الجزء الثامن ( السماوات و الأرض )
السقف المرفوع
السقف هو الجزء العلوي أو الاتجاه العلوي للشيء , فالسماء كونها تعتلينا و ترتفع و تعلو فوقنا و تحيط بالأرض فهي سقفٌ لنا و للأرض ( وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ) 5 الطور ,
هذا السقف ليس فراغاً بل هو بناءٌ منتظم و لكنه برزخي لا يرى بالعين , هذا السقف المبني هو جزءٌ من السماء الممتدة الغير مرئية (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) 47 الذاريات ,
كما تحوي هذه السماء ما تم بناؤه من نجوم و كواكب مرئية (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ) 6 ق , و يدعونا الخالق جل وعلا للنظر و البحث العلمي الذي سخره الله جل وعلا للإنسان و مكنه من التوصل إليه و جعله مؤهلاً لاكتشافه ( قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ) 101 يونس ,
بالنسبة للأرض فهي في كتلتها و حجمها ثابتة غير متغيره , عكس السماء فهي متغيره و في حالة توسع مستمر ( لموسعون ) ,
فالأرض قرار و السماء بناء (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ) 64 غافر , و القرار ما تم إقراره فهو ثابت لا يتغير , أما البناء فهو متغير غير ثابت ,
و هذا السقف المرفوع الغير مرئي تم رفعه بأعمدة غير مرئية :
فقال ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) 10 لقمان ,
فهذه الأعمدة الغير مرئية التي ترفع هذا السقف قد تم ربطها هنا بالرواسي التي ألقاها الله جل وعلا و تحدثنا عن تلك الرواسي في المقال السابق و قلنا أنها نوعان ( ما تم إلقاؤه و ما تم جعله ) , فيبدو بأن هناك علاقة بينهما في حفظ الأرض و من عليها من الميد ( الاضطراب ) ,
و قال جل وعلا أيضا عنها ( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) 2 الرعد .
لماذا وضع الله جل وعلا هذا السقف بأعمدته ؟
بداية قبل التطرق للآيات التي تجيب عن هذا السبب , نقول بأن السقف في اللغة يفيد الغطاء و الحماية و الوقاية لما هو دونه أي لما هو أسفل السقف لا فوقه , فالسقف هو غطاءٌ لما تحته لحمايته و وقايته و حافظاٌ له ما دام السقف موجوداً .
فقال سبحانه ( وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ) 32 الأنبياء ,
هذا السقف الذي هو جزء من السماء وظيفته الحفظ لمن تحته كونه سقفاً ,
و قال ( فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) 12 فصلت ,
هذا الحفظ هو من ضمن ما قدره العزيز العليم , و كل ما تم تقديره له مقاديره الخاصة به , و الحفظ هو الحماية و المحافظة على الشيء من أجل الاحتفاظ به لفترة معينة .
و هذا الرفع قد تم بوضع تلك الأعمدة و بواسطتها فقال سبحانه ( وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ) 7-9 الرحمن :
هنا في هذه الآيات الثلاث المتتالية قد ورد فيها لفظ الميزان , فالأولى تشير إلى ميزان الرفع و هو الأعمدة التي ترفع السقف الحافظ الواقي و الحامي , و تم وصف تلك الأعمدة بالميزان , أي بالشيء الموزون و الثابت بمعنى أن تلك الأعمدة متزنة بمكوناتها و مقاديرها ( وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ) ,
و الآية الثانية تشير لتلك المقادير التي تتكون منها هذه الأعمدة فتقول ( أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ) , و الطغيان هو كل زيادة أو تعدي للحد المعهود , و هنا إشارة بأن الإنسان هو المسؤول و المؤثر على تلك النسب و المقادير التي تتكون منها تلك الأعمدة ,
فأي اختلال في تلك المقادير بنسبها يؤثر على وظيفتها بالحفظ ,
و الآية الثالثة تدعو الإنسان بالحفاظ على تلك الموازين ( و أقيموا ) فالقيام على الشيء هو الحفاظ عليه , و القسط هو العدل و العدل من الاعتدال , فالآية التي سبقت حثت على عدم الزيادة و هذه تحث على عدم الخسران ( وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ) .
أذا هناك سقف مرفوع فوقنا بواسطة أعمدة موزونة بمقاديرها و مكوناتها و هي غير مرئية , و كل سقفٍ يشير لنهاية أمر , إذا فهذا السقف المرفوع لا بد أن يكون له حد معين و ما فوقه يكون خارج نطاق هذا السقف الواقي و الحافظ , أي حين يتخطى الشيء المحمي و المحفوظ و يتعدى هذا السقف فلن يخضع لتأثير هذا السقف كونه يصبح خارج نطاقه و تأثيره .
و هذا السقف بأعمدته هو من أجل حماية الأرض و الحفاظ عليها , و هو موجود في نطاق السماء و له حدٌ و بعدٌ معين , و من فوقه تستمر السماء و تتواصل , و جدير بالذكر هنا بأن هذه السماء البرزخية المتواصلة فيها كذلك حد معين لا يمكن لشياطين الجن من تعديها ,
فتم حفظها و حمايتها منهم ( وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ) 17 الحجر .
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا
سبحانك إني كنت من الظالمين