القاموس القرآنى : مفهوم الخيانة

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٢٢ - سبتمبر - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

القاموس القرآنى : مفهوم الخيانة

مقدمة :

فى ثقافتنا يرتبط مصطلح الخيانة بخيانة الوطن ، وبالخيانة الزوجية ، وهناك قوانين عقابية فى هذا الشأن . يختلف الأمر فى مصطلحات القرآن الكريم الخاصة بالخيانة . ونعطى بعض التفصيلات :

أولا : خيانة الوطن :

1 ـ  فى ثقافتنا : خيانة الوطن تعنى مساعدة العدو ، وهى وقت الحرب ( خيانة عظمى ) قد تصل الى القتل .

2 ـ فى القرآن الكريم لها مصطلح مختلف هو ( الموالاة ) لمن يعتدى على الوطن . ويكون هذا المعتدى كافرا بإعتدائه ، ويحرم على المؤمنين فى داخل الدولة الاسلامية المسالمة موالاة العدو الذى يهاجم دولتهم . . ومن بداية إستقرار المؤمنين فى المدينة نزلت سورة الممتحنة تنهى فى بدايتها المؤمنين عن موالاة كفار مكة الذين تابعوا الهجوم على المدينة بعد الهجرة ، وقبل أن ينزل الإذن للمؤمنين بالقتال الدفاعى . وبعد آيات النهى والتقريع ( الممتحنة : 1 : 7 )، جاء وضع القاعدة التشريعية فى موضوع الموالاة: (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (9) ) الممتحنة ) ولنا بحث منشور هنا عن الولاء والبراء فى سورة الممتحنة. ولم يلتزم بعض الصحابة المهاجرون بهذا ، كما لم يلتزم به منافقو المدينة من الأوس والخزرج . لذا تتابع النهى عن موالاة العدو المعتدى فى سور ( المجادلة  22 ) ( الحشر 11 : 12 ) (النساء  144 ) حتى أواخر ما نزل فى سورتى المائدة ( 51 : 56 ) والتوبة ( 23 : 24 ) .

3 ـ وفى كل آيات التشريع فى موضوع الموالاة نلاحظ :

3 / 1 : عدم توصيف هذا بالخيانة ، مع إنه نفس الفعل فى خيانة الدولة والوطن فى ثقافتنا.

3 / 2 : عدم وضع عقوبة دنيوية ، إكتفاءا بعقوبة يوم القيامة .

ثانيا : الخيانة الزوجية :

1 ـ نزلت تشريعات القرآن الكريم فى موضوع الزنا ،بما يشمل من كان متزوجا . أى ما يعنى بمفهوم ثقافتنا ( الخيانة الزوجية ) . ولم يرد مطلقا وصف الخيانة فى هذه التشريعات . فالذى يتهم زوجته بالزنا يقوم باللعان ( الملاعنة ) فى سورة النور ( 6 : 9 ) وعقوبة ملك اليمين المتزوجة التى ترتكب الزنا هو نصف عقوبة الحرة أى 50 جلدة ، ولم يرد الوصف لها بالخيانة (النساء 25 )، والعقوبة المفترضة على نساء النبى فى هذه الخطيئة هى 200 جلدة ، ضعف ما على الحُرّة ، دون وصف الخيانة ( الأحزاب 30 ).

2 ـ ونفس الحال فى القصص القرآنى . إمرأة العزيز راودت يوسف عن نفسه، وهو فعل ينطبق عليه وصف الخيانة الزوجية،ولم تأت الاشارة بهذا فى قوله جل وعلا : (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ) 23)  يوسف ) ، هو توصيف لها ب ( التى هو فى بيتها ) ، وليس بالخائنة. وهى تعرف أن ماتفعله خطيئة ، أو ( خيانة زوجية ) فى ثقافتنا . ولذا أسرعت تلقى الاتهام على يوسف حين دخل زوجها : (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) يوسف). ودافع يوسف عن نفسه فلم يستعمل مصطلح الخيانة مكتفيا بوصف ما حدث : (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ (26) يوسف ) . وجاء التحقيق ببراءة يوسف وباتهام إمرأة العزيز : (فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ (29) يوسف ). لم يقل لها ( أنت خائنة ) بل خاطئة .!. الغريب بعدها أن وصف الخيانة يأتى عن كتمان الحق وليس عن الإغراء بالزنا . فقد شهدت إمرأة العزيز أمام الملك ـ وعلنا ـ بأنها هى التى راودت يوسف عن نفسه : ( قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) يوسف ). أى عللت إعترافها العلنى حتى يعلم يوسف أنها لم تخنه فى غيابه بالشهادة الزور. ويبدو أنها تابت وأنابت ،إذ قالت (وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ).

ثانيا : إرتباط ( الخيانة ) بالكفر فى قصة نوح ولوط :

1 ـ الواقعة الأهم فى القصص القرآنى هو قوله جل وعلا عن زوجتى نوح و لوط :  ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) التحريم ). والواضح هنا أنهما مثل للذين كفروا ، أى إن الارتباط هنا بالكفر فقط ، وليس بفعل جنسى لأنه فى مقارنة بالمثل للذين آمنوا ( مريم وإمرأة فرعون ) . مريم فى مجتمع مؤمن ، وإمرأة فرعون فى بيت فرعون محور الشّر والطغيان . وكلتاهما إختارت الايمان . بينما إختارت زوجتا نوح ولوط الكفر ، خيانة منهما لمهمة الزوج . الخيانة فى قوله جل وعلا (فَخَانَتَاهُمَا ) مرتبطة بالكفر ، لذا فإن مصيرهما دخول النار مع الكافرين : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) التحريم ). ولا يدخل النار إلا الكافرون .

2 ـ وهناك قاعدة فى القصص القرآنى عن إهلاك الأمم السابقة ، هو نجاة المؤمنين فقط ، قال جل وعلا : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنْ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) الروم ) . فمن الإعجاز فى إيقاع هذا العذاب أن يدمر الكافرين فقط وينجى من بينهم المؤمنين . ينطبق هذا على زوجة نوح وابنه وعلى زوجة لوط .

3 ـ لقد نهى الله جل وعلا نوحا عليه السلام بألا يخاطب ربه جل وعلا فى الذين ظلموا ، لأن مصيرهم الغرق : ( وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) هود ) . وانتهى أمر زوجته الكافرة بالغرق مع القوم الظالمين . وبمشاعر الأب تعاطف نوح مع ابنه وهو يصارع الموج فى فجوة منعزلة فترجاه أن يلحق بالسفينة فرفض الابن الكافر مصمما أن يظل على كفره . قال جل وعلا : (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ (43) هود ). كان من المغرقين أى من الكافرين . بمشاعر الأب أيضا دعا نوح ربه أن يغفر لابنه : (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) هود ) فجاءه خطاب التقريع :  ( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ (46) هود  ) . لم يقل رب العزة له ( إنه ليس إبنك ) ولكن قال (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ) ، لماذا ؟ لأنه ( إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ) . أى هو فى إيجاز عمل غير صالح طبقا لكتاب أعماله الذى سجل حياته قبل الغرق . ولو كان إبن زنا ولكنه مؤمن لأصبح من ركاب السفينة وليس من المغرقين ، فالله جل وعلا لا يعاقب إبن الزنا بخطيئة فعلها غيره ، إذ لا تزر وازرة وزر أخرى .  

3 ـ زوجة لوط نزل الأمر بعدم نجاتها لتنتهى مع القوم المجرمين . نقرأ قول الملائكة لابراهيم عليه السلام : (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنْ الْغَابِرِينَ (60) الحجر ) هى هنا موصوفة بالاجرام وبأنها من الغابرين ، أى ستبقى مع قومها الكافرين لتقع معهم فى العذاب: (فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ (83) الاعراف ) ، وتفسير هذا فى قولهم للوط : ( قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) هود ).

ثالثا : أرتباط الخيانة بالكفر :

1 ـ أول تشريع بالإذن بقتال الكفار المعتدين بدأ بقوله جل وعلا : ( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) الحج ) . هنا وصف الكفار بصيغة المبالغة من الخيانة ، ليس ( خائن ) بل ( خوّان )، وبصيغة المبالغة من الكفر،ليس ( كافر) بل (كفور).   هذا لأنهم تطرفوا فى إعتدائهم ، لم يكتفوا بإخراج النبى والمؤمنين من ديارهم وأموالهم ، بل تابعوا الهجوم على المدينة ـ وقت أن كان المؤمنون منهيين عن رد العدوان مأمورين بكفّ اليد .يقول جل وعلا بعدها فى حيثيات الإذن بالقتال الدفاعى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الحج )

2 ـ وفى تشريع التعامل مع الأسرى نزل اللوم للنبى والمؤمنين لأنهم أخذوا المال مقابل إطلاق سراح الأسرى ، وهذا مخالف لتشريع الرحمن بالمنُّ عليهم بإطلاق سراحهم مجانا أو بالافتداء بمبادلة الأسرى:( فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)(4) محمد). خالف النبى والمؤمنون هذا فأطلقوا سراح الأسرى بمال ، فنزل قول رب العزة جل وعلا باللوم والتقريع : (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) الأنفال). ثم خطاب للأسرى الذين دفعوا الأموال إن كان فى قلوبهم خير سيعوضهم الرحمن خيرا أكبر :( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) الانفال ) وبعده قوله جل وعلا للنبى عن الأسرى : ( وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) الانفال ) ، أى إن كان فى قلوبهم شرُّ وخيانة فقد خانوا الله جل وعلا من قبل حين خرجوا فى جيش يعتدون على المؤمنين المسالمين ، وسيتولى الرحمن أمرهم . واضح هنا إرتباط الخيانة بالكفر السلوكى الذى يعنى هنا الاعتداء الحربى .

رابعا : خيانة العهد والميثاق والأمانة

1 ـ أخذ الله جل وعلا الميثاق على بنى اسرائيل : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) المائدة ). نقض بعضهم العهد ( خانوا العهد ) فاستحقوا اللعن وقست قلوبهم وإحترفوا تحريف التوراة ، وظلت طائفة منهم حتى عصر نزول القرآن الكريم ، قال جل وعلا فى الآية التالية :( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) المائدة) . الله جل وعلا يصف أولئك بالخائنين (وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ ). هنا خيانة العهد والميثاق .

2 ـ فى عهد النبى محمد عليه السلام كان يعقد معاهدات سلام ، وقد إحترف بعضهم نقضها فوصفهم رب العزة جل وعلا بأنهم شرُّ الدواب ،قال جل وعلا للنبى : ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) الانفال ) . ونزل التشريع بقتالهم دفاعيا عند نقضهم العهد وإعتدائهم على المؤمنين المسالمين حتى يكونوا عبرة لغيرهم من الأعراب الذين هم أشد الناس كفرا ونفاقا ، قال جل وعلا : ( فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) الانفال ). وبعدها : ( وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)الانفال).أى حين يخاف من نكث قوم للعهد وخيانتهم له عليه أن يعلن لهم هذا لأن الله جل وعلا لا يحب الخائنين، كما أنه جل وعلا لا يحب الظالمين ولا يحب الكافرين .

3 ـ وحتى أواخر ما نزل كان أولئك الخائنون ينقضون العهد والميثاق ، وقد أعطاهم رب العزة جل وعلا مهلة الأشهر الأربعة الحُرُم ليرجعوا عن خيانتهم العهد ، وجاء هذا فى بداية سورة التوبة ، وفيها توصيف لأولئك الخائنين للعهد بأنهم معتدون لا يرقبون فى مؤمن إلّا ( أى عهدا) ولا ذمة : ( كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12) التوبة )

4 ـ وفى المقابل أكّد رب العزة جل وعلا على المؤمنين بصيانة العهد والأمانة ، وتكرر مرتين قوله جل وعلا فى سورتين مكيتين فى صفات المؤمنين المفلجين : (وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) المؤمنون )( المعارج (32)) . ليس مجرد الأمر ـ بل أيضا النهى عن خيانة الأمانة لأنها خيانة لله جل وعلا ولرسوله ، قال جل وعلا للمؤمنين فى خطاب مباشر فى أول إستقرارهم بالمدينة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) الانفال )

5 ـ ومع هذا ، فقد تآمر بعض الصحابة فقاموا بتلفيق تهمة لبرىء لينجو من الجريمة ابنهم المجرم الحقيقى ، وصدقهم النبى محمد فدافع عن المجرم معتقدا براءته ، وأظهر الله جل وعلا الحق فقال للنبى محمد :  ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) النساء ). الله جل وعلا يصف الصحابة المتآمرين بأنهم ( خائنون) وينهى النبى أن يكون خصما لهم ،أى  محاميا مدافعا عنهم . كما يصفهم بأنهم كانوا ( يختانون أنفسهم ) والله جل وعلا لا يحب من كان خوانا أثيما ، وبأنهم يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله جل وعلا ، وهو جل وعلا  الذى : ( يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) غافر )

6 ـ وتعبير ( يختان ) من الخيانة ، وقوله جل وعلا عنهم : (يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ ) وصف رائع لمن يخدع نفسه ، أى يخون نفسه لأن الضرر سيحيق به . ومن ذلك أن الصيام كان يبدأ فى ملة ابراهيم من بعد العشاء الى مغرب الشمس فى اليوم التالى بحيث ينحصر وقت الافطار فيما بين المغرب والعتمة ( العشاء ) ، وهو لا يكفى فى تناول الطعام والمباشرة الجنسية للزوجة . فكان بعضهم ( يختان نفسه ) بأن يوهم نفسه أن وقت العشاء لم يأت وينال من زوجته . نزل فى المدينة تخفيف فى الصيام ، تركز حول الأعذار المبيحة للفطر ( المرض والسفر وصعوبة الصوم ) وما فى ذلك من قضاء أو فدية . ثم قال جل وعلا :( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (187) البقرة ). هنا تشريع يمدُّ الافطار من غروب الشمس الى طلوع الفجر ، تخفيفا ومنعا لأولئك الذين كانوا يختانون أنفسهم ، أو يخونون أنفسهم .

أخيرا : مصطلح الخيانة فى القرآن الكريم لا شأن له بما نقوله عن ( الخيانة الزوجية ).!

اجمالي القراءات 9107