فوجئنا بعد مرور أسابيع قليلة على قيام ثورة 25 يناير، بحدوث استقطاب حاد، وغير متوقع، وباعث على القلق، بين فريقين من المصريين. فريق يتكلم فى السياسة، بصورة أو بأخرى باسم الدين، وفريق آخر يؤكد على ضرورة الفصل بين الدين والسياسة، حدث هذا على الأخص بمناسبة الاستفتاء على التعديلات الدستورية، إذ زعم البعض أن التصويت بنعم أو لا، يعنى اتخاذ موقف معين من الدين، ورفض آخرون هذا الزعم واستهجنوه باعتباره إقحاما غير مبرر للدين فى السياسة.
سبق هذا وتلاه أحداث مؤسفة تنطوى على استخدام العنف بين المسلمين والأقباط، ونشاط غير مسبوق من جماعات سمت نفسها بالسلفية، وظهور بعض دعاتها على شاشات التليفزيون، مما أثار قلق الكثيرين من أن يكون هذا بداية لاتجاه ينتهى بسيطرة السلفيين على الحكم، مما يمكن أن يهدد بالتضييق من حرية الأقباط وغير المتطرفين من المسلمين.
كان من الطبيعى أن تؤدى هذه التطورات إلى فتح باب الحديث من جديد حول المفاضلة بين الدولة الدينية والدولة المدنية. فتذكرت مقالا قديما لى كنت قد كتبته فى هذا الموضوع ونشر منذ خمس سنوات (فى مجلة الهلال، عدد يناير 2006)، وعندما أعدت قراءته وجدت أن موقفى فى هذا الأمر لم يتغير قط، وأن ما جاء فيه من تفضيل الدولة المدنية على الدولة الدينية لايزال فى رأيى صحيحا وملائما تماما لنوع النقاش الذى يجرى فى مصر اليوم، ومن ثم سأسمح لنفسى بأن اختصر هنا الحجج التى ذكرتها فى ذلك المقال لصالح الدولة المدنية.
<<<
إنى أفهم وصف دولة ما بأنها «دولة دينية» بمعنى أنها دولة يمارس حكامها الحكم باسم الله، معلنين أنهم يطبقون شريعته ويستلهمون مقاصده، ويلتزمون أوامره ونواهيه.
أما وصف دولة بأنها دولة «مدنية» فأفهمه عندما يستخدم كمقابل للدولة الدينية، بمعنى أنها دولة لا يزعم حكامها هذا الزعم، بل يحكم حكامها باسم الشعب، أو باسم الديكتاتور، أو باسم مبادئ سياسية أو اجتماعية قال بها مصلح شهير، أو نادت بها ثورة، أو حازت قبولا عاما من الناس.
أمثلة الدولة الدينية كثيرة، فقد سادت أوروبا فى العصر الوسيط وحتى العصر المسمى بعصر النهضة، وخلال عصر النهضة حكم سافونارولا مدينة فلورنسا بإيطاليا حكما دينيا بالمعنى المتقدم، وحكم العرب الدول المفتوحة بعد الإسلام حكما دينيا، من المدينة أولا ثم من دمشق فبغداد. وكذلك كان حكم العرب فى الأندلس، والخلافة العثمانية فى استانبول، ومن أمثلته فى العصر الحديث الحكم الإسلامى فى إيران.
أما أمثلة الدولة المدنية فتشمل نظام الحكم فى أثينا وروما القديمتين، ودول أوروبا فى عصر النهضة المستقلة عن البابوية، كما تكاد تشمل كل دول العالم فى الوقت الحاضر.
وفى المقارنة بين الدولة الدينية والدولة المدنية، من المفيد فى رأيى تأكيد الحقائق الخمس الآتية والتى ترجح كفة الدولة المدنية على الدينية:
الحقيقة الأولى: هى أن الدولة الدينية يديرها بشر.
نعم إنهم بشر يحكمون باسم الله، ويحاولون بقدر ما تيسر لهم من جهد وفهم، أن يطبقوا شريعته، وأن يجعلوا إرادة الله هى العليا، ولكنهم قد يوفقون أو لا يوفقون، وقد يكون من بينهم المخلص وغير المخلص، العاقل والمتطرف، المتشدد والمتسامح، الكاره لمخالفيه فى الدين أو الرأى وغير الكاره، إذ ما داموا بشرا فلا بد أن يصيبوا ويخطئوا، ولابد أن يكون من بينهم من يصيب أكثر مما يخطئ وكذلك من يخطئ أكثر مما يصيب، وقد يكون المخطئ مخلصا ولكنه غير واع بخطئه، وقد يكون مخطئا ولكنه كاره للاعتراف بالخطأ والعدول عنه، وقد يظن مخلصا أن فهمه للدين هو الفهم الوحيد الصحيح، دون أن تكون الحقيقة كذلك ويستحيل مع ذلك إقناعه بخطئه.
نحن نواجه هنا إذن مشكلة عويصة. فالحاكم لا يستطيع فى ظل الدولة الدينية أن يطبق إلا فهمه هو لأحكام الدين، ولكنه باستمرار ينسب هذا الفهم إلى الإرادة الإلهية، فيسبغ على تطبيقه وفهمه الخاص للدين مكانة على أعلى درجة من السموّ، ويستخدم فى تأكيد هذه المكانة ألفاظا وعبارات يحمل لها الناس أعلى درجات التبجيل والاحترام، ومعظم الناس لا يستطيعون بسهولة أن يقبلوا أن كثيرا من النصوص الدينية يمكن أن يكون لها أكثر من تفسير، بل ومعظم الناس منفرون بطبعهم، لأسباب شتى، من قبول تعدد التفسيرات للنص الدينى الواحد، وكأن هذا التعدد يجرح حسّهم الدينى أو يسىء إلى الدين نفسه.
معظم الناس أقرب إذن إلى التغاضى عن هذه الحقيقة، وهى أن الدولة يديرها بشر مثلى ومثلك، قد يخطئون وقد يصيبون، ومن ثم فهم على استعداد لمنح ثقتهم للمنادين بالدولة الدينية، دون أن يعتريهم الخوف من أن يأتى التطبيق مخالفا لتوقعاتهم وطموحاتهم.
الحقيقة الثانية: أن الدولة الدينية تواجه بالضرورة ظروفا متغيرة. فالحياة لا تسير على نفس المنوال إلى الأبد، والناس يتغيرون بتغير ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية، وحتى إذا تصوّرنا بقاء المجتمع الإسلامى على حاله، فالمجتمعات التى تحيط به دائمة التغير، والعلاقات الدولية لاتبقى طويلا على نفس الحال، وهو أمر يتطلب تغيير السياسة والتحول من مسلك قديم إلى مسلك جديد، حتى لو بقى الالتزام بالمبادئ الدينية والأخلاقية ثابتا وصارما.
هذه الحاجة إلى «التغيير» تواجه الدولة الدينية بمشكلة أشد صعوبة مما تواجه به الدولة المدنية. إذ إن الثابت فى الدين أكثر قداسة من الثابت فى المبادئ القانونية أو الاجتماعية التى تراعيها الدولة المدنية. فإذا كانت الدولة المدنية تتبع إرادة الدكتاتور، فقد لا يكون هناك أى ثبات مزعوم من الأصل، وإذا كانت تستلهم إرادة الشعب، فما أسهل مواجهة الظروف الجديدة بإصدار البرلمان لقوانين جديدة، وإذا كانت الدولة تستلهم آراء مصلح شهير أو مفكر اجتماعى كبير، فإن إعادة تفسير هذه الآراء بما يلائم الظروف الجديدة أسهل على أى حال من تفسير المبادئ الدينية على نحو يخالف ما جرى عليه العمل من قبل.
الحقيقة الثالثة: إن معظم الدول، سواء كانت دينية أو مدنية، تقطنها أقليات تعتنق أديانا غير دين الأغلبية وحكومة الدولة الدينية، مهما بلغ تسامحها مع الأقليات الدينية، لابد أن تستند فى تبرير ما تصدره من قوانين وما تتخذه من إجراءات إلى مبادئ الدين الذى عتنقه الأغلبية.
والأرجح أن حكامها سوف يستخدمون أيضا فى تصريحاتهم وخطبهم ألفاظا وشعارات مستمدة من كتبهم المقدسة. كما تشرع الدولة الدينية فى وضع مناهج للتعليم وسياسة للإعلام تستهدف تقوية الشعور الدينى وتستلهم مبادئ الدين، وتبرر أعمال الحكومة باتفاقها مع هذه المبادئ.
ولكن هذه المبادئ والنصوص والشعارات المستخدمة فى مناهج التعليم ووسائل الإعلام لابد بالضرورة أن تكون مستمدة من دين الأغلبية، وأقصى ما يمكن أن تسمح به حكومة دينية، إذا اتسمت بأكبر قدر من التسامح واتساع الأفق، مراعاة النسبة بين السكان المنتمين لأديان مختلفة فى توزيع البرامج أو الصفحات أو الساعات المخصصة لهذه الأديان فى وسائل الإعلام ومناهج التعليم، وتوفير الفرص لأصحاب الأديان الأخرى لكى يتعلم أولادهم مبادئ دينهم وممارسة شعائره.
ولكن المناخ العام للحياة اليومية لابد أن يتأثر دون أدنى شك بما تفعله الحكومة الدينية لخدمة دينها، إذ إن مواطنى الدولة الواحدة يعيشون فى دولة واحدة، يذهبون إلى نفس المدارس والجامعات، ويقطنون نفس الشوارع، ويقضون ساعات الفراغ فى نفس النوادى ونفس أماكن الترفيه..الخ. وليس هناك من طريقة، حتى إذا توافرت رغبة الحكومة الدينية فى ذلك، يمكن بها مراعاة مشاعر أصحاب الأديان الأخرى وهم يتعرضون لنفس البرامج التليفزيونية، ونفس ما تذيعه ميكروفونات أماكن العبادة، ونفس مقررات اللغة والأدب والتاريخ التى تضعها حكومة دينية، أو وهم يجبرون على الخضوع لنفس القوانين والقواعد المنظمة لما هو حرام أو حلال فى النوادى والمطاعم والشواطئ ومختلف مجالات الترفيه عن النفس.
لابد أن يسبب ذلك مشكلات نفسية، قد تتحول إلى مشكلات اجتماعية، تتراوح حدتها باختلاف درجة التسامح وسعة الأفق التى يمكن أن تتحلى بها الحكومة الدينية، وهى مشكلات لا يمكن أن تثور بنفس الدرجة فى دولة مدنية.
قد يقال إن هذا ثمن زهيد أو طبيعى علينا قبوله فى سبيل تحقيق مصلحة مهمة للأغلبية، إذ لا يجوز أن يطلب من الأغلبية التضحية بمصلحة أساسية تتعلق بصيانة دينها وترسيخ عقيدتها، لمجرد تجنب المساس بمشاعر الأقلية التى عليها أن تتعلم التعايش مع ما تفرضه مصلحة الأغلبية.
هذا القول يبدو معقولا تماما مادامت تضحية الأقلية لا تتجاوز حدا معينا، ومادام حجم التضحية المطلوبة من الأقلية يتناسب مع حجم المصلحة التى تحققها الأغلبية.
ولا يمكن الفصل فى هذه القضية بوجه عام (أى لا يمكن القول بجواز مطالبة الأقلية بالتضحية بوجه عام مادامت مصلحة الأغلبية تستلزم ذلك)، بل لابد أن تبحث كل حالة على حدة طبقا لحجم التضحية بالنسبة لحجم المصلحة.
أى لابد هنا أن نطبق القاعدة القانونية الخاصة «بالتعنت فى استخدام الحق». فالاعتراف بحق الأغلبية شىء، والتغاضى عن التعنت فى استخدام هذا الحق شىء آخر.
وأظن أن حكومة الدولة المدنية أقرب إلى إدراك ضرورة هذا التمييز من حكومة الدولة الدينية. ومن ثم فالمشكلات التى يمكن أن تثور فى ظل دولة دينية بسبب المساس بمشاعر الأقليات الدينية، لابد أن تكون أكبر، وقد يتعدى الأمر مجرد «المساس بمشاعر» بعض الناس، إلى إثارة فتن واضطرابات وإشاعة مناخ اجتماعى سىئ يضر بمصلحة الأقلية والأغلبية على السواء.
الحقيقة الرابعة: الدولة المدنية ليست بالضرورة دولة معادية للدين، هذه الحقيقة هى ما نستخلصه من تعريفنا المتقدم للدولة المدنية. فقد عرفناها بأنها الدولة التى لا يزعم حكامها أنهم يحكمون باسم الله، وأنهم يطبقون شريعته، بل يزعم حكامها أنهم يحكمون باسم الشعب أو باسم الدكتاتور أو باسم مبادئ سياسية واجتماعية من صنع البشر. هذا التعريف لا يتطلب اتخاذ أى موقف عدائى من الدين، ولا يتعارض البتة مع اتخاذ مواقف إيجابية للغاية إزاء الدين والمتدينين. فالمهمة الأساسية للدولة المدنية هى حفظ الأمن وحماية النظام العام، والنظام العام فى دولة أغلبية سكانها من المتدينين يفرض على الدولة المدنية واجبات كثيرة تتعلق باحترام الدين وصيانته من أى اعتداء ومنع أى إيذاء لمشاعر المتدينين.
وهذه الواجبات تشمل احترام وصيانة أديان الأقليات أيضا ومنع أى إيذاء لمشاعر أصحابها، ولكن هذه الواجبات بالضرورة أكثر وأبعد مدى فيما يتعلق بدين الأغلبية.
بل إن القيام بهذا الواجب قد يمتد ليشمل دورا إيجابيا للدولة يتعلق ببذل جهود ترمى إلى تقوية الشعور الدينى وترسيخ العقيدة الدينية، على أساس أن هذه الجهود قد تكون عاملا مهما فى تحقيق نهضة الأمة، اجتماعيا وخلقيا، وتقوية أواصر الأسرة والعلاقات الاجتماعية.
قد تفهم الدولة المدنية واجبها نحو الدين هذا الفهم الواسع دون أن تتحول بذلك إلى «دولة دينية»، إذ إن هذا الفهم لواجبها نحو الدين قد يُستلهم من مبادئ اجتماعية وسياسية عامة، وقد يستقى من فهم لمتطلبات النهضة التى تنسجم مع أى دين ولكنها لا تستقى من أى دين بعينه.
وليس هذا الكلام عما يمكن أن يكون عليه موقف الدولة المدنية من الدين، كلاما نظريا لا مقابل له فى الواقع. فمعظم دول أوروبا الغربية لاتزال تتخذ هذا الموقف من الدين، فتعتبر من واجبها احترامه ومنع الإساءة إليه كجزء من وظيفتها فى المحافظة على النظام العام.
وفى مصر كانت الدولة مدنية منذ تولى محمد على الحكم على الأقل، أى منذ قرنين من الزمان، وزاد طابع الدولة المدنية وضوحا منذ الاحتلال الإنجليزى فى 1882، ثم انفصال مصر عن الخلافة العثمانية فى 1914. واستمر الأمر كذلك، أى استمر الطابع «المدنى» للدولة المصرية فسمحت الدولة لنفسها بأن تستلهم الدساتير الأوروبية فى تنظيم العلاقة بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وباستلهام القانون الفرنسى فى الأحكام المنظمة للالتزامات المدنية والتجارية وللعقوبات، إلى جانب تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية فى الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والميراث.
ولكن الدولة المصرية اعتبرت من واجباتها حماية الدين ومنع الاعتداء عليه أو الاساءة إلية كجزء من وظيفتها كدولة مدنية، واعتبرت من واجبها أيضا تعميق تعريف النشء بدينهم وتقوية الشعور باحترامه والالتزام بشعائره كجزء من المنهج التعليمى، دون أن يقتصر هذا على دين الأغلبية، بل راعت نفس الشىء مع النشء المنتمين لدين الأقلية، فكانوا يتلقون بدورهم من الدروس فى المدارس ما يعمق معرفتهم بدينهم ويغرس الشعور باحترامه.
لم يصدر عن الدولة المصرية أى إعلان عن تخليها عن أى من هذه الواجبات، فإذا بدا لنا أن الدولة المصرية قد بدأت تتهاون فى تطبيق هذه المبادئ، مثلما يظهر فى سلوك بعض القضاة وكأنهم تحوّلوا من قضاة إلى مشرعين، وتحول عدد متزايد من المدرسين إلى دعاة دينيين، حتى ولو وجود بين التلاميذ من يدين بغير دين الأغلبية، إذا بدا لنا ذلك فالسبب ليس تحول مصر إلى دولة دينية، وإنما سببه الضعف العام الذى أصاب الدولة المصرية.
الحقيقة الخامسة: إننا اليوم نعيش فى عالم يصعب فيه جدا إن لم يكن المستحيل، أن تعزل أى دولة نفسها عن بقية العالم. فالتكنولوجيا الحديثة فرضت الاعتماد المتبادل فى الاقتصاد، وعرّفت كل أمة بما يجرى فى الأمم الأخرى، فخلقت حاجات جديدة لدى كل أمة لا تستطيع إشباعها بمفردها، كما سهّلت تدخل الدول الأقوى فى شئون الدول الأضعف، إما بإجبارها على فتح أبوابها للسلع، أو بإجبارها على تبنى أنماط للحياة لم تخترها بإرادتها الحرة. فى عالم كهذا لابد أن تجد الدولة الدينية نفسها فى ورطة لا تواجهها الدولة المدنية بنفس الدرجة.
فإذ تجد الدولتان نفسيهما مضطرتين للتعامل مع أمم مختلفة الأديان والثقافات وأنماط الحياة، تحاول الدولتان باستمرار التوفيق بين متطلبات هذا التعامل مع أمم مختلفة عنها، وبين الالتزام بقواعد الدين وبالثقافة ونمط الحياة المرتبطين بهذا الدين. هذه المحاولة المستمرة للتوفيق، أيا كان نوع الدولة، دينية أو مدنية، لابد أن يصحبها مؤثرات نفسية واجتماعية قد تصل إلى درجة إحداث ازدواجية خطيرة فى الحياة الاجتماعية والثقافية، بين أنصار التمسك بالتراث وأنصار الحداثة.
ولكن يجب أن نتوقع أن يكون التوتر الذى يمكن أن ينشأ فى الدولة المدنية أقل حدة وخطورة مما يمكن أن ينشأ فى ظل الدولة الدينية، خاصة إذا اتسمت الدولة الدينية بتسامح أقل من المخالفين فى الرأى ومع أنصار الحداثة.
فإذا استطاعت الدولة المدنية أن تواجه العالم من حولها بتسامح مع أصحاب الأديان والثقافات وأنماط الحياة المغايرة (كما فى تعاملها مثلا مع السياح والأفلام المستوردة) دون أن تتنكر لدينها، أو تبدى تقاعسا فى حماية هذا الدين من أى إيذاء أو إساءة من أصحاب الديانات والثقافات وأنماط الحياة المغايرة، فإنه يصبح من المبرر القول بأن الدولة المدنية أقدر على مواجهة مشكلات «العولمة» من الدولة الدينية.
<<<
قد يقال ردا على كل ذلك، إن المفاضلة بين الدولة الدينية والدولة المدنية على هذا النحو لا فائدة منها مادام الأمر لابد أن تقرره فى النهاية إرادة الناس عن طريق انتخابات حرة. فإذا حدث واختار غالبية الناس، فى انتخابات تطبق قواعد الديمقراطية، وتتسم بأقصى قدر من الحرية والنزاهة، أن تكون حكومتهم دينية، فما جدوى المفاضلة فى هذه الحالة بين هذه الحكومة وغيرها؟ إذ فلتكن الدولة دينية إذن، ما دام هذا هو اختيار الناس. ولكن حتى لو افترضنا أن غالبية الناس فى مصر تفضل أن تقوم فيها حكومة دينية، فإن هذا فى رأيى لا يجب أن يستنتج منه بالضرورة أن الدولة الدينية أفضل من غيرها.
فهذا الاستنتاج يتطلب توافر شرطين من المشكوك فيه توافرهما. الأول: أن الناس تعرف بالضبط ما الذى يعنيه مجىء «الدولة الدينية» والثانى: أن الناس يعرفون دائما أين تكمن مصلحتهم الحقيقية.
الشرط الأول مشكوك فى توافره لأن أصحاب التيار الدينى، مثلهم مثل غيرهم، لا يفصحون عادة عما ينوون فعله بالضبط إذا حدث وأمسكوا بمقاليد الحكم. فشعار «الإسلام هو الحل» مثلا، شعار يحتمل العديد من التفسيرات التى قد لا يحظى بعضها بنفس الدرجة من التأييد التى يحظى بها غيره من التفسيرات.
والشرط الثانى مشكوك أيضا فى توافره، على عكس الاعتقاد الشائع. فالناس فى الحقيقية لا يعرفون دائما كنه حاجاتهم الحقيقة، ومن ثم كثيرون لا يعرفون مدى قدرة البدائل المطروحة على تلبية هذه الحاجات.
إن الإنسان وهو بصدد الاختيار بين البدائل السياسية المطروحة لا يختلف وضعه كثيرا عن وضعه وهو يحاول الاختيار بين السلع المطروحة عليه فى الأسواق.
إن معرفته بالخصائص الدقيقة لكل سلعة من السلع المعروضة عليه، كثيرا ما تكون معرفة ناقصة (ونحن نعرف ما تفعله الدعاية التجارية والإعلانات بقصد تضليل عن الصفات الحقيقية للسلع). كما أن معرفة المستهلك لما يحتاج إليه حقيقة من هذه السلع ومدى النفع الذى يمكن أن يحصل عليه من كل منها، وما إذا كان هذا النفع سيستمر طويلا أو سرعان ما يزول، هى أيضا معرفة ناقصة.
وكلا النوعين من نقص المعرفة كثيرا ما يؤديان بنا (كما نعرف جيدا) إلى شراء سلعة ثم نتبين بعد ذلك أنها لا تحقق ما علقنا عليه من آمال.
الانتخابات الحرة فى السياسة ليست إذن أفضل كثيرا من نظام السوق الحرة فى الاقتصاد، كلاهما يقوم على هذين الافتراضين: المعرفة الكاملة (أو الكافية) بخصائص المرشحين أو السلع، والمعرفة الكاملة (أو الكافية) بحاجاتنا الحقيقة، وكلا الافتراضين مشكوك فى صحتهما.
قد نقرر على الرغم من كل هذا أن الانتخابات الحرة هى أفضل الوسائل لتحديد نظام الحكم، وأن نظام السوق الحرة هو أفضل أنواع التنظيم الاقتصادى. ولكن حتى لو سلمنا بهذا وذاك فإن هذا لا يعنى بالضرورة أن النظام الذى ستسفر عنه الانتخابات الحرة هو أفضل النظم طُرًّا، وأن السلع التى سنقتنيها من السوق بمطلق الحرية، هى أكثر السلع تحقيقا لحاجاتنا الحقيقية، مع هذا قد نقرر الالتزام باحترام رأى الغالبية.
تماما كما كان الأب الرحيم قد يرى أحيانا أن من الأفضل أن يترك ابنه يختار ما يشاء من السلع رغم أنه يعرف أن ابنه لن يختار ما فيه مصلحته الحقيقية. ولكن حتى لو فعل الأب ذلك، فإن من واجبه أن ينتهز أى فرصة تتاح له لكى يشرح لابنه البدائل المطروحة وتقارن بين مزايا ومخاطر كل منها.
وهذا هو ما حاولت أن أفعله فى المفاضلة السابقة بين الدولة الدينية والدولة المدنية.