فهمي لسورة التوبة ( الجزء السابع )
يستمر الحديث عن من تخلف بالخروج من مكة مع النبيّ و امتنع عن النفير , مع لفت الانتباه ببدء الحديث عنهم قبل عودتهم لمكة , أي في الفترة التي عايشوها في المدينة و تحت إدارة الدولة الإسلامية .
( لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ) 48-49 التوبة :
1 - هؤلاء المتخلفين اليوم هم أنفسهم من كان كارهاً لقتال قريش حينما كانوا متواجدين مع النبيّ , فهم أنفسهم من دعا للفتنة حين جاء الأمر و الإذن بالقتال في سبيل الله , فلا خير فيهم و لا خير منهم .
2 - تخلفهم عن الخروج و طلبهم الأذن فيه , هو خوفهم من مقاتلة أهلهم و قبيلتهم بقولهم بأن هذا القتال هو قتال فتنه , فيبين الله عز و جل بأن تخلفهم هذا هو الفتنه الحقيقية و بأن تخلفهم هذه كفرٌ و تكذيبٌ لأمر الله عز وجل و يخبرهم بأن جهنم هي مصير الكافرين .
( إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ ) 50 التوبة :
كانوا من قبل يتخلّفون عنك ( عن النبيّ ) , فإن أصابك خير يندمون على تخلفهم , و إن أصابك شر يفرحون و يقولون لقد أخذنا حيطتنا .
( قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ * قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ ) 51-53 التوبة :
هنا نلاحظ ورود ثلاث نقاط على النبيّ من قولها لهؤلاء المتخلفين عن نداء النفير ( الخروج و الاستعداد للمواجهة القادمة ) :
1 - قل لهم يا محمد بأن الله جل وعلا هو مولانا و لن يصيبنا إلا ما كتبه لنا .
2 - قل لهم يا محمد بأن يتربصوا ( و التربص هو الانتظار مع المراقبة ) في إشارة لانقضاء مهلة الأربعة أشهر , هذا الانتظار نهايته إما نصر المؤمنين على قريش و بالتالي فإن هناك ثمن لتخاذلكم ستدفعونه حينها يتمثل بعذابٍ لكم على أيدِ المؤمنين ( ليس قتلاً لهؤلاء ما لم يقاتلوا المؤمنين ) , و إما مقتل المؤمنين المجاهدين في سبيل الله جل وعلا و انتصار قريش و بالتالي فعذابكم على يد الله جل وعلا مؤجلٌ ليوم الحساب .
3 - قل لهم يا محمد بأن نفقاتهم التي ينفقونها ( الزكاة التي يؤدونها ) سواء عن طيب خاطر , أو بكراهيةِ أدائها فلن يتقبل الله جل وعلا أعمالهم , بل سيحبطها لأنهم فاسقين .
( وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ) 54 التوبة :
إعلان صريح بأن أيمانهم بالله و رسوله لا يعتبر إيماناً كاملاً بل هو إيمانٌ ناقص لتخاذلهم في تنفيذ أمر الله جل وعلا الموجه لهم و تقاعسهم عن واجبهم , لذا فإن الإيمان الناقص هو كما الكفر ناهيك عن تأديتهم لفرائض دينهم مكرهين و كسالى , و هذا يستدعي من الله جل وعلا لإحباط كل عباداتهم و أعمالهم .
( فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ) 55 التوبة :
1 - يبدو بأن جميع هؤلاء المتخلفين المتخاذلين هم أصحاب مالٍ كثير و جاهٍ كبير ( أموال و أولاد ) , و يبدو بأن المال و الأولاد يؤديان بصاحبهما بالركون للحياة الدنيا و تعلقه بها , و من عذاب الله جل وعلا لهؤلاء المتخاذلين الخونة بأنه سيصيبهم بعضاً من العذاب في الدنيا على يد ما تعلقوا به , ليتحول من نعمة إلى نقمة تطاردهم .
2 - ( فلا تعجبك أموالهم ) كلام موجه للنبيّ عليه السلام , حيث كان عليه السلام فيما يبدو أشد حرصاً في الحفاظ على هؤلاء الناس كي يسهم مالهم في اقتصاد الدولة الإسلامية .
3 - نلاحظ بأن الله جل وعلا قد صرح بكفرهم الديني و لم يصرح بكفرهم السلوكي العدواني .
( وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ) 56-57 التوبة :
1 - بعد هذا الفضح كله لهؤلاء القرشيون ( أتباع النبيّ ) نلاحظ إصرارهم على الكذب و ادعائهم الباطل بأنهم من المؤمنين الحقيقيين .
2 - فرقٌ شاسع و كبير بين المؤمن الذي ينصاع لأمر الله جل وعلا و لرسوله و بين مدّعي الإيمان الذي لا ينصاع لتلك الأوامر حباً و طمعاً في الدنيا و زينتها و يلهث خلف سرابها المؤقت و الزائل .
( وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُواْ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ) 58-59 التوبة :
1 – يتحدثون فيما بينهم حين توزيع النبيّ للصدقات من خلال التواصل بالإشارة و الحركات الخفية ( بالعامية من تحت لتحت ) , رغماً بأنهم يملكون المال كما تبين لنا , و لكنه الطمع و الجشع الذي لا حدود له , و هذا من خلال قولهم و ادعائهم الكاذب بأنهم لا يملكون مالاً , و لهذا كان النبيّ يعطيهم من تلك الصدقات في سابق عهدهم حينما كانوا في المدينة , فكانوا يرضون بأخذه , و إن لم يعطوا من تلك الصدقات فإنهم يسخطون ( أما بعد عودتهم لمكة فقد ظهر مالهم بشكلٍ علني و اتضح بأنهم كانوا يكتمون هذا المال بسبب بخلهم و رفضاً من إنفاقه في سبيل الله جل وعلا ) , و هنا نستذكر تلك الرشاوى التي كانت قريش تدفعها لهم و يأخذونها ( و أموال اقترفتموها ) .
2 - تعليل حالهم هذا و السبب وراءه هو الطمع و الجشع و حبهم للمال و عدم يقينهم و توكلهم على الله جل وعلا بأنه هو الرزّاق و هو صاحب الفضل في رزقهم .
( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) 60 التوبة :
بيان و تذكير من هم أصحاب تلك الصدقات , و من لهم الحق فيها .