإسلامي لمصر ) مصطلح تاريخي يضم عناصر ثلاثة : الفتح ، وكونه فتحا إسلاميا ، وكونه جرى على أرض مصر.
نقول ( الفتح ) وليس كما يقول الآخرون ( الغزو ) ، فالغزو هو هجوم أو هجمات لا ينشأ عنها مثل ذلك الذى ينشأ عن الفتح من احتلال مستمر ثابت ومستقر مع تغيير فى سلطة الحكم ، وإقامة دولة جديدة تستمر وتترك بصماتها على الشعب التى احتلت أرضه ، و تحكمت فيه . فالعرب كانوا يغزون جنوب العراق قبل ظهور الاسلام ، و هذه الغزوات تختلف عن الفتح العربى لكل تلك المناطق ، والفاطميون كانوا يرسلون غزوات للهجوم على مصر فى حكم الدولة الاخشيدية ، واختلف الوضع بعد أن قاموا بفتح مصر و تأسيس الدولة و الخلافة الفاطمية فيها ، وبنفس المنطق نقول ( الفتح العثمانى ) مع إنه (فتح ) لبلاد إسلامية ، ولكنه فتح دخلت به تلك البلاد فى عصر جديد استمر قرونا ، وترك بصماته على التاريخ المحلى و التاريخ العالمى .
ونقول الفتح الإسلامى وليس الفتح العربى لأن العرب بدون رفع راية الإسلام لم يكن لهم أن يحلموا ـ مجرد حلم ـ بفتح معظم العالم المعروف وقتها . راية الاسلام التى رفعوها فى حروبهم هى التى قامت بتوحيدهم وتكوين دولة قوية لهم توسعت و فتحت كل تلك المصار ، ومنها مصر.
2 ـ الفتح الإسلامي لمصر له وجه سياسي تحولت به مصر من ولاية رومية إلى ولاية تتبع الدولة العربية الإسلامية التي هزمت الروم في الشام وطاردتهم في مصر فكان فتح مصر .. وبه استمرت مصر تؤدي دورها خلال الدولة الأموية ثم العباسية إلى أن تعاظم هذا الدور بالدولة الفاطمية وما تلاها .
والفتح الإسلامي لمصر له وجه ديني أصبحت به ( مصر المسيحية ) دولة إسلامية وظلت تحمل هذه اللافتة ، حتى يومنا هذا .
3 ـ بيد أن (مصر ) التي شهدت (الفتح الإسلامي ) سنة 640 م كان لها تاريخ سابق متصل الحوادث سبق الفتح الإسلامي بنحو خمسين قرنا من الزمان .
لقد بدأ التاريخ الإنساني بمصر , فالمصري أول من عرف الاستقرار والزراعة وتكوين الدولة وإقامة الحضارة والكتابة والتدوين والنظم السياسية والفن والعمارة . وأقام المصريون حضارات راقية قبل التاريخ تمثلت في عشرات المقاطعات التي تناثرت حول النيل في الوادي الخصيب , ثم بدأ التاريخ لمصر المتحدة حين استطاع ( مينا ) أن يوحد الشمال والجنوب في مملكة واحدة هي مملكة منف وذلك قبل الميلاد بنحو 3200 سنة , وقبل الفتح الإسلامي بنحو 3840سنة .
وقبل الفتح الإسلامي لمصر تتابعت منذ عصر (مينا ) ست وعشرون أسرة حاكمة بعشرات من الحكام الفراعنة عبر ثلاث دول ( القديمة - الوسطى - الحديثة ) إلى أن سيطر الفرس على مصر سنة 525 ق.م . وتبعهم اليونان 332 ق. م . ثم الرومان 30 ق. م . ثم كان الفتح الإسلامي سنة 642 م .
فالفتح الإسلامي لم يكن أول فتح لمصر , فقد فتح مصر الهكسوس ثم الفرس ثم اليونان ثم الرومان واستمرت مصر ولاية رومانية من (30 ق. م : 642 م ) فإلى أي حد أثر الفتح الإسلامي على الاستراتيجية السياسية لمصر ؟ هذا هو موضوع الفصل الأول من خلال بحثنا عن (شخصية مصر بعد الفتح الإسلامي).
لقد واجهت مصر قبل الفتح الإسلامي كثيرا من الغزوات والفتوحات وخضعت لأمم شتى من شرقيين وغربيين , من برابرة ومتحضرين .. إلا إن مصر كانت قد استكملت بنيانها الحضاري والثقافي والديني عبر تاريخ طويل متصل بلغ عشرات القرون , وساعد عليه ذلك الانعزال النسبي للمصريين , فالصحاري تحيط بهم من الشرق والغرب وهم ملتصقون بالنيل يجدون فيه الوفرة والأمن والاستقرار والارتباط بالمكان والأرض ، وبذلك نمت الحضارة المصرية وترعرعت وتبلورت شخصيتها وتميزت عن غيرها من الحضارات ، بل وأثرت فيما حولها من حضارات ناشئة .
ولم يكن لحضارة بهذا التراث وذلك التفرد أن تتأثر بغزوات الفاتحين , بل صار العكس وهو أن الحضارة المصرية استطاعت أن تبهر الغزاة وان تهضم ما جاءوا به من مؤثرات جديدة وتضفي عليها الطابع المصري لتصبح بعد حين رافدا من روافد الحضارة المصرية ومعبرا عنها , وذلك ما يعرف في التاريخ المصري بالتمصير , فقد خضع الغزاة لمصر لهذا التمصير , برابرة كانوا أم متحضرين , فالهكسوس ما لبثوا أن عبدوا الآلهة المصرية وتشبهوا بالفراعنة ,والاسكندر الأكبر الفاتح المثقف دارس الفلسفة ذهب بنفسه خاضعا لمعبد (آمون ) في سيوة , وسار على نهجه خلفاؤه البطالمة في مصر فغلبت عليهم الصبغة الفرعونية أكثر من الصبغة اليونانية .
لقد جاء الفتح الإسلامي بدين جديد يخالف الدين الذي يمثل الشخصية الحقيقية للحضارة المصرية , فإلى أي حد أثر الإسلام في شخصية مصر ؟ وإلى أي حد استطاع ( التمصير ) أن يضفي الطابع المصري على نوعية التدين عند المصريين بعد اعتناقهم للإسلام ؟ .. ذلك هو موضوع الفصل الثاني من بحثنا عن ( شخصية مصر بعد الفتح الإسلامي ) .
3 ـ إن الفتح الإسلامي لمصر وغيرها لم يكن شيئا عاديا في التاريخ العالمي بالمقياس العسكري أو بالمعيار الديني , فلم يشهد مثله التاريخ العالمي على امتداده انتصارات عسكرية على أقوى دولتين في العالم وقتها ( الفرس والروم ) بحيث تنتهي من الوجود نهائيا قوة الفرس الرهيبة وتنحسر فيما وراء البحار قوة الروم , ثم تتسع الانتصارات وتتعاظم الفتوحات لتصل من حدود الصين شرقا إلى حدود فرنسا غربا, وفي زمن قياسي لم يعرف التاريخ له نظيرا إلا في الفتوحات الإسلامية .
وبالمعيار الديني فقد عرفت شعوب الأرض على طول الفتوحات الإسلامية في القارات الثلاث - العالم القديم - شهادة التوحيد والقرآن الذى فيه العدالة الاجتماعية والمساواة , واهم من ذلك كله أن أصبح لهم كتاب سماوي معجز بدستور يبين الحق من الباطل يحكم على القوى والضعيف والأمير والأجير ، ويظهر انحراف الحاكم ويبطل ادعاءات الحكم المطلق والإلهي , فيه الحجة على كل منحرف وضال مهما تخفى وتلون .
وإذا كان الفتح الإسلامي شيئا فريدا فإن مواجهته مع شخصية مصر ( الفريدة ) يغري الباحث بتعقب الآثار الناجمة عن المواجهة والالتحام بينهما.
لقد عاشت الحضارة المصرية 3840 عاما على تراث يناقض الدين الذي جاء به الفتح الإسلامي , وتعودت الحضارة المصرية أن تمصر كل وافد جديد إليها , وعاشت مصر بحضارتها تلك مع الإسلام اقل من ثلث المدة التي قضتها قبل الإسلام .. ولم يكن الإسلام والفتح الإسلامي بالشيء الهين .. فهل كانت شخصية مصر بعد الفتح الإسلامي استمرارا لشخصيتها قبله ؟ آم كان هناك تغيير ؟ وإلى أي مدى .. هذا ما نحاول الإجابة عليه فى هذا الكتاب المقرر على أبنائنا الطلبة فى قسم التاريخ و الحضارة الاسلامية فى جامعة الأزهر .
والموضوع عسير وشائك , إلا إن ذلك لا ينبغي أن يكون حائلا يمنع الوصول للحقيقة , وحتى إذا كان ثمة خطئ فإن الكمال لله وحده , ويكفي المجتهد إذا أخطأ انه حاول الوصول للحق بإخلاص وإذا حرم من الوصول إليه فلن يحرم - بكرم الله من أجر المجتهد المخطئ..
( ربنا لا تؤاخذنا أن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا, كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به , واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) .
د. أحمد صبحى منصور
القاهرة 1984 .