ما هي العلمانية ؟

مولود مدي في الخميس ٠٨ - يونيو - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

ان فصل الدين عن السياسة و امور الحكم يحقق صالح السياسة و الدين في وقت واحد, فحشر التعاليم الدينية في الامور السياسية يفقد الدين قداسته, كما يصبح الدين عامل تفرقة بين الناس عوض ان يكون عاملا في توحيدهم لان الناس لا يمكن ان تتفق على دين واحد ولا على مذهب واحد.

ان ظاهرة الخلط بينما هو سياسي و ديني اصبحت ماركة مسجلة في العالم الاسلامي بلا منازع .. فبعدما تخلصت اروبا من هذا الخلط منذ نهاية حرب الثلاثين عاما ( 1618-1648) ظهرت العدوى في العالم الاسلامي بعد سقوط الخلافة العثمانية, فانفجر العالم الاسلامي بافكار سيد قطب و المودودي و حسن البنّا و غيرهم .. يكفي فقط القاء نظرة على ما حدث للسودان بسبب اسلمة الدولة,  و الصالح الذي يتحقق للسياسة من فصلها عن الدين هو عدم ظهور انظمة قمعية ديكتاتورية متسربلة بالدين التي هي اخطر من الانظمة العسكرية, فالنظام العسكري يسمح على الاقل بهامش من الحرية مثل حرية التدين و التمذهب, اما في الدولة الدينية الاسلامية يتم تكفير المذاهب الأخرى و مطاردتها أما المرتد فيُقتل مباشرة.

لقد تسبب الخلط الارعن بين الاسلام و السياسة ظهور حكام مجرمين و سفاحين على شاكلة المنصور الذي عذب الامام  " ابي حنيفة النعمان " لان هذا الاخير رفض منصب القضاء فتم جلده حتى ورم راسه و هو في السبعين من عمره من طرف اعوان المنصور الذي قال يوما (انا الاسلام و الاسلام انا ) فكل انسان لا يفهم الاسلام على شاكلة هذا الشخص يعتبر كافرا مستوجب القتل..وهذا قليل من كثير فلو نتصفح تاريخ الامبراطوريات التي قامت في التاريخ الاسلامي و تغطت برداء الاسلام من اجل الحكم و السلطة فلن نجد اي انتقال ديمقراطي للسلطة بين الحكام المسلمين .. فالانتقال و تسليم السلطة يتم بالسيف و قطع الرقاب و ضرب كل محاولة سلمية في عرض الحائط .. فبسبب حب السلطة و الحكم اغتيل ثلاث خلفاء راشدين ( عمر بن الخطاب, عثمان بن عفان , علي بن ابي طالب ) دون ادنى مراعاة لمكانتهم الدينية و قربهم من رسول الاسلام .. لقد حصد السيف الكثير من رؤوس المسلمين اكثر مما حصد في الغزوات.

الاصلاحية الاسلامية الممثلة بـ العلامة الجزائري " عبد الحميد بن باديس " و " محمد عبدو " و " الكواكبي " و غيرهم, فتحت العالم الاسلامي على أسئلة ما نزال نعيش تداعياتها الى حد الأن و منها علاقة الدين – الاسلام – و بين الدولة, و أفضت الى اجابات أعتبرها ثورية مثل مطالبة الشيخ و القاضي المصري " علي عبد الرازق " بالدولة المدنية و معارضته لدولة الخلافة و استدل بالأدلة الشرعية على بطلانها و عارض من نادى بعودتها, و أيدّه في ذلك الامام الاصلاحي " عبد الحميد بن باديس " بل و ذهب هذا الامام الى تأييد المشروع الأتاتوركي و الذي ألغى السّلطنة ثم الخلافة, و أبّن " مصطفى كمال أتاتورك " في جريدته " الشهاب " في 14 نوفمبر 1938 و قال عنه: " في السابع عشر من رمضان .. خٌتمت انفاس أعظم رجل عرفته البشرية في التاريخ الحديث .. و عبقري من أعظم عباقرة الشرق الذي يطلعون على هذا العالم في مختلف الأحقاب .. فيحوّلون مجرى التاريخ و يخلقونه خلقا جديدا .. ذلك هو مصطفى كمال " فيبدوا لنا أن موقف هذا الاصلاحي واضح جدّا من الرجل الذي دفن الخلافة العثمانية التي ترادف البابوية في أروبا, لذا تخيّلوا مصطفى كمال أتاتورك العلماني الذي ألغى البابوية السنّية  تم تأييده من شيخ اصلاحي اسلامي.

ان الدين يعتنقه البشر عن اختيار و قناعة و لا تعتنقه مؤسسات الدولة التي يجب ان تبقى حيادية لأنها وجدت لقضاء مصالح الناس و ليس لحمل الناس على التدين و التمذهب, ولكن المرفوض هو تجاهل الدين كعامل مهم في بناء ضمير الناس و اخلاقهم و لكن الفرق عظيم, فالدين و غايته لا تتغير, و لكن السياسة تتغير بتغير الزمان, السياسة تقبل الخطأ و الصواب و تقبل التجربة و المناقشة لكن الدين لا يقبل المناقشة فيما يخص الحلال و الحرام, بل مناقشة الدين و الجدال فيه قد يصل بصاحبه الى الكفر لأن الدين قوامه الطاعة دون جدال, فإما أن تأخذه كله أو تتركه كله, فالعلمانية ليست فقط فصل الدين عن الدولة أو السياسة لأن هذا الفصل هو نتيجة من نتائج للعلمانية, بل العلمانية هي طريقة تفكير تحررية قائمة على فهم الانسان لذاته و فهمه للمجتمع و التاريخ مدركا أنه لا يمكن قراءة الحاضر بالرجوع الى الماضي, العلمانية هي عدم الخلط بين تعاليم الله و تعاليم البشر, وبين ما هو ديني و ما هو دنيوي و بين القيم الروحية و الأخلاقية و بين المصالح.

يعتقد الكثير من النّاس أن العلمانية هي نظام اقتصادي كسائر الأنظمة المعروفة مثل الاشتراكية و الرأسمالية لذا سيقولون أن الحل العلماني سيكون حلا فاشلا مثل التجارب السابقة التي مرّت بها المنطقة العربية الاسلامية, لكن في الحقيقة العلمانية لا تهتم بشكل النظّام الاقتصادي لأنها ليست نظاما اقتصاديا ولا قانون و لا اعلان دستوري, لكن العلمانية تقول لك أن حل مشكلات الاقتصاد مثلا لا يأتي الا بالاستعانة بخبراء الاقتصاد وليس بالدعاء, حل مشكلة الزراعة يأتي بالاستعانة بالخبراء الزراعيون و ليس بصلاة الاستسقاء و التوسل الى الله ليحل لنا مشاكلنا او الرضى بالتخلف و نقول أن ذلك قدر الله و مشيئته, فالأصح وضع كل شيء في اطاره و ليس ان نخلط الأمور ببعضها و نعتقد أننا نحسن صنعا.

و من الهرطقات التي اخترعها رجال الدين المسلمين ضد العلمانية خوفا من قضائها على نفوذهم, او لأنهم لا يعرفون عنها شيئا هي أن العلمانية توجب محاربة الأديان و هذا غير صحيح فالإسلام لا زال ينتشر بشكل كبير في أروبا العلمانية, ولو كانت أروبا تخضع لنظام الدولة الدينية لتم حرق و صلب كل من تسوّل له نفسه اعتناق الاسلام, و لعاد عصر الحروب الصليبية فالإسلام مدين بالكثير لدساتير الدول الأوروبية العلمانية التي تركته ينتشر في ارجائها فعدد المسلمين في بريطانيا كان لا يزيد عن اثنين و ثمانون الفا, أصبح الأن مليونين و نصف و هناك توقعات في روسيا في ان يبلغ المسلمون ما نسبته اربعون بالمئة من تعداد الجيش الروسي بحلول عام 2030, كما تؤكد الاحصائيات في فرنسا مهد العلمانية الحديثة أن الاسلام هو الدين الثاني في البلاد اذن اين خطر العلمانية على الاسلام ؟ هل اختفى الاسلام من تركيا العلمانية أو من فرنسا أو من الدول الاسكندنافية " الملحدة " ؟ الواقع يقول أن العلمانية هي وقود انتشار الاسلام و ليس العكس.

العلمانية ليست أيديولوجية حزبية أو  فكرة عقائدية فيها حلال وحرام و ثواب و عقاب، بل هي دعوة للتحرر العقلي من عبودية الأفكار و من السجون التي وضعها كهنة الأديان و التي أسموها زورا  '' الثوابت '' و التي هي في الحقيقة مجرد أفكار متحجرة لا تزيد الانسان شقاء,  العلمانية ترفض التسليمات على العلاّت دون أو نقد، وهي بكل بساطة خيارات تقول للإنسان حرّر عقلك وفكر بمنطق وعش وجودك كما هو، تريد أن تكون متدينّا هذا حقك و لا أحد له الحق في منعك، أما قرارك في أن تكون على غير دين فتلك خياراتك وأنت من تتحمل وزر يقينك ونتيجة تعقلك، لكن لا تفرض على الأخر أي شكل من أشكال الالتزام الذي تؤمن به أو تظن أنه من الواجب عليك فعل ذلك ظنا أن ذلك تقرب من لله، فكما أنت حر بعقلك فللأخر حرية في عقله مساوية لحريتك وموازيه له تماما.

ان العلمانية تمنع تسييس الدين و تدنيس المقدّس و تقديس المدنّس, ان تسييس الدين هو عمل من أعمال الفجّار و الأشرار و الارهابيين و الجهال غير المبصرين, فهذا التسييس هو فاتحة الانتهازية, و لكن الانتهازية المقدّسة التي تحوّل الظلم الى شعيرة دينية, وسفك الدماء و العدوان على حرّيات و ممتلكات الغير عملا مقدّسا يسمى زورا " الجهاد في سبيل الله " وهو في الحقيقة هو جهاد في سبيل الطمع و الجشع.

ان العالم الاسلامي الذي يعاني في كل المجالات بطريقة غير مسبوقة, و خاصة الاحترابات الطائفية بين مختلف الطوائف الدينية تساندها القوى الامبريالية بزعامة الولايات المتحدة التي تغذي هذا الصراع و الداعمة للإسلام السياسي من اجل السيطرة على موارد الشرق الاوسط بدعم من الدول الوهابية الخليجية البترودولارية و بالفكر الوهابي الذي يشجع التكفير و القتل ضد الطوائف الاخرى لا حل له الا بإقامة انظمة سياسية علمانية تمنع الناس من استغلال الدين أو التكلم باسمه و الاعتداء على الأخر تحت غطائه أو استعماله لركوب ظهر الشعوب المسلمة,  فكيف نريد اذا ان يتعايش السني مع الشيعي مع السنّي و البهائي مع الدرزي في سلام؟ كيف ستتوحد الجبهة العربية ضد الامبريالية الامريكية و حلفائها و العدو الصهيوني الذي لا يتورع في تقتيل الفلسطينيين؟ ان هذا الحلم لن يتحقق الا تحت يافطة الدولة العلمانية المدنية التي تقيم العلاقات بين افراد الشعب على اساس المواطنة و ليس على أساس العقيدة أو الطائفة.

اجمالي القراءات 10715