نصُحا للفلسطينيين للمرة الرابعة : ضحايا الحنجورى
مقدمة :
ليس الفلسطينيون فقط ضحايا الحنجورى .. كنا مثلهم الى أن منّ الله جل وعلا علينا بالشفاء .
أولا :
1 ـ فى أوائل إقامتى فى فرجينيا ( فى ضواحى واشنطن ) جاءتنى دعوة من منظمة( علماء تحت الخطر ) ( Scholar at risk) لأتحدث فيها عن تجربتى فى الإضطهاد فى مصر . تحدثت فى الاجتماع ، وكانت نظرات الدهشة والتعاطف تحوطنى ، والسبب معروف ، وقد قيل لى كثيرا : هل ممكن أن يحدث هذا لمفكر مسالم يسعى للإصلاح السلمى ؟
2 ـ بعدها جاءتنى دعوة من نفس المنظمة لأحضر حفلا آخر فى نيويورك مقر المنظمة . سافرت وقابلت المدير الذى كان يتواصل معى بالايميل حيث عقدنا صداقة فريدة دون أن نلتقى ، ثم كان اللقاء رائعا فى نيويورك . بعد السلامات والترحيب تفحصنى مبتسما وقال : ( لا يمكن أن تحضر حفل الليلة بهذا الزى الكاجوال . لأنك ستلتقى وستتحدث الليلة مع أثرى أثرياء العالم .) . رفعت حاجب الدهشة ( الأيمن ) قائلا :( لم أكن أعرف أننى بهذه الأهمية ، ولكن كيف أتصرف بملابسى هذه ؟ ) قال : ( لا تقلق . سنتصرف ).! كنت أرتدى زيا بسيطا قادما به بعد سفر عدة ساعات بالقطار من واشنطن الى نيويورك . صحبنى مساعد المدير الى غرفة فى فندق فخم . ولقيت فيه إثنين أحدهما من إثيوبيا والآخر من اندونيسيا . كانا مثلى من العلماء المضطهدين ، وحصلا على اللجوء السياسى فى أمريكا . بعدها إصطحبنى المساعد الى محل لتأجير ملابس السهرة ( التاكسيدو ) وبسرعة أخذ الشخص مقاسى ، وحتى مقاس القدم .وبعدها وصلت على الفندق بدلة تاكسيدو وحذاء . ورأيت نفسى فى المرآة كأنى كمال الشناوى .!!. قبيل الدخول الى قاعة الحفل شرح لنا المساعد الاتيكيت والتفاصيل. إنه حفل لجمع التبرعات من أثرى أثرياء أمريكا لصالح منظمة إنقاذ العلماء المضطهدين . وقد رتبوا لكل منا مقعدا فى مائدة . وعلى المائدة التى سأجلس عليها كان يجاورنى ( أحمد شلبى ) الذى كان رئيسا للعراق ، ثم إبنته ، ثم مذيعة أمريكية شقراء فى قناة فوكس ، كانت خريجة الجامعة الأمريكية فى القاهرة . وشخصيات أخرى لا أتذكرها الآن . إندمجت فى الحديث مع المذيعة ، وصرنا أصدقاء ، وقد ساعدتنى فيما بعد فى تنقيح ( Editing) بعض أبحاثى الانجليزية . ولكن أحمد شلبى كان مبتسما ومتحفظا فى الحديث . جاء دورى فى الحديث لمدة خمس دقائق أمام حشد البليونيرات ، وتحدثت . وانتهى الحفل بعشاء فاخر . وبعده رجعت بالقطار الى حيث كنت أقيم فى صالة شقة متواضعة يستأجرها عامل مصرى مهاجر . فارق هائل بين هذا وذاك .
3 ـ عرفت فيما بعد أن تلك المنظمة الخيرية متخصصة فى إنقاذ العلماء الذين يتعرضون للخطر فى بلادهم ، تستقدمهم الى أى بلد فى الغرب ، وتبحث لهم عن وظائف فى وطنهم الجديد ، وإن كانوا فى السجن ترفع قضيتهم فى الاعلام ، و تظل الى جانبهم . وقد بدأت المنظمة عملها بإنقاذ العلماء اليهود وقت حكم النازى فى ألمانيا ، وإستمروا . ومعظم زبائنهم من العالم ( الاسلامى والعربى ) . الذى أذهلنى أنها منظمة يقوم عليها يهود أمريكان ..!!
4 ـ أزالت هذه المنظمة النبيلة ما تبقى من غشاوة فى عينى . كنت منبهرا بنبل المحامى ايرفنج ، وهو يهودى أمريكى ، وكان يتولى قضيتى فى اللجوء ، وزوجته فرجينيا تماثله فى النبل ( شفاهما الله جل وعلا ). وكان الشيطان يوسوس لى بأنها حالة فردية . هو شيطان الحنجورى . بعد كل هؤلاء الناس فى هذه المنظمة كان لا بد أن أتخلص من تأثير الحنجورى .
ثانيا :
1 ـ بعد الحصول على اللجوء قدمت بمساعدة المحامى ايرفنج طلبا بأن تلحق بى زوجتى وأبنائى الذين تقل أعمارهم عن 21 عاما . جاءت الموافقة أولا على زوجتى واصغر أبنائى . فى نفس الوقت حصلت على منحة لمدة عام فى جامعة هارفارد فبعثت لزوجتى أن تسارع بالمجىء ومعها ( منير ) ابنى الأصغر . جاءا يوم 21 مايو 2003 . كان هذا وقت عيد ميلاد زواجنا الخامس والعشرين .
2 ـ سافرنا الى بوسطن حيث كنت قد إستأجرت طابقا فى منزل . ولم أكن أعرف شيئا فى مدينة بوسطن . إستلمت عملى فى هارفارد ، وكان زميل لى شاب ذو ملامح شرق أوسطية . عرفت أنه إسرائيلى ، كان أبوه من دمشق . لم تكن هناك أى حساسية بيننا فى التعامل . سألته إن كان يعرف مكانا نشترى به سريرين لأننا كنا نبات على الأرض فى الشقة . وعد بأن يحضر الينا سريرين ، وسأل عن العنوان فأعطيته .
3 ـ قلت لزوجتى الموضوع فإرتاعت ، وصرخت : ( كيف تعطيه العنوان . إنه إسرائيلى وسيأتى ليقتلنا ) . لم تفلح كل وسائل التهدئة معها . كانت تنتفض رعبا من قدوم هذا الاسرائيلى . فى الموعد المحدد بالضبط كان يدق الباب ، ومعه زميل له يحمل إسما يهوديا . تركا السريرين أمام المنزل ، وإستأذنا فى حملهما . عرضت المساعدة فأبيا تماما . زوجتى عندما علمت بقدومهما أغلقت عليها باب حجرة رعبا وخوفا . قام الإثنان بحمل أجزاء السريرين وأنواع أخرى إضافية من الأثاث . واذكر أن السلم كان ضيقا متعرجا أتعبهما فى الصعود بما يحملان . ورفضا بكل إصرار أن أساعدهما ،وقاما بتركيب السريرين وبقية الأثاث ، ورفضا البقاء لتناول الشاى . وغادرا وأنا منبهر بنبلهما .. ذهبت الى زوجتى فلم تخرج ألا بعد أن تأكدت من مغادرتهما . رأت حجرتين تم تأثيثهما ، فسكتت فى خجل ، وكان نبلهما مفاجأة كبرى بالنسبة لها .
4 ـ دعوت الله جل وعلا أن يجزيهما عنى خير الجزاء ..
ثالثا :
1 ـ أنتهت سنة العمل فى هارفارد . بحثت عن عمل فيها إستاذا فى مجالى . فوجئت بأن هناك وظائف لمدرسين فى الاسلاميات . ولكن المنح الخاصة بها آتية من دول الخليج . أى لا سبيل لى ، هكذا قيل لى . يأستُ فعدت أدراجى الى ولاية ( فيرجينيا ) ومعى زوجتى وأبنائى الثلاثة الصغار ( وقتها ) .
2 ـ بعدها تعرفت بصديقى تشارلز جيكوب أحد الناشطين اليهود فى حقوق الانسان ، وكونت معه ومع صديق مسيحى استاذ فى جامعة بوسطن منظمة ( مواطنون من أجل السلام والتسامح ) ( Citizen for peace and tolerance ) .
3 ـ تشارلز جيكوب ابهرنى بكرم أخلاقه . كان يدعونى لأتكلم عن الاسلام من وجهة نظرى لأؤكد أن الوهابية قد إختطفت الاسلام . كان هذا مهما جدا بالنسبة لى ، وكان وجودى كمفكر مسلم تعرض للإضطهاد بسبب دعوته للإصلاح أكبر دليل على أن أولئك المتطرفين لا يمثلون الاسلام .
4 ـ بمساعدة صديقى تشارلز جيكوب تكلمت فى وسائل الاعلام فى بوسطن من صحف ومحطات تليفزيون ، وحققت شهرة هناك لم أكن أحظى بها عندما كنت فى هارفارد . تكلمت فى معبد يهودى فى بوسطن ، تجاوز الحضور رقم الألف شخص . لم أر فى حياتى مثل هذا الترحيب . كانوا يقفون وهم يصفقون تأثرا . قارنت بين الذل الذى عشته فى مصر والتكريم الذى ألقاه بينهم . ودمعت عيناى تأثرا . بعد إلقاء الخطاب إلتفوا حولى ، بعضهم يريد التبرع . قابلت كرمهم بالخجل ، فلم تكن لى خبرة فى هذا ، ولم أكن قد اسست المركز العالمى للقرآن بعدُ . كنت أعتذر شاكرا . وكنت أدعو الله جل وعلا أن يجزيهم عنى خير الجزاء .
5 ـ دعانى صديقى تشارلز جيكوب لإلقاء دروس بين الشبيبة اليهودية فى بوسطن . صحبت معى زوجتى ، وأقمنا عنده فى البيت وتعرفت زوجتى بالسيدة زوجته ، وأمها كانت من ضحايا سجون النازى . وكان تأثرنا عظيما بكرم أخلاقهما . وبهذا تخلصت زوجتى تماما من تأثير الحنجورى ، خصوصا بعد أن تعرفت على أيرفنج وزوجته .
6 ـ زارنى صديقى تشارلز جيكون فى الشقة التى كنت أقيم فيها بعد مجىء بقية أبنائى ، وحجز غرفة فى فندق هيلتون المقابل لنا . وأصبح صديقا للعائلة . الحديث عن تشارلز جيكوب مُتعة . وأفضاله علينا كثيرة . ولستُ ممّن يجحد الفضل .
رابعا :
1 ـ فى أنشطتى السياسية فى واشنطن ــ فى رئاسة جورج بوش الإبن ـ تعرفت بكثيرين من السياسيين وأصحاب النفوذ . كان منهم صديق ـ أكرمه الله جل وعلا ـ كان يشغل منصبا هاما . وقدم لى مساعدات كثيرة . دعانى الى مكتبه فرايت خطورة منصبه من مجرد التفتيش والحراسة . كنت أستريح فى الحديث معه ، وكانت لنا جلسات مع بقية الأصدقاء . دعوته الى عشاء فى بيتى ليجرب الطعام المصرى . أعجبه ( المحشى ) ، وظل بعدها يحمل الإمتنان لزوجتى ويشيد بكرمها ، وفى جلسات الأصدقاء يقول : إنها طبخت له بنفسها . .
2 ـ آه .. نسيت أن أقول إنه أيضا يهودى ، من نبلاء اليهود الذين شرفت بمعرفتهم .
3 ـ القائمة تطول . والعامل المشترك أن أولئك النبلاء يتصرفون تلقائيا بهذا النبل ، لا يريدون من احد جزاءا ولا شكورا .
4 ـ هم على نفس طريقة صديقى ايرفنج المحامى ـ شفاه الله جل وعلا ـ والذى يضم عائلة له ممن ساعدهم فى الحصول على اللجوء السياسى ، منهم العربى المسلم ومنهم البوذى ومنهم المسيحى ومنهم الأفريقى .. وقد جعلهم جميعا إسرته ، يدعوهم الى بيته وفى المناسبات التى يقيمها هو زوجته .
أخيرا :
1 ـ هذه القائمة من النبلاء اليهود الأمريكيين لهم نفس الدين الذى أؤمن به : دين السلام والحرية والعدل وكرامة الانسان .
2 ـ هذه القائمة من النبلاء اليهود أزالت غشاوة الحنجورى من عندى ومن عند زوجتى .
3 ـ لماذا لا تصل الأصوات الفلسطينية المعتدلة الى هؤلاء النبلاء من اليهود الأمريكان ؟ لكن على الفلسطينيين أن يتخلصوا ـ اولا ـ من الحنجورى ..
2 ـ فما هو الحنجورى .؟