فهمي لسورة التوبة ( الجزء السادس )
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ) 38 التوبة :
من هنا يبدأ الحديث بشكلٍ خاص عن المؤمنين , و يتوجه لمخاطبتهم , و هم أهل مكة القرشيون أتباع النبيّ العائدون و المقيمون بين أحضان قريش منذ اتفاق فتح مكة , و للتذكير نذكر بأن قريش و طيلة تلك الفترة منذ لحظة السماح لهم بالعودة , قد عملت على استقطابهم و منحهم الرشاوى المالية و تسهيل تجارتهم حتى تستميلهم لصفها و تستخدمهم في الأيام المقبلة التي تخطط و تتأهب لها , و يستمر هذا الخطاب لهم و عنهم في كشفه لحقيقتهم منذ أن كانوا مع النبيّ في المدينة أي قبل عودتهم لمكة .
1 - مخاطبة هؤلاء و استنكارٌ لحالهم التي آلوا إليها , فماذا حصل معكم و ما الذي غيركم , فها أنتم تسمعون هذا البيان الذي يكشف قريش و سادتها و حلفائها , فما قولكم ؟ و ماذا أنتم فاعلون ؟
2 - مطالبتهم بالاستعداد للنفير , أي بالتجهز فوراً للخروج مع النبيّ بعد انتهاءه و أداءه لفريضة الحج التي قدم من أجلها , و هذا لأن النبيّ غير مسموح له بالبقاء في مكة و عليه العودة للمدينة , ( بمعنى آخر هجرتهم مرة أخرى للمدينة و توديعهم لمكة و الرجوع مع النبيّ فوراً لأرض المنفى ) .
3 - مسائلتهم العلنية في هذا الأمر , هل أنتم جاهزون لتلبية النداء ؟ أم أنكم ركنتم للحياة الدنيا و متاعها و ما تمنحكم إياه قريش من رشاوى ؟ و تذكيرهم بأن كل ذلك لا يساوي شيئاً في الحياة الآخرة إن كنتم تريدون الآخرة و تبحثون عنها .
( إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) 39 التوبة :
تحذير شديد اللهجة من مغبّة العصيان , و بأنه حال عصيانهم لهذا الأمر و تخلفهم عن الخروج من مكة مع النبيّ فإن لهم عذاباً أليماً عند الله جل وعلا و بأنه سبحانه و تعالى غنيٌ عنهم ( هذا الكلام موجه للمؤمنين ) .
( إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) 40 التوبة :
1 - يدعوهم لعدم خذلان النبيّ عليه السلام .
2 - يذكرهم بخروج النبيّ سابقاً و بدونهم و كيفية نصره من الله جل وعلا , و كيف أصبحت كلمة الله هي العليا .
3 - في تذكيرهم بخروجه أول العهد دلالةٌ قاطعةٌ في دعوتهم للخروج معه هذه المرة , إذا فالحديث عن نصرتهم له يتمثل بخروجهم معه من مكة نحو المدينة من اجل النفير و الاستعداد لقتال قريش فور انتهاء مهلة الأربعة أشهر .
( انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) 41 التوبة :
هنا يعلمهم و يؤكد لهم بأن خروجهم هو خروجٌ في سبيل الله جل وعلا , و جهادهم هو جهادٌ في سبيله أيضاٌ ( أي أنه خاضعاً لشروط القتال في سبيل الله و ليس له أي غاية دنيوية ) , و خروجهم هنا يستلزم منهم كل طاقتهم و كلٌ حسب إمكاناته .
( لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) 42 التوبة :
1 - هنا يأتي الحديث عن ردة فعلهم الباهته و تخلفهم و تقاعسهم عن ترك مكة و رفضهم من الالتحاق بالنبيّ .
2 - بيان بأنه لو كان نفيرهم لغايةٍ دنيويه لخرجوا له و التحقوا بالنبيّ و هذا دليل ركونهم و طلبهم لمتاع الدنيا , و رفضهم للجهاد و مشقته و عناءه الذي لا يلبّي رغباتهم , لأن مردوده و نتاجه مؤجلٌ للحياة الآخرة .
3 - يطالبون النبيّ عليه السلام بالإذن لهم بعدم الخروج ( وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ ) , و بأنهم فعلاً لا يستطيعون الخروج و الهجرة مجدداً .
4 - هنا نستنتج بأن هؤلاء الذين آمنوا قد بدؤوا يمارسون الكذب على النبيّ , لذا تحتم فضحهم بأن عدم استطاعتهم للخروج و طلبهم الإذن هو محض كذب .
( عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ) 43 التوبة :
1 - نبيُّ الرحمة قد أذن لهم , لأنه لا إكراه في الدين فلا يستطيع من إجبارهم على فعل شيء سوى الطلب , و لهم حرية الاستجابة , و قد عفا الله جل وعلا للنبيّ هذا الإذن على خطورة الموقف .
2 - هذا الإذن ساعد بشكلٍ كبير في كشف الجميع , فكل من تخلف منهم فهو كاذب , و من لبى النداء فقد صدقَ الله و رسوله , و هنا إشارة بأن هناك منهم من استجاب .
3 - بعد عملية الفرز العلنية هذه انقسم الجمع إلى قسمين : ( قسم مؤمن يدعي الكذب و يطلب الإذن من النبيّ و هذا دليلٌ على كذب إيمانه و هذا نوعٌ من النفاق , و القسم الآخر مؤمن لبى النداء و هذا دليلٌ على صدق إيمانه ) .
( لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ) 44-45 التوبة :
1 - إن المتقين من هؤلاء المؤمنون القرشيون لا يمكن بأن يترددوا في تلبية النداء و الخروج مع النبيّ , لذا لم يلجئوا لحيلة الاستئذان .
2 - الذين لم يستجيبوا لنداء الخروج طالبوا النبيّ بأن يأذن لهم و كان عذرهم محض كذب , هؤلاء باتوا في حيرةٍ من أمرهم و مترددين من حسم قرارهم ( أي أنهم يحبون بأن يكونوا مع النبيّ و بأن يحافظوا على إيمانهم و إسلامهم , و لكنهم في نفس الوقت لا يرغبون بقتال قبيلتهم قريش , فارتابت قلوبهم و باتوا مترددين في حسم أمرهم و اتخاذ قرارهم ) .
( وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) 46-47 التوبة :
1 - يأتي حسم موقفهم المتردد هذا من عند الله جل و علا , و يخبر نبيّه بأن لا ينتظر قرارهم النهائي , لأن الله جل وعلا كره خروجهم فثبّطهم , لأنهم لو أردوا فعلاً الخروج لبدؤوا بتجهيز أنفسهم كباقي المؤمنين الذين استجابوا للنداء .
2 - تعليل الحسم في عدم خروجهم بأمرٍ من الله جل وعلا , هو حرصٌ على عدم إضعاف عزيمة من لبّى نداء الخروج و فتنته , مما يعزز فرضية عدم مقاتلة قريش أو التردد في ذلك .