فهمي لسورة التوبة ( الجزء الحادي عشر )
( فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ) 83 التوبة :
هنا مشهد جديد و هو طريق العودة للمدينة فور مغادرة النبيّ لمكة , و معه من معه من المؤمنين المهاجرين و من جاء معه من الأنصار لأداء فريضة الحج .
( فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ )تعني اللقاء مجدداً( بشكل احتمالي ), حيثيقول له جل وعلا أنه و في حال اجتمعت يوماً من الأيام مع أيٍ من هؤلاء , ثم قاموا هم و طلبوا الخروج معك ( يعني انقلاب الصورة ) فلا تأذن لهم لأنهم رضوا بالتخلف عنك مراتٍ و مرات , و لا ننسى بأنه قد صدر سابقاً في حقهم بيان عدم تقبّل توبتهم من الله جل وعلا مدى الحياة , أي لا توبة لهم عند الله جل وعلا فما لهم سوى الجحيم و العذاب فيها , أما توبتهم بين الناس و التزامهم بالسلم و الأمن فهذا أمرٌ آخر و مطلوب , و علاقة البشر بهم و تعاملهم معهم و تقبلهم في المجتمع فهو أمرٌ آخر لا علاقة له بالموضوع و هو أيضاً مطلوب , أي لا علاقة و لا تأثير في العلاقات الاجتماعية أو الإنسانية بعدم تقبل توبتهم عند الله .
( وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ) 84 التوبة .
1 - إن مسألة فسقهم هذه هي حاله مستديمة لن تتركهم ما عاشوا , لذا تم صدور إلغاء العفو الإلهي عن شخوصهم , و تم توعدهم بنار جهنم , لأنه جل وعلا يعلم غيبهم المستقبلي , و بأنهم لن يتوبوا أبداً , بل سيموتون على فسقهم .
2 - هنا أمر خاص يتعلق بالنبيّ دون سواه من البشر , بأن لا يستغفر لهم مجدداً أو حتى مجرد الوقوف على قبر أحدهم في يومٍ من الأيام مهما كانت علاقة القربى أو النسب أو المعرفة بينهم و بين النبيّ , و لا يتعدى الأمر ليشمل باقي المؤمنين بل هو حكمٌ خاص بالنبيّ .
( وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ * وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ) 85-87 التوبة :
1 - بيان بأن أموالهم و أولادهم هي نقمة و ليست نعمة بعد أن فتنوا بها , و ستكون هي السبب الذي سيصرعهم في الدنيا ( أي أنه قد كُتب عليهم بأن يفقدوها و يخسروها ندماً و حزناً و ألماً يعتصرهم ) .
2 - كانوا في سابق عهدهم حين كان ينزّل القرآن بياناً ( أي يتم تلاوته ) و كانت الآيات تدعو إلى الإيمان القلبي العقائدي بالله جل وعلا رباً و إلهاً , و كانت تحثهم على الجهاد في سبيل الله أي دفاعاً مع نبيّه عليه السلام , كانوا لا يستجيبون لأيٍ من ذلك , و كانوا يستأذنون النبيّ و يسوقون الأعذار و الحجج على الرغم من إمكاناتهم المادية و الجسدية , فكانوا منذ البداية يتخلفون عن القتال في سبيل الله جل وعلا .
( لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) 88-89 التوبة :
بيان من سينال الخيرات في الجنان في الحياة الآخرة و من سيفوز بها و هو النبيّ عليه السلام و الذين آمنوا معه و قدّموا مالهم و أنفسهم في سبيل الله جل و علا .
( وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) 90 التوبة :
1 - كما قلنا بأن الحديث الآن يدور بعد خروج النبيّ من مكة و هو في عودته للمدينة و معه من معه من المؤمنين الصادقين , و يبدو بأنه كانت له جولة على القبائل العربية المتواجدة في طريق عودته و التي كانت قد وقعت معاهدات سابقة مع الدولة الإسلامية , من أجل الحشد و النفير من أجل الدفاع المشترك الذي كان أساس تلك المعاهدات , و هو ما عاهدوا عليه الرسول أمام الله جل و علا .
2 - هؤلاء الأعراب قد بدؤوا بمسلسل الخيانة و الانشقاق و الانحلال واحداً تلو الآخر ( ربما بضغوطٍ و وعودٍ من قريش حينها ) , و طلبوا من النبيّ عليه السلام بأن يأذن لهم و ساقوا لذلك الأعذار .
3 - هؤلاء الأعراب كانت أعذارهم و حججهم كاذبةٌ باطلة , لذا فقد توعدهم الله جل وعلا بالعذاب الأليم .
( لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) 91-93 التوبة :
1 - حججهم التي قدموها لا تعفيهم لأنهم ليسوا من ضمن حملة الأعذار الذين يتعذر عليهم النفير .
2 - ذكر و بيان الجهات التي تحمل تراخيص الإجازة و الإعفاء و هي ( الضعيف مادياً أو جسدياً , المريض , الفقير الذي لا يملك دابة يركبها و يسير بها مع النبيّ نحو المدينة ) .
3 - المشكلة تكمن في من يقدم الأعذار و هو مقتدر مادياً فلا يجاهد بماله و لا بنفسه و يتخلف عن الخروج مع النبيّ من أجل النفير .
4 - هؤلاء المتخلفون من الأعراب قد طبع الله على قلوبهم الكفر و النفاق و هذا ما سيخبرنا الله جل وعلا به في سياق الآيات .