التاريخ يعيد نفسه : رؤية تاريخية

آحمد صبحي منصور في الأحد ٠٣ - سبتمبر - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة

1 ـ القرآن الكريم يؤكد أن التاريخ يعيد نفسه ، خصوصا تاريخ الكافرين . وهذه حقيقة تاريخية نتوقف معها ـ سريعا ــ هنا .

2 ـ هناك كفر قلبى، أصحابه يقدسون البشر والحجر ولكنهم مسالمون لا يعتدون على غيرهم ولا يقومون بإكراه غيرهم فى الدين ، وأكثرهم من الصوفية والبوذيين والأقباط . وهناك كفر سلوكى يشن أصحابه الحروب باسم الدين كما فعل الخلفاء القرشيون والعثمانيون وكما فعل الكاثوليك الأوربيون . هذا الكفر السلوكى يستحل الدماء والسلب والنهب ، وفى إستحلاله يؤسس دينا أرضيا يجمع فيه بين الكفر القلبى ( فى التشريع الشيطانى ) والكفر السلوكى فى الاعتداء والظلم والاستبداد والاستعباد .

3 ـ والوهابية هى أبرز دين يطبق هذا الكفر السلوكى التشريعى فى عصرنا . ونضع بعض الملاحظات :

أولا :

1 ـ الغرب حين تحرر من سيطرة الكنيسة وحظر تجولها فى السياسة والاقتصاد فقد أوقف تاريخا كان متكررا فى أوربا ، من تحالف الاستبداد والكهنوت الدينى ، وإنتشار الشقاء فى أوربا ، وسطوة المحاكم الكنسية والحروب الصليبية مع الخارج والمذهبية فى الداخل ، والشقاق بين كنيسة بيزنطة وكنيسة روما ، وتحكم الكنيسة ليس فقط فى الموارد الاقتصادية لأوربا وسلبها الأموال بصكوك الغفران وغيرها بل أيضا بسيطرتها على العقل والعلم ، وتكفير من يجتهد . بتحرر الغرب إنطلق يسير فى الأرض ويكتشف عوالمها الجديدة ، ويخترع  من البخار الى الطاقة الذرية وما بعدها ، ووصل بالبشرية الى عصر من العلم والتكنولوجيا تتقدم فيه كل دقيقة . لم يعد التاريخ يعيد نفسه فى الغرب لأن كل يوم يأتى بجديد فى السياسة وفى الاخترعات .

2 ـ هذا بينما توقف الزمن بالمحمديين فأصبح يوما واحدا طويلا ممتدا ، من عصر الخلفاء الراشدين ( الفتوحات والفتنة الكبرى ) الى عصرنا هذا . هو تاريخ لا يعيد نفسه فقط ، بل لنقل ( يجترُّ ) نفسه كما تجتر الأنعام طعام معدتها .!.

ثانيا :

1 ـ مجرمو الفتوحات ( ابو بكر وعمر وعثمان ) تحولوا الى آلهة  ، فالمصريون وأهل الشام وأهل شمال أفريقيا والمغرب هم سنيون يقدسون أبا بكر وعمر وعثمان الذين إسترقوا أجدادهم وإستعمروا بلادهم . وتأسس بهذا دين السُنّة بفريضة جهاد تعنى الهجوم الحربى على الأمم التى لم تعتد بحجة إرغامها على الدخول فى ( الاسلام ) طبقا لحديث يقول ( أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا .. ) وإخترعوا إلاها حربيا أسموه محمدا جعلوا رزقه من السلب والنهب وفى ظل رمحه . وأعاد التاريخ نفسه ، فالخلفاء الأمويون كرروا الاعتداء الحربى بالاحتلال تحت مسمى الفتوحات بنفس أفعال الخلفاء الراشدين ، وتبعهم الخلفاء العباسيون والفاطميون والأندلسيون والعثمانيون ،..وأخيرا الخليفة الداعشى فى عصرنا .

2 ـ ونتج عن غنائم الفتوحات إختلاف أشتعال الفتنة الكبرى ، وأصبح الخلفاء اللاحقون ـ الأمويون والعباسيون والفاطميون والعثمانيون ـ يحاربون فى جبهتين معا ، يحاربون الغرب حربا خارجية حيث جعلوه ( دار الحرب ) ثم تدور حروب داخلية فى ( دار الاسلام والسلام )  ضد الخوارج والشيعة وغيرهم . إستمر هذا من عهد الخلفاء الأمويين وحتى الخلفاء العثمانيين فى حرب العثمانيين ضد أوربا وفى نفس الوقت ضد الصفويين الشيعة وضد المماليك السنيية وضد القوى المتمردة فى الداخل ، وحتى فى الانشقاقات داخل الأسرة العثمانية الحاكمة . تاريخ يعيد نفسه .!. ومنشور هنا مقالات كتاب لم يكتمل عن ( مسلسل الدماء ) فى عصر الخلفاء .

3 ـ  أبطال الفتنة الكبرى ( على ، معاوية ، عمرو ، عائشة الزبير ، طلحة ، أبوهريرة ) يقدسهم السنيون والصوفية ، بينما يقتصر الشيعة على تقديس على وبنيه ، ويتبرأون من الباقين ، وفى كل الأحوال لا يزال الصراع بين (على ) و ( معاوية ) أساس النزاع الآن  دينى السنة والتشيع ، لا تنقطع المجادلات حتى الآن .ولأنه أساس السُّنة والتشيع فقد تحول الى إقتتال بين السنة والشيعة . وهو إقتتال لم يتوقف من كربلاء وحتى الآن فى تاريخ دموى مستمر لا ينقطع . بل إن التاريخ فيه يعيد نفسه فى نفس الأماكن فى العراق ، ويمتد منها الى غيرها وما حولها . أى دخل ( المسلمون ) نفق الفتنة الكبرى ولم يخرجوا منه حتى الآن . تاريخ يعيد نفسه .

ثالثا :

1 ـ الأعراب دخلوا فى الاسلام بمعنى السلام ـ أفواجا قبيل موت النبى محمد عليه السلام ، وتحرروا من إستغلال قريش ، ولكن عاد نفوذ قريش بموت النبى فارتدوا ، ثم هزمتهم قريش ، وإستغلتهم فى ( الفتوحات ) ثم إكتشف الأعراب أن قريش حازت معظم كنوز العالم وإحتكرتها فى خلافة الخليفة الفاسد عثمان بن عفان ، فثار عليه الأعراب وقتلوا ، وأصبحوا شيعة ل ( على ) وحاربوا معه أقرنه القرشيين فى موقعتى ( الجمل ) و ( صفين ) ، ولأنهم يكرهون الطاعة لقريش ولأن عليا من قريش فقد أرهقوه بشغبهم ، وفى النهاية خرجوا وأصبحوا ( خوارج ) وقاتلوه ، وهزمهم فقتله بعضهم ، واصبح الأعراب الخوارج خنجرا فى خاصرة الدولة الأموية ، وإستمروا يعيدون تاريخهم فى العصر العباسى الأول ، ثم ما لبثوا أن أعادوا تاريخهم فى العصر العباسى الثانى تحت مسمى حركة الزنج ثم القرامطة . ومعظمهم من أعراب نجد التى تقع جنوب الشام والعراق وتحترف الاغارة على المناطق الزراعية فى الشام والعراق .وتاريخها يتنوع بين غارات روتينية لا يسلم منها الحجاج ـ مما أسفر عن حصر فريضة الحج فى موسم الافتتاح فقط (أى الحج الأكبر / الأسبوع الأول من ذى الحجة ) ولم يعد يحج أحد فى بقية أشهر الحج ( من ذى الحجة الى ربيع الأول ) . بالاضافة الى الغارات الروتينية كانت إغارات الأعراب تحمل راية دينية ، كما فعل قائد حركة الزنج الذى زعم أنه علوى ( شيعى ) ثم زعم أنه خارجى . وكما فعل القرامطة ( الشيعة ) . وأخيرا فى العصر الحديث ـ وفى نفس المنطقة فى ( نجد ) ظهر محمد بن عبد الوهاب بالدين الوهابى الملاكى الدموى القائم على سفك الدماء والسلب والنهب والاحتلال . وتأسست عليه الدولة السعودية الأولى ( 1745 : 1818 ) ، وسقطت ، ثم أعيد تأسيسها ( أى التاريخ يعيد نفسه ) وسقطت ، ثم أعاد عبد العزيز آل سعود تأسيسها للمرة الثالثة ، فالتاريخ فيها أعاد نفسه ثلاث مرات فى تأسيسها ومرتين فى سقوطها ، وبقى أن يعيد نفسه مرة ثالثة فى سقوطها .

2 ـ لماذا يصمم التاريخ على أن يعيد نفسه مع الدولة السعودية بالذات ؟

لأنها دولة ايدلوجية تقوم على أكثر الأديان الأرضية إنتشارا بين المحمديين ، وهو دين السُّنّة ، وهو أيضا أكثر أديان المحمديين دموية وجبروتا وأستبدادا بما يغرى ويشجع أى طموح ليصل به الى الحكم ، أو يشجع أى حاكم مستبد ليتوسع به وليتسلط به على شعبه بمثل مان يفعل الخلفاء السابقون ، أى يعيد تاريخ السابقين بالحديد والنار . يشجعه أيضا أن  للوهابية جذورا فى تشريعات الدين السنى وأحاديثه يؤمن بها الأغلبية المطلقة للمحمديين ، فلا يختلفون معهم فى تقديس أئمة الحديث والفقه السنى ، ولا يناطحهونهم فى زعم تطبيق الشريعة السنية ، والتى ظل تطبيقها خلال عصور الخلفاء العباسيين والعثمانيين . وهكذا فإعجاز القرآن الكريم يتجلى فيهم ، فما كان يفعله كفار قوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود وقوم شعيب ـ وحتى قوم لوط ـ الى قريش يفعله آل سعود ، وما يفعله أقرانهم المتمسكين بالوهابية .  

3 ـ لذا ليس عجبا أن تتأسس وتتوسع حركات ارهابية وهابية فى نفس الأماكن التى تأسست وتوسعت فيها حركات ارهابية فى العصر العباسى الثانى . القرامطة بدأوا فى صحراء نجد بمعسكرات أيدلوجية للشباب تعلمهم القتال وتقوم بغسيل أمخاخهم فى قتل المخالف لهم ـ جهادا ـ لأنهم كفرة لا بد من قتلهم . وبهذا توسع القرامطة ، وأقاموا لهم دولة فى الموصل والرقة ، وسجل الطبرى تاريخهم فى أواخر ما كتب فى تاريخه .

وكتبنا من قبل فى كتاب ( المعارضة الوهابية فى الدولة السعودية فى القرن العشرين ) عن مؤسس الدولة السعودية الراهنة ( عبد العزيز آل سعود ) الذى إتبع سُنّة الزعيم القرمطى فى تأسيس ( معسكرات الهجر ) التى يقوم فيها بتعليم شباب الأعراب الوهابية مع التدريب على السلاح ، وسمّاهم ( الإخوان ) وبهم أقام مذابح توسّع بها مُلكه فى الجزيرة العربية . ثم بالبترول تمكن من نشر الوهابية خارج الجزيرة العربية ، فمكّن للتاريخ أن يعيد نفسه من خلال طوائف الوهابية من الاخوان الى القاعدة وداعش .

 وكتبنا عن فظائع القرامطة فى الشام والعراق فى العصر العباسى الثانى ، ثم ظهرت دولة داعش الوهابية فيما بين الموصل والرقة تكرر فظائع القرامطة  فى نفس المكان مع إختلاف الزمان . أى التاريخ يعيد نفسه لأنه نفس الدين ونفس التاريخ .

4ـ إذا تحكّم الكُفّار المعتدون ومعهم كهنوتهم الدينى فالتاريخ يعيد نفسه . ترى ذلك فى إجترار التراث المقدس وتعليمه وحظر إنتقاده ، وفى الإكراه فى الدين وتطبيق شريعة  شيطانية مؤسسة على أحاديث ما أنزل الله جل وعلا بها من سلطان ، وفى إعتبار المستبد الظالم الفاجر الطاغية كائنا إلاهيا لا يخطىء ويحرم إنتقاده لأنه ولى الأمر ، وحصر القضايا الفقهية فيما تحاور فيه فقهاء السلف وتحريم ماعداها لأنها ( غزو فكرى ) . بل يصل الأمر الى إرتداء نفس اللباس ، وإعتباره دينا . تكلمت أحاديث عن تقصير الثياب فأصبح تقصيرها دينا . وأشادت أحاديث بإطلاق اللحية فأصبح حلقها عيبا . وتشابهت ملامح الدواعش مع ملامح أسلافهم من أعراب القرون الوسطى ، بنفس التشابه فى الذبح وفى السبى وفى السلب .

أخيرا

1 ـ كانت هناك فرصة للخروج من هذا النفق الدامى عن طريق مصر ـ وهى حجر الزاية فى المنطقة . سارت مصر فى طريق التحديث أخذا عن الغرب العلمانى ، وبدأت القاهرة والاسكندرية فى عصر اسماعيل تنافس مدن اوربا ، وهاجر اليها أوربيون من ايطاليا واليونان والنمسا والبلقان بالاضافة الى الشوام والأروام والارمن ..ثم (إحتلّ ) العسكر المصرى مصر من عام 1952، وبعد أن كان دوره هو حماية مصر أصبح دوره هو حكمها بالسلاج والحديد والنار ، يوجّه سلاحه الى الشعب المصرى الأعزل ـ إذا فكر فى التحرر من هذا المحتل الداخلى الغاشم . وإحتاج المستبد العسكرى الى كهنوت دينى يعزّز حكمه ، فوجد ضالته فى الوهابية والتى كانت تعنى أيضا البترودولار . وكسب العسكر المصرى الحاكم آلاف الملايين من المستبد الوهابى ، وكسب معها حكما مطلقا إستبداديا وصلت به مصر الى الحضيض . كانت مصر ليبرالية من عهد اسماعيل ــ من منتصف القرن التاسع عشر الى منتصف القرن العشرين ـ تحاول اليابان التعلم من نهضتها وتحاول الهند التعلم من ديمقراطيتها ، فأصبحت ضيعة لفرعون عسكرى فاشل من عام 1952، يكرر تاريخ أسوأ الفراعنة ، يقهر المصريين بالتعذيب ويسلب أموالهم ، وجعل التاريخ المصرى يعيد نفسه ..

2 ـ ولم يبق إلا أن يحدث فى مصر الآن ما كان يحدث فيها فى العصور الوسطى من أوبئة و مجاعات . 

اجمالي القراءات 7659