التعذيب فى رؤية قرآنية:(12): تفادى العذاب بالتوبة

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ١١ - أكتوبر - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

التعذيب فى رؤية قرآنية:(12): تفادى العذاب بالتوبة

مقدمة :

1 ـ الحياة الدنيا بزخرفها تسيطر على الأغلبية الساحقة من البشر وتنعكس فى تشريعاتهم سواء العلمانية منها أو المتمسحة بالدين . هم غافلون عن الآخرة وعن الخلود فيها فى الجنة أو الجحيم . فيما يخص موضوعنا عن العذاب فهم يتناسون أن كل عذابات الدنيا لكل البشر من آدم الى نهاية العالم لا تعدل لحظة عذاب فى الجحيم . عذاب الدنيا عرضى ومؤقت ، وهو ينتهى إما بالموت أو باستمرار الحياة بعدها .

2 ـ قد يكون عذاب الدنيا هدفا لأن يتوب الناس ويرجعوا الى ربهم فيتفادوا عذاب الآخرة ، قال جل وعلا بصيغة التأكيد : ( وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَىٰ دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(السجدة 21 ). ومن يصل به العذاب الى الهلاك كالأمم السابقة فإن الله جل وعلا يقصُّ قصصهم للعبرة ، ويأمر بالسير فى الأرض ليتعظ اللاحقون بما حدث لهم ويتوبوا فيتفادوا العذاب الدنيوى ، وربما تكون توبتهم صادقة فتكون نجاتهم من عذاب الآخرة . أى هناك وسائل لتفادى عذاب الدنيا وعذاب الآخرة .

2 ـ الحياة الدنيا بزخرفها شغلت فقهاء المحمديين فتصوروا أن ما أسموه ب ( الحدود ) أو العقوبات هى للإنتقام ، ولم يعرفوا أنها للإصلاح والتقويم والتوبة . وفى موضوع تفادى عذاب الدنيا توقف مع عذاب العقوبات وإمكانية تفاديه بالتوبة .

أولا : التقوى

1 ـ التقوى هى المقصد الأعظم من كل العبادات ( 2/21 ، 183 ، 189 ، 196 ، 197) ( 29/45 ) وهى الهدف من كل التشريعات . ويوم القيامة لن يدخل الجنة إلا المتقون ( 19 /63 ) ( 39/73 ) ، ولأن التقوى هى الهدف الأعظم من التشريع الأسلامى فان تشريع العقوبات يجرى فى إطار تعليم الناس التقوى. وأول مراحل التقوى هى التوبة من الذنب وتصحيح الايمان والعمل.

2 ـ يقول تعالى للمؤمنين ( وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ،وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) ( 3 / 131 ـ ) فعلى المؤمنين أن يتقوا النار أى أن يخشوا عذاب الآخرة بالطاعة والمسارعة  الى الحصول على الغفران الالهى لدخول الجنة التى أعدها الله تعالى للمتقين. ثم يذكر الله تعالى صفات المتقين وهى اعطاء الصدقات فى السراء و الضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس والاحسان لهم ،و التوبة والاستغفار إذا وقعوا فى معصية أو ارتكبوا الزنا أو ظلموا أحدا وعدم الاصرار على المعصية ، أى بدء صفحة جديدة من الاصلاح بدافع ذاتى ومحاسبة للنفس ، عندها يستحقون المغفرة والجنة فى الآخرة إذا ماتوا على هذا الحال.

ثانيا : من التوبة الى التقوى

1 ـ التوبة لا تُسقط فقط توقيع العقوبة فى الدنيا وإنما أيضا تمنح صاحبها الغفران والجنة يوم القيامة.أن العقوبات فى الأسلام ليست للإنتقام وإنما للإصلاح ودفع الإنسان للتوبة .وطبقا لما جاء فى القرآن الكريم فطالما ظل الإنسان حيا يسعى فإن الله سبحانه وتعالى يناديه طالبا منه أن يتوب مهما بلغت آثامه : ( قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ.) (39  /ِ53 ـ ) ويظل باب التوبة مفتوحا للإنسان طالما ظل على الأرض حيا يسعى قادرا على الطاعة والمعصية  ، فإذا أدركه الموت ورقد على فراش الأحتضار ضاعت فرصته فى التوبة ( 4 / 17 ، 18 )

2 ـ بل أن التوبة عرضها رب العزة على الكفار المعتدين يطلب منهم أن ينتهوا فإن انتهوا عنه غفر الله لهم ما تقدم من ذنبهم وأتاح لهم صفحة جديدة ( 8 / 38 ، 39 ) ، ( 2/ 192 – 193 ). بل أن الكافرين المعتدين الذين اعتادوا نقض العهود والأعتداء على المسلمين المسالمين فى عهد النبى محمد عليه السلام قد أعطاهم الله مهلة أربعة أشهر فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فلا شىء عليهم،بل يصبحون إخوة فى الدين. ( 9 / 5، 10 ، 11 ) . إلتزامهم بالسلام وعدم الاعتداء هى المقياس البشرى فى إسلامهم الظاهرى السلوكى بمعنى الاسلام دين السلام ، وبمعنى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ظاهريا بالسلام والأمن . وليس للبشر الحكم على ما فى السرائر والقلوب .

3 ـ  وإذا كانت التوبة توقف عقوبة المشركين المعتدين وتعطيهم فرصة لبدأ عهد جديد من الغفران فإن المسلم أولى بهذه الفرصة إذا وقع فى ما يستوجب العقوبة ومعناه أن التوبة توقف تطبيق العقوبات فى الأسلام . ليس هذا إستنتاجا عقليا فقط وإنما هو قراءة للنصوص القرآنية التى جاءت فى تشريع العقوبات .

4 ـ بعد الحديث عن عقوبة الجلد للزانى والزانية وللقاذف للمحصنات العفيفات بدون إثبات قال تعالى (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )24 / 2 - 5 ) .وبعد تقرير عقوبة قطع الطريق قال تعالى (إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ  5 / 33- 34 ) وبعد تقرير عقوبة السرقة قال تعالى (فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (5 / 38-  39 ) ، وعند تعذر أثبات الزنا على امرأة مشهورة بإحتراف الفاحشة فإن التشريع الأسلامى يشترط الاشهاد عليها بأربعة شهود يؤكدون سوء سمعتها ، ثم لا يقرر عليها عقوبة الجلد وإنما يجعل لها عقابا سلبيا هو أمساكها فى بيت  بحيث لا يدخل إليها أحد لتضطر إلى التوبة أو الزواج ( 4 / 15 ) ، وهناك عقوبة للشذوذ الجنسى بين الرجال هى أقل من توصف بالعذاب . والعذاب فى مصطلح القرآن فيما يخص العقوبات فى القرآن هو الإيذاء البدنى كالجلد ، أما فى حالة الشذوذ فإن اللذين يقعان فيه يجب إيذاؤهما قولا باللوم والتأنيب فإن تابا وأصلحا فيجب الأعراض عنهما ( 4 / 16 ) .

5 ـ مما سبق يتضح أن التوبة تسقط العقوبة فى الزنا وفى قذف المحصنات وفى قطع الطريق وفى الشذوذ ، وفى عقوبة القتل العمد يكون دفع الدية  تاكيدا عمليا للتوبة واسقاط عقوبة الاعدام ( 2/  178 ) أى أن القصاص أو اعدام القاتل المتعمد ليس لازما بالضرورة فهو محصور بشروط محددة هى التكافؤ بين القاتل والقتيل ثم يمكن حين يرضى أهل القتيل بأخذ الدية أن ينجو القاتل من الأعدام .

ثالثا : ماذا إذا كانت التوبة خداعا لمجرد الافلات من العقوبة ثم العودة لارتكاب نفس المعصية؟

1 ـ تستلزم التوبةالحقيقية فى التعامل مع الله تعالى تصحيح الايمان وتصحيح العمل بكل خشوع و رغبة حقيقية مخلصة فى أن يغفر الله تعالى له ما وقع فيه من ظلم وعصيان. ( 25 / 71 ـ )ويتبع ذلك توبة ظاهرية تكون بدفع ما سلبه من مال وتعويض ما ارتكبه من ظلم و الاحسان لمن أساء لهم.

2 ـ التوبة الظاهرية هى المطلوبة لاسقاط الحكم, أما التوبة الحقيقية المخلصة الخاشعة فلا يعلم حقيقتها إلا علام الغيوب جل وعلا وهو الذى يكافىء صاحبها بالغفران يوم القيامة.

3 ـ الذى يتوب توبة ظاهرية مخادعة للناس لكى يفلت من العقوبة فإن الله جل وعلا هو الذى يتولى عقابه ، فما ينتظره فى الجحيم أشد هولا وأفظع مصيرا. إن من الطبيعى أن يستغل بعضهم هذا التسامح فى تشريع العقوبات  فيفلت من تطبيقها عليه بالتظاهر بتوبة مخادعة ، أو وقد يستمر فى جرمه دون أن يضبط متلبسا. هنا لن يفلت  من عقوبات رب العزة فالله تعالى يقول ( من يعمل سوءا يجز به ): 4 / 123 ).

4 ـ ستلاحقه عقوبات الله تعالى فى الدنيا لكى يعذبه بنفس عصيانه، ( 9 / 55 ، 85 ) فان زنا  وانهمك فى الشهوات المحرمة كان عذابه ألما فى نفس أعضائه التناسلية أو جسده أو فقد سريعا قدرته الجنسية. وان سلب الأموال أصبح ماله حسرة عليه ، وان استكثر بالأولاد صاروا عذابا له ، وان ظلم الناس بالجاه يظل يعيش فى رعب من الانتقام تطارده أشباح ضحاياه تنغص عليه حياته، ثم لن يفلت من عقاب أشد فى الدنيا لا يقتصر على الأمراض النفسية والجسدية من القلق و الخوف والرعب و الاكتئاب وما ينتج عنها من أمراض القلب والمعدة وغيرها. وكلها لا تمنحه فرصة للتمتع بالعيش الهنىء الذى تتوفر له كل وسائله.ثم لا يلبث أن يفقد سلطانه بالموت او بالخلع وفى كل الحوال يأتى يوم القيامة اسير ما ارتكب وعليه أن يواجه عذابا أبديا لا خروج منه ولا تخفيف فيه.  

5 ـ عقوبات الله سبحانه وتعالى فى الآخرة ستكون أفظع وأقوى من العقوبات المقررة فى تشريعات الأسلام التى تنفذها الدولة الأسلامية .

أخيرا :

1 ـ العقوبات الإلهية والعقوبات التى تنفذها الدولة الأسلامية ليس الهدف منها الإنتقام وإنما إعطاء فرصة للإنسان العاصى والمجرم  كى يتوب ويفتح صفحة جديدة لينجو من العقوبة العظمى يوم القيامة وهى الخلود فى النار .

2 ـ الإيمان باليوم الأخر هو أساس تطبيق الشريعة .  فالمؤمن باليوم الأخر يعلم أن كل عذاب فى الدنيا لا يساوى لحظة عذاب فى جهنم، فما بالك بالخلود فى جهنم  أبد الأبدين؟ والمؤمن باليوم الأخر يعلم أن كل نعيم فى الدنيا لا يساوى لحظة نعيم فى الجنة،  فكيف بالخلود فى الجنة أبد الأبدين؟  والمؤمن باليوم الأخر يعلم أن عمره فى هذه الدنيا محدود محدد سلفا، وأنه سيموت عاجلا أو آجلا ، وأن قدرته على تذوق المتعة محدود كما أن قدرته على تحمل العذاب محدودة أيضا، وأنه لابد فى هذه الدنيا أن يذوق بعض النعيم ، وأن يتعرض لبعض العذاب والمصائب، أنه لا يُحرم أحد مطلقا من المتعة ولا ينجو أحد مطلقا من المصائب والأمراض وتذوق الشقاء ، وبالتالى فإن المستقبل الحقيقى هو الخلود فى الأخرة ، وهو أما خلود فى الجنة أو خلود فى النار، والخلود فى الجنة ليس فيه حد أقصى فى المتعة  وليس له نهاية ، والخلود فى النار ليس فية تخفيف من العذاب وليس فيه خروج  من النار . وبالتالى فإن هذا المستقبل هو الذى يجب أن يحرص عليه المؤمن وأن يعمل من أجله بالتوبة والتقوى.

ومن هنا كانت التقوى هى الهدف الأعظم من التشريع الاسلامى ، وكانت التوبة هى الهدف الأسمى من تطبيق العقوبات فى الاسلام فاذا تاب المجرم فقد سقطت عنه العقوبة فاذا عاد لجرمه أو كان مخادعا فى توبته فان عذاب الله تعالى سيلاحقه فى الدنيا ولن يفلت منه ، كما إن مصيره الى الخلود فى الجحيم اذا مات على عصيانه دون توبة قبل الموت. 

اجمالي القراءات 6895