إلى مايا، حفيدته ذات الأعوام الثلاثة، يهدى محمد البرادعى، المرشح الرئاسى المصرى والحائز على جائزة نوبل للسلام، كتابه الذى يحكى فيه قصة 12 عاما أمضاها على رأس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بحثا عن تقويض انتشار مدمر للسلاح النووى وتخفيض لترسانات نووية قائمة واستخدامات سلمية للطاقة النووية تسهم فى توليد الطاقة وعلاج السرطان ــ أى بحثا عن عالم أفضل يحلم البرادعى أن يسوده الأمن من الدمار والسعى للنماء، عالم يريد أن يتركه لهذه الحفيدة وحفيدات وأحفاد آخرين قد يكونوا له يوما، ولأجيال من الأطفال، من بينهم من يعنى به البرادعى بنفسه من خلال كفالة أيتام فى مناطق فقيرة فى القاهرة، وبينهم أطفال فى العراق وإيران وكوريا الشمالية وغيرها يرى البرادعى أنهم يستحقون عالما أفضل.
بينما كان العالم غارقا فى متابعة فصول قصة المفتشيين الدوليين عن السلاح فى العراق، طفت على السطح فصول قصة نووية أخرى، وفى آسيا أيضا، هذه المرة فى كوريا الشمالية.
يقول البرادعى، فى مطلع الفصل الثانى من كتابه والذى يخصصه بالكامل لملف كوريا الشمالية: «كان عام 2002 يقترب من نهايته، وكانت فرق التفتيش الدولية قد أخذت تحقق تقدما مهما فى عملها فى العراق، عندما وجد العالم نفسه فى مواجهة ملف نووى جديد لكوريا الشمالية». ويضيف: «منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا تبقى كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية، اللاعب المقابل على الساحة الدولية فى الملف الكورى، فى مواجهات لا تنتهي. أحيانا تقترب هذه المواجهة من حافة الهاوية، وأحيانا أخرى تبتعد عنها ليعود الصراع عند الحافة مرة ثانية وهكذا».
وفى روايته لبعض من فصول المواجهة بين واشنطن وبيونج يانج يقول البرادعى: «كانت هناك محاولة للتوصل إلى حل لهذا الملف بأن تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم مفاعلين نوويين يعتمد تشغيلهما على المياه الخفيفة مقابل أن تقوم بيونج يانج بتجميد المشروع النووى الكورى. غير أن شعورا بالاستياء كان يسود فى كوريا الشمالية بسبب تأخر واشنطن فى الوفاء بتسليم هذين المفاعلين»، مضيفا أنه فى الوقت نفسه كانت «واشنطن مستاءة بسبب عدم قيام بيونج يانج بالكشف عن المزيد من النشاطات النووية التى كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتشكك فى وجودها فى كوريا الشمالية».
حديث البرادعى عن فصول المواجهة الدبلوماسية بين واشنطن وبيونج يانج، يطرح عقدة موقف الوكالة الدولية للطاقة الذرية والتى، كما يقول صاحب كتاب «زمن الخداع»، وقفت بين الجانبين «تحاول قدر استطاعة مفتشيها التأكد من تجميد نشاط المنشآت النووية الكورية الشمالية، لكن دون أن يكون لدى الوكالة ومفتشيها القدرة من التحقق من أن المنشآت الجارى تجميد نشاطها هى كل ما لدى كوريا الشمالية من منشآت نووية».
بوش غير راغب فى الحوار
فى الفصل الثانى «كوريا الشمالية.. عضو جديد فى النادى النووى»، يتحدث البرادعى، مرات بالتلميح ومرات بالتصريح، عن التأثير السلبى لسياسات جورج بوش على التعامل مع ملف البرنامج النووى لكوريا الشمالية، ويقول إنه قبيل نهاية رئاسة الرئيس الأمريكى بيل كلينتون لاحت فى الأفق إمكانية للتوصل إلى حل تفاوضى بين واشنطن وبيونج يانج غير أن الوقت لم يسمح، وجاءت الانتخابات الرئاسية الأمريكية بجورج دبليو بوش الذى أعلن «لدى استقباله زعيم كوريا الجنوبية، عقب حصول الأخير على جائزة نوبل للسلام عن اتباعه سياسة الشمس المشرقة للحوار والتقارب مع كوريا الشمالية ــ أن واشنطن غير راغبة فى الحوار مع كوريا الشمالية. وبعد شهور قليلة كان بوش الابن قد وضع كوريا الشمالية مع العراق وإيران فيما وصفه بمحور الشر، بل انه وصف زعيم كوريا الشمالية بالطفل الفاسد».
وبعد فترة قصيرة، كما يشير البرادعى، تفتحت آفاق لتحسن الاجواء بين الولايات المتحدة الأمريكية وكوريا الشمالية من خلال مبادرات دولة جارة لكوريا الشمالية وحليفة للولايات المتحدة الأمريكية وهى اليابان، فى إشارة، لا يمل البرادعى تكرارها حول أهمية وتأثير دول الجوار للتعامل مع الملفات النووية، بل والصفة الحاسمة التى يمكن أن تكون لهذا الدور والأثر السلبى الذى يمكن أن ينجم عن غيابه. ولكن الأمور فى التعامل مع الملفات النووية لا تسير على نمط واحد.
وبالفعل، يقول البرادعى، إنه بينما كانت آفاق التحسن بادية «حدث تحول مفاجئ جراء معلومات أدلى بها مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشئون الشرق الادنى جيم كيلى فى تقرير أعده لواشنطن بناء على لقاءات أجراها مع كبار المسئولين فى كوريا الشمالية. وحتى يومنا هذا فلم يتكشف الكثير مما جاء فى هذه اللقاءات، ولكن يبدو أن كيلى قد وجه خلالها اتهاما لكوريا الشمالية بإدارة برنامج سرى لتخصيب اليورانيوم».
وعقب ذلك، يضيف البرادعى، طالبت الولايات المتحدة الأمريكية بعملية تفتيش فى هذا البرنامج، وهو الأمر الذى تسرب للصحافة مصحوبا باتهامات لكوريا الشمالية بخرق التفاهم القائم بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية لايقاف برنامجها النووى مقابل حصولها على مفاعلين نوويين يعملان بالمياه الخفيفة للأغراض النووية السلمية.
والتفتيش هو دوما لحظة الحسم فى دراما الملفات النووية، كما يمكن لقارئ «زمن الخداع» ملاحظته، كما أن لحظة الاعلان عن التفتيش كثيرا ما تأتى مصحوبة بكثير من التعقيدات والتطورات المتصاعدة ــ وكذلك كان الحال بالنسبة لملف كوريا الشمالية حيث إن الولايات المتحدة الأمريكية قررت وقف شحنات وقود نووى كانت مقررة لكوريا الشمالية والتى قررت بدورها وقف التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية بل و«هددت بطرد مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية واستئناف نشاط نووى متقدم وصولا إلى الانسحاب من الاتفاقية الدولية لحظر انتشار الاسلحة النووية» بعد اعلانها استئناف نشاطات نووية كانت قد علقتها مع بدء التواصل مع الولايات المتحدة الأمريكية بحثا عن حل مرضى للجانبين.
من كوريا الشمالية إلى سريلانكا
«ولم يكن الأمر مجرد تهديد بل شرعت بالفعل كوريا الشمالية فى مطالبة متفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بوقف نشاطهم فى موقع يونج بيون. وقد أجرينا اتصالات عديدة مع المسئولين فى كوريا الشمالية لمحاولة إقناعهم بمراجعة موقفهم. لقد كان ذلك فى عطلة اعياد الميلاد وكنت أتابع الأمر من فندق كنت أمضى فيه العطلة السنوية فيه مع عائلتى فى سريلانكا.. فى الوقت نفسه فقد كنت على اتصال دائم بأعضاء مجلس محافظى الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى فيينا».
وطغت تطورات بيونج يانج على عطلة أسرة البرادعى، الذى انتهى الامر به متواصلا فى أحاديث هاتفية وتصريحات صحفية بل وفى إصدار بيان لإدانة الموقف الذى اتخذته كوريا الشمالية، حيث اعتبر «الخطوات التى اتبعتها كوريا الشمالية، مدعاة للقلق من انتشار التسلح النووى بل إننى ذهبت لأبعد من ذلك واتهمت كوريا الشمالية باتباع سياسة حافة الهاوية فيما يتعلق بالانتشار النووى».
انسحاب كوريا الشمالية من اتفاقية حظر الانتشار
وتتوالى الضغوط الدبلوماسية والاتصالات مع كوريا الشمالية لإقناعها بالعدول عن قرارها ولكن دون فائدة، وتقرر كوريا الشمالية أن تنسحب من اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، ثم تقوم بإيقاف «عمل كل وسائل الفحص والمتابعة التى كانت الوكالة الدولية قد قامت بوضعهم ثم تبع ذلك خطوات واضحة لتشغيل المنشآت النووية التى كانت محل التفتيش الدولى».
وتتوالى الجهود سواء من البرادعى نفسه، كما يروى لقارئ «زمن الخداع»، أو من الدول المعنية، خاصة دول جوار كوريا الشمالية، فى تأكيد جديد على أهيمة دور دول الجوار لإقناع بيونج يانج بالعودة عن قرارها دون أفق واضح لتحقيق ذلك.
التوجه إلى مجلس الأمن
وفى الصفحة التالية يتحدث البرادعى عن إحالة ملف كوريا الشمالية إلى مجلس الامن، مشيرا إلى أن «المجلس الأممى لم يقدم على اتخاذ أى خطوة بشأن هذا الملف، حيث كان المجلس مشغولا كما بقية العالم فى الكارثة التى كانت فصولها تتداعى فى العراق». ويضيف: «كما أن موقف الصين التى لها حق الفيتو والتى كانت تصر على أن حل ملف كوريا الشمالية وما إليه من الملفات يتطلب الحوار والتفاوض دون صدور موقف من مجلس الامن بصدد الوضع فى كوريا الشمالية».
استبعاد الوكالة
وكما يذكر البرادعى فلم يكن للوكالة الدولية للطاقة الذرية «أى دور فى هذه المحادثات» بل أن الوكالة «لم تعلم أى شىء عنها منذ الانسحاب الفعلى لكوريا الشمالية من اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية وسحب المفتشين الدوليين من هناك».
بل يقر البرادعى أنه كثيرا ما كان يسعى من خلال مصادره المختلفة إلى الحصول على معلومات حول ما كان يدور فى تلك المحادثات السداسية. ويقول: «فى الوقت نفسه أعلنت عن عدم ارتياحى عن الطريقة التى تدار بها الأمور فى عدد من المحافل العامة، ومن بين ذلك وفى أثناء إدلائى بمحاضرة امام مجلس العلاقات الخارجية، حيث قلت «إن ما يقلقنى إزاء كوريا الشمالية أن ما يجرى أسوأ رسالة ممكنة للدول التى يمكن أن تفكر فى حيازة الاسلحة النووية والرسالة مفادها انه إذا أرادت دولة أن تكون نووية، فلتحمى نفسها من أى عقاب محتمل عليها أن تقوم بتطوير كبير وسريع لقدراتها النووية».
وعلى الرغم من ذلك يؤكد المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية أنه اختار أن يدعم المباحثات السداسية، ذلك على الرغم مما كان يراه «طوال الوقت أن غياب ردة فعل دولية جماعية إزاء ملف كوريا الشمالية يمثل سابقة شديدة الخطورة».
كوريا الشمالية والعراق
ولا يغفل البرادعى أن يقارن بين حال التعامل مع كوريا الشمالية بالإصرار على التفاوض رغم رفض بيونج يانج إعادة المفتشين وحال التعامل مع العراق بالاصرار على الحرب رغم تعاون بغداد مع فرق التفتيش الدولية، بل أنه أبلغ مجلس المحافظين للوكالة الدولية للطاقة الذرية أن الدولة التى لا تتحرك بسرعة لتطوير قدراتها النووية، فى إشارة إلى كوريا الشمالية، قد تتعرض لحرب استباقية، كما كان الحال قد اصبح مع العراق.
وبالفعل فإن استخدام بيونج يانج للشهور التالية لطرد المفتشين الدوليين فى تطوير قدراتها النووية والاقتراب اكثر واكثر من مرحلة التسلح النووى قد دفع بها لرفع سقف مطالبها حسبما يكشف «زمن الخداع».
ويقول البرادعى: «وفيما استطعت قراءته بين السطور حول المحادثات السداسية فإن مطالب كوريا الشمالية مقابل وقف برنامجها النووى كانت بالفعل قد تجاوزت الحصول على مفاعليين نوويين لأغراض سلمية من الولايات المتحدة الأمريكية وانها اصبحت تشمل الحصول على المزيد من المعونة والتوصل لاتفاق حول حزمة ضمانات أمنية إلى جانب تطبيع العلاقات مع واشنطن».
ويضيف البرادعى: «كما كان باديا لى أن واشنطن، وبدرجة ما طوكيو، كانت تريد على الجانب الآخر أن تتحرك بيونج يانج نحو تفكيك برنامجها النووى بدرجة تحول دون استعادة تفعيل دورة الوقود النووية. بل أن الولايات المتحدة كانت تسعى لعدم حصول كوريا الشمالية على معونة دولية قبل أن تقوم بيونج يانج باتخاذ خطوات جادة فى سبيل تفكيك برنامجها النووى وتقديم ضمانات كافية فى هذا الشأن، أما الصين وروسيا وكوريا الجنوبية فبدو أميل لموقف أقل تشددا يقوم على التبادلية بمعنى أنه كلما اتخذت كوريا الشمالية خطوة حصلت على مكافئة لها».
السحب تنقشع ــ أو هكذا تبدو
«وفجأة وبدون مقدمات بدأت السحب تنقشع حيث إن الجولة الرابعة للمفاوضات التى كانت قد توقفت دون نتائج فى أغسطس من عام 2005 قد استؤنفت فى شهر سبتمبر وتوصلت الاطراف الستة إلى اتفاق حول إعلان مشترك يحدد المبادئ التى سيتم العمل على أساسها مع الوضع بالنسبة لكوريا الشمالية»، حسبما يروى البرادعى. ويضيف أن الاعلان شمل اشارة إلى موافقة كوريا الشمالية التخلى عن برنامجها للتسلح النووى والعودة إلى مظلة اتفاقية حظر انتشار الاسلحة النووية ونظام الضمانات الذى تقوم الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتنفيذه.
السبب فى هذا التطور، كما يحلل البرادعى، هو تغير الموقف الامريكى والناجم بدوره عن اختراق صفوف المتشددين الامريكين بشخصية ليست بعيدة بالضرورة عن التشدد ولكنها أيضا ليست بعيدة عن التعقل والاتزان. ويقول: «أظن أن احد أهم الاسباب هو تولى كوندوليزا رايس منصب وزيرة الخارجية الامريكية، فاستطاعت أن تقنع بوش ــ بعكس ما كان يقول به نائب الرئيس الامريكى ديك تيشينى ومعاونيه ــ بأن هناك حاجة لتبنى نهج مختلف إزاء كوريا الشمالية».
وبحسب رواية البرادعى: «بدا تأثير رايس واضحا ايضا فى اختيار كريستوفر هيل رئيسا لوفد التفاوض الامريكى المشارك فى المباحثات السداسية، ثم ارتقى هيل بعد ذلك بعدة اشهر ليكون مساعد وزير الخارجية الأمريكية لشئون الشرق الأدنى. وكان هيل ديبلوماسيا يؤمن بالبراجماتية وكذلك بالبناء المتدرج للثقة واستطاع بالفعل أن يتفاعل مع المسئولين فى كوريا الشمالية».
ويضيف البرادعى: «تمكن هيل من تحقيق اختراقات واضحة مع المسئولين فى كوريا الشمالية للدرجة التى اخذ معها بعض اليابانيين، على ما يبدو، يلقبونه مزاحا بكريس يونج ــ هيل، فى اقتباس عن اسم الزعيم الكورى الشمالى وإشارة فى نفس الوقت إلى قدرته على التعاطى مع بيونج يانج باللغة التى تقبلها وتتفهمها».
غير أن كل ذلك لم ينتج اتفاقية، وحسبما يروى البرادعى فى ذات الفصل الثانى من كتابه «عادت المباحثات للتوقف ثانية وقامت الولايات المتحدة الأمريكية بتجميد 25 مليون دولار تخص كوريا الشمالية فى احد البنوك الأمريكية فى ماكو بدعوى أن هذه الأموال محولة فى إطار عمليات غير قانونية ترتبط بعمليات لغسل الاموال وتزوير العملات النقدية».
التجربة النووية
«ومع دخول المفاوضات مرحلة جديدة من التعرقل أعلنت كوريا الشمالية انها ستقوم بأولى تجاربها النووية، وهو ما كان بالفعل فى التاسع من اكتوبر عام 2006 ــ أى بعد ستة ايام فقط من التهديد الصادر عن بيونج يانج»، كما يتذكر البرادعى.
ويقول البرادعى إن الاختبار الذى اجرته بيونج يانج لم يكن قويا بالضرورة ولكنه على الرغم من ذلك فإنه اثبت أن «كوريا الشمالية على الرغم مما تعانيه من فقر وعزلة ووقوعها تحت التهديد الامريكى تمكنت من تحدى العالم وتمكنت أيضا من أن تلتحق بالنادى النووى الذى كانت عضويته مقصورة على بلدان قليلة من العالم».
وفى هذه اللحظة تحدثت شخصيات امريكية معلنة فشل إدارة الرئيس جورج دبليو بوش فى إدارة أزمة ملف كوريا الشمالية النووى، كما يتذكر البرادعى ببعض التفاصيل. وتحدث المتشددون أيضا عن ضرورة اتخاذ قرارات اكثر حدة تجاه بيونج يانج، لكن ما تحدثت به رايس مع البرادعى نفسه كان بمثابة دعوة لدخول الوكالة الدولية للطاقة الذرية على خط المباحثات ثانية.
ويقول البرادعى إن رده لرايس جاء إيجابيا، حيث أشار إلى أن الوكالة تستطيع أن تبدأ «بالقيام ببعض مهام التفتيش التى تكون محل اتفاق مع حكومة كوريا الشمالية، على أن تتوالى هذه العمليات وتتصاعد فى مراحل لاحقة»، وهو ما اتفقت معه رايس.
وجاء قرار البرادعى، كما يروى فى «زمن الخداع»، بالسفر إلى بيونج يانج متوائما مع جملة من الإشارات والاستجابات بين واشنطن من بيونج يانج.
الغرفة الباردة
«وفى مارس 2007، بدأت أول زيارة لى لكوريا الشمالية منذ نحو خمسة عشر عاما، إلا أن هذه الزيارة بدأت بعثرة، حيث كنت قد تقدمت بطلب عبر الصين إلى السلطات فى كوريا الشمالية لتشمل ترتيبات الزيارة لقاء لى مع الزعيم الكورى كيم جونج إيل، وعندما توقفت فى بكين متوجها إلى بيونج يانج قال لى المسئولون الصينيون إن نظراءهم من كوريا الشمالية ممتعضون لأننى لم أتوجه إليهم مباشرة بطلب لقاء الزعيم الكورى، خاصة أن الدعوة لزيارتى كانت قد جاءت بمبادرة من بيونج يانج»، حسبما يكتب البرادعى فى «زمن الخداع».
وفى الصفحات التالية يروى المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية تفاصيل زيارة فى أيام باردة لبيونج يانج واقامة فى غرفة باردة فى أحد فنادقها المتواضعة الحال ومحادثات جاء بعض منها باردا أيضا مع المسئولين فى كوريا الشمالية.
«بعد الترحيب بنا، تعرضنا لسلسة من المواقف غير المفهومة ــ ولم يكن ذلك مستغربا بالنسبة لما هو معتاد من كوريا الشمالية، فعلى سبيل المثال تم إلغاء موعد كان مقررا لنا مع نائب الوزير الكورى الذى يرأس وفد بلاده فى المباحثات السداسية، وجاء ذلك الإلغاء فى اللحظة الاخيرة. ورغم أن الاعتذار جاء بسبب مرض المسئول الكورى، غير أن التفسير الاعلامى لذلك كان معبرا عن الاعتقاد بعدم جدية كوريا الشمالية فى التعاون مع الوكالة الدولية»، يروى البرادعى، مضيفا أنه لم يكن واثقا إذا ما كان المترجم ينقل بدقة كل ما يقول إلى كبار المسئولين الكوريين أم إذا ما كانت الترجمة تأتى بتصرف خشية من الإغضاب.
أوقات أفضل
وعلى رغم من البرودة التى سيطرت على زيارة البرادعى لكوريا الشمالية فإن ما تلاها كان معبرا عن أجواء أكثر دفئا فى تعامل العالم، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية مع كوريا الشمالية.
وبدأت دفة الأمور تدار باتجاه أوقات أفضل، بل إن كوريا الشمالية، حسبما يروى البرادعى، دعت فرقا من وسائل الاعلام الغربى لزيارة الموقع النووى الذى تم إغلاقه، وفى فبراير 2008 قامت كبيرة المراسلين للشئون الخارجية فى شبكة سى.إن.إن الاخبارية الأمريكية ببث تقرير مباشر من يونج ــ بيون، مشيرة إلى أن كوريا الشمالية «قد كشفت الغطاء النووى الذى كانت تضعه».
السحب تعود
ولكن الإشارات الايجابية لم تؤد بالضرورة لتحرك مستدام نحو التوصل إلى تفاهم سياسى ينهى أزمة ملف كوريا الشمالية النووى، كما يقول البرادعى بتفاصيل ووقائع تقود القارئ نحو اللحظة المحتومة التى تضيق فيها الدائرة ليبدأ الحديث ثانية عن تصاعد الحنق السياسى ومعه استعادة الانشطة النووية لكوريا الشمالية.
«وعادت الأمور للتدهور مرة ثانية مع صيف 2008، حيث تدهور العلاقات بين واشنطن وبيونج يانج بسبب غضب كوريا الشمالية من عدم قيام الولايات المتحدة الأمريكية برفع كوريا الشمالية من على قائمة الدول الراعية للإرهاب»، حسبما يقول البرادعى.
ويضيف: «وحسبما علمت فإن المتشددين فى واشنطن كانوا يريدون الحصول على المزيد من كوريا الشمالية فى مقابل هذه الخطوة، كانوا يريدون التريث حتى التحقق من دقة ما جاء فى إعلان كوريا الشمالية عن نشاطاتها النووية حتى يقوموا برفع اسمها من على قائمة الدولية الراعية للإرهاب. غير أن كوريا الشمالية بطبيعة الحال رأت فى ذلك تراجعا جديدا للولايات المتحدة الأمريكية عن الوفاء بعهودها، فما كان من بيونج يانج إلا أن امرت بإعادة بعض الأجهزة للمواقع التى كان تم اغلاقها وتم إبعاد مفتشى الوكالة عن الموقع فى يونج ــ بيون فى الثامن من أكتوبر».
وبين شد وجذب تستمر العلاقات بين واشنطن وبيونج يانج، وذهاب المفتشين الدوليين لكوريا الشمالية واضطرارهم لمغادرتها، استمر الحال ــ مع تدخلات من الوكالة الدولية للطاقة الذرية أو أحد دول جوار كوريا الشمالية، بما فى ذلك كوريا الجنوبية التى استطاع مسئولوها، حسبما يروى البرادعى، تجاوز العداء القائم مع كوريا الشمالية للبحث عن المصلحة الحاكمة لدولتين هما فى النهاية لشعبين من «الأشقاء».
ومع 25 مايو 2009، كانت كوريا الشمالية قد أجرت ثانى اختبار نووى لها بنجاح، لتضع الكلمة الختامية بإقرار موقفها عضوا فى النادى النووى.