يرى العديد من المفكرين أن الرواية العربية الرسمية للفتوحات الإسلامية قد تجاهلت حقائق تاريخية كثيرة؛ كي ترسم صورة مثالية للتاريخ، وكأنَّه لم يشهد سوى التسامح، والمحبة، والعدل بين المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى السابقة على الإسلام، في البلدان التي أخضعها المسلمون لسيادتهم، وكأنَّ أبناء تلك الشعوب قد استقبلوا الفاتحين وسياساتهم الجديدة بالورود ورأوا فيها العدل المحض دائمًا.
لن يدعي هذا التقرير بالطبع أنه سيعرض نقاط الخلل والصواب في تلك الأيديولوجيا الرسمية العربية، لكنه سيلقي الضوء على حادثة في التاريخ المصري تغيب تمامًا عن الذكر في الرواية الرسمية التي يجري ترويجها عبر وسائل الإعلام والمناهج الدراسية، عن تاريخ العلاقات الإسلامية – المسيحية منذ الفتح.
إنها حكاية ثورة مسلحة لمجموعة كبيرة من مسيحيي مصر في القرن التاسع الميلادي، ضد ما رأوا أنه جور السلطات الإسلامية ضدهم آنذاك.
اذهب معي إلى قلب الحدث المجهول
هناك في شمال الدلتا، بين فرعي دمياط ورشيد، في منطقة تحيط بها الأحراش والمستنقعات، بحيث يصعب على من لم يخبر طبيعة المنطقة جيدًا، ولم يعرف خباياها وأسرار دروبها أن يغزوها، عاش مجموعة من أقباط مصر عُرفوا باسم البشموريين، يعملون في إنتاج ورق البردي وصيد الأسماك، والأهم من ذلك في الزراعة.
يصف المؤرخون العرب البشموريين بأنهم «أكثر توحشًا وتعنتًا من سائر سكان مصر، وقد أقلقوا السلطات؛ فهم من ناصبوا العرب العداء سبع سنوات بعد سقوط الإسكندرية في أيدي عمرو بن العاص، وأول من قاموا بإعلان الثورة ضد جباة الضرائب».
كان هؤلاء البشموريون قد ساعدوا العباسيين في ثورتهم على الأمويين عام 750م، حين قادهم مينا بن بكيرة لإعلان الثورة على مروان بن محمد، واستطاعوا أن يهزموا جيش الأمويين الذي حاصرهم، وخرجوا على الأمويين بالليل، فقتلوهم وأخذوا أموالهم وخيولهم.
جاء العباسيون إلى السلطة، ووعدوا الأقباط، والبشموريين خاصة، بأنهم مقدمون على سنوات من العدل الخالص، ولن يشعروا بالاضطهاد مرة أخرى من الآن فصاعدًا، لكن مرت السنوات، ولم يشعر البشموريون سوى بمزيد من الاضطهاد.
في عام 831م، نشبت ثورة المسيحيين الكبرى، وربما كانت تلك هي آخر هباتهم العنيفة على الإطلاق. كان العديد من الولايات العباسية في حالة ثورة آنذاك تحت تأثيرات أموية، ولم يبخل الأقباط بالمشاركة في تلك الحالة الثورية، لكن بأسباب مختلفة عن أسباب المتمردين الآخرين في بقية الأرجاء الإسلامية، كما سنرى بعد قليل.
أعلن البشموريون التمرد، وطرد عمال الدولة، ورفض دفع الجزية للدولة الإسلامية، وقاموا بتصنيع أسلحتهم بأنفسهم، وكانت الثورة خيارًا نهائيًا بالنسبة لهم، حيث جزاء من يُصدر نبرة هادئة أو يحذر من العواقب كان القتل.
أمام تلك الثورة العارمة، ولمعرفة الخليفة الفيلسوف «المأمون» بقوة بأس البشموريين، الذي أظهروه أمام الأمويين ولصالح العباسيين سابقًا، أرسل المأمون جيشًا كبيرًا من أربعة آلاف جندي، بقيادة أخيه «المعتصم»، إلى ما عُرف فيما بعد بمحافظة الدقهلية، من أجل إخماد الثورة، لكن انتصر الثوار، فأرسل المأمون جيشًا آخر بقيادة أعجمية لـ«أفشين التركي» في التاسع من محرم من نفس العام، لكن العجيب أن تلك المحاولة فشلت أيضًا، وهُزم جيش المسلمين.
إزاء الانتصارات المتتالية للثوار، لم يكن هناك مفر بالنسبة لهم من أن يكملوا ثورتهم ومقاومتهم حتى الرمق الأخير، مهما كانت التكاليف، وبالنسبة للمأمون أيضًا كان القرار قد حُسم، فقد جهز قوة عسكرية كبيرة وزحف من بغداد بنفسه ليخمد الثورة التي لا تنطفئ، وفي هذه المرة وظف المأمون بذكائه عنصرًا جديدًا ليقلب المعادلة.
موقف الكنيسة من الثورة (الخروج على الحاكم)
اتخذت الكنيسة موقفًا مؤيدًا للحاكم العربي ضد ثورة الأقباط، وكانت تعرف أن مثل تلك الثورات لن تأتي في نهايتها سوى بالمزيد من البطش والتعسف تجاه الأقباط، ولعل الكنيسة في موقفها هذا كانت تمتثل لحكمة القديس بولس في الإصحاح 13، والتي تقول:» السلاطين الكائنة هي مُرتبة من الله، حتى أن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سينالون الدينونة«.
كان المأمون بفطنته يعرف سهولة استخدام الكنيسة ضد الثورة، فاصطحب معه في رحلته الأنبا ديونسيوس البطريرك الأنطاكي، وفور وصوله إلى مصر، استدعى الأنبا يوساب الأول بطريرك الأقباط؛ كي يشجبوا الثورة في مرسوم، فيضعف تأييد الشعب القبطي لها، ومن ثم يرسل الآباء المذكورون، رسائل إلى الثوار تطلب منهم التوقف فورًا عن قتال الدولة.
لكن إزاء خطابات البطريرك يوساب، التي حاول أن يقنعهم فيها بضعفهم أمام قوات الخليفة، وضرورة أن يعلنوا استسلامهم، ازداد البشموريون عنادًا وثقًة في أن ثورتهم لا بد ألا تنتهي، سوى بنهاية آخر فرد منهم، حتى بعد أن تخلت عنهم المؤسسة الدينية الرسمية التي ترعاهم روحيًا، وكان المأمون إزاء ذلك يملك الحل العسكري الأخير للقضاء على آخر ثورة للأقباط في مصر.
موت الثورة
شن المأمون حربًا ضارية ضد البشموريين، ورغم كل ما قيل عن شجاعتهم وتضحياتهم في تلك المعركة، لكن الأكيد أنهم هُزموا في النهاية أمام جيش الخلافة، وحُرقت مساكنهم وكنائسهم، وقتل أغلبهم، حتى كادوا أن يبادوا.
لكن يبدو أن المأمون قد قدر في الرجال شجاعتهم، فحين تيقن من النصر ومن أن أيَّة أعمال عسكرية أخرى ستكون بغرض الإبادة، وليس تعزيز الانتصار، أمر جنوده بالتوقف عن القتال، ونفى الذين تبقوا من البشموريين (3000 فرد)، ومات الكثر منهم في طرق السفر، أما الثوار الذين أسروا، وكان عددهم 500 فرد، فقد تم استرقاقهم وبيعهم كعبيد، ويصف لنا المقريزي النهاية فيقول: «انتفض القبط فحكم فيهم المأمون بقتل الرجال، وبيع النساء، فبيعوا، وسبي أكثرهم، حينئذ ذلت القبط في جميع أرض مصر».
ويرجح المؤرخون أن بقايا الثوار المهزومين قد توطنوا في جنوب العراق بالمستنقعات، وعرفوا فيما بعد باسم «البشروديين»، وعملوا في مهنة إصلاح الأراضي للعباسيين، بل يرجح بعض المؤرخين أنهم قد شاركوا فيما بعد في ثورات الزنج على الخلافة العباسية، وأبلوا بلاًء حسنًا في القتال هناك؛ نظرًا لتمرسهم على القتال في المستنقعات منذ ثورتهم الفاشلة الأولى.
ويرى عماد جاد، الباحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو مجلس النواب المصري، أن نتائج ثورة البشموريين قد أثرت على الواقع الديمغرافي لمصر حتى الآن؛ حيث كانت نتيجتها إنهاء الوجود المسيحي في الدلتا تقريبًا، ووفقًا لـ«جاد» فإن نسبة المسيحيين في أيَّة محافظة بالدلتا الآن، ونتيجة لهزيمة الثورة البشمورية، لا تزيد عن 3% بأيَّة حال.
عودة إلى الخلف، هل كانت أسباب تلك الثورة دينية بالأساس؟
حين صدر القرار بنفي البشموريين من مصر، أرسلوا إلى المأمون رسالة أخبروه فيها بأن الوالي كان يرغمهم على دفع جزية لا يستطيعون تحملها، وكان يسجنهم ويربطهم إلى الطواحين ويضربهم ضربًا مبرحًا ويضطرهم إلى طحن الحبوب كالدواب تمامًا، وعندما كانت تأتي نساؤهم إليهم بالطعام، كان خدمه يأخذونهن، ويهتكون عرضهن. وكان رد المأمون على تلك الرسالة أنه غير مسئول عن سياسة ولاته؛ لأنه لم يمل عليهم هذا الموقف الذي اتبعوه، وأنه لم يفكر قط في إرهاق الناس، وقال: «إذا كنت قد أشفقت على الروم وهم أعدائي، فكيف لا أشفق على رعيتي؟»
منذ دخول المسلمين مصر، فرضوا الجزية على غير المسلمين، وتراوحت فترات الاضطهاد والتسامح في هذا الأمر بحسب تطور الظروف التاريخية، وتقلب الأمزجة الشخصية للولاة، كما فرضوا أيضًا الخراج على أراضيهم، في حين كان المفترض أن تعامل أراضي المسلمين بنظام الزكاة «تحصيل العشر»، لكن تحول المصريين إلى الديانة الإسلامية كان سيؤثر بالسلب في تلك الحالة على خزينة الدولة الخراجية، التي تستفيد كثيرًا من ضريبة الخراج؛ لذلك قرَّرت الدولة ألا تعفي أرض المتحولين إلى الديانة الإسلامية من ضريبة الخراج، فالأرض كافرة وإن أسلم صاحبها، وذلك ما يفسر اشتراك المسلمين من أصحاب الأراضي الخراجية في الثورة البشمورية.
وتقول الروائية سلوى بكر، صاحبة رواية «البشموري»، في تقرير لصحيفة «البديل» المصرية في هذا الصدد: «ثورة البشموريين لم تكن ثورة دينية كما يراها البعض، بل هي ثورة اجتماعية كان سببها تزايد ضريبة الأرض الزراعية؛ لأن العرب عندما فتحوا مصر، لم يكن لهم دراية بالنظم الزراعية المعمول بها في مصر».
وتضيف في التقرير: «منذ عهد الفراعنة كانت غلة الأرض توزع علي أربعة أنصبة: ربع للفرعون، وربع للمعبد، وربع للفلاح، وربع لإعادة الإنفاق على العمل الزراعي، وعندما جاء العرب لم يطبقوا هذا النظام وكانوا يطالبون بزيادة غلة الأرض وزيادة الضريبة الزراعية، ومن هنا أصبح هناك إجحاف بالفلاح الفقير، ولذلك فقد انضم إلى ثورة الأقباط هذه، الفلاحون العرب المسلمون الذين استقروا في مصر، وخصوصًا أولئك الذين ينتمون إلى القبائل اليمنية والقيسية التي كانت تعمل في الزراعة في شمال الجزيرة العربية، ورفضت أن تواصل الفتوحات الإسلامية، فجاءوا واستقروا في مصر واشتركوا مع البشموريين في الثورة».
في الواقع كان الخليفة المأمون يعرف جيدًا، أن الوالي بمصر قد ضاعف الخراج، وضاعف الجزية، وعامل الأقباط بعنف، وقد حمله المسئولية كاملةً عما حدث، لكنه كان يعلم أيضًا أن هؤلاء الثوار لا بد أن يُسحقوا؛ ففي ذلك الوقت كان بقايا الأمويين، في العالم الإسلامي، يستعدون للثورة على الحكم العباسي، وقاموا بتحريض المصريين على الثورة في خطابات من زعمائهم، وكان المأمون يعرف تمامًا ما فعله البشموريون حين تحالفوا مع الهبة العباسية ضد الأمويين، لذلك كان يدرك خطورتهم، ورأى أنه لا خيار أمامه سوى سحقهم، في ظل معركته للحفاظ على حكمه من أي محاولة أموية للانقلاب.
وأنهى المأمون بذلك قصة ثورة الأقباط، واحتمالية عودتها مرة أخرى، واختفت تلك الثورة الأخيرة بعد ذلك من التاريخ الرسمي لمصر، الذي كرسته الدولة القومية الحديثة، وحذفت منه ما لا يروق لها منه؛ لتصنع روايتها الرسمية عن تاريخ هذا القطر، وما تخلله من علاقات بين أبنائه ودولته.