قال لى ثائرا : رسب ابنى فى الأمتحان مع أننى لم أبخل عليه بشيء .. غرفة مريحة له فى الشقة ،أفضل الكماليات ، دروس خصوصية ،ومصروف جيب مناسب وكل ما يطمع فيه من الطعام والنزهة وأحدث الملابس ومع ذلك رسب فى الأعدادية ..
قلت له : قد يكون مستوى ذكاءه تحت المتوسط ومهما أجتهد فلا ذنب له .. قال : كلا .. إن مستوى ذكاءه مرتفع ، وليس له مشكلة من أى نوع .. فنحن أسرة متفاهمة وهو يأخذ حقه من الحنان والرعاية ،وليس عليه إلا أن يذاكر ويجتهد ، ولكن كلما أسترق النظر إليه أجد عينيه على الحائط وهو ينتهزالفرصة ليهرب من المذاكرة بأي طريقة.. كما لو أن الجلوس أمام الكتاب تعذيب له ..
قلت له: اجلس معه انصحه وحدثه عن المستقبل الذى ينتظره إذا إجتهد ، لأنك لن تعيش له إلى الأبد ..اجعل من نفسك صديقا له ..
قال :فعلت هذا و أكثر وهو بالمناسبة ولد مهذب ومؤدب وذكى ولكن لا أدرى سبب تلك الخصومة بينه وبين المذاكرة ولا أدرى ما ذا أفعل له .
وسكت قليلا وتنهد ..وقال : لقد بنيت نفسى بنفسى .. بدأت من تحت الصفر ، انتزعت التفوق فى الدراسة من بين أنياب الفقر .. ظللت حتى الثانوية وليس لى سوى قميص واحد ، ولم أرتد بدلة كاملة إلا بعد الوظيفة ، لم أعرف الاستذكار فى الكهرباء إلا فى الكلية ، لم أذق وجبة دسمة شهية إلا بعد الزواج ، لم أخرج فى رحلة أو نزهة إلا بعد الخطوبة .. عشت كفاحا مستمرا حتى وصلت إلى ما وصلت إليه وعزمت على أن أوفر على ابنى كل هذه المتاعب ، ورسمت له الطريق أن يتفوق على الجميع ، أن يعيد تاريخ أبيه وأكثر .. ولكن خاب رجائى فيه ..
قال لى ماذا بيدى أن أفعل له أكثر مما فعلت ؟
قلت له .. إنك نتاج عصرك وابنك نتاج عصره ولكنك أيضا مسئول بعض الشيئ عن رسوب ابنك .. وأستمع إلى النهاية: إنك نشأت فى بيئة حرمان ، وقهرت الحرمان بإن جعلت لك هدفا هو أن تتعلم وأن تتفوق ، وإلا فليس أمامك إلا أن تعمل فلاحا أجيراً فى أرض غيرك .. لم يحاول والدك أن ينصحك بالمذاكرة ، بل ربما لم يقل لك ولو مرة واحدة ذاكر.. فالواقع أمامك هو الذى يدفعك للمذاكرة .. ليس مجرد الحرمان والرغبة فى الخروج منه ، ولكن يضاف إلى ذلك أمل فى مستقبل مشرق حين تتخرج فى الجامعة متفوقا فتجد فرصتك أمامك حيث لا مجال للواسطة أو المحسوبية ، وحيث يستطيع ابن الحرمان أن ينال حقه بالتفوق وينزوى ابن الأكابر صاغرا لأنه لم ينجح أو لم يتفوق .. كان ذلك فى الستينات .. عصر نهوض أبناء الفلاحين والعمال لأقتناص فرصة التعليم والتفوق .. وانتهى هذا فى عصرنا .. فقد تضخم عدد الموظفين فى الأرض وتضاءلت مرتباتهم وانخرطوا فى فئة الفقراء مستحقي الزكاة ـ إذا كانوا شرفاء بالطبع ـ ولم تعد الدولة قادرة على توظيف المزيد حتى بتلك المرتبات الهزيلة ، وأصبحت الوظائف المميزة بالاختيار والواسطة ومحجوزة مقدماً لأبناء الصفوة والأكابر والأغنياء القادرين على الرشوة .. وليس مهما إن كان متفوقا أو متخلفا المهم مبدأ " فتح عينك تأكل ملبن " ، و" وشيلنى واشيلك " أما الفقراء فليس أمامهم إلا التبطل أو التطرف وقلت له : إن التعليم جعل أبناء الفقراء أكثر وعيا للحرمان الذى يعيشون فيه وأكثر وعيا فى الأمل الذى ضاع فى المستقبل لأن التعليم بالنسبة لهم لم يكن ترفا وإنما مهنة تتيح لهم وضعا أفضل إجتماعيا وإقتصاديا وإذا انخفض أو انعدم العائد الإقتصادى فى الشهادة الجامعية أصبحت عند الفقير لا تساوي قيمتها الورقية بل أصبحت له دافعا للنقمة والتطرف ..
قال : وما دخل ابنى بهذ كله .
قلت : ابنك لم يعرف الحرمان وليس لديه الدافع أو الرغبة فى وضع أفضل لأنه فى الواقع فى وضع أفضل .. وهو ينتظر منك أن توفر له الوظيفة بنفس قدرتك على توفير كل متطلباته ، وهو يعلم أنك لن تبخل عليه بذلك وأنت فى موقعك الهام ، فلماذا يجتهد ويتعب نفسه .. إنه ينتظر منك أن تواصل طريقك فى الاجتهاد فى وظيفتك إلا أن تصبح وزيرا وعندها سيجد أمامه أفضل الوظائف والمشروعات حتى ولو لم يحصل على الأعدادية ..
وخرج صاحبى مسرعا .. ولم يعقب .. وأيقنت.
أنه سيكون وزيرا عما قريب .. من أجل عيون البيه الصغير .