أي مجتمع في العالم يقوم اقتصاده على أربعة أشياء:
أولا: المزايا ، ويعني المنهج الذي تسير به الدولة أو ما يُعرف بالنموذج الاقتصادي، زي الرأسمالية والاشتراكية..إلخ..وباختصار هي فلسفة الدولة في إدارة اقتصادها فإذا كانت الفلسفة ناجحة وواقعية تعطي (مزايا) نوعية للاقتصاد تمنحه التفوق كالمرونة والواقعية وسرعة الاستجابة والشفافية والمحاسبة..إلخ
وكلما كانت هذه الفلسفة واقعية وذكية في تصور المشكلات كلما يرتفع مستوى التفوق حتى يصل للقمة، وهناك دول وصلت إلى هذه الدرجة الآن بصناعة مزاياها بنفسها زي دول جنوب شرق آسيا والاسكندينافية وبعض الاقتصاديات الناشئة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية.
ثانيا: الموارد ، وتعني ما يملكه المجتمع من مصادر دخل زي الصناعة والزراعة والنفط والغاز والمعادن..إلخ..وهذا البند مرتبط بالبند الذي يليه.
ثالثا: التوزيع ، ويعني العدالة في توزيع الموارد على الشعب، وغالبا هذا البند محكوم بالأول وهو النهج الاقتصادي، فكلما كان المنهج واضحا وواقعيا تصبح فرص التوزيع أكثر عدالة.
كذلك فهو يتأثر بنظام الحكم، فالنظام الملكي الدستوري يختلف عن المطلق في التوزيع، الأول فرص العدالة فيه أكثر، كذلك فالنظام الدكتاتوري يختلف عن الديمقراطي، الأول فرص العدالة فيه أقل.
رابعا: القوى العاملة ، وتعني وجود الخبرات اليدوية والفنية والتكنولوجية ، وهي تعتمد أساسا على التجارب والإدارة الناجحة، فالمجتمع الذي يملك قوى عاملة بدون خبرات ولا تجارب يفشل في إدارة موارده وبالتالي يسوء التوزيع.
يمكن قراءة الوضع الاقتصادي لأي دولة بهذه المعايير بسهولة، ومعها المعرفة بكيفية قيام وانهيار الاقتصاديات، الأول فقط يجري فهمها بدقة وإسقاطها على أي مجتمع ولنأخذ مثلا مصر:
مصر يحكمها نظام مستبد لا يسمح بالمعارضة ويضيق على الإعلام، ومثل هذه الأنظمة لا شفافية لها ولا محاسبة وتكثر فيها مراكز القوى بحيث تتوزع تلك المراكز لتخلق دولة داخل الدولة مثلما حدث في عهدي عبدالناصر ومبارك، ويحدث الآن في عهد السيسي، تقوم تلك المراكز بنفس الدور الذي كان يقوم به (المحتسب) قديما فيتسلط على الناس باسم القانون ويبني شبكة علاقات موسعة تخدمه دون النظر لمصالح الآخرين، ومصدر قوته في الغالب وضعه القيادي في السلطة التي قد تكون سياسية أو إعلامية أو حتى دينية.
حتى الآن لم تعلن مصر عن نموذج اقتصادي لها سوى تنفيذ شروط البنك الدولي، وتعني الانتقال لاقتصاد السوق وما يتطلبه من رفع الدعم وتحرير العملة، وبالنظر لهذا الإجراء المصري فهو ليس نموذج أو فلسفة في حد ذاته بقدر ما هو (اتجاه) يتعامل مع بعض المواقف، يعني مصر محتاجة قروض تمنحها الثقة المالية عالميا فتلجأ للبنك الدولي، مصر تريد رفع احتياطها النقدي لرفع مستوى الأمان فتقوم بنفس الفعل.
الإعلام المصري وخبراء الاقتصاد فيه لا يناقشون أي نموذج أو فلسفة اقتصادية، هؤلاء يكرسون كل جهودهم لتحليل الوضع قبل وأثناء وبعد القروض، ولعدم وجود فكر اقتصادي تسبب هذا الإجراء المصري مع البنك الدولي في ارتفاع كبير لمعدل التضخم وصل لحوالي 35% ورفع أسعار الفائدة 10% وارتفاع الدين الخارجي والداخلي بنسبة تفوق 100% خلال 3 سنوات.
هذه النكبة الاقتصادية حدثت لعدم وجود فكر اقتصادي بالأساس، فأصحاب القرار لم ينظروا للمجتمع ويعالجوا أمراضه الأخرى الخاصة بالتوزيع والإدارة..فكانت النتيجة أن ابتلعت البيروقراطية كل المنح والقروض والهبات التي تم جمعها خلال 4 سنوات من الثورة على الإخوان، والجهاز البيروقراطي هذا نكبة على أي اقتصاد بحيث يستنزف كل موارده دون عائد ، بيد أن السيسي وكل أركان نظامه لا يولون اهتمامهم لهذا الجهاز وفك ألغازه وشفراته.
لو فرضنا وجود منهج وفكر اقتصادي يعطي (مزايا) للدولة هذا يبحث في كيفية معادلة المصروفات والإيرادات، وهذا لم يحدث..فمعدل الإنفاق المصري ضخم جدا وليس كما يدعي النظام، فهو يشتري السلاح ويقيم المشروعات الكبرى والبنى التحتية..في حين كل هذا الإنفاق دون عائد فتحولت كل المصروفات إلى ديون، علاوة على الإهمال والفساد المتفشي نتيجة عدم الرقابة وتولية أصحاب الثقة على حساب أصحاب الكفاءة.
أما الموارد فمصر مواردها ليست ضعيفة، بل كبيرة جدا، لديها سياحة طبيعية تفوق سياحة الأسيويين، وثقافية تماثل حضارة الرومان في إيطاليا، وسياحة دينية لكل شعوب العالم فهي مقصد لمسيحي الشرق..وليهود وشيعة العالم أجمع..علاوة على السياحة العلاجية ..كل هذا بمناخ معتدل وطقس مناسب لكل الشعوب، كذلك مصر لديها رقعة زراعية ضخمة يمكنها بشئ من الحرية وتطوير الزراعة ودعم الفلاح في توسيعها، كذلك لديها بنية صناعية كبيرة موروثة من العهد الناصري.
دا غير قناة السويس وموقعها الجغرافي المتميز في مرور أغلب خطوط الطيران في المنطقة فوق الأراضي المصرية
كذلك مصر لديها أكثر من 2000 كيلو متر سواحل بحرية ، وأكثر من 10 بحيرات توفر دخل ثمين للبروتين السمكي، علاوة على نهر النيل..هذه بالأصل ثروة يندر وجودها في مكان، إضافة لقطاع المعادن والمحاجر ، فمصر من أكبر دول الشرق الأوسط إنتاجا للحديد والذهب والنحاس والفوسفات، علاوة على صخور الزينة كالرخام والجرانيت والأباستر، هذه عمليا مواد خام جاهزة لقطاع الصناعة ..لكن للأسف ليست مستغلة كما ينبغي لتفشي الفساد والإهمال في الدولة منذ عقود.
هنا بند الموارد تتميز فيه مصر وليس كما تدعي الحكومة، فادعائها بالأصل هروب من المسئولية
أما التوزيع فكما قلنا هو محكوم بالنهج الاقتصادي، كلما كان هناك فكر وفلسفة اقتصادية واضحة كلما تحسن التوزيع وحصل المواطن على حقه العادل من الدولة، فالثروات والموارد ليست علامة نضج اقتصادي أو تميز إذا لازمها سوء توزيع.
مصر يحكمها نظام دكتاتوري لا يسمح بالمعارضة وملفه في حقوق الإنسان سئ.. مما استدعى تخفيض المعونة الأمريكية اليوم ، والدكتاتورية تخلق قيم أحادية إقصائية تتفشى في المجتمع حتى تصبح ثقافة شعبية عامة، فما يفعله السيسي من قهر وسجن للمعارضة سيفعله المواطن العادي مع أخيه، والإقصاء هذا يترتب عليه سوء توزيع الثروة بالضرورة، إذا سيجري تفسير الحق الفردي والجماعي من وجهة نظر مستبدة، فيكثر الظلم ويسوء التوزيع ولا يصل لأصحابه.
باختصار: التوزيع يلزمه إصلاح سياسي يقلل الفارق بين الطبقات ويحد من إنشاء طبقة مراكز القوى، وما دام لا يوجد إصلاح سياسي في مصر فالتوزيع سيظل سئ.
أخيرا: القوى العاملة ..هذه في مصر كبيرة جدا وحجم العمالة فيها الأكبر في الشرق الأوسط ، بل تصدر تلك العمالة للخارج، لكنها للأسف تستهلك خبرتها الفنية والتكنولوجية في دعم اقتصاديات الأجانب، والسبب في هجرة العقول والخبرات من مصر لأسباب تتعلق بالظلم وعدم تكافؤ الفرص، ولأن غالبية هذه القوى العاملة من الطبقة الكادحة فقد دفعت ثمن أخطاء السيسي الاقتصادية وزادت عليها الأعباء والديون، وشعر العمال بالظلم الذي انعكس في سلسلة إضرابات وتظاهرات جرت في مصر مؤخرا كعمال شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى وسائقي شركة مصر للبترول والنقل الثقيل بالغربية علاوة على مصنع إفكو للزيوت، وباستقراء بسيط نرى أن هذا مقدمة لإضرابات أكبر وتمرد عُمالي ضخم قد يحدث في المستقبل.
هذا البند فقير جدا في مصر فبرغم أنه كبير (كمّا) لكنه ضعيف (كيفا) بيد أن عمال مصر ليسوا مميزين فنيا ولا تكنولوجيا مما استدعي وجود خبرات أجانب، وتكلفة عمل الخبير أصبحت كبيرة بعد صعود الدولار مما يرفع سعر التكلفة ومعها ترتفع نسبة التضخم، وفي مقال سابق شرحت العوامل الأربعة المؤدية للتضخم وخلصنا لنتيجة أن كل العوامل الأربعة تحدث في مصر.
إن اقتصاد مصر على حافة الهاوية إن لم يكن قد انهار فعلا، والأيام القادمة حبلى بالمفاجئات التي ربما لن تكون سارة للمصريين، فلم تعد تجدي المسكنات، ولزم قبل الشروع في معالجة الأخطاء وإنقاذ مصر هو تصور منهج اقتصادي أولا ..هذا للعارفين هو الشجرة التي يقوم عليها الاقتصاد وهو الشريان الذي يغذي الدولة بالتجارب والخبرات، وهو الذي يُحسّن من فرص التوزيع واستثمار الموارد، وفي تقديري لا يمكن تصور هذا النهج الاقتصادي بدون إصلاح سياسي، فمصر بدون سياسة أو عمل حزبي حقيقي لن ترى أخطائها وستقع في الحفرة ألف مرة.