الجزء السابع ( السماوات و الأرض )
الرواسي
الرواسي هي ما يرسو على سطح الأرض و ما يرسو في باطنها , و سميت المرساة بهذا الاسم كونها تمكن السفينة من الثبات على سطح الماء بينما تغوص هي و ترسو في عمق الماء ,
و الرواسي الأرضية نوعان , نوعٌ يرسو على سطح الأرض ثابتٌ لا يتحرك , و نوعٌ يغوص في عمق الأرض ,
مهمة تلك الرواسي ضبط الميد كي لا تشعر الكائنات الحية بدوران الأرض , و تضبط و تنظم حركة الدوران و تحدد سرعتها , و لولا تلك الرواسي لاختلفت حركة الأرض و سرعة دورانها مما يجعلها تتباطأ حيناً و تتسارع حيناً آخر مما ينعكس و يؤثر علينا فنشعر بعدم الاستقرار لتلك الحركة المضطربة فيختل التوازن .
فالتمايد هو الحركة المضطربة الناتجة كردة فعلٍ لفعلٍ مؤثر ,
و يشتق من الفعل ( مد ) الكثير من الأفعال و الأسماء و الصفات ( التمدد , المد , المادة , المداد , المائدة ... الخ ) ,
و المد فيه عطاء و تأيد , فجعل الله جل وعلا تلك الرواسي من أجل ضبط التوازن لزوال الاضطراب ( الميد ) الذي يصيب الأرض في حركتها مما ينعكس علينا فنشعر به , فقد أيد الله جل وعلا الأرض بالرواسي كي تستقر حركتها ( ميدها ) كي نتمكن نحن من الثبات و الاستقرار , و تتمكن الأرض أيضا من الثبات و الاستقرار في حركة دورانها .
فالأرض غير ثابتة و هي في حالة دوران مستمر , هذا الدوران المستمر مع حركتها يؤدي إلى فقدان التوازن للأرض و للبشر على حدٍ سواء فيصيبهم الاضطراب , لذا فقد ( ألقى و جعل ) الله جل وعلا الرواسي من أجل منع هذا الاضطراب .
فتلك الرواسي هي كما قلنا نوعان :
النوع الأول ما تم ( جعله ) و تكوينه من الأرض و من مادتها , و هو الجبال الأرضية التي ترسو على سطح الأرض .
و النوع الثاني ما تم ( إلقاؤه ) في الأرض و هو ليس من مادتها , و هو ما غاص في عمقها .
الآيات التي تتحدث عن النوع الأول ( ما تم جعله ) :
و هو ما تم تكوينه من الأرض و مادتها فتلك الرواسي هي الجبال الأرضية التي ترسو على سطح الأرض ,
1 - ( وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاءً فُرَاتًا ) 27 المرسلات ,
2 - ( وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ) 10 فصلت ,
3 - ( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) 3 الرعد ,
4 - (وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) 31 الأنبياء ,
هذه الرواسي هي الجبال الشامخات و هي ما تم جعله و صنعه من الأرض و مادتها , هنا جديرٌ بنا لو تأملنا تلك الآيات الأربعة , لنجد أول ثلاثة منها تربط بين هذا النوع من الرواسي و بين الرزق من طعام و شراب , و الرابعة تربط بينها و بين علامات الاستدلال بها كونها ظاهره و ثابتة و يمكن الاعتماد عليها كوسيلة في المسير , و الفجاج هو المعلم الظاهر .
الآيات التي تتحدث عن النوع الثاني ( ما تم إلقاؤه ) :
و هو ما أنزله الله جل وعلا و ألقاه في الأرض فغاص في عمقها , و تلك الرواسي ليست من المادة المكونة للأرض بل من خارجها ,
1 - ( وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ) 19 الحجر ,
2 - ( وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ) 7 ق ,
3 - ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ) 10 لقمان ,
4 - ( وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) 15 النحل ,
هذه الرواسي هي ما تم إلقاؤه في الأرض لنفس الغاية و الهدف , فهي تعمل عمل الرواسي التي تم جعلها و هي الجبال , و لو تأملنا آياتها الأربعة , نجد أول ثلاثة منها تربط بين هذا النوع من الرواسي و بين الزوجية النوعية و التوازن , في حين تربط الرابعة بينها و بين الاستدلال بها كوسيلة في المسير , و لكنها بدون معالم ظاهرة لعدم ورود ( الفجاج ) فيها , و لتواجدها في جوف الأرض و عمقها .
و بما أن العليم الحكيم قد أخبرنا بأن هذا النوع من الرواسي قد تم إلقاؤه في الأرض , نقول بأن الإلقاء هو نفس الإنزال و كلاهما يفيد الاستقرار و الثبات عكس القذف و الرمي و الرجم ,
كما يشير أيضا لشرط اختلاف المكان , و يكون من مكانٍ مرتفع لمكان منخفض , أي فيه هبوط من مستوى لمستوى آخر ,
نورد هنا بعض الأمثلة عن الإلقاء :
قال تعالى ( قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ) 29 النمل ,
و قال ( تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ) 8 الملك ,
و قال ( فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ) 53 الزخرف ,
و من الأمثلة عن الإنزال :
فقال سبحانه ( وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ) 99 البقرة ,
و قال ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ) 105 النساء ,
و قال ( وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ) 18 المؤمنون ,
و قال ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) 25 الحديد ,
و هناك أمورٌ أخرى تم إنزالها لا مجال لحصرها كنزول الملائكة و المن و السلوى و الرجز و المائدة ,
فمن بين جميع تلك الأمور نلاحظ بأن الحديد وحده يمكنه العمل كرواسي ( وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) و تنطبق عليه صفات النوع الثاني من الرواسي ,
حيث وصفه الله جل وعلا بأن فيه بأس شديد و منافع , تماما كما النوع الأول و هو الجبال فيه بأس و قوه و منافع للناس ,
و عن أهمية الحديد في كونه أحد الرواسي و كيفية عمله في الأرض من خلال ضبطه للميد و عمله على استقرار البشر و توازنهم , و كذلك في كيفية عمله و تأثيره على الأرض بذاتها من ضبط ميدها و استقرار حركتها بانتظام و ذلك بتحديد سرعة دورانها , و عن كيفية عمله كوسيلة يهتدى بها و يستدل بها في المسير , كل هذه الأمور متروكة للبشر من أجل البحث فيها علمياً .
و من الجدير بالذكر في هذا المقال و من الإشارة له , هو عدد الآيات التي تحدث فيها العليم الحكيم عن الرواسي و هي تسع آيات فقط :
أربعة منها تتحدث عن الجبال الأرضية لوجود ( الجعل في الأرض ) ,
و أربعة منها تتحدث عن الحديد لوجود ( الإلقاء في الأرض ) ,
أما التاسعة فتتحدث عن النوعين معاً لوجود ( جعل لها ) ,أي للأرض بأن لها تلك الرواسي , و تلك الآية هي (أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ) 61 النمل .
كما نلاحظ التساوي في اقتسام تلك الرواسي لعملها مناصفةً , أربع آيات مقابل أربع آيات , و كما نلاحظ شدة التشابه بينهما مما يدل بأن تأثير كلٍ منهما لا يقل أهمية عن الآخر , و غياب أحدهما يؤثر سلباً على الميد مما يؤدي لاضطراب حركة دوران الأرض و لاضطراب من عليها .
هذا بالنسبة لرواسي الأرض , و يمكن لنا القول بأن أي كوكب له صفات الحركة و الدوران المنتظم و الثابت يتوجب وجود رواسي له تماما كتلك الرواسي الموجودة على الأرض .
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا
سبحانك إني كنت من الظالمين