القاموس القرآنى: مصطلح ( شكر) ( 3 من 4 ) ثالثا : بين الشكر والذّكر
يقول جل وعلا : ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً (62) الفرقان ). من أراد أن يتذكر بالطريقة الاسلامية فقد أراد ايضا أن يكون شكورا كثير الحمد لربه جل وعلا.
ولكن ما هى صلة ان الله جل وعلا جعل الليل والنهار خلفة بموضوع التذكر والشكر ؟ نعطى بعض التفصيلات :
1 : دعنا نتصوّر أن الله جل وعلا أخذ قطعة من الزمن الخالد فجعلها زمنا متحركا وفجّرها فإنبثقت منها السماوات والأرض وما بينهما وما تحويه من برازخ، وبرازخ السماوات السبع وبرازخ الأرض الست التى تتخلل كوكبنا الأرضى . ولكل منها زمنها الذى يشكل ضلعا من مادتها .
2 ـ ويسرى هذا على خلق الانسان . خلق الله جل وعلا الأنفس مرة واحدة ، خلقها من النفس الأولى ( نفس آدم ) ( النساء 1 ، الانعام 98 ،الاعراف 189 ، الزمر 6 ). كل الأنفس إحتفظ بها الخالق جل وعلا فى برزخ ، وكل نفس يأتى موعدها تدخل الجنين المخصص لها فيصبح الجنين إنسانا يحمل صورة نفسه وملامحها ( الأعراف 11 ) ( آل عمران 6 ) ، وحين يولد فى الموعد المحدد له يبدأ العدّ التنازلى لموته ، قال جل وعلا : ( وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) فاطر ).ينزل وقد تحدد عمره والمدة التى يحياها فى هذا الكوكب الأرضى ، أى تحدد سلفا موعد موته وتحدد أيضا رزقه والمصائب التى تصيبه من خير أو شر، ثم يعيش حرا فى أن يؤمن أو أن يكفر، أن يطيع أو أن يعصى .
3 ـ يولد على الفطرة النقية لا يعرف تقديسا لبشر أو حجر ، ولكن بنفس أُلهمت الفجور والتقوى مع إرادة حرة فى أن يزكى نفسه أو أن يغفل عن تزكية نفسه فتفسد . قال جل وعلا : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) الشمس )
4 ـ أغلب الناس غافلون . قال جل وعلا : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) يونس )، تغريهم وتلهيهم الحياة الدنيا فيغفلون عن اليوم الآخر ، عن مصيرهم قال جل وعلا : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) يونس). تمرُّ بهم الأيام وهم فى معترك الحياة الدنيا فى غفلة عن الموت الذى يسيرون اليه بسرعة 24 ساعة فى اليوم ، حتى إذا جاء أحدهم أجله المسمى من قبل والمحدد من قبل إستيقظ من غفلته فيصرخ يطلب من ملائكة الموت أن يُرجعوه الى الحياة ليعمل صالحا ، ولا سبيل الى هذا فقد أخذ فرصته فأضاعها ولم يتذكر ولم يشكر . قال جل وعلا : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) المؤمنون ) . تنظر النفس الى جسدها الترابى الميت وهى تعود الى البرزخ الذى أتت منه بعد أن تخلصت نهائيا من جسدها المادى . تعود ميتة الى البرزخ حيث بلايين الأنفس الميتة من قبل ، وأيضا حيث بلايين أخرى من أنفس تنتظر موعد دخولها فى الجنين المخصص لها ، لتدخل فى إختبار الحياة .
5 : ـ الله جل وعلا جعل الليل والنهار يتعاقبان يخلف أحدهما الآخر تعبيرا عن زمن متحرك لا يتوقف . لا يستطيع مخلوق إيقاف الأرض ولا إيقاف الشمس ، ولا إيقاف مجرة التبانة ولا غيرها . كل منها يجرى الى أجل مسمى محدد ، ينتهى بإنفجارها وتدميرها وقيام الساعة ومجىء يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين . فى كل هذا الزمن المتحرك داخل الانسان وحوله يعيش الفرد من البشر زمنه ، كأنه يركب قطار العمر ، ركبه فى محطة الولادة ، ويلهو لا يعرف أنه سيهبط منه فى محطة الموت المحددة سلفا ، ومع أنه يرى غيره من الركاب يهبطون من هذا القطار ( يموتون ) فهو لا يتذكر ، يظل سادرا فى غفلته الى أن يصحو منها عندما يرى ملائكة الموت .
6 ـ : المؤمن وحده هو الذى يتذكر حامدا شاكرا ، وهو الذى يتفكر فى خلق السماوات والأرض قائما نائما داعيا قانتا خاشعا داعيا ربه جل وعلا النجاة من النار ، موقنا أن الله جل وعلا لم يخلق هذا باطلا . قال جل وعلا:( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) آل عمران ) .
7 ـ : وطالما هو يتذكر ويعرف أن مصيره الى لقاء ربه جل وعلا فهو يعمل لهذا اليوم الذى لا هروب منه، وقد حذّر رب العزة جل وعلا من هذا اليوم الذى مردّ له ولا رجوع عنه ، قال جل وعلا : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) الشورى ). المؤمن الشكور الحامد لربه يؤمن بهذا اليوم فيعمل صالحا بقلب حنيف لا يؤمن إلا بالله جل وعلا وحده إلاها ، ولا يقدس بشرا ولا حجرا، يرجو لقاء ربه موقنا أن ربه جل وعلا لا يضيع أجر من أحسن عملا .
8 ـ : من هنا فهو يعرف قيمة الزمن . فالزمن هو حياته ، وكل دقيقة من الزمن تقربه من موعد موته ، وتنزلق عنه هذه الدقيقة من الزمن ليتم تسجيلها فى كتاب أعماله من خير أو شرّ . لذا هو يحرص على أن يجعل كل دقيقة تمرُّ به تحمل عملا صالحا ، لأنه ببساطة شديدة لا يمكن إيقاف الزمن ، ولا يمكن إسترجاع دقيقة مضت ولا يمكن إسترجاع الأمس ، هو زمن متحرك الى الأمام دائما ، وبمجرد أن تدرك لحظة منه تكون هذه اللحظة قد مضت وإنزلقت الى كتاب أعمالك تحمل ما فعلت وماقلت وما أضمرت من تفكير فى قلبك .
9 ـ الوسيلة الوحيدة هى أن تتوب عن عملك السىء الذى فعلت ، وأن تعمل عملا صالحا يغطيه وأن تتقى ربك جل وعلا ، وبهذا يتم ( تكفير وغفران ) ذنوبك. و( كفر ) و (غفر ) بمعنى ( غطى ) وبالتكفير عن سيئاتك وتغطيتها و( غفرانها ) يوم القيامة لن تكون معذبا بها .
10 ـ الله جل وعلا أعطاك زمنا هو العمر الذى تعيشه فى هذه الحياة الدنيا . إذا أردت أن تكون حامدا شكورا فعليك أن تُخرج زكاة هذا الزمن .
11 ـ وتتنوع زكاة هذا الزمن: منه التسبيح فى الصباح والمساء والليل ، ومنه الصلوات الخمس اليومية . هى لا تستغرق نصف ساعة من 24 ساعة . ولكنها ـ بالخشوع فيها وبالمحافظة عليها بإقامتها تقوى فى يقظتك ـ تطهّر وتنقّى عمرك من أدران السيئات الصغرى الى لا ينجو منها إنسان . هناك أيضا مناسبة سنوية للتقوى وتطهير النفس هى صيام شهر رمضان ، وهناك مناسبة تُتاح للمستطيع ولو مرة فى العمر ، وهى الحج للبيت الحرام ( وحده ) . الله جل وعلا أنزل تشريعات العبادة كلها لذكره وشكره وحمد جل وعلا وكى يتنبه بها الفرد من غفلته .
12 ـ الغافل عن ذكر ربه وعبادته والذى لا يحمد ربه ولا يشكره جل وعلا ينتبه فجأة من غفلته حين الاحتضار ويرى نفسه تفارق جسده ، عندها يطلب فرصة أخرى ليعمل صالحا ، تتلقاه الملائكة تصفعه وتركله ، لا تركل جسده الميت ولكن تركل نفسه وهى لها وجه وأطراف وجسد برزخى بمثل ملامح الجسد الأرضى المادى الذى كانت نفسه تسيطر عليه فى حياتها الدنيا . قال جل وعلا : ( فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28) محمد ) (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) الانفال)، وهى تصفعهم وتركلهم تبشرهم بعذاب الجحيم ، قال جل وعلا : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوْا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) النحل ) .
13 ـ أما المؤمن الذى يدركه الموت وقد عمل صالحا شاكرا حامدا مؤمنا تقيا فتتلقاه ملائكة الموت بالتكريم تبشره بالجنة ، قال جل وعلا : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (32) النحل ) . يكون مرتاعا من عالم البرزخ الذى دخلت فيه نفسه تاركة جسده فى الأرض بين الحاضرين من البشر الأحياء . يكون خائفا من الملائكة التى يراها لأول مرة ، فتهدىء الملائكة روعه وتبشره بأنه من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . قال جل وعلا عن هذه اللحظة الهائلة : (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) يونس ) (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)الاحقاف ) ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) فصلت ) ولم لا ؟ فقد نجح فى إختبار الحياة الذى فشل ويفشل فيه البلايين من البشر .
14 : بإيمانك الخالص بالله جل وعلا وحده إلاها لا شريك له وبعملك الصالح لا تكون غافلا ، بل تكون متذكرا ، وتكون أيضا لربك شاكرا حامدا . هذا هو تدبرنا فى قوله جل وعلا : ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً (62) الفرقان ). وبعد هذه الآية الكريمة ذكر الله جل وعلا صفات الحامدين الشاكرين الذاكرين الله جل وعلا كثيرا , سمّاهم عباد الرحمن . ( الفرقان : 63 ـ )
15 ـ ذلك أن تفسير القرآن هو بالقرآن ، قال جل وعلا فى نفس السورة : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الفرقان ) ، لا يفسره ولا يبيّنه إلا رب العزة ، هو جل وعلا القائل : (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) القيامة ).