أصبح من روتينيات شهر رمضان التي ألفناها كل سنة أن نسمع في المنابر والمساجد ووسائل اﻹعلام عن فوائد الصيام الصحية.. وتنشر مئات المقالات وتبث عشرات المقابلات التلفزيونية ﻷطباء وعلماء متخصصون، يدعون فيها عدد من التأثيرات اﻹيجابية على مختلف أعضاء الجسم جراء الصيام.
فأصبح مستقرا في ذهن العقل الجمعي للمجتمع اﻹسلامي أن رمضان هو فرصة ذهبية لعلاج السرطان والضعف الجنسي والروماتويد والكبد والكلي والقولون العصبي.. إلى غيرها من أنسجة الجسم وأعضائه، حتى صرنا نرفع شعار “رمضان دواء لكل داء” بدل “رمضان شهر التوبة والغفران” !
وما أرى هذا التدليس إلى استغلالا لسذاجة معظم المتدينين في عالمنا الإسلامي وارتياح أغلب الناس للموروث الثقافي والشعبي السائد وتجميد العقل الذي بعث الرسول اﻷعظم ﻹعماله وإحقاق الحق به، كون كل هذه اﻹدعاءات القائلة بوجود فوائد صحية للصيام لا تستند على أسس علمية و لا تحترم العلم عموما والمنهج الطبي خصوصاً.
وما يحز في النفس هو وجود أطباء على أعلى مستوى يضعفون أمام هذه النقطة ويضحون بكل ما درسوه في المراجع العلمية المعترف بها فقط من أجل مسايرة نفاق الجماهير ونسوا دورهم الذي تفرضه عليهم اﻷمانة العلمية والمتمثل في نشر الحقيقة العلمية كيفما كانت وحتى لو كانت صادمة.
إن الجهل بأبسط أبجديات البحث والتحصيل العلمي يجعل الناس أقرب للإنسياق وراء ما يناسب خلفياتهم الدينية واﻹجتماعية والثقافية؛ وخير مثال على ذلك هو تلك الدراسات والتجارب ( المسماة طبية ) المنتشرة على اﻷنترنت والتي تقول بوجود فوائد طبية للصيام على جسم اﻹنسان ..
المطبلون والمهللون لهذه الدراسات لم يكلفوا أنفسهم عناء التدقيق في مسألة كونها أبحاث تخص الصيام بطريقة طبية تستند على تحليل حالة المريض حيث يشرب أثناءها الماء و تؤخذ فيها العقاقير الطبية بانتظام وعلى فترات محددة من اليوم .. فالحديث هنا عن صيام طبي يختلف تماماً عن الصيام اﻹسلامي .. وإسقاط هذا على ذاك هو محض تدليس وتضليل أو جهل بالمنهج العلمي على أفضل تقدير !
وللأمانة، تبقى هذه مجرد دراسات وأبحاث محسوبة على ما يسمى بالطب البديل ولا ترقى ﻷن تكون حقيقة علمية؛ وبكل بساطة لا يوجد على وجه الأرض طبيب يحمل شهادة معترف بها يطلب من مرضاه الصيام لبضعة أيام على طريقتنا اﻹسلامية لكي يعالج السمنة أو ضغط الدم او ارتفاع نسبة الكولسترول .. أو غيرها من اﻷمراض..
ليس هناك أي دليل علمي موثوق يقر بأن الصيام مفيد لعلاج أي مرض !
يمكن تبرير اللجوء للصيام كعلاج في عهد أرسطو و سقراط أو حتى في العصور الوسطى ولكن في عصرنا الحالي الصيام لا يستخدم كوسيلة للإستشفاء لوجود أدوية أكثر فعالية لعلاج معضم اﻷمراض ..
والحديث هنا يستثني أولئك المشعودين الذين يسعون لجمع المال من خلال استغلال الناس واللعب على وتر مخاوفهم ومشاكلهم الصحية، خصوصاً من يعانون من اﻷمراض المستعصية حتى على الطب الحديث.
هذا الكلام يصعب استيعابه و قبوله على أشخاص ألفوا سماع فوائد الصيام الصحية المكررة منذ الطفولة حتى استقر ذلك في عقلهم اللاواعي !
ولن ينفك العقل الواعي ان يوجه لي التساؤل التالي :
لماذا و ما الهدف من الكتابة و اﻹسهاب في تفنيد منافع الصيام الطبية ؟ما الضرر في أن يفتخر طبيب مسلم بدينه ويؤكد للناس ان الصوم كله فوائد على صحة جسم الإنسان ؟
أقول لهؤلاء :
ما دمتم مؤمنون بأن الصيام يؤثر إيجابيا على صحة الإنسان، فلماذا لا تصومون على طول السنة دون انقطاع ؟
هل نصلي ﻷن الصلاة مفيدة لما فيها من حركات رياضية أم ﻷن الصلاة فرض علينا نؤديه من باب الخضوع لله عز وجل و اﻹمتثال ﻷوامره ؟
هل نصوم ﻷن الله سبحانه وتعالى أمرنا بذلك أم ﻷننا نبحث عن منافع طبية ؟
نحن نصوم خضوعا و امتثالا ﻷمر الله تعالى عندما قال : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ }
فنحن نعرف ما في الصوم من تعب و مشقة و نحن سعداء بشهر رمضان و صومه لما في ذلك من ترسيخ لقيم التكافل و التراحم اﻹجتماعي.
إن البحث عن غاية العبادات المفروضة علينا يقتضي أن يصل الباحث إلى علم مشرعها ..
إذن يستحيل قطعاً أن يعي البشر الغايات النهائية من الفرائض التي شرعها الله عز و جل !
ثم إن الباحث عن تفسيرات و غايات العبادات و الطقوس الدينية سيجد نفسه كحاطب ليل لا يدري أين تقع فأسه ..
خصوصاً عندما تجره استفهاماته إلى أسئلة من قبيل :
لماذا نصلي ركعتين في الفجر و أربع في العشاء ؟
رب العالمين لا يسأل عما يفعل و لا عما يشرع .. !! هذا من مقتضى اﻷلوهية و أساسات اﻹيمان !
إن المؤمن الحق لا يبحث عن منافع مادية دنيوية للصوم و الصلاة و غيرها من العبادات؛ فهي فرائض دينية ينتظر أجرها في اﻵخرة قبل الدنيا ..
المؤمن الحق يخضع ﻷوامر ربه دون مساومات ! و أصحاب هذه الفلسفات النفعية إنما يظهرون ضعف إيمانهم و حاجتهم للمبررات حتى يعبدوا الله !
المروجون لﻹعجاز العلمي في الصيام يفتحون الباب على أعداء الدين ليجابهونا بفوائد اليوغا مقابل الصلاة و توفير المال بدل الزكاة ..
إذا أدخلنا الفائدة في كل عبادة أو سلوك ديني فنحن نعرض الدين لخطر نسبية الحقائق العلمية؛ فالعلم متغير و نسبي و الدين تابث و مطلق.
إن تبرير الصيام بالفوائد الطبية يجعل موقفنا في غاية اﻹحراج أمام من يعترض علينا مستدلا باﻷثر الضار للصيام نتيجة نقص المياه على الكليتين أو على لزوجة الدم و الخمول و قلة النشاط بسبب نقص الكلكوز و جفاف الجسم و زيادة حمض اليوريك .. إلخ
لماذا نقحم فريضة دينية في جدل علمي و ندخل الدين في سجال خاسر بدعوى الدفاع عن اﻹسلام مع أن له رب يرعاه ؟!
رب العالمين قالها صراحة :
{ فمن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ }
المريض لا يجب أن يصوم برخصة من الله تعالى.. !!!
فكيف تتقولون على الله ما لم يقل وتجعلون الصيام دواء لكل داء !!؟
ثم إن اﻵية الكريمة واضحة في هذه النقطة .. قوله تعالى :
{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
لم يقل .. لعلكم تصحون .. لعلكم تعالجون .. ﻹنه تنزيل حكيم من رب عليم .. !!!
التقوى غاية الصوم ﻷنه عبادة دينية و ليس كبسولة طبية ..
أتمنى أن يعي المزايدون على الله خطورة ادعاءاتهم و أن يكف أولئك اﻷطباء الذين لا يحترمون اﻷمانة العلمية عن مبالغاتهم ومزايداتهم استجداء لتصفيق الجماهير المغيبة للعقول..
الدين لا يحتاج للمبررات الطبية ..
رب العالمين تكفل بحماية هذا الدين الحنيف ..
فهل يكلف هؤلاء أنفسهم عناء تصحيح فهمهم الخاطئ للدين ؟
لكن قبل ذلك ..
متى يكفون عن نفاقهم وكذبهم على الله عز وجل ؟
إن أصبت فمن الله سبحانه وتعالى وإن أُخطأت فمن نفسي .
هذه وجهة نظري وليس ملزوم بها كل من قرأ مقالي.