رحلتى الى اسرائيل وفلسطين ( 4 ) : نُصحا لاسرائيل :

آحمد صبحي منصور في الأحد ٠١ - أبريل - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

رحلتى الى اسرائيل وفلسطين ( 4 ) : نُصحا لاسرائيل :

مقدمة :

1 ـ السيارة المستأجرة من مطار تل أبيب كانت ال ( جى بى إس ) فيها تعمل بكفاءة . حين دخلنا الى الطريق المؤدى الى نابلس توقفت ، وجاء صوت ال ( بى جى إس ) يحذر من دخول أماكن خطرة على حياة الاسرائيليين تقصد الضفة الغربية ونابلس، ثم رأينا لافتة تؤكد هذا التحذير . فيما بعد سمعت من شخص فلسطينى يتكلم فى أسى عن شاب إسرائيلى ضل الطريق فدخل فلسطين ، ولم يعثروا عليه ، قتله الفلسطينيون . هذا شاب تائه يجب ـ إسلاميا ـ إستضافته وإكرامه لأنه فى شريعة القرآن الكريم ( إبن سبيل ) . ولكن حدث العكس . قتلوه وأخفوا جثته . وربما إعتبروا هذا شرعا دينيا طبقا للدين الوهابى السنى . وهذا بتأثير الحرب الفكرية التى نشرتها حماس وغيرها .  

2 ـ والدتى يرحمها الله جل وعلا بعد أن زارتنى فى أمريكا ، تعرفت بالصديق العزيز ايرفنج سبستبرج المحامى اليهودى وزوجته ، وهما من أقرب الناس الينا ، وقد وقفا الى جانبى حين جئت هاربا الى أمريكا ، ولا يزالان من أنبل من عرفت فى حيانى ، وقد عينته رئيس مجلس إدارة المركز العالمى للقرآن الكريم ـ إعترافا بفضله . رجعت والدتى الى مصر مبهورة بما رأت فى أمريكا . كانت تحكى لسيدة مصرية عما رأته ، ثم ذكرت المحامى ايرفنج وقالت إنه يهودى فذعرت السيدة المصرية ..  هذا الذعر المفاجىء هو نتيجة للحرب الفكرية التى نشرها حكم العسكر فى مصر منذ الخمسينيات ، وقد شبّ عليهم المصريون ، وتأثرت به شخصيا ، حتى بدأت التحرر من الأصنام الفكرية الدينية والسياسية .

3 ـ على الجانب الآخر فإن الإسرائيليين قد تجذّرت فيهم معضلة الأمن والخوف من العرب لأسباب تكمن فى الشخصية الاسرائيلية منذ عهود الاضطهاد القديم من مصر الى بابل الى الرومان والمسلمين فى عصور الخلفاء واوربا ، ثم بعد تأسيس دولتهم اضافوا الى هذا فى العصر الراهن الفلسطينيين.

4 ـ لسنا هنا فى جدل من هو صاحب الحق فى الأرض . هو جدل لا فائدة منه فقد تأسست دولة اسرائيل بالقانون الدولى وبقرارت الأمم المتحدة ، وهى الآن أقوى دولة فى المنطقة ، يسترضيها قادة العرب . وفى السياسة ليس مجديا الحديث عن الأخلاق لأن السياسة هى فن التعامل مع الواقع لتحقيق المصلحة . وبهذا نقدم النُصح لإسرائيل ، أن مصلحتها تكمن فى ( مُصالحة ) الفلسطينيين أى تلتقى ( مصلحتهم ) مع ( مصلحة جيرانهم الفلسطينين ) . لا أقصد الحكام فى الضفة وغزة ، ولكن أقصد الشعب الفلسطينى أو الفرد الفلسطينى العادى ، وهو له حقوق إنسانية وسياسية يجب أن يحصل عليها بالتساوى مع الفرد الاسرائيلى ـ بغض النظر عن شكل الدولة التى يعيش فيها ، هل هى دولة تجمع اسرائيل وفلسطين بإتحاد فيدرالى أو كونفيدالى ، أو دولة فلسطينية مستقلة تساعد اسرائيل على قيامها ، مُدركة أن هذا يصب فى مصلحتها قبل كل شىء .

5 ـ هذا الحديث لن يعجب القادة الفلسطينيين من حماس ودحلان وعباس ، فقد تضخمت ثرواتهم من المتاجرة بدماء الفلسطينيين ومعاناتهم ، وحماس ــ الآن ــ لا تزال تتاجر بدماء الفلسطينيين ، هى الآن ـ وبالحرب الفكرية التى سيطرت بها عليهم ــ تُلقى بالشباب الفلسطينى نحو الحدود الاسرائيلية ، لتُرغم إسرائيل على الدفاع عن حدودها ، وينتهى الأمر كالعادة الى لا شىء ، وتضيع دماء الفلسطينيين هدرا . مصلحة القيادات الفلسطينية من عباس الى دحلان وحماس لا يمكن أن تلتقى مع مصلحة الفرد الفلسطينى العادى ولا مصلحة الشعب الفلسطينى . لو كانت هذه القيادات أمينة ووطنية وأفضل لعرب إسرائيل من القيادة الاسرائيلية لهرع عرب فلسطين تاركين اسرائيل الى الضفة والقطاع ، ولكن عرب اسرائيل من عام 1948 يتمتعون بوضع أفضل من كل العرب الذين يتحكم فيهم مستبدون ، وليس قادة فلسطين أقل منهم فسادا وطغيانا .

6 ـ هذا الحديث لن يعجب أيضا الصقور من المتشددين الاسرائيليين الذين تعميهم القوة الاسرائيلية الراهنة عن رؤية المستقبل لأولادهم وذرياتهم .

7 ـ من أجل الطفل الفلسطينى والطفل الاسرائيلى وحرصا على أن يعيش هذا وذاك فى بيئة آمنة أقدم هذا النُّصح لاسرائيل ، ثم فيما بعد للفلسطينيين .

أولا : حاليا : إسرائيل الأقوى عسكريا ..والأفقر فى الحرب الفكرية

اسرائيل الآن هى الأقوى عسكريا بجيشها ومخابراتها واسلحتها ، ومع أنها فى حالة حرب منذ تأسيسها فإن هذه الحرب لم تؤثر على تمسكها بالديمقراطية فلم تلجأ الى أى إجراءات إستثنائية ، ولم تؤثر هذه الحرب على تقدمها المضطرد إقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا . ولكنها أثرت سلبيا فى ناحية أهم هى طريقة معاملتها للفلسطينيين . إعتبرتهم عدوا خالدا لا تتعامل معه إلا بالحرب اللوجيستية ، واهملت تماما الحرب الفكرية ، هذا مع أن :

1 ـ : اليهود هم أساتذة الحرب الفكرية فى العالم ، هم سادة الاعلام والانتاج الدرامى .

2 : الحرب الفكرية هى الأبقى والأقوى أثرا والأرخص تكلفة . الحرب اللوجيستية هى مواجهة حربية بين جيشين يريد كل منهما القضاء لوجيستيا على الآخر لأنه عدو . الحرب الفكرية تركز على التأثير على الشخص ، قد يكون محايدا فتحوله الى صديق ، وقد يكون عدوا فتحوله الى محايد ، ولكن فى كل الأوقات هى حرب عقلية تتوجه بالأساس الى المخ تقنعه وتؤثر فيه وتسيطر عليه . الرصاصة التى تطلق فى الحرب اللوجيستية تنفد ولكن الكلمة فى الحرب الفكرية لا تنفد وتظل باقية التأثير ما بقى فى الناس من يقرأ ومن يسمع ومن يشاهد .

3 ـ بتقدم وسائل الاتصال وثقافة الانترنت أصبحت الحرب الفكرية هى الأكثر شيوعا والأسهل وصولا لجميع الناس .

4 ـ العرب فى فشلهم العسكرى يجيدون إستخدام الحرب الفكرية ضد إسرائيل ، واشدها فتكا إستخدام الدين الوهابى السلفى فى هذه الحرب الفكرية . وبها إنتشرت العمليات الانتحارية وعقيدة القضاء التام على الاسرائيليين . وبهذا تحولت الحرب الفكرية من غرضها الأسمى وهو حقن دم الخصم وتحويله الى محايد أو صديق الى أن تقتل نفسك لتقتل معك الأبرياء عشوائيا بزعم أن الحور العين تنتظرك بالأحضان .

5 ــ بهذه الحرب الفكرية يتجول الشباب المتأثر بها كقنابل موقوتة قابلة للإنفجار فى أى وقت وفى أى مكان . فى لحظة ما يمكن للمسلم العادى أن يكون متدينا ، ثم فى لحظة أخرى يتحول هذا المتدين الى إرهابى يسعى الى الجنة ـ بزعمهم ـ بقتل المارة فى الشوارع وفى وسائل المواصلات وفى دور العبادة ودور السينما وصالات الترفيه . هذه التحولات لا يمكن لأى جهاز مخابرات أن يعرفها .  أخبارهم تشغل العالم دليلا ساحقا على نجاح تلك الحرب الفكرية ضد الغرب وضد إسرائيل . من المستحيل على القوة المسلحة أن تهزم من صمم على أن يكون إنتحاريا . ولكن من السهل أن تنقذه وتنقذ ضحاياه بالحرب النفسية ، أى تقنعه من داخل ثقافته الدينية أن ما سيفعله يجعله كافرا وعدوا لله جل وعلا ورسوله .

ثالثا : ماذا عن المستقبل : لو بقيت السياسة الاسرائيلية على ما هى عليه

1 ـ لو بقيت إسرائيل فى إعتماد تام على القوة العسكرية وإهمال تام للحرب الفكرية فإنها تجهز الجيل القادم أو الآجيال القادمة من الاسرائليين الى هولوكوست يهون الى جانبه الهولوكوست الذى إقترفه السفاح المجنون الملعون هتلر . الفارق أن هذا السفاح المجنون الملعون لم يكن عنده مبرر لحرق ملايين الأبرياء اليهود بأطفالهم ونسائهم ، أما الهولوكوست القادم ـ الذى ندعو الله جل وعلا ألا يحدث ــ فسيكون له تبرير هو إستمرار إسرائيل فى سياستها المعادية للفلسطينيين دون أدنى محاولة للتقرب اليهم وكسب ودهم .

2 ـ المستقبل القادم يحمل أنباء سيئة لاسرائيل إذا ظلت على سياستها المعادية للفلسطينيين .

2 / 1 : إسرائيل الآن هى الأقوى عسكريا وتكنولوجيا ، والفجوة هائلة بينها وبين العرب عسكريا . ولكن هذه الفجوة منتظر أن تتقلص فى عصر التبادل السريع للعلم والتكنولوجيا ، والتطور السريع فى أسلحة الدمار الشامل ، وسهولة الحصول على أنواع مبسطة من السلاح النووى . فى مناخ الشحن المتبادل للكراهية بين الجانبين من يضمن سلامة إسرائيل ــ فى المستقبل القريب ــ من عمل حربى يفتك بالملايين من سكانها ؟

2 / 2 : إسرائيل الآن بضعة ( ملايين ) فى مواجهة بضعة ( المئات من الملايين ) العرب . يظل التزايد السكانى الاسرائيلى محدودا ، بينما يتزايد العرب بسرعة . فى المستقبل ستبتلع الزيادة العربية سكان اسرائيل . فى مناخ الشحن للكراهية بين الجانبين تخيل وصول هذه الكثافة السكانية الى قوة عسكرية .!

2 / 3 : تعاقب على هذه الأرض المقدسة إحتلالات شتى ، قبل وبعد الغزو والاحتلال العربى ، كل منهم ظل فترة زمنية ثم رحل ، وفى دخوله وفى بقائه وفى رحيله انتشرت حمامات الدم . لا فارق بين البابليين والفرس والروم والعرب والسلاجقة والأيوبيين والمماليك والصليبيين والعثمانيين والانجليز . السمة العامة وقتها فى السلاح المستعمل ، وكان فى أغلبه سلاحا فرديا ، يقتل فيه الفرد أفرادا . الوضع مختلف الآن مع الأسلحة الحديثة المتخصصة فى الدمار الشامل ، وقد تكون بعيدة الآن عن متناول الفلسطينيين ، ولكن ماذا عن الغد القريب ؟ وفى مناخ الشحن للكراهية بين الجانبين ماذا سيكون عليه الوضع بالنسبة لسكان إسرائيل ، خصوصا مع الحرب الفكرية الوهابية التى تحرّض على العمليات الانتحارية ؟ وخصوصا مع ثقافة حماس وأخواتها والتى تستهين بالحياة الانسانية الفلسطينية ولا تأبه بها ، وتتاجر بها فى سبيل مكاسب سياسية وإقتصادية ؟ .

رابعا : لا بد من تغيير السياسة الاسرائيلية بأن تكسب الفلسطيننين الى جانبها

1 / أثبتت الحوادث بين حماس وإسرائيل أن اسرائيل أحرص على حياة الفلسطينيين من حماس . حماس تضرب ثم تختفى فى عُمق التكاثف السكانى فى غزة وفى المستشفيات والمساجد والبنايات المكتظة بالسكان ، وهى تعتنق المبدأ السلفى بالتترس ، بينما تبذل إسرائيل جهدها وتفوقها النوعى فى تتبع الجُناة فقط . وقد تعرضنا لهذا من قبل . وهذا يمثل فارقا بين المبدأ الاسرائيلى الغربى الذى يحترم الحياة الانسانية ( ليس فى اسرائيل عقوبة الاعدام مع وجودها فى التوراة ) وبين المبدأ الوهابى السلفى فى سلب حق الحياة . وهناك إيجابيات كثيرة فى التعامل الاسرائيلى مع العرب الاسرائيليين فى الداخل . وهى عظيمة بالمقارنة بوضع الشعوب العربية تحت قهر المستبد العربى والفسلطينيين فى الضفة والقطاع . ولكنها تظل قاصرة بالمقارنة بوضع الاسرائيلى فى اسرائيل ووضع حقوق الانسان فى الغرب . بالتالى لا بد من تغيير السياسة الاسرائيلية فى التعامل مع الفلسطينيين ، وهذا يتم بطريقين متلازمين :

1/ 2  ـ وقف الاستيطان فى الأراضى الفلسطينية ليس فقط إمتثالا للقرارات الدولية ولكن أيضا تحببا وتقربا للفلسطينيين ، مع حزمة من القوانين والقرارات الإدارية التى تعطى الفلسطينيين الحق فى الزيارة وفى بناء مساكنهم على أراضيهم التى يمتلكونها بدون تعقيدات ، شأن أى مواطن إسرائيلى ، وأن يتمتع الفرد الفلسطينى بكافة الحقوق التى يتمتع بها قرينه الاسرائيلى ، بحيث يرى الفلسطينى أمنه وحقوقه مُصانة مع السلطة الإسرائلية ، وليس مع السلطة الفلسطينية.

1 / 2  ـ شن الحرب الفكرية العقلية الى تتقرب الى العقل الفلسطينى بمختلف وسائل الاعلام ، لتجتذبه صديقا ، ولتمحو آثار الحرب الفكرية السلفية التى تحوله الى قنبلة موقوتة قابلة للإنفجار فى أى وقت .

2 ـ هذه الحرب الفكرية تستلزم وقتا . كان يجب أن تبدأ من عقود ، ولكن المهم أن تبدأ من الآن حفظا لحق الحياة لأطفال فلسطين وإسرائيل على السواء .

أخيرا

ليس مهما عندى على الاطلاق إرضاء هذا الطرف أو ذاك . الذى يهمنى هو حق الحياة وقيم السلام والعدل والحرية وكرامة الانسان ، والتى هى قيم إسلامية محضة ، فقد أرسل الله جل وعلا رسوله بالقرآن الكريم رحمة للعالمين ( 21 / 107 ) وليس لقتل العالمين . 

اجمالي القراءات 8710