في الفصل بين الدعوة و السياسة .. النبي محمد نموذجاً

مولود مدي في الخميس ٠٦ - يوليو - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

يبدأ تاريخ الإسلام في السياسة بقيام دولة المدينة بقيادة رسول الإسلام، فالأصل الذي قامت عليه دولة المدينة هو الدفاع عن دعوة محمد الجديدة، وأيضًا نشر الإسلام والجهاد ضد من يتربّصون بالدعوة الفتيّة، وبالرغم من أن الكثير من الفقهاء اعتبروا أن تطبيق الشريعة الإسلامية هو شرط لاكتساب تلك الدولة صفة الإسلام، إلا أنه في فترات كثيرة تعامل النبي مع الآخرين، دون التقيد الحرفي بالشريعة الإسلامية، حيث فصل بين الوحي وبين علمه الشخصي، والدليل الحادثة التي يذكرها التاريخ عندما ضاعت ناقته، وهو معسكر على طريق الشام في غزوة تبوك؛ فأرسل من يبحث له عنها فانتهز المنافقون الفرصة فتساءلوا: هذا محمد يزعم أنه يأتيه خبر من السماء، ولا يدري أين ذهبت ناقته؟ وكان امتحانًا عسيرًا فردّ عليهم بكلام واضح قائلًا: إني والله لا أعلم إلا ما علّمني ربّي.

 تجلّى تعامله كصاحب سلطة سياسية أكثر من صاحب دعوة مع يهود المدينة الذي تعهد بحمايتهم وعدم إجبارهم على اعتناق الإسلام بمقابل الاعتراف بسلطته السياسية، وعدم التحالف مع أعداء الدعوة الجديدة، لكن النبي لم يكتف بهذا؛ لأنه يعلم أن هذا العهد يمكن نقضه بسهولة، وبالتالي السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف كان رسول الإسلام على علم تام بما يحدث في المدينة؟ وكيف استطاع تجنب عامل المباغتة من طرف أعدائه؟ هل كان لدولته الفتية استخبارات خاصة؟ فكلّنا نعلم أن الاستخبارات تقوم على عامل أساسي وهو التجسس، وبالرغم من أن التجسس منهي عنه بشدة في القرآن، لكن التقيد الحرفي بهذا النص القرأني يؤدي إلى ثغرة خطيرة وهي الغفلة عن تحركات العدو وخططه ضد المسلمين، خاصة اليهود الذين أرادوا اغتيال النبي، لكن التاريخ يخبرنا أن النبي كان على علم تام بما كان يحدث في المدينة، وفي قريش أيضًا معتمدًا على جواسيسه، فقصة الصحابي حاطب بن أبي بلتعة تخبرنا إلي أي حد وصلت إليه استخبارات النبي في الداخل، فكان هذا الصحابي الذي كان من أبطال معركة بدر قد أرسل رسالة سرية إلى أهل مكة يخبرهم بأن النبي ينوي اجتياحهم؛ فاكتشف النبي أمر الرسالة قبل أن تصل إلى مكة، فأرسل الصحابي علي بن أبي طالب لكبس حاملها، وأن يعود به إلى المدينة، فكانت استخبارات النبي الخاصة قد ساعدته بشكل كبير على تجنب عامل المباغتة من طرف الأعداء.

وبسبب براعة الرسول السياسية وحسن قراءته لمعطيات الواقع أدرك أنه في حاجة إلى السلام مع أعدائه لكي يتفادي المواجهة العسكرية على عدة جبهات، فذهب إلى إقامة المعاهدات مع يهود المدينة، ترادف حاليًا ما يسمّى بمعاهدة عدم الاعتداء، والقرأن كما نعلم شدد على ضرورة احترام العهود وتوعّد الذين ينقضون الميثاق بالعذاب الشديد، لكن النبي تعلّم من تجاربه مع يهود بني النضير وبني قينقاع أن أعداءه مستعدّين للتحلل من التزاماتهم عندما تأتيهم الفرصة المواتية، لذا كان الالتزام الحرفي بالنّص القرآني دون إدراك معناه العميق سببًا في تراخي جبهة المسلمين وتعرّضهم لهجمات مفاجئة من طرف الأعداء، فالتاريخ يعّلمنا أن النبي كان على علم بكل هذا، وصلح الحديبية يبرهن ما نقوله، فهذا الصلح ينصّ على عدم اعتداء بين قريش والمسلمين، ومدّة هذا الصلح هي عشرة سنوات، لكن المعاهدة لم تدم سوى عامين؛ والسبب وقوع اعتداء من طرف قبيلة كنانة الموالية لقريش على قبيلة خزاعة المتحالفة مع النبي بسب خلافات تعود إلى الجاهلية، وشاركت قريش حليفتها بالسلاح، فأمر النبي باعداد حملة قوامها عشرة آلاف رجل للإجهاز على قريش نهائيًا، قبل أن يقضوا عليه أوّلًا.

إن الحوادث التاريخية التي ذكرناها – وهي ليست بقليلة – تبرهن لنا أن النبى يحدد القرار الدنيوى السياسى حسب الصواب والخطأ، وليس الحلال والحرام؛ لأن موضوعه سياسى وليس دينيًا، وهذا ما نسمّيه في السياسة بفصل الدعوة الدينية عن العمل السياسي، ولم يكن هذا الوعي بالفصل بين المجالين شيئًا جديدًا على المسلمين؛ لأنهم رأوه في نبيهم وفي قراراته، وقولته الشهيرة بشأن الدنيا: أنتم أدرى بشئون دنياكم. فأعطى الأولوية والقيادة لمن رآه جديرًا بالثقة العسكرية، فأمر بتعيين أسامة بن زيد قائدًا لجيش المسلمين لغزو الروم، كان أسامة ابن سبعة عشر عامًا، وعينة النبي قائدًا على جيش فيه الصحابة الأكارم، مثل أبي بكر وعمر برتبة جنود، فلو كانت القيادة تقوم على التقوى لسلم القيادة لأحد الشيخين، إذًا فالتقوى والتدين والقرب من الله ورسوله لم يكونا عند النبى مؤهلًا للقيادة في الشأن السياسي، كما كان النبى في قراراته الدنيوية يستشير خبراءها كالحباب بن المنذر في بدر الكبرى.

و المواقفالسابقة تكشف لنا عن مرونة في الموقف الأخلاقي والعقلانية في تسيير الأمور وعدم حشر الدين في كل مسألة، بل نستنتج أن هناك في بعض المواضع تم تقديم السياسي على الديني وعلى الأخلاقي، فلو تزمت النبي في الدين لاستحال عليه نشر الدعوة، وما زاد عدد أتباع الإسلام على أكثر من مائة شخص، ولكانت نهايته مثل نهاية المسيح، فكانت هذه المرونة عاملًا كبيرًا في بناء دولة المدينة، وهذا يثبت لنا أن النبي كان رجلًا ذا عبقرية سياسية بلا منازع، والاجتهادات التي قام بها النبي كانت نتاجًا لعبقريته، وليس نتاج النصوص الدينية، وهنا تتجلى مقولة مكيافيلي: الأنبياء غير المسلحين لا يفلحون، لكن للأسف عادت العصبيات القبلية في خلافات سقيفة بني ساعدة، فكانت هذه العصبيات بمثابة الضربة القاضية لدولة المدينة، ولأنها كانت ضد المناخ السائد في العصور الوسطى، فإن مبادئها تتسق مع المناخ السائد في عصرنا، وهي فعلًا موجودة على أرض الواقع في الاتحاد السويسري، وبصورة أقل في الديمقراطيات الغربية النيابية التمثيلية.

اجمالي القراءات 8049