المشرقيون والخليجيون
أنا والخليج .. الحبُ المُحرَّم!

محمد عبد المجيد في الجمعة ١٩ - يناير - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

أنا والخليج .. الحبُ المُحرَّم!

 

المُفترض أن تكون بيني وبين الخليج العربي مسافة زمنية وفكرية أضعاف المسافة المكانية، فأنا أعيش في النرويج منذ أكثر من أربعين عاما فضلا عن أربع سنوات في سويسرا، وهذا يمنح المغترب والمهاجر مشاعر فوقية تُحَلـّـق فوق السحاب فيطير.

أكثر المهاجرين في الغرب مسّهم عفريت من الطاووسية حتى لو كانوا يتنفسون برئة مكاتب الضمان الاجتماعي، ويستمتعون بكسل البطالة حيث الدولة هي الأم والأب.

وامتدت مشاعر الغرور إلى الدبلوماسيين الذين حققت لهم الإقامة هنا الدفءَ الابيض مع تساقط الجليد، فاتسعت المسافة رغم تمثيلهم في العالم الأول لهموم العالم الثالث.

الغريب أن نفس مشاعر الاستعلاء تلك يزفر رائحتَها العنصرية أشقاءٌ وأصدقاءٌ وشعوبٌ اختلط بياضها مع سوادها، وأفريقيتها مع آسيويتها فنظروا إلى الخليج ليروه بئر نفط انفجر مصادفة من تحت أقدام قوم أعلمهم أقل شأنا من أجهل المشرقيين، فوصفهم نزار قباني قائلا: والعالم العربي يخزن نفطه في خصيتيه وربك الوهاب!

وتجربتي كانت عكس القبانيين تماما، وأبعد من الأوصاف القبيحة التي كان يوزعها مظفر النواب على الدشداشة والعقال والسبحة، فأنا منذ عام 1982 وقعت في حب الخليج بكل سلبياته ونقائصه وحقوق الوافدين المفزعة لرجل عاش ثلثي عُمره ينهل من الحقوق في الدول الإسكندنافية، على الرغم من تجارب قليلة ومخيفة في العنصرية، لكنها صفرٌ مكعب مقارنة بعالمنا الثالث.

لم أنظر إلى الخليج كما فعل حامد سليمان في كتابه العنصري( مهانة المصري في الخليج) والتي بلغ الكبر فيه طول الجبال؛ فبدا كأنه قادم من السماء السابعة المصرية لزيارة الناس في الأرض السابعة الكويتية.

لم يحرّك الثراء الخليجي في نفسي إلا بهجة لقوم عانوا من شظف العيش مئات السنين تحت شمس حارقة وفوق أرض غير ذي زرع، فجاءتهم نعمة الله ولم يبخلوا على الآخرين بها، فانتصبت مشاريع ومدارس ومستشفيات ودور عبادة في العالمين العربي والإسلامي، وارتوت الأرض الجافة، وسدّد الخليجيون ديونا على الفاسدين من أهل المشرق.

لم يكونوا ملائكة، معاذ الله، لكنهم أناس طبيعيون عاش أكثرهم بقلوب طيبة، وبين ألفينة والأخرىَ تقتحمها أفكار المزايدة الدينية فتُحجّر بعض القلوب باسم السماء.

لي بعض التجارب السيئة والقبيحة في الخليج، وفي مقدمتها المصيدة التي نصبها لي الدكتور فيصل القاسم  في الاتجاه المعاكس منذ عشر سنوات، وأيضا الوشايات التي حملها إعلاميون مصريون كان من المفترض أن يكونوا زملاء مهنة البحث عن المتاعب؛ لكنهم بحثوا عنها لي ليرضىَ عنهم سيد القصر في قاهرة المعز طوال أكثر من ربع القرن.

قضيت أجمل وأطول سنوات عُمري في علاقة دافئة مع خليجنا الأكثر دفئـًـا، وكلما بردت أو بهتت أو تراجعت الرابطة؛ قمتُ بإعادة تشغيل موتور الحركة فيها، ولكن كانت هناك عقبات، فدول الخليج بعدما كانت تكتفي بالتخفيف من قبول انتقاداتها انتقلتْ إلى العتاب ثم الغضب إذا انتقد المثقف أو الإعلامي دولة صديقة حتى لو كانت وطنه الأم؛ مما أربك حروف اللغة ولسانَها إذا تعلق الأمر بمساحة الحرية التي يتحرك فيها صديق دولة خليجية لئلا تغضب حكومات صديقة.

مع دخول أزمات اقتصادية مرحلة التضييق أو الترشيد أو إمساك اليد الذي سمّاه الخليجيون كرما وظنه الوافدون والأصدقاء حقا مكتسبا بدأ كثيرون في التفكير برحلة العودة إلى الوطن الأم؛ فمكتسباتهم ومستحقاتهم في الدولة الخليجية المضيفة تسمح لهم بحياة مُيسّرة، فقد تقدمت أعمارهم، وتزوج أولادهم، واستقرت معيشتهم في الوطن الأم، ويكفي أن يغضوا الطرف عن سلبيات سياسية ودينية ومجتمعية حتى تتفتح لهم، خاصة إذا انتفخت جيوبهم وحساباتهم، وتصبح الهجرة المعاكسة طريق العودة إلى نصف الجنة!

صحيح أن الكرم الخليجي نحو أبي إيفانكا يزلزل قلب كل عربي خائف على نقطة نفط تسيل على أرض صحراوية بدون ثمن، لكن ظل العُمق الخليجي فيه من الطيبة والعذرية الفكرية ما يجعل الكويت تستضيف مؤتمرًا لدعم العراق بعدما تبخرت ثلثا ثروة الديرة في عدوان لم تترك آثار القدم الهمجية شبرا في الأرض المسالمة إلا وعاثت فيه فسادا وسرقة ونهبـًـا من صدام وعائلته ورجاله وأشاوسته الذين هاموا على وجوههم في الصحراء في طريق العودة بعدما أحرقوا آبار النفط ونهبوا ما وصلت إليه أيديهم.

في الخليج العربي تلفح وجهي رياح دافئة، قادمة من قلوب لم يتعرف عليها مشرقنا العربي الذي ظن أهله أن الذهب الأسود انفجر من تحت أقدام عارية، وأن الله، معاذ الخالق الوهاب، كان ينبغي أن يمنح تلك الثروة لغير لابسي الدشداشة والعقال، فالأردني واللبناني والسوري والعراقي والمصري والفلسطيني والجزائري والتونسي والمغربي والسوداني أحق بنعمة الله من عباده الآخرين في دول مجلس التعاون الخليجي.

ما زلت أحب الخليج رغم أن رياح التغيير عصفت بكثير من السلوكيات الخام والبكر التي ميّزت شعب هذا الجزء من الوطن العربي الكبير، فالسياسة تلوّنت بالدين، والدين تدعْوَش فإذا بالمؤمنين تتحجر قلوب كثير منهم، والتحالفات صراعات، والصراعات ساحة يكتظ فيها ذوو العيون الزرق لتتفتح لهم خزائن مفاتحها تنوء بالعصبة أولي القوة.

أقل قليلا من أربعة عقود على معرفتي بالخليج ولا أستطيع أن أنزع من مسامات جسدي وشغاف قلبي صور ومشاهد وكلمات وابتسامات وحوارات مع أهل هذه البلدان الطيبة، وأتأمل كثيرًا جليد النرويج ويقتلني صقيعه وتسحرني شمس منتصف الليل وتجمد أطرافي مياه بحاره ويمتد نهاره صيفا فلا يبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فيهرب ذهني ويصطحب خيالي في رحلة إسراء نوستالجية على كورنيش الدوحة، وأدخل جمعية الصحفيين الكويتية كأنها بيتي الثاني، ويستقبلني الأمير سلمان( خادم الحرمين الشريفين حاليا ) في مكتبه بإمارة الرياض مشجعا إياي كالعادة أن أكتب ما أشاء بغير تردد، وأرصد في كل ساعة من زيارتي لدُبي مشروعا جديدًا، وأقارن بين أبو ظبي ونظيراتها من مدن أوروبية سبقتها بمئات الأعوام فإذا بالعاصمة الإماراتية تسابق رياح النهضة وتسبقها لتختصر العقد في سنة، والسنة في شهر، والشهر في يوم أو بعض اليوم.

قليلة هي المرات التي غضبت خلالها في الخليج، وعرفت مكتبات الكويت ورفوفها، واستمتعت بأحاديث مثمرة مع الشيخ حمد بن سحيم آل ثاني واستمعت لمحاضرات من الصفوة المبدعة والمبتكرة الجديدة في الإمارات وعرفت قدرة التسامح العُماني في صناعة المواطن .. عاشق وطنه وقيادته، وقفزت بجنون في وسط عشرات الدلافين في مسقط ثم عدت إلى المركب خائفا لأنها دلافيل برية لا تلاعب الإنسان ولا تستأنس به، وأبهرتني عبقرية الفكر القيادي في دُبي وأشتاق لأحاديث أدبية وشعرية بلغة عربية ثرية في جلساتي المطولة مع الوزير المستشار علي الشاعر في بيته الأنيق بالرياض، أو مع الدكتور عبد الله عُمر نصيف.

أشتاق لأصبّح على يومي بصحيفة الأنباء الكويتية أو الاتحاد الظبيانية أو الشرق القطرية.

عرفت الخليج وأهله ومثقفيه وأدباءه وشعراءه ودبلوماسييه وإعلامييه ورأيتهم أكثر تواضعا من نظرائهم في مشرقنا العربي الذي لا يعرف غير أحاديث مقارنة الزعماء، السابقين واللاحقين، وارتعاشات الرعب من أجهزة الأمن والاستخبارات.

في نفسي حُزن شديد على ما آل إليه خليجنا في صراعات تقترب من إصابة النهضة بنصف شلل، ولا أفهم كيف لدولة قطر المكوّنة من شعب طيب الأعراق أن تختار جانب التطرف الديني، ودعم لصوص المراكز الإسلامية في أوروبا، واستضافة عقول التشدد ودعاة الفتنة، وصناعة إعلام التحريض والإفك!

لو انسحبت قطر وإيران من دعم الانقلابيين الحوثيين لما كانت هناك حجة لأي طرف أن يرسل على شعبنا اليمني قذيفة أصغر من مفرقعات الأطفال في العيد.

لو استجابت قطر لطلب واحد وهو قطع الدعم والمساندة عن المنظمات والجمعيات والميليشيات الدعوية التي تصنع المسلم المفخخ لانفتح باب السلام على المنطقة برمتها.

قد تربح قطر الجولة الأولى، والعام الثاني، لكنها حتما لن تجد مفرًا من قبول الأمر الواقع وهي أنها جزء لا يتجزأ من خليج تماسك سنوات طويلة بفضل روح زايد، وعبقرية الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح( رحمهما الله)، وسلام النفس الذي صنعه السلطان قابوس بن سعيد.

لقد تغيرالخليج، الذي ما زلت أحبه، وتصاعدت حِدّة الحوارات فبدت كالسهام، وفُتحت ثغرات مرّ منها مفجرو الفتن والآكلون على كل الموائد.

أشتاق للخليج الذي دافع قلمي عنه لسنوات طويلة، وتواضعت كتاباتي تقديرًا لدور عظيم قامت به دول مجلس التعاون الخليجي على الرغم من أزمات الوافدين، وأنياب الترامبيين، وجواسيس الأنظمة المستبدة في مشرقنا العربي التي يستضيفها الخليج فتطعن مرة هنا، وتعانق مرة هناك!

أشعر بحنين للخليج، وكلما هممت بالكتابة تراجعت همّتي، رغم أن العشرين كتابا التي صدرت لي يحتل خليجنا العربي وبلدي الأم مصر ثلثي صفحاته، فالألسنة تُشحَذ مع أول حوار، والإعلام يَطعَن ويُطعَن، وضيوف المطابع من عرب المشرق يحصون أموالهم قبل الكتابة وبعدها، وصراخ الفضائيات يُلغي أهمية مكبرات الصوت.

أشتاق لخليج إذا امتد بصري للمياه لا أرىَ حراس الثورة الإسلامية، وإذا نظرت إلى الشمال أعادني الهدوء إلى السلام، وإذا قرأت عن الإمبراطورية العثمانية لا أسمع خرير أمواج البوسفور.

أشتاق لخليج عربي فيه الوطن قبل أي شيء آخر، ولا يزايد أحد بدينه أو مذهبه أو طائفته أو جماعته.

لم تتغير مشاعري نحو الخليج العربي، ولن يأتي الوقت الذي أتخلص فيه من ذكريات جميلة أبهجتني وأسعدتني وقدمتني لأناسٍ وجدوا أماكنهم في قلبي ولم يبرحوه ولن يغادروه ولو رفع كل خليجي السيف في وجه أخيه وصديقه وضيفه.

أتابع أحداث الخليج ولا أتعاطف مطلقا مع الموقف الرسمي القطري، وأحزن لاستمرار النزيف اليمني الذي ينكأ جرحه في كل يوم أعداء السلام.

الكرة في ملاعب أمريكا وقطر وايران وتركيا، وإذا سقط حارس المرمىَ فلن تقوم لخليجنا قائمة بعد اليوم.

محمد عبد المجيد

طائر الشمال

أوسلو في 19 يناير 2018

 

اجمالي القراءات 8465