كان يمكن أن تصبح بوتقة للثورات والتمرد على الخلل الذي أصاب الناس، يتجمع فيها الغاضبون وعاشقو الأوطان ومناهضو الديكتاتوريات والحالمون بأمل جديد ومستقبل مشرق!
كان يمكن أن تستقطب صفوة القوم، ودعاة الفكر وعقول الحضارة في أسمى معانيها.
لكنها غضبت عدة أيام فزلزلت الأرض زلزالها، وأخرجتْ الميادينُ أثقالها، وقال الطغاة ما لها؟
ثم حزمت حقائبها، وأخذت عصيها وقبل أن ترحل أعطتْ عدوَها كلَّ المفاتيح والأقفال وودعته على أمل أن تعود فتحصد النجاح، وترفع راية النصر.
وكانت المفاجأة في قائمة أسماء ورثة الثورات!
إنهم اللصوص الذين غضبت السماوات والأرض عليهم، وهم الفاسدون الذين انفجرت الميادين في وجوههم، وهم المخربون الذين تدثروا برداء الاستعمار، وتزملوا بمعطف قوىَ البغي والعدوان.
جاءوا وبمعيتهم رؤوس الجهل والنفاق والأمية ونثروهم، ونشروهم، وبعثروهم في مواقع التواصل الاجتماعي لتتحول إلى حانات ومقاهٍ وغُرز الكترونية يختلط فيها كثير من الغث وقليل من السمين.
دخلوا بلغة سقيمة ومريضة ووبائية يخجل منها المعجم ويشعر معها الأمي بألفة شديدة.
مواقع للتواصل الاستخباراتي والإعلامي الرسمي والبورنوجرافي الديني والمذهبي الطائفي، فيتم التراشق صبحا ومساء، وأصبح الكاتب قارئـًـا، والقاريءُ كاتبا، وبينهما برزخ شفاف يُعري فيه جانب نفسه، ويغطي فيه جانب آخر سوءة الآخر.
في أقل من ثلثي العقد كانت روح الثورات النبيلة قد صعدت إلى السماء، وتهشمت الحوارات لغة ولسانا وتعبيرات ومنطقا ومعرفة ومعلومات حتى بدا الأمر كأن حمارًا نسخ نفسه آلاف المرات، وانشطرت كل نسخة إلى واحدة للقصر و.. أخرى للدين.
مواقع التواصل الاجتماعي يُشرق فيها الوعي بين كل مئة موقع، وتبارك الملائكة موقعا من كل سبعين، وتحت عنوان كل موقع يقف الاثنان يحرسانه: سيد القصر و .. إبليس.
من الثورة إلى الثورة المضادة، ومن الوعي الوطني إلى التنويم الديني، ومن جيفارا إلى محمد حسان، ومن مانديلا إلى ياسر برهامي، ومن هوشي منه إلى الحويني!
الآن أصبح من المستحيل الدعوة إلى ثورة عارمة في زنقة مظلمة لا يسكنها غير الأشباح.
فيسبوكيون وتويتريون ومنتدياتيون وغيرها لا تحرك شعرة في رأس أكثر المظلومين لأن مواقع التواصل الاجتماعي تم احتلالها بالكامل، فإذا نجوت من السلطة السياسية عاجلتك السلطة الدينية بزبيبة في رأسك، وإذا فضحت البرهمة رفع في وجهك مئات المتخلفين كتبا صفراء فاقعا لونها تَغُم الناظرين.
إذا نشرت عن مكتبات فاس، أو لخصت التاريخ الذي لخصه جوستاف لوبون، أو كتبت عن مغامرات الإسكندر المقدوني وهو يعبر الأزرق الكبير فأنت محظوظ لو انتبه إليك أربعة وخامسهم كلبهم؛ أما إذا نشرت بوستا عن الفستان الجديد لفيفي عبده، أو التحليل التاريخي بلسان محمد رمضان، أو عن قـُرب استضافة التلفزيون للمتنبيء الذي سيصرح بموعد يوم القيامة؛ فستجد من التفاعلات أكثر من قدرتك على متابعتها.
مواقع التواصل الاجتماعي تسمح لك لو لم تقرأ صفحة من قبل أن تبدي رأيك في كل الأديان والمذاهب والمقدسات، وتُفسر ما يحلو لك، وترفض ما لا يروق لك.
إذا سُدّت كل الأبواب أمام جهلك فعليك أن تلجأ للكلمة السحرية التي يلوذ بها الجهلاء: ديني هو أعظم الأديان، ثم اترك التفاعلات تتفاعل مضاعفة، وقم بإحصاء لايكات وإعجابات تجعل منك داعية الدعاة.
مواقع التواصل الاجتماعي لا تطلب منك شهادة حُسن سير وسلوك، أو تعليم ابتدائي، أو محو الأمية، فجهلك تركب به خيول بني أمية، وتعارض ما شاهده يوري جاجارين في رحلته الفضائية الأولى، وينقلك من معبد إلى كنيسة ثم إلى مسجد ولن يسألك أحد عن آية مقدسة.
مواقع التواصل الاجتماعي تعلمك أن ضياع وقتك مكسب، وأن متابعاتك للصغائر من الأمور ربح، وأن لايكاتك لبوستات لم تقرأها ترفعك إلى مقام تصغر بجانبه أعلى شهادة أكاديمية.
مواقع التواصل الاجتماعي في نسختها المُعدّلة، سياسيا ودينيا، تطبع قفاك بلذة الجُبن، ونشوة الخوف، وصورة الطاغية، ومغناطيس الداعية المفبرك لأحاديث الأقدمين.
مواقع التواصل الاجتماعي تتعلم منها كيف تضجر بعد السطر الثالث، وتنفر من المعرفة، وتصاب بالكآبة من لغة جميلة، سلسة، وعذبة، وسليمة لتهرب إلى لغة الكيف والقات والدخان والثمالة.
مبروك للطغاة والدعاة والإعلاميين الجهلة سقوط صرح أعظم اختراع بشري الكتروني يجمع الناس فيهز الأرض والجبالَ فإذا به يهزم نفسه بنفسه.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 9 أكتوبر 2017
Taeralshmal@gmail.com