فكرة الاقتصاد الإسلامي هي فكرة فقهية بالأساس وليست دينية
يعني إيه؟
يعني قائمة على اجتهادات الشيوخ وليست على نصوص صريحة وقاطعة تنظيم عمل الاقتصاد، هذه هي المشكلة الأساسية التي واجهت كل النُظُم الإسلامية السياسية حين تناولت موضوع الاقتصاد
بمعنى إن فتاوى الشيوخ هي من تحدد عمل الدولة المالي، وبالتالي خرجت فكرة الاقتصاد من مبدأ (التكنوقراط/ التخصص) إلى مبدأ (الثيوقراط/ الحكم المقدس) ولكي نفهم ماذا يعني اقتصاد إسلامي يجب أن نعرف أولا قوائم وأعمدة هذا الاقتصاد، فهو مبدئيا قائم على خمسة مبادئ:
1- زكاة الأموال : وهي فرض إسلامي باستقطاع 2،5% من أصل المال الذي مر عليه عام.
2- الخراج: وهي ضريبة الأراضي بمعنى إن لو عندك فدان تدفع عنه خراجا سنويا أقل فيما لو عندك فدانين.
3- الجزية: وهي ضريبة يدفعها أهل الكتاب من اليهود والمسيحيين
4- ضريبة الزروع والثمار: وتعني استقطاع من 5 : 10% من المحصول حسب طريقة زراعته وريه بالماء، أي النسبة بين التكلفة والربح.
5- منع الفوائد على القروض: طبقا لمبدأ فقهي يقول.." كل قرض جر نفع فهو ربا"..لكن بعد ظهور البنوك واجه هذا المبدأ أزمة في (فوائد الإيداع) لأن فكرة وجود كيان يعطي فائدة مزدوجة على القرض والإيداع لم تكن موجودة عند سلف المسلمين، لذلك عندما اجتهد فقهاء اليوم في فهم البنوك لم يجدوا نصوص أو مبادئ قديمة تحرمها فاعتمدوا على المبدأ الوحيد الذي بحوزتهم وهو تحريم فائدة القروض..ولأن الدليل معدوم احتار الفقهاء واختلفوا حتى انشقوا بين محلل ومحرم لعمل البنوك.
هذه خمسة مبادئ تحكم الاقتصاد الإسلامي، ومن الوهلة الأولى يتبين أنها تمثل فقط (قطاع الموارد) وهو قطاع واحد من خمسة قطاعات تشكل أعمدة الاقتصاد الحديث مع الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات، كذلك يتبين أن أكثرها فقهي، فثلاثة منها هي من عمل الفقهاء وهي (الخراج- منع الفوائد – ضريبة الزروع والثمار) الباقي هي الجزية والزكاة منصوص عليها قرآنيا كمفاهيم عامة إنما تفاصيلها أيضا عند الفقهاء، وبالتالي يتأكد بشكل قاطع أن مبادئ هذا النوع من الاقتصاد هي من عمل الشيوخ.
لكن وبعد ظهور الاقتصاد الحديث وتطوره في القرن 19 حدثت صدمة لهؤلاء الشيوخ ، فلأول مرة يجدوا نظامهم مهدد من نظام مالي مختلف تماما عن ما ألفوه وعاشوا عليه قرون، فمفاهيم كالتضخم والإيداع واقتصاد السوق والعملات الورقية والألكترونية والبورصات والإدارة المالية والفيزا كارد ونُظُم المحاسبة والإنتاج والعمل..كل هذه مفاهيم حديثة ذات مضامين حديثة لم يعرفها الأقدمون، وعندما اصطدم الفقهاء بها بحثوا عن أدلة ومبادئ قديمة لفهمها لم يجدوا فاضطروا إلى تحريمها جملة في بداية ظهورها، وعندما فرضت هذه الأشياء نفسها اضطروا إلى الفتوى بإجازتها بشروط حتى أجازوها جملة.
لكن بقي المبدأ الذي يحركهم في تناول الاقتصاد الحديث هو (منع الربا) فاختصروا كل جوانب الاقتصاد في الربا دون النظر لجوانبه الأخرى كحقوق التملك والعمل والإنتاج والعدالة الاجتماعية..إلخ، وهذا هو السبب أن كل من طبق الاقتصاد الإسلامي في العصر الحديث كسر تلك الحقوق أو بعضها مما أفشل الحكومات الإسلامية وجعلوها في مواجهة مع الشعب الفقير الجائع، ولنا في نموذج السودان الآن عبرة..فنظام السودان الإسلامي مهدد بالثورة جراء ارتفاع أسعار الخبز مؤخرا وانهيار العملة المحلية، مما حدا بالمعارضة لتنظيم مظاهرات الأسبوع الماضي ومظاهرات أخرى في 31 يناير القادم.
كذلك فتقرير مبدأ الجزية في الاقتصاد الإسلامي واعتباره موردا هو تقرير (العنصرية) في الدولة مما يتعارض مع طبيعة الدولة الحديثة القائمة على المواطنة والحق الطبيعي، وهذه مشكلة أيضا واجهت الدولة المحكمة للشريعة، فإجبار المواطن على دفع أموال للدولة بناء على دينه أو عرقه وجنسه ضد مواثيق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان مما يستدعي بمطبقي هذا النوع من السلوك للعقوبات الدولية ، ولعوامل أخرى في تطلع وانفتاح الشباب والتواصل الاجتماعي أصبحت الفكرة حمقاء لا تليق بمبدأ العدالة الاجتماعية الذي يمثل هدفا أعلى وغاية أسمى لتحكيم الشريعة.
صحيح بقيت الجزية لأوائل القرن العشرين في بعض البلدان لكنها اختفت الآن تماما بفضل انهيار الخلافة العثمانية التي حرصت على تطبيقها لقرون ثم التخلص منها تدريجيا أواخر القرن 19 وبفضل ضغوط دولية من بريطانيا وفرنسا على الباب العالي، كذلك فالجزية مبدأ اقتصادي قديم ذو لمحة عسكرية عرفه الرومان والفرس وفرضوه على غيرهم من الشعوب المهزومة، ولم تشفع تبريرات الفقهاء في بقائها كقولهم أنها فرض نظير الحماية، وفي المعتقد الشعبي يُعرف هذا السلوك (بالإتاوة) وهو جمع أموال نظير الحماية ، وقد لخصها الأديب العالمي نجيب محفوظ في الثلاثية بأعراف الحارة الشعبية وفرض (الفتوات/ البلطجية) هيمنتهم بجمع الإتاوة من الناس على نفس المبدأ..
أي أن مبدأ الجزية بالأصل عسكري وليس مدني ويفرض على الجنود المهزومة بعد الحرب نظير الأمان، ولا علاقة للمدنيين به..بدليل أن المرة الوحيدة التي ذكرت فيها الجزية كانت مقرونة بالحرب في قوله تعالى.." قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".. [التوبة : 29] والخطاب تخصيص لجماعة من أهل الكتاب حاربت المسلمين في فترة نشوء دولة الرسول فاستحقوا هذه الجزية كعرف تاريخي عام شائع هذا الزمان لم ينفرد المسلمون به، وأما اعتبار الجزية أصل مبدأ في الاقتصاد الإسلامي فهو من الكوارث الفقهية الإسلامية الناتجة عن توقف الاجتهاد وسيطرة ثلة من الجهال والمقلدين على عقول ومجتمعات المسلمين.
أود أن أسجل هنا دافع من دوافع شهرة مفهوم.."الاقتصاد الإسلامي".وهو أنه خرج في عز نشوب الحرب الباردة بين الغرب والشرق، وقد كان الجانب الاقتصادي مميزا لهذه الحرب بين الرأسمالية والاشتراكية، وكان ظهور المصطلح في هذا الزمن ليخير المسلمين ويفتح لهم طريقا ثالثا يمنحهم الاستقلالية الفكرية التي شاعت في زمن عبدالناصر، أي أن فكرة الاقتصاد الإسلامي استفادت من الصراع الأمريكي الروسي، ومن حقبة عبدالناصر المستقلة بشكل كبير، ومن قيم أخرى كالربط بين العروبة والإسلام والحروب الأهلية والمجاعات والأزمات التي تعرضت لها الشعوب المستعمَرة في آسيا وأمريكا اللاتينية.
ويمكن اعتبار تجربة شركات توظيف الأموال في مصر أواخر السبعينات هي أول تطبيق حقيقي لفكرة الاقتصاد الإسلامي، حتى بعد فشلها لم يتعظ مروّجي هذه الفكرة وظلّوا ينادون لنفس المبدأ وتبرير فشل توظيف الأموال (بخطأ التطبيق) أي أن العيب لم يكن في النظرية حسب رأيهم إنما في تطبيق أصحاب تلك الشركات.
لقد أوهم أصحاب تلك الشركات أن الرخاء سيسود وتقل الفجوة بين الأغنياء والفقراء بتطبيق الشريعة، فإذا وبعد 10 سنوات من التجربة زادت الفجوة وخسرت الشركات وسجن أصحابها بتهمة النصب، متناسين أن تقاسم الأرباح كان يفرض عليهم الاهتمام بقطاع الإنتاج والتجارة كطبيعة تحدد عملهم ضمن هذه الشركات، لكنهم أهملوها واهتموا فقط بقطاع الموارد الذي يمثل العنصر الأوحد في الاقتصاد الإسلامي، وبعد أن اهتموا فقط بالموارد أصبحوا مجرد أوعية تجمع المال بلا تصريف يحقق مبدأ تقاسم الأرباح بالعدل وبالتالي زيادة رأس المال.
لم تقف الدعوة للاقتصاد الإسلامي فقط على فقهاء السنة بل نادى بها أيضا فقهاء الشيعة كمرتضى مطهري وباقر الصدر، وقد اطلعت على كتاب فلسفتنا لباقر الصدر الذي تعرض فيها للاقتصاد الإسلامي وجدته متأثرا بالفكرة التي سقتها منذ قليل وهي (الطريق الثالث بين الرأسمالية والاشتراكية) وهي فكرة براقة لها لمعان في النفس لكن الصدر لم يراع تطبيقها لافتقار فلسفة الفقهاء والمراجع للأدلة العقلية والتاريخية للاقتصاد الإسلامي، فكلما اجتهدوا في تحصيل أمر ما وجدوا تشابها بينه وبين الرأسمالية والاشتراكية فيعيدون النظر فيه..وهكذا حتى خرج منتجهم في الأخير (مسخ مشوّه) لا علاقة له بالاقتصاد ولا بالإسلام.
تحاورت قديما مع صديق وقال أن تجربة الاقتصاد الإسلامي الإيراني ناجحة، قلت أن الكلمة نفسها غير علمية (تجربة الاقتصاد الإسلامي) فالحقيقة أنت لم تجرب شئ بل استوردت أفكار وتجارب الأمم الأخرى، وما حدث في إيران كانت له جذور من عهد الشاه في مؤسسة.."بونياد"..العتيقة التي أحسبها الأصل الأول في تنمية وقوة الاقتصاد هناك، علاوة على قوة قطاع الموارد الإيراني في النفط والغاز، علاوة أن الشعب الفارسي نفسه متحضر ولم يستهلك في صراعات واستعمار كما حدث للمصريين والعرب مثلا، فالفرس متقدمين حضاريا وصناعيا وتجاريا منذ زمن طويل.
أشير إلى أن هناك سلوكيات أخرى تحكم الاقتصاد الإسلامي المرتبط بالشريعة لكنها لا تمثل مبادئ وأطر عامة ، كتحريم القمار والخمور والزنا وبيع الغرر ونحوه، فمجتمع الشريعة لا يؤمن بالمورد المالي من تجارة الزنا أو الخمور أو القمار..أو المراهنات التي اشتهرت في الفقه الإسلامي ببيع الغرر، بخلاف بعض المجتمعات الأوربية مثلا - كفرنسا وألمانيا- التي تربح من تجارة الخمور المليارات كل عام، وهنا يتجلى اعتماد الاقتصاد الإسلامي على قطاع الموارد لا غير..وتقديري أنه اعتماد ينسف الفكرة من جذورها ويضع الكلمة عامة وهي "الاقتصاد الإسلامي" محل شك بوجود مثل الربط ونسب الإسلام للاقتصاد.
وفي دراسة لي – منذ 3 أشهر- شرحت قطاعات الاقتصاد الخمسة وهي (الموارد- الصناعة – الزراعة – التجارة – الخدمات) في مقال مفصلة بعنوان .."كيف يكون الاقتصاد قويا"..قلت أن شرط بقاء الدولة قوية أن تكون لديها الخمسة قطاعات نشطة وعاملة حتى لو ضعفت إحداها لكن مبدأ وجود الخمسة قطاعات لا يجب المساس به، بينما في الاقتصاد الإسلامي لا وجود إلا لقطاع واحد فقط مما ينسف أي دولة تحاول تطبيق مبادئه..وهو ما حدث في كل التجارب التي حدثت باسمه.
ولإثبات ذلك نسأل سؤالين:
الأول: ماذا لو ارتفع معدل التضخم كيف يمكن مواجهة ذلك بالاقتصاد الإسلامي؟
إن الجواب حاضر في الاقتصاد الحديث وهو السوق الحرة وزيادة معدل الإنتاج والسيطرة على الاحتكار وأحيانا رفع الفائدة، بينما هذه أمور لا يعرفها الفقه الإسلامي إنما يتناولها بطريقة أخلاقية كقوله تعالى.."وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"..فيجري تفسير العمل هنا أي زيادة معدل الإنتاج رغم أن العرب لم يعرفوا المصانع في زمن القرآن..إنما تتحدث الآية عن العمل الصالح، اعملوا أي كونوا صالحين.
سمعت أحدهم ذات مرة يقول أن إلغاء الفائدة – منع الربا- في الاقتصاد الإسلامي هو ما يمنع التضخم ويجعله صفر، قلت هذا غير صحيح، إلغاء الفائدة لا يعني منع التضخم..لأن الأخير لا يهتم بقيمة العملة (الكيف) إلا بعد انهيارها وعجز الدولة عن الاستيراد وتوقف المصانع ، إنما يهتم أكثر بعددها (الكمّ) بالموازنة مع السلع في السوق، كذلك فالفائدة هي المصلحة أو الوسيط والربح بين المضاربين والمتعاملين ماليا، فيحال الشبه بين الاثنين لانتفاء القياس وعدم اجتماعهما في محل واحد منطقيا، وقد سلكت مؤخرا الحكومة المصرية مسلكا مغايرا ينسف هذه الفكرة الدينية وهو برفع أسعار الفائدة للحد من التضخم الذي بلغ 30% حسب تصريحات محافظ البنك المركزي.
وتصريح البنك برفع الفائدة يقصد به تمويل البنوك وسد العجز في العملة الصعبة الذي حدث بعد انهيار العملة المحلية.. فتقل الحاجة للعملة الصعبة وبالتالي ينخفض معدل التضخم، الخطأ كان في كلام الشيخ بأن إلغاء الفائدة يعني إلغاء التضخم وهو جهل اقتصادي، إنما يمكن رفع الفائدة لتقليل التضخم وهي طريقة متبعة في دول كثيرة في حال انخفاض أو انهيار سعر العملة، هذا بغض النظر عن النتيجة التي أدى إليها قرار البنك المركزي المصري..فالاقتصاديون المصريون الآن معطلون برؤية عسكرية جامحة غير مدركة لكل أبعاد وتوازنات الاقتصاد.
السؤال الثاني: ماذا لو تبين فساد الملك أو الخليفة؟
الجواب: في الدولة الحديثة حاضر وهو عزله بالطرق القانونية أو انتخاب غيره بالطرق الديمقراطية أو بالثورة عليه بالطرق الشعبية ، أما في الفقه الإسلامي ففساد الملك لا يعني معارضته بل (طاعته) ولو ضرب ظهرك، حتى النصح الذي يسدونه للحاكم مرتبط بقبول الحاكم له وإلا سجن الناصحين فالأمر الأول والأخير له، وهذا ناتج عن صورة الخليفة المقدسة في ذهن الفقهاء التي لم تختلف منذ العصر الأموي قبل 1300 عام.
إن مروجي الاقتصاد الإسلامي لم ينتبهوا لعوامل فساد الملك وحاشيته، بل انشغلوا أكثر بالصورة الطوباوية التي بنوها عن مجتمع الشريعة، ولذلك لم ينجحوا في تخيل أو احتمال هذا الفساد الذي يهدد دولة المسلمين ، لأن فساد الملك عِوضا أنه يهدر أموال الناس ويرفع الفجوة بين الفقراء والأغنياء..هو أيضا ينسف (القدوة) التي يفترض أنه يمثلها ، فيشيع الفساد بين الشعب والسرقة التي تصبح فيه سرقة كيلو واحد من الأرز مساوٍ لمن سرق المليارات..رغم أن الأول قد يكون سرقه لسد رمقه من الجوع.
في الأخير لا يعني ذلك الفصل تماما بين القيم الدينية والاقتصاد، فالإنسان هو من يتعامل ماليا وبالتالي يجب تقييده بأخلاقيات وسلوكيات تحد من صور الفساد والإهمال وتشجعه على العمل والإنتاج وترشده لطريق العدالة ، ولو جاز لنا القول بالاقتصاد الإسلامي فهو عبارة عن قواعد أخلاقية تحكم المتعاملين سواء في ظل نظام رأسمالي أو اشتراكي أو نظام ثالث يجمع بينهما كما توصل إليه الليبراليون الاجتماعيون ومطبق الآن في أكثرية دول العالم، فالحقيقة أن الإنسان تخلص تماما الآن من الصراع الرأسمالي الاشتراكي ووصل إلى تطبيق جديد لنموذج ثالث أقرب للجمع بينهما..وهذا دليل أن البشر لم يتوصلوا بعد لنموذج ثالث منفصل يحقق الرخاء بعيدا عن التنظيرات الفارغة والغير علمية..أو حتى التي طبقت وفشلت فشلا ذريعا.
يعني إيه؟
يعني قائمة على اجتهادات الشيوخ وليست على نصوص صريحة وقاطعة تنظيم عمل الاقتصاد، هذه هي المشكلة الأساسية التي واجهت كل النُظُم الإسلامية السياسية حين تناولت موضوع الاقتصاد
بمعنى إن فتاوى الشيوخ هي من تحدد عمل الدولة المالي، وبالتالي خرجت فكرة الاقتصاد من مبدأ (التكنوقراط/ التخصص) إلى مبدأ (الثيوقراط/ الحكم المقدس) ولكي نفهم ماذا يعني اقتصاد إسلامي يجب أن نعرف أولا قوائم وأعمدة هذا الاقتصاد، فهو مبدئيا قائم على خمسة مبادئ:
1- زكاة الأموال : وهي فرض إسلامي باستقطاع 2،5% من أصل المال الذي مر عليه عام.
2- الخراج: وهي ضريبة الأراضي بمعنى إن لو عندك فدان تدفع عنه خراجا سنويا أقل فيما لو عندك فدانين.
3- الجزية: وهي ضريبة يدفعها أهل الكتاب من اليهود والمسيحيين
4- ضريبة الزروع والثمار: وتعني استقطاع من 5 : 10% من المحصول حسب طريقة زراعته وريه بالماء، أي النسبة بين التكلفة والربح.
5- منع الفوائد على القروض: طبقا لمبدأ فقهي يقول.." كل قرض جر نفع فهو ربا"..لكن بعد ظهور البنوك واجه هذا المبدأ أزمة في (فوائد الإيداع) لأن فكرة وجود كيان يعطي فائدة مزدوجة على القرض والإيداع لم تكن موجودة عند سلف المسلمين، لذلك عندما اجتهد فقهاء اليوم في فهم البنوك لم يجدوا نصوص أو مبادئ قديمة تحرمها فاعتمدوا على المبدأ الوحيد الذي بحوزتهم وهو تحريم فائدة القروض..ولأن الدليل معدوم احتار الفقهاء واختلفوا حتى انشقوا بين محلل ومحرم لعمل البنوك.
هذه خمسة مبادئ تحكم الاقتصاد الإسلامي، ومن الوهلة الأولى يتبين أنها تمثل فقط (قطاع الموارد) وهو قطاع واحد من خمسة قطاعات تشكل أعمدة الاقتصاد الحديث مع الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات، كذلك يتبين أن أكثرها فقهي، فثلاثة منها هي من عمل الفقهاء وهي (الخراج- منع الفوائد – ضريبة الزروع والثمار) الباقي هي الجزية والزكاة منصوص عليها قرآنيا كمفاهيم عامة إنما تفاصيلها أيضا عند الفقهاء، وبالتالي يتأكد بشكل قاطع أن مبادئ هذا النوع من الاقتصاد هي من عمل الشيوخ.
لكن وبعد ظهور الاقتصاد الحديث وتطوره في القرن 19 حدثت صدمة لهؤلاء الشيوخ ، فلأول مرة يجدوا نظامهم مهدد من نظام مالي مختلف تماما عن ما ألفوه وعاشوا عليه قرون، فمفاهيم كالتضخم والإيداع واقتصاد السوق والعملات الورقية والألكترونية والبورصات والإدارة المالية والفيزا كارد ونُظُم المحاسبة والإنتاج والعمل..كل هذه مفاهيم حديثة ذات مضامين حديثة لم يعرفها الأقدمون، وعندما اصطدم الفقهاء بها بحثوا عن أدلة ومبادئ قديمة لفهمها لم يجدوا فاضطروا إلى تحريمها جملة في بداية ظهورها، وعندما فرضت هذه الأشياء نفسها اضطروا إلى الفتوى بإجازتها بشروط حتى أجازوها جملة.
لكن بقي المبدأ الذي يحركهم في تناول الاقتصاد الحديث هو (منع الربا) فاختصروا كل جوانب الاقتصاد في الربا دون النظر لجوانبه الأخرى كحقوق التملك والعمل والإنتاج والعدالة الاجتماعية..إلخ، وهذا هو السبب أن كل من طبق الاقتصاد الإسلامي في العصر الحديث كسر تلك الحقوق أو بعضها مما أفشل الحكومات الإسلامية وجعلوها في مواجهة مع الشعب الفقير الجائع، ولنا في نموذج السودان الآن عبرة..فنظام السودان الإسلامي مهدد بالثورة جراء ارتفاع أسعار الخبز مؤخرا وانهيار العملة المحلية، مما حدا بالمعارضة لتنظيم مظاهرات الأسبوع الماضي ومظاهرات أخرى في 31 يناير القادم.
كذلك فتقرير مبدأ الجزية في الاقتصاد الإسلامي واعتباره موردا هو تقرير (العنصرية) في الدولة مما يتعارض مع طبيعة الدولة الحديثة القائمة على المواطنة والحق الطبيعي، وهذه مشكلة أيضا واجهت الدولة المحكمة للشريعة، فإجبار المواطن على دفع أموال للدولة بناء على دينه أو عرقه وجنسه ضد مواثيق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان مما يستدعي بمطبقي هذا النوع من السلوك للعقوبات الدولية ، ولعوامل أخرى في تطلع وانفتاح الشباب والتواصل الاجتماعي أصبحت الفكرة حمقاء لا تليق بمبدأ العدالة الاجتماعية الذي يمثل هدفا أعلى وغاية أسمى لتحكيم الشريعة.
صحيح بقيت الجزية لأوائل القرن العشرين في بعض البلدان لكنها اختفت الآن تماما بفضل انهيار الخلافة العثمانية التي حرصت على تطبيقها لقرون ثم التخلص منها تدريجيا أواخر القرن 19 وبفضل ضغوط دولية من بريطانيا وفرنسا على الباب العالي، كذلك فالجزية مبدأ اقتصادي قديم ذو لمحة عسكرية عرفه الرومان والفرس وفرضوه على غيرهم من الشعوب المهزومة، ولم تشفع تبريرات الفقهاء في بقائها كقولهم أنها فرض نظير الحماية، وفي المعتقد الشعبي يُعرف هذا السلوك (بالإتاوة) وهو جمع أموال نظير الحماية ، وقد لخصها الأديب العالمي نجيب محفوظ في الثلاثية بأعراف الحارة الشعبية وفرض (الفتوات/ البلطجية) هيمنتهم بجمع الإتاوة من الناس على نفس المبدأ..
أي أن مبدأ الجزية بالأصل عسكري وليس مدني ويفرض على الجنود المهزومة بعد الحرب نظير الأمان، ولا علاقة للمدنيين به..بدليل أن المرة الوحيدة التي ذكرت فيها الجزية كانت مقرونة بالحرب في قوله تعالى.." قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".. [التوبة : 29] والخطاب تخصيص لجماعة من أهل الكتاب حاربت المسلمين في فترة نشوء دولة الرسول فاستحقوا هذه الجزية كعرف تاريخي عام شائع هذا الزمان لم ينفرد المسلمون به، وأما اعتبار الجزية أصل مبدأ في الاقتصاد الإسلامي فهو من الكوارث الفقهية الإسلامية الناتجة عن توقف الاجتهاد وسيطرة ثلة من الجهال والمقلدين على عقول ومجتمعات المسلمين.
أود أن أسجل هنا دافع من دوافع شهرة مفهوم.."الاقتصاد الإسلامي".وهو أنه خرج في عز نشوب الحرب الباردة بين الغرب والشرق، وقد كان الجانب الاقتصادي مميزا لهذه الحرب بين الرأسمالية والاشتراكية، وكان ظهور المصطلح في هذا الزمن ليخير المسلمين ويفتح لهم طريقا ثالثا يمنحهم الاستقلالية الفكرية التي شاعت في زمن عبدالناصر، أي أن فكرة الاقتصاد الإسلامي استفادت من الصراع الأمريكي الروسي، ومن حقبة عبدالناصر المستقلة بشكل كبير، ومن قيم أخرى كالربط بين العروبة والإسلام والحروب الأهلية والمجاعات والأزمات التي تعرضت لها الشعوب المستعمَرة في آسيا وأمريكا اللاتينية.
ويمكن اعتبار تجربة شركات توظيف الأموال في مصر أواخر السبعينات هي أول تطبيق حقيقي لفكرة الاقتصاد الإسلامي، حتى بعد فشلها لم يتعظ مروّجي هذه الفكرة وظلّوا ينادون لنفس المبدأ وتبرير فشل توظيف الأموال (بخطأ التطبيق) أي أن العيب لم يكن في النظرية حسب رأيهم إنما في تطبيق أصحاب تلك الشركات.
لقد أوهم أصحاب تلك الشركات أن الرخاء سيسود وتقل الفجوة بين الأغنياء والفقراء بتطبيق الشريعة، فإذا وبعد 10 سنوات من التجربة زادت الفجوة وخسرت الشركات وسجن أصحابها بتهمة النصب، متناسين أن تقاسم الأرباح كان يفرض عليهم الاهتمام بقطاع الإنتاج والتجارة كطبيعة تحدد عملهم ضمن هذه الشركات، لكنهم أهملوها واهتموا فقط بقطاع الموارد الذي يمثل العنصر الأوحد في الاقتصاد الإسلامي، وبعد أن اهتموا فقط بالموارد أصبحوا مجرد أوعية تجمع المال بلا تصريف يحقق مبدأ تقاسم الأرباح بالعدل وبالتالي زيادة رأس المال.
لم تقف الدعوة للاقتصاد الإسلامي فقط على فقهاء السنة بل نادى بها أيضا فقهاء الشيعة كمرتضى مطهري وباقر الصدر، وقد اطلعت على كتاب فلسفتنا لباقر الصدر الذي تعرض فيها للاقتصاد الإسلامي وجدته متأثرا بالفكرة التي سقتها منذ قليل وهي (الطريق الثالث بين الرأسمالية والاشتراكية) وهي فكرة براقة لها لمعان في النفس لكن الصدر لم يراع تطبيقها لافتقار فلسفة الفقهاء والمراجع للأدلة العقلية والتاريخية للاقتصاد الإسلامي، فكلما اجتهدوا في تحصيل أمر ما وجدوا تشابها بينه وبين الرأسمالية والاشتراكية فيعيدون النظر فيه..وهكذا حتى خرج منتجهم في الأخير (مسخ مشوّه) لا علاقة له بالاقتصاد ولا بالإسلام.
تحاورت قديما مع صديق وقال أن تجربة الاقتصاد الإسلامي الإيراني ناجحة، قلت أن الكلمة نفسها غير علمية (تجربة الاقتصاد الإسلامي) فالحقيقة أنت لم تجرب شئ بل استوردت أفكار وتجارب الأمم الأخرى، وما حدث في إيران كانت له جذور من عهد الشاه في مؤسسة.."بونياد"..العتيقة التي أحسبها الأصل الأول في تنمية وقوة الاقتصاد هناك، علاوة على قوة قطاع الموارد الإيراني في النفط والغاز، علاوة أن الشعب الفارسي نفسه متحضر ولم يستهلك في صراعات واستعمار كما حدث للمصريين والعرب مثلا، فالفرس متقدمين حضاريا وصناعيا وتجاريا منذ زمن طويل.
أشير إلى أن هناك سلوكيات أخرى تحكم الاقتصاد الإسلامي المرتبط بالشريعة لكنها لا تمثل مبادئ وأطر عامة ، كتحريم القمار والخمور والزنا وبيع الغرر ونحوه، فمجتمع الشريعة لا يؤمن بالمورد المالي من تجارة الزنا أو الخمور أو القمار..أو المراهنات التي اشتهرت في الفقه الإسلامي ببيع الغرر، بخلاف بعض المجتمعات الأوربية مثلا - كفرنسا وألمانيا- التي تربح من تجارة الخمور المليارات كل عام، وهنا يتجلى اعتماد الاقتصاد الإسلامي على قطاع الموارد لا غير..وتقديري أنه اعتماد ينسف الفكرة من جذورها ويضع الكلمة عامة وهي "الاقتصاد الإسلامي" محل شك بوجود مثل الربط ونسب الإسلام للاقتصاد.
وفي دراسة لي – منذ 3 أشهر- شرحت قطاعات الاقتصاد الخمسة وهي (الموارد- الصناعة – الزراعة – التجارة – الخدمات) في مقال مفصلة بعنوان .."كيف يكون الاقتصاد قويا"..قلت أن شرط بقاء الدولة قوية أن تكون لديها الخمسة قطاعات نشطة وعاملة حتى لو ضعفت إحداها لكن مبدأ وجود الخمسة قطاعات لا يجب المساس به، بينما في الاقتصاد الإسلامي لا وجود إلا لقطاع واحد فقط مما ينسف أي دولة تحاول تطبيق مبادئه..وهو ما حدث في كل التجارب التي حدثت باسمه.
ولإثبات ذلك نسأل سؤالين:
الأول: ماذا لو ارتفع معدل التضخم كيف يمكن مواجهة ذلك بالاقتصاد الإسلامي؟
إن الجواب حاضر في الاقتصاد الحديث وهو السوق الحرة وزيادة معدل الإنتاج والسيطرة على الاحتكار وأحيانا رفع الفائدة، بينما هذه أمور لا يعرفها الفقه الإسلامي إنما يتناولها بطريقة أخلاقية كقوله تعالى.."وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"..فيجري تفسير العمل هنا أي زيادة معدل الإنتاج رغم أن العرب لم يعرفوا المصانع في زمن القرآن..إنما تتحدث الآية عن العمل الصالح، اعملوا أي كونوا صالحين.
سمعت أحدهم ذات مرة يقول أن إلغاء الفائدة – منع الربا- في الاقتصاد الإسلامي هو ما يمنع التضخم ويجعله صفر، قلت هذا غير صحيح، إلغاء الفائدة لا يعني منع التضخم..لأن الأخير لا يهتم بقيمة العملة (الكيف) إلا بعد انهيارها وعجز الدولة عن الاستيراد وتوقف المصانع ، إنما يهتم أكثر بعددها (الكمّ) بالموازنة مع السلع في السوق، كذلك فالفائدة هي المصلحة أو الوسيط والربح بين المضاربين والمتعاملين ماليا، فيحال الشبه بين الاثنين لانتفاء القياس وعدم اجتماعهما في محل واحد منطقيا، وقد سلكت مؤخرا الحكومة المصرية مسلكا مغايرا ينسف هذه الفكرة الدينية وهو برفع أسعار الفائدة للحد من التضخم الذي بلغ 30% حسب تصريحات محافظ البنك المركزي.
وتصريح البنك برفع الفائدة يقصد به تمويل البنوك وسد العجز في العملة الصعبة الذي حدث بعد انهيار العملة المحلية.. فتقل الحاجة للعملة الصعبة وبالتالي ينخفض معدل التضخم، الخطأ كان في كلام الشيخ بأن إلغاء الفائدة يعني إلغاء التضخم وهو جهل اقتصادي، إنما يمكن رفع الفائدة لتقليل التضخم وهي طريقة متبعة في دول كثيرة في حال انخفاض أو انهيار سعر العملة، هذا بغض النظر عن النتيجة التي أدى إليها قرار البنك المركزي المصري..فالاقتصاديون المصريون الآن معطلون برؤية عسكرية جامحة غير مدركة لكل أبعاد وتوازنات الاقتصاد.
السؤال الثاني: ماذا لو تبين فساد الملك أو الخليفة؟
الجواب: في الدولة الحديثة حاضر وهو عزله بالطرق القانونية أو انتخاب غيره بالطرق الديمقراطية أو بالثورة عليه بالطرق الشعبية ، أما في الفقه الإسلامي ففساد الملك لا يعني معارضته بل (طاعته) ولو ضرب ظهرك، حتى النصح الذي يسدونه للحاكم مرتبط بقبول الحاكم له وإلا سجن الناصحين فالأمر الأول والأخير له، وهذا ناتج عن صورة الخليفة المقدسة في ذهن الفقهاء التي لم تختلف منذ العصر الأموي قبل 1300 عام.
إن مروجي الاقتصاد الإسلامي لم ينتبهوا لعوامل فساد الملك وحاشيته، بل انشغلوا أكثر بالصورة الطوباوية التي بنوها عن مجتمع الشريعة، ولذلك لم ينجحوا في تخيل أو احتمال هذا الفساد الذي يهدد دولة المسلمين ، لأن فساد الملك عِوضا أنه يهدر أموال الناس ويرفع الفجوة بين الفقراء والأغنياء..هو أيضا ينسف (القدوة) التي يفترض أنه يمثلها ، فيشيع الفساد بين الشعب والسرقة التي تصبح فيه سرقة كيلو واحد من الأرز مساوٍ لمن سرق المليارات..رغم أن الأول قد يكون سرقه لسد رمقه من الجوع.
في الأخير لا يعني ذلك الفصل تماما بين القيم الدينية والاقتصاد، فالإنسان هو من يتعامل ماليا وبالتالي يجب تقييده بأخلاقيات وسلوكيات تحد من صور الفساد والإهمال وتشجعه على العمل والإنتاج وترشده لطريق العدالة ، ولو جاز لنا القول بالاقتصاد الإسلامي فهو عبارة عن قواعد أخلاقية تحكم المتعاملين سواء في ظل نظام رأسمالي أو اشتراكي أو نظام ثالث يجمع بينهما كما توصل إليه الليبراليون الاجتماعيون ومطبق الآن في أكثرية دول العالم، فالحقيقة أن الإنسان تخلص تماما الآن من الصراع الرأسمالي الاشتراكي ووصل إلى تطبيق جديد لنموذج ثالث أقرب للجمع بينهما..وهذا دليل أن البشر لم يتوصلوا بعد لنموذج ثالث منفصل يحقق الرخاء بعيدا عن التنظيرات الفارغة والغير علمية..أو حتى التي طبقت وفشلت فشلا ذريعا.