الخطبة بين العصرين الأموى والعباسي

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٢٣ - يناير - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

 

الخطبة بين العصرين الأموى والعباسي  

 

أولا : الخطابة بين العصرين الأموى والعباسى من حيث الفصاحة

1 ـ امتد زخم الخطابة العربية الي اوائل القرن الثالث الهجري ليشمل عصور الخلفاء العباسيين الاقوياء ( السفاح ، المنصور ، المهدي ، الهادي ، الرشيد ، المأمون ) وبالعكس اخذت الرسائل تحل محل الخطب الشفهية ، معبرة بذلك علي علو شأن التدوين علي حساب الخطابة الشفهية ، فاذا كان العصر الاموي هو عصر الروايه الشفهية فان العصر العباسي هو عصر تدوين العلوم وتنظيمها وتنوعها وازدهارها .

2 ـ ولقد كان الخليفة الاموي عربي الثقافة والانتماء لابد ان ينتسب للعروبة بالاب والام ، حتي ان افضل ابناء عبد الملك بن مروان كان مسلمة بطل الحروب ضد الروم ، وكانت امه رومية ،لذلك فلم يتول الخلافة التي وليها من هو اقل منه شأنا من اخوته وابناء عمومته ، وكان الوضع في الخلفاء العباسيين مختلفا اذ كانوا جميعا ابناء جواري ماعدا السفاح اولهم والامين ابن الرشيد ، وكانت امه عربية هاشمية عباسية ، والمقصود ان الخليفة العباسي نشأ في بيئة غير عربية فلم يتعود لسانه اللغه العربية الفصحي ، وبالتالي انتشر اللحن علي الالسنة ، واحتاج العصر العباسي الي وضع قواعد اللغة العربية ليستقيم نطقها ، بعد ان كان العرب ينطقونها فصيحة بليغة بالسليقة ، ولابد ان ينعكس ذلك علي وضعية الخطبة التي يتفوق  فيها الاكثر فصاحة .

2 ـ ومن الانصاف للخلفاء العباسيين ان نذكر ان اللحن في اللغة العربية وجد طريقه الي الخلفاء الامويين منذ عصر الخليفة الوليد بن عبد الملك الذي وصف بانه كان لحانا أي يقع في الخطأ في الاعراب حين يخطب مع ان اباه الخليفة عبد الملك كان من افصح الناس ، وقد قال عبد الملك عن شيبته ( شيبنا طلوع المنابر وتوقع اللحن ) وسئل عن شيبته فقال ( وكيف لا ، وانا اعرض عقلي عن الناس في كل جمعة ) والطريف ان عبد الملك  كان مترددا في تولية ابنه الوليد للخلافة بعده بسبب عدم فصاحته ). أي ان النطق العربي السليم للغة وبالسليقة بدأ يندثر ، وحين جاء العصر العباسي انتشر اللحن فاحتاج العصر العباسي الي جمع الفاظ اللغة العربية ووضع النحو او قواعد اللغه بالرجوع الي الاعراب الذين لا يزالون في الصحاري العربية وبعيدين عن الاختلاط بالعجم ، ومن هؤلاء تم جمع الالفاظ العربية ، ثم قياس قواعد اللغة العربية علي كيفية نطقهم الطبيعي والتلقائي للكلمات.ومن الطريف ان الاعاجم هم الذين افسدوا السليقة العربية لدي العرب في العراق وغيرها ، ثم ان الاعاجم هم الذين وضعوا العلوم في قواعد اللغة العربية وعلومها .

ثاتيا : تدهور الخطبة تدريجيا فى العصر العباسى

 

1 ـ ومن الطبيعي ان هذا لم يحدث فجأة .اذ شهد العصر العباسي منذ بدايته بعض الزخم القوي في المؤثرات الاموية في ازدهار الخطبة ، ثم بدأ يتراجع لصالح التدوين وقيام الرسائل بدور الخطب في التواصل والدعاية ، ثم اندثر دور الخطبة في العصر العباسي الثاني حتي اصبحنا نقرأ نوادر في هذا الشأن .

منها ان احمد بن محمد بن عبد الله حفيد الخليفة المهتدي العباسي كان خطيبا لجامع بغداد الكبير المعروف بجامع المنصور ، وظل يخطب فيه منذ 386 الي ان توفي سنة 418 هـ ، وكان الخطيب طوال هذه السنين يخطب خطبة واحدة لا يعرف غيرها ابدا ، والغريب ان الناس كانوا اذا سمعوها يضجون بالبكاء ، هذا ما ذكره المؤرخ ابن الجوزي.

2 ـ ثم تفاقم الامر بتحكم الامراء والملوك الاعاجم في الخلافة العباسية ، وهم لا يحسنون الكلام بالعربية اصلا ، وكان معاونوهم من الكتاب والوزراء والقضاة يغلب عليهم العمل بالدواوين دون مواجهة الناس بالخطب ، ولذلك فان اول خطبة فيما يعرف بالمسجد الاقصي بعد تحرره علي يد صلاح الدين الايوبي قام بها القاضي ابو المعالي الدمشقي ، بحضور السلطان صلاح الدين ، ومع طول الخطبة ، فانها ازدحمت بالايات القرآنية في مجال الوعظ والنشوة بالنصر والهجوم علي الصليبيين دون جديد .ولو كان القائد المنتصر  المشهور صلاح الدين الايوبي يحسن الخطابة لانتهز هذه الفرصة لابهار الناس بفصاحته بعد ان ابهر العالم بشجاعته .ومع ذلك فقد وجدت خطب كثيرة لبعض الخلفاء في العصر العباسي الثاني ، خصوصا المعتز والمهتدي وغيرهما .. بالاضافة الي بعض القواد والعلماء ، الا ان العصر لم يعد عصر الخطب .. ولم يعد للخطب دورها الاعلامي والدعائي الذي كان من قبل .

ثالثا : مقارنات

1 ـ والزخم الذي احدثه العصر الاموي في الخطبة وامتد تأثيره حتي اوائل العصر العباسي يغري بعقد مقارنات سريعة لعلها تكون فاتحة لدراسات اكثر عمقا واكثر تأصيلا ولكن نكتفي بعقد اشارات سريعة للمقارنات .

أ إشتد الأمويون منذ عصر الفتنة الكبرى الثانية ( فتنة عبد الله بن الزبير ) فى سفك الدماء ، وكان الحجاج بن يوسف المعبر عن هذه المرحلة بدمويته وسفكه للدماء . وكان عبد الملك بن مروان رائد هذه العنف فى استعمال السلاح وفى قمع المعارضة القولية معا . ولجأت المعارضة فى المدينة الى إستعمال الوعظ والأمر بالتقوى لتذكير الخليفة برب العزة الذي  يستوي الجميع امامه في العبودية ، وهذا  يضع لخليفة في مأزق ، أن ينطبق عليه قول الله تعالي عن العصاة المتجبرين ( واذا قيل له اتق الله اخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد : 2/ 206 ). وقيل هذا للخليفة عبد الملك بن مروان ـ وهو الذي كان احد فقهاء المدينة قبل تولى الخلافة . ثم أصبحت المدينة مركز المعارضة السياسية له ، فخطب في اهل المدينة شهيرة يقول فيها لهم ( اما بعد فلست الخليفة المستضعف يعني عثمان ولا الخليفة المداهن يعني معاوية ولست الخليفة المأفون يعني يزيد بن معاوية - .. الا واني لا اداوي ادواء هذه الامة الا بالسيف حتي تستقيم لي قناتكم .. والله لا يأمرني احد بتقوي الله بعد مقامي هذا الا ضربت عنقه ) وكان ذلك سنة 75 هـ  

2 ـ ثم جاءت الدعوة العباسية تزعم العودة الي صفاء الدين ولكنها تضمر الاستمرار في الاستبداد ولكن عن طريق تبريره بمبررات دينية منتحله بصناعة الاحاديث والتأويل للقرآن .الا ان بعض الناس صدق الدعاية العباسية فكان يأمر الخليفة بتقوي الله ، وكان الخليفة يتقبلها من القائل اذا كان زاهدا في الدنيا لا يطلب مالا ولا نفوذا ولا جاها ، وتنوعت المواقف للخلفاء العباسيين الاوائل ، خصوصا اعرقهم في الحكم وهو ابو جعفر المنصور الذي وطد الدولة العباسية ، وكان من ابرع الخطباء ، وقد خطب مرة فقال ( الحمد لله ، احمده واستعينه واومن به واتوكل عليه واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له ) فقام له رجل فقال : يا امير المؤمنين اذكرك من انت في ذكره ، فقال ابو جعفر المنصور : مرحبا مرحبا لقد ذكرت جليلا وخوفت عظيما ، واعوذ بك ان اكون ممن اذا قيل له : اتق الله اخذته العزة بالاثم  والموعظة  منا بدت ، ومن عندنا خرجت ، وانت يا قائلها فاحلف بالله مالله اردت بها ، انما اردت بها ان يقال : قام فقال فعوقب فصبر ، واهون بها من قائلها ، واياكم يا معشر الناس وامثالها ،واشهد ان محمد عبده ورسوله ..) وعاد الي خطبته يكملها كأنما يقرا من قرطاس علي حد قول ابن الجوزي في تاريخه .

ومع فصاحة الخليفة ابي جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين الا انه كان سفاكا للدماء ، وهو ابرع من ارسي دعائم الدولة الدينية المخالفة لما كان عليه النبي عليه السلام في دولته القائمة علي حرية الرأي والفكر والعقيدة والشوري والعدل الاجتماعية ، وكان من ضحايا ابي جعفر المنصور رجل اسمه منصور بن جعونه وكان ذلك سنة 141 هـ ، وكان وقتها الطاعون منتشرا في العراق ، ثم اخذ في التناقص ، فخطب ابو جعفر المنصور في مدينة الرقة فقال ( احمدوا الله يا اهل الشام فقد رفع عنكم  بولايتنا الطاعون ) فهب منصور بن جعونة يقول له ( الله تعالي اكرم من ان يجمع بين ولايتكم والطاعون ) فأمر المنصور بقتله .

رابعا : الايدلوجية السياسية فى الحكم تظهر فى الخطب

1 والايدولوجية الدينية التي صدرت عنها الدعاية الاموية وخلفت الخطب ، هي الجبرية الدينية .. لقد اوقع الامويون بالمسلمين فظائع ، كان اولها تولي معاوية الحكم عبر طريق مفروش بالدماء ، ثم يقيم ابنه خليفته ليرثه مخالفا لما تعارف عليه المسلمون ، ونتج عن اقرار مبدأ التوراث في الحكم ان حدثت في خلافة يزيد ين معاوية ثلاث كوارث ضخمة ، هي قتل الحسين وآله في كربلاء ، واقتحام المدينة المنورة وقتل اهلها واغتصاب نسائها في موقعة الحرة ، ثم انتهاك مكة وضرب الكعبة بالمجانيق ..

ثم توالت فظائع سفك الدماء في خلافة عبد الملك وابنائه وولاتهم من امثال الحجاج بن يوسف وخالد القسري  وغيرهم .. وتلك الفظائع الدموية اعطت زادا للدعاية السوداء ضد الامويين .. والتي لا تزال اثارها في كتب التراث حتي اليوم .وقابل الامويون هذه الدعاية بدعاية مضادة ترتدي بسذاجة رداء الدين ، وهي ما يعرف بالجبرية ، أي ان الله تعالي في رأيهم قد اراد وشاء ان يموت الحسين قتيلا في كربلاء ، وشاء ان يتم انتهاك حرية المدينة ومكة .. وان من يعترض علي ذلك فقد اعترض علي ارادة الله .

ومن الطبيعي ان تعتنق المعارضة مبدأ اخر مخالفا هو حرية ارادة الانسان ومسئوليته علي ما يفعله وهو المذهب المعروف تراثيا باسم القدرية ، ومن القائلين به مكحول الدمشقي وغيلان الدمشقي ومعبد الجهني وقد قرنوا دعوتهم ودعايتهم بالثورة علي الامويين ، وفشلوا في ثورتهم فانتقم منهم الامويون افظع انتقام ، وهذا موضوع شرحه يطول .. ويدخل في ايدولوجية المعارضة باصنافها ..وعنها صدرت الخطبة من الطرفين

ونستشهد ببعض فقرات مما قاله خلفاء بنو امية في الجبرية السياسية ( لقد خطب عبد الملك بن مروان بعد ان قتل مصعب بن الزبير فقال ضمن خطبته (  ايها الناس .. دعوا الاهواء المضلة .. فقد حاربتمونا فرأيتم كيف صنع الله بكم ..). أي ان الله هو الذي هزمهم وليس عبد الملك

وخطب زياد بن ابيه خطبته البتراء المشهورة في اهل البصرة ، فكان مما قاله فيها ( ايها الناس انا اصبحنا لكم سادة وعنكم زادة ، نسومكم بسلطان الله الذي اعطانا ، ونزود عنكم بفئ الله الذي خولنا ، قلنا عليكم السمع والطاعة فيما احببنا ، ولكم علينا العدل والانصاف فيما ولينا فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا ) .

2 ـ وجاءت الدولة العباسية بمفهوم شامل للدولة الدينية صدرت عنه دعايتها ،وخطب بهذا ابو جعفر المنصور يؤكد ويكرر ما قاله الوالي الاموي زياد بن ابيه ، يقول المنصور في خطبته يوم عرفة في الحرم ( ايها الناس ، انما انا سلطان الله في ارضه ، اسوسكم بتوفيقه ورشده ، وخازنه علي فيئه اقسمه بارادته ، واعطيه باذنه ، وقد جعلني الله عليه قفلا ، اذا شاء ان يفتحني فتحني لاعطائكم ، وان شاء ان يقفلني عليه اقفلني ، فارغبوا الي الله ايها الناس وسلوه في هذا اليوم الشريف .. ان يوفقني الي الصواب ويسددني للرشاد ).

والمنصور في هذا الخطاب يوضح كل ملامح الحاكم الذي يحكم وفقا للحق الالهي المقدس (Divine Right of King )   ولذلك فقد استمر في العصر العباسي اضطهاد المفكرين القائلين بالارادة الحرة او مسئولية الانسان عن اعماله والذين يناقضون فكرة الجبرية التي ورثها العباسيون عن الامويون ، حيث تبرر هذه الايدولوجية  اخطاء الحاكم وتنسبها لله تعالي بزعم ان تلك مشيئة الله وارادته وقضائه الذي لا راد له .ومناقشة هذه الافكار ليس موضعها الان .ولكن  تلك الافكار استمرت في العصر المملوكي الذي ورث العصر العباسي .

ملاحظة : هذا البحث مقتطفات عن الخطبة من أبحاث سابقة للمؤلف .

اجمالي القراءات 8075