أشعر بقلق بالغ من الحديث الرائج اليوم فى أوساط الطبقة الوسطى المصرية، خاصة فى المدن، عن محدودية الوعى السياسى للمواطنين فى المناطق الريفية ومن محدودى الدخل والفقراء ومن ثم انتفاء قدرتهم على ممارسة الاختيار الحر فى الانتخابات القادمة، البرلمانية والرئاسية.
حديث الطبقة الوسطى يصنع صورة نمطية عن الأغلبية الساحقة من المصريين جوهرها عدم أهليتهم للمشاركة فى بناء الديمقراطية بادعاء محدودية وعى مترتبة على قسوة ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية، وباستنتاج مؤداه أنهم سيكونون فى الانتخابات عرضة لمؤثرات الدين والمال والمنفعة الشخصية الضيقة غير الديمقراطية وذات التداعيات السلبية على تشكيل البرلمان القادم وعلى أدائه فى القضايا الجوهرية التى سيضطلع بها.
الزائف فى حديث الطبقة الوسطى، وهو باستمرار نتاج نقاشات فى قاعات مغلقة ويتداول إعلاميا عبر بوابة البرامج الحوارية، هو افتراض أنها هى ضمير المجتمع القاضى بحضور وعى المواطنين هنا وغيابه هناك والقادرة استنادا إلى ذلك على توزيع درجات النجاح والفشل المحتملة فى الممارسة الديمقراطية.
وفى ذلك استعلاء مذموم على الأغلبية الساحقة من المصريين التى همشت طويلا وتعرضت لمظالم اقتصادية واجتماعية لا يقبلها على ضميره الجمعى مجتمع متحضر، ولا يجوز أن تصنف اليوم كأغلبية جاهلة تباعد بين الطبقة الوسطى وحلمها الديمقراطى.
الزائف فى حديث الطبقة الوسطى، ثانيا، هو افتراض أن عوامل كالفقر والأمية وقسوة الظروف المعيشية ترتب حتما محدودية، إن لم يكن الغياب الكامل للوعى السياسى للأغلبية الساحقة من المصريين. وفى ذلك ظلم بين لمواطنين يدرك كل من اقترب منهم فى المناطق الريفية والمدن أنهم ليسوا بقطيع يساق انتخابيا خلف من يدعى الحديث باسم الدين أو خلف مرشح قادم للقيام برشوة جماعية للناخبين، ويدرك ايضا أن الوعى السياسى حاضر لدى الكثير منهم تماما كما تحضر التفضيلات الانتخابية المبنية على اختيار عقلانى ورشيد.
من يصوت من محدودى الدخل والفقراء لمرشحى التيارات الإسلامية لا يفعل ذلك انجذابا لليافطة الدينية فقط، بل أيضا تقديرا للعمل الاجتماعى الذى قامت به هذه التيارات على مدار عقود طويلة وحصدت به ثقة مجتمعية طبيعى أن تترجم لتأييد انتخابى وسياسى.
الزائف فى حديث الطبقة الوسطى، ثالثا، هو افتراض أن «الخطر» الذى يمثله «الأميون والجهلاء» من محدودى الدخل والفقراء على الممارسة الديمقراطية من بوابة صندوق الانتخابات يستدعى إجراءات استباقية للحد منه. تارة يدعو البعض إلى إعطاء الصوت الانتخابى للمتعلمين (من أعضاء الطبقة الوسطى وما فوقها) أهمية نسبية تفوق الصوت الانتخابى للفقراء.
ولسان حالهم هو صوت المتعلم على الأقل بصوتين من أصوات هؤلاء! وتارة يدعو آخرون إلى استباق البرلمان والجمعية التأسيسية التى سيختارها لكتابة الدستور الجديد بإعداد نخبوى لمشروع دستور يوجه ويحدد عمل الجمعية التأسيسية.
ولسان حالهم هنا هو برلمان وجمعية تأسيسية يأتى بهما الفقراء والجهلاء لا يترك لهما مستقبل البلاد. والكارثة هى أن من يدعو إلى هذه الإجراءات الاستباقية هم دعاة للديمقراطية يمارسون باسمها الاستعلاء عليها وعلى نتائجها المحتملة.
إلى مواطنات ومواطنى الطبقة الوسطى المصرية، كفوا عن زائف الحديث هذا وعن صناعة «آخر مجتمعى» هو فقط لديكم أنتم جاهل وغير واع ومصدر خطر على الديمقراطية. يقتضى بناء الديمقراطية دمج وتفعيل أكبر قطاع ممكن من المواطنين، وتشجيعهم على المشاركة فى الاختبارات الديمقراطية دون خوف وبوعى ينضج مع الممارسة، والإيمان المطلق بأفضيلة الإجراءات الديمقراطية والمساواة الكاملة التى تضمنها بين المواطنين كناخبين.
لجان تسبق الانتخابات والبرلمان لتتوافق على مبادئ دستورية عامة نعم، مشاريع دساتير جاهزة تقدم «لبرلمان الفقراء» لا وصوت للمتعلم بصوتين للأمى لا.