انهيار القومية العربية

سامح عسكر في الإثنين ١٥ - يناير - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

لم يكن بخلد عبدالناصر أن يعيش هذا الزمن الذي أصبح فيه العرب شظايا وقطع سلاح تحارب بعضها بعضا، أو قوميات أصلية بدأت تستعيد توازنها ودورها الريادي بعد خفوتها لقرون وربما لآلاف السنين.

الآن رأينا الأقباط يطالبون بالهوية المصرية القبطية، والشعب الفرعوني المصري يحن لمجد الفراعنة.. والأكراد قويت شوكتهم، والسوريان في الشام والكلدان في العراق شعروا بالحنين إلى ماضيهم ونشطت حركتهم في مواقع التواصل يطالبون بعودة مجدهم السرياني والكلداني القديم، حتى النوبة في مصر والسودان بدأوا تدريس لغتهم منذ فترة في مجتمعهم الصغير، وهي اللغة التي ظلت لقرون تنطق ولا تكتب، فهاهم يحاولون كتابتها بأحرف لاتينية بعد كتابتها قديما بأحرف يونانية.

حتى أمازيج المغرب استعادوا قوتهم وركلوا القومية العربية بأقدامهم، فالجزائر لأول مرة تدرس اللغة الأمازيجية كلغة أصلية لأهل البلد، وصارت خطابات الرئيس والداخلية للشعب بالأمازيجية، وفي المغرب حركة سياسية واجتماعية كبيرة تكاد تفوق 25% من الشعب تطالب بالاعتراف بالمكون المغربي أمازيجي وليس عربي.

ما السبب ياترى في وصول العرب لهذا الوضع؟

مبدئيا: لا أرى في هذه الحالة أمرا سلبيا بالعكس أراها شئ صحي جدا عاشه المسلمون في عصر الحضارة بدخول العصر العباسي الثاني، وفي مقالات سابقة قلت أن ضعف السلطة المركزية العباسية – في هذا العصر - أدى بالتبعية إلى ضعف سلطة أهل الحديث والأثر، فانعدم التقليد في بعض البلدان وأدى ذلك بدوره إلى تشجيع الفكر والإبداع، ولما لا والسلطات الجديدة المستقلة عن بغداد هي قوى بمفردها استقلت ليست فقط سياسيا إنما أيضا دينيا وأيدلوجيا..ولدينا نماذج واضحة كالفاطمية في مصر والبويهية والحمدانية في العراق والشام وإيران.

السبب عندي واضح وكررته كثيرا أن تملك آل سعود على العرب والمسلمين بقوة أمريكا والنفط منذ الستينات إلى الآن.. أضعف الشعور القومي العربي بسلوكياتهم الهدامة، فبعد تحريضهم على الحرب بين العراق وإيران ..استدعوا جيوش الغرب لاقتحام العراق بعد غزوه للكويت، وتمر الأيام ويحاصرون الشعب العراقي وينعتوه بأبشع الألفاظ الكفرية..حتى جاءت الطامة بأحداث الربيع العربي وتحريضهم على شعوب سوريا وليبيا ولبنان والبحرين..وختموها بالعدوان على شعب اليمن.

هل تعتقد أن هذه الحماقات السعودية لم يكن لها أثر داخلي بضعف المكوّن العربي في النفوس؟..خصوصا وأن تلك الحماقات كانت تُجرى باسم العروبة والتصدي لخطر إيران..فما الذي يحمل العربي الذي يرى السعودي والقطري يقتله وينهش في لحمه باسم القيمة التي يقدسها ويشعر بها وهي العروبة؟..فورا تهتز تلك القيمة في نفسه وتتلاشي بعد أثر، خصوصا وأنها جرت توازيا مع جرائم داعش والقاعدة والإخوان..فآل سعود يقتلون باسم العروبة والدواعش باسم الإسلام..فورا يصدر شعور قومي معادي لتلك القيم وهو ما يفسر ردة ملايين الشباب العربي عن الإسلام توازيا مع ردة عشرات الملايين الآخرين على العروبة.

منذ سنوات وأنا أقول أن القومية العربية أصبحت (وهم) يعيشه الملايين وهاهم ينفكون عنها بمحض إرادتهم وبتجربة مثيرة للجدل تعيد للأذهان كيف انفكت ملايين المسلمين عن سلطة بغداد العباسية في القرن التاسع الميلادي، فضعف آل سعود وحماقتهم حال دون تماسك العرب أو وحدتهم على هدف أخلاقي، نفس الضعف العباسي وحماقته بعد موت المتوكل وصراع أبنائه حال دون تماسك المسلمين أو وحدتهم على هدف أخلاقي ، ومثلما قويت شوكة آل سعود بالسلفية والدين وأهل الحديث..قويت شوكة المتوكل بالسلفية والدين وأهل الحديث، ومثلما ضعف السعوديون بنفس الشوكة ضعف المتوكل أيضا حتى انهارت دولته وتفككت.

لا تكفي وحدة اللغة للتقريب بين الشعوب، فقد تكون هذه الوحدة نتيجة لاستعمار كما حدث في أفريقيا والشرق الأوسط، وكما حدث قديما من غزو عربي وأسباني وبرتغالي..وأقدم وأقدم مع الفرس والروم، إنما يلزم الوحدة هدف أخلاقي وقومي يتجاوز صراع الأديان والتفاهات والصغائر، الآن كلما اختلفت قبيلة عربية مع أخرى لعنتها وطالبت بحصارها والفتك بعناصرها مثلما اختلف آل سعود مع آل ثان في قطر، ومثلما اختلف آل نهيان مع السلطان قابوس، وكلما اختلف رئيس مع نظيره العربي طالب بالحرب عليه واستدعى جيوش الحلفاء مثلما فعل الخليجيون مع بشار الأسد..ومن قبل مع القذافي وصدام حسين..هذا حدث رغم وحدة اللغة وربما الثقافة ..لكن تسقط فورا هذه الوحدة بأطماع وحماقات الحكام.

الأستاذ .."سمير أمين"..في كتابه.."نقد الخطاب العربي الراهن"..يصل لنفس النتيجة وهي أن القومية العربية وهم، وهي نظير الرأسمالية والإسلام السياسي، ربما لدوافع الأستاذ اليسارية له موقف من الرأسماليين يستحق الوقوف عليه والنقد، إنما تنظيراته للقومية العربية والإسلام السياسي كانت دقيقة جدا ومدعومة بأحداث وقرائن وتحليلات في منتهى الذكاء والخبرة، لا يفهم بالطبع أن له موقف من العروبة..هو نفسه أيدها كمبدأ أخلاقي يتجاوز قطرية الدول نحو هدف جمعي مشترك، لكن أبعاد وتحديات وطبيعة هذه القومية فشلت في الإجابة على عديد من التساؤلات.

منها مثلا أن القومية العربية جاءت بتواصل أبناء العرب باللغة العربية الفصحى، فاللغات المحلية غير مفهومة للآخرين..فما عدد الذين يتحدثون باللغة الفصحى في حياتهم؟..لو كانت الإجابة قليل أو معدوم فهذا يعني أن هناك فرقا بين النظرية والتطبيق في حياة العرب طبيعي يؤدي لاختلال مفهومي وتباين معياري يؤسس لصراعات وانشقاقات مستقبلية، ورغم أن الكتاب له أكثر من 8 سنوات حتى الآن ..إلا أنه صدق في هذا التنبؤ والتوقع الذي أجزم أنه كان مؤسسا على أحداث ماضوية ليست فقط في حياة العرب بعد الاستقلال..ولكن منذ فجر التاريخ الإسلامي.

كذلك في صراع الطبقات والاستبداد السياسي، ما الذي ينتجه هذا الحال على واقع العرب أنفسهم؟..فالطبقية تؤسس لمجتمع غامض وغير شفاف يتناول قضايا الفساد والإهمال بعين واحدة، مع ملاحظة أن أكثر من يرفعون شعار العروبة هم من الطبقات العليا للاستفادة من هذا الشعار في معاملاتهم المالية والسياسية، ولأن الاستبداد يفعل نفس الشئ..أي أنه يمارس الطبقية على الشعب فيرفع شعارات العروبة للتقرب إلى الطبقة الكادحة من ناحية لكسبهم في صراعه السياسي..ومن ناحية أخرى لكسب دول المحيط خصوصا من اقتربت حدوده مع دول الخليج أكثر من يرفعون هذا الشعار في مرحلة مع بعد الناصرية.

وأضيف على رؤية الأستاذ سمير أمين هو التحدي الطائفي، فالعرب في الحقيقة ليسوا دين واحد أو مذهب واحد أو أيدلوجية واحدة، هؤلاء مكون بشري عالمي يخضع لتغيرات فكرية واجتماعية على مر السنين، وها هم تحولوا إلى مسلمين ومسيحيين وسنة وشيعة، وإلى إخوان وعلمانيين وسلفية وصوفية..نفس التحول والانشقاق الذي حدث للدولة العباسية الثانية وكان له أثره السلبي في تفكك الدولة المركزية والإيجابي في تنشيط عملية الفكر والإبداع.

حقيقة أنا أؤيد التوازن المذهبي في هذه المرحلة، بمعنى أن الصراع الآن في الشرق الأوسط على محورين (عربي فارسي/ سني شيعي) في الخليج، و (عربي مسلم/ يهودي صهيوني) في فلسطين ، والتوازن الذي أدعمه على أسس الحق والسلام والتعايش، فلا ينبغي طرد اليهود من فلسطين بل احتوائهم في دولة واحدة مع جيرانهم ، مع التشديد على رفض الاحتلال وسيطرة شعب على آخر..هذا ضد نظرية التوازن التي أؤمن بها يقينا.

كذلك فالتوازن المذهبي بين السنة والشيعة مطلوب، لا ينبغي طرد أحدهما أو سيطرة أحدهما على الآخر، هذا التوازن له إيجابيات في المستقبل بنشوء أجيال واعية كثيرة التجارب ومطلعة على الرأي المخالف ، فالعرب في الحقيقة يدفعون الآن ثمن جهلهم المذهبي وبالرأي الآخر طيلة أكثر من 40 عاما منذ تملك آل سعود المنطقة وحرصهم على تجهيل المجتمعات بنشر الرأي الواحد وما يرافقه من الدونية والقطبية والأحادية في التفكير.

ينبغي أن نركل تلك الأحادية بأقدامنا وأن نطلع على الرأي الآخر ومناقشته لو تطلب الأمر، حتى الآن ما زال يؤمن ملايين السنة أن الشيعة يحرفون القرآن وأنهم روافض أخطر على العرب من الصهانية، وبالعكس ما زال يؤمن ملايين الشيعة أن السنة يحرفون القرآن وهم نواصب أخطر على الإسلام من إسرائيل، لو فتشنا عن المستفيد من هذا الصراع الأحمق سنجده هو نفسه من يحاول السيطرة وإخضاع الآخرين لرؤيته بالقوة سواء من صهاينة في فلسطين أو سعوديين في شبه الجزيرة العربية، فالكتل المتصارعة والمتناقضة تعمل في صالح الأقوياء..ولو اعتبرنا أن الصهاينة وآل سعود موظفين فهم في الحقيقة وسطاء لتغلغل الرؤية الأمريكية وهيمنها على الشرق الأوسط.

وأظن أن ذلك الهدف الأمريكي تم التنظير له منذ الخمسينات بالنظر إلى القومية العربية كأخطر القوميات على نفوذ العم سام، وبالتالي أصبح المطلوب القضاء عليها إذا تسنى بالحرب..وإذا لم يتسن فبإشعال الصراع الأهلي بين مكوناتها أو عناصر من رفعوها في السابق، وهذا يفسر دعم أمريكا لكل مكون سني ضد الشيعة، وبالعكس تدعم روسيا كل مكون شيعي ضد السنة، فأمريكا من بادرت بهذا السلوك وتحرص عليه منذ حرب الخليج الأولى ، وقدوم روسيا للمنطقة مؤخرا ليس لنصرة الشيعة في الحقيقة بل التصدي لخطر وهيمنة أمريكا على نفوذها في الشرق الأوسط، يعني ظاهريا دعمت واقع الحرب المذهبية بدعم دولي..وباطنيا حرصا على مصالحها فقط في بعض المناطق، وهذا يفسر صمت الروس عن المجازر الطائفية التي تحدث لشعوب اليمن والبحرين..بينما لا تصمت إذا مست هذه المجازر حلفائهم في سوريا ولبنان.

أخيرا: أؤمن أن القومية العربية في صراع منذ عقود أدى لظهورها أحيانا كواقع وأحيانا أخرى كقيمة..لكن تطبيقيا لم تنفذ إلا بنسب بسيطة جدا لا تؤدي الغرض منها، والسبب ضربها لمصالح أعضائها، فالوحدة بالأصل يجب أن تكون قائمة على المصالح وليس الانتماء العرقي أو اللغوي، فالمصالح هي من جمعت أوروبا في اتحاد يمثل أقوى ثاني اتحاد في العالم بعد أمريكا، أما الانتماءات العرقية واللغوية فأحدثت صراعا وانشقاقا عبر التاريخ، ولدينا أقرب نموذج في كوردستان..حين تعارضت مصالح برزاني مع معارضيه أتباع المرحوم طالباني بعد الاستفتاء وقف معارضيه مع حكومتي العراق وإيران وأفشلوا استفتاءا يكفل نقاء العرق الكردي وقوميته في دولة واحدة.

كذلك فشعوب أمريكا وأستراليا وبريطانيا وكندا في الحقيقة ينتمون للغة وحدة وعرق واحد، لكن لم نراهم يطلبون بكيان قومي لهم..وهذا يعني أن المصالح وحدها هي من تحكم، وهي الأساس لأي نوع من التحالفات..غير ذلك من تحالفات فهي وهم يشي بأصحابها بالفخر والدونية مؤقتا وبطريقة ظاهرية..ثم بالفشل والهزائم كنتيجة لقرائتهم الخاطئة، ومن لم يسمع هزائم العرب منذ الستينات فهو أطرش، ومن لم يبصر تخلف العرب منذ هذا العهد فهو أعمى.

اجمالي القراءات 7429