مدخل لعلم قرآنى جديد : أساليب السخرية فى القرآن الكريم ( 1 ) السخرية بالاسلوب التقريرى

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١٩ - مايو - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة ـ

1 ـ السخرية من أساليب الدعوة الاسلامية ، ولذا جاءت فى الدعوة القرآنية متنوعة الأساليب .

2 ـ أهمية السخرية فى الدعوة الاسلامية أن المشركين يقدسون البشر والحجر وهذا أمر  ـ فى حدّ ذاته ــ يدعو للسخرية؛ وهم يرفعون بالخرافات أولئك البشر الى مستوى التقديس ، ويعتبرون إنتقادهم كفرا ويعتبرون من الكفر معاملة أولئك البشر المقدسين على أنهم بشر ، مع إنهم بشر يتبولون ويتغوطون ويخرج منهم الضراط والفُساء والخراء كبقية البشر . هذه المعتقدات تستحق السخرية ، ليس فقط لأنها أوهام وخرافات ولكن أيضا لإنزال تلك الألهة والأولياء من عليائها الوهمى لتكون فى مكانها الحقيقى بين البشر . ثم إن أئمة الكهنوت فى الديانات الأرضية المسيحية والمحمدية يكتسبون جاها ـ لا يستحقونه ـ بين أتباعهم. هؤلاء الأئمة والشيوخ وأصحاب القداسة والفضيلة هم مزيج مروع من الجهل والافتراء والكذب وأكل السُّحت والنفاق . يرتدون ملابس خاصة تميزهم عن بقية الناس ، وتحظى تلك الملابس وتلك الطقوس بتقديس أتباعهم ، لكن لو تحرر أتباعهم من هذا التقديس لسخروا من تلك الملابس الغريبة المضحكة وتلك الطقوس الشيطانية الكوميدية . أى إنه لهدم تلك ( المقدسات الوهمية ) لا بد من السخرية منها ، فالسخرية هى نقيض التقديس .  وبهذا تكون السخرية ـ ليست هزلا ـ ولكن من اساليب الدعوة الجادّة فى القرآن الكريم . وليست مقصودة فى حد ذاتها ، ولكن لغرض شريف هو تحرير الانسان من تخلّف العبادة والتقديس للبشر والحجر . هنا نتذكر قول رب العزة جل وعلا فى وصف كتابه العزيز : ( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ) الطارق 13 : 14 )

3 ـ ومبلغ علمنا أن السخرية فى الدعوة الاسلامية القرآنية علم جديد من علوم القرآن لم يلتفت اليه أحد . ونعطى هنا لمحة عن أساليبه على أمل أن يتابعنا فيه الباحثون القرآنيون الجادُّون .  

4 ـ وننصح من يقرأ هذا البحث أن يتلو الآيات فيها بحيث يظهر ما فيها من سخرية ، ليتأكد أن تلاوة القرآن الحقيقية هى التى يظهر بها بيان القرآن وتفسير القرآن . أى إذا كان اسلوب السخرية بالنهى فليتلو الآية أو الآيات الساخرة باسلوب النهى ، وإن كان باسلوب الكاريكاتير الحركى فليكن التلاوة بحيث تظهر هذه الصورة الحركية الساخرة فى طريقة التلاوة ، وإن كان باسلوب الاستفهام الانكارى فعلى الذى يتلو الآية ان يتلوها باستفهام إنكارى ..وهكذا ..

5. ـ  وهذه الملامح الساخرة من المشركين من البشر المذكورة فى القرآن الكريم تنطبق عليهم فى كل زمان ومكان . وخلال حوالى أربعين عاما من النضال فى سبيل القرآن الكريم وجدت آيات السخرية تنطبق على أعداء القرآن الذين تعاملت معهم وشهدتهم فى حياتى .

6 ــ ـ  وعموما تنقسم أساليب القرآن الكريم فى السخرية الى نوعين رئيسين : الأسلوب التقريرى العلمى المحدد ولكنه مع جديته فهو لا يخلو من سخرية . ( وهذه نادرة : الجمع بين الجدية والسخرية ) والاسلوب المجازى بالاستعارة والتشبيه  العادى والتشبيه الحركى التمثيلى ، ومنه الاستفهام البلاغى الذى يخرج عن معنى الاستفهام من طلب السؤال الى أغراض بلاغية كالتعجب والانكار واللوم...الخ.

7 ـ ونبدأ السخرية القرآنية بالأسلوب التقريرى .. ونعطى عنها بعض التفصيل :  

أولا :

السخرية بالوصف الحركى المجرد :

1 ـ كنت فى أحد المساجد ، وقد حضر الأمام المحاضر متأخرا وقد جاء من مدينة دمياط . كان ــ مع جهله ــ مغرورا بنفسه . أخذ فى المحاضرة يقولها بكبرياء وصيحات الاعجاب تلاحقه مع انه يقول منكرا من القول وزورا . ثم آن أوان صلاة العصر فقام وصلى بالناس صلاة قصر. قلت له : إن قصر الصلاة لا يجوز إلا فى حالة الخوف من المطاردة سواء فى القتال أو فى الهجرة ، وإقرأ ايات سورة النساء لتتأكد من هذا . أخذته العزة بالإثم . قرأ بعضهم آيات سورة النساء فوقف غاضبا شامخا معرضا أو بالتعبير القرآنى للبليغ ( ثانى عطفه ) .

هذا مثال للداعية المتكبرالمتعالم الذى يزج بنفسه فى مجالات العلم بالدين وهو أجهل من دابة ، ولكنه بسبب غروره يأخذ فى الجدال ليدافع عن الأباطيل وليست له حجة إلا مظهره المتكبر وتعاليه على الناس . هذا وضع يستحق السخرية . وهذا الصنف تجده حولك فى كل زمان ومكان حيث يوجد الناس ، ولذلك يقول تعالى : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) الحج ) .  أى أن ذلك المغرور المتعالم يجادل فى دين الله بغير علم وبغير هدى من الكتاب  المنير ، وكل ذلك ليضل عن سبيل الله ، والله تعالى يتوعده بالخزي فى الدنيا وبعذاب الحريق فى الآخرة . الذى يهمنا هنا هو وصفه بأنه (  ثَانِيَ عِطْفِهِ  ) ، فالعطف بكسر العين وسكون الطاء هو الجانب من جسد الإنسان والمتكبر المغرور هو الذي " يثنى عطفه " أى يميل بجانبه عن الناس تكبرا واستعلاء فلا يميل بوجهه فقط ، ولكن بجانبه كله أو الجانب الذي يجاور المخاطبين من الناس .( ثَانِيَ عِطْفِهِ ) وصف حركى محايد وساخر أيضا .

2 ــ وهذا المتكبر المتعالم إذا صادف إنسانا مؤمنا عالما بالحق فلن يستطيع الصمود أمامه ، وسيظهر للمستمعين فساد بضاعته ، وحينئذ سينصرف ولكن مع احتفاظه بسمات الغطرسة والتكبر ، والقرآن هنا لا يتركه يمضى بلا سخرية ، إذ يقول تعالى يصف ذلك الخزي الذي يلحق بالمتكبر : (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)  لقمان ) ، أى أنه يستخدم لهو الحديث ليضل به عن كتاب الله فإذا قريء أمامه كتاب الله لم يستطع إلا الفرار ويدارى خزيه بأن يولى وجهه بنفس طريقته فى الاستكبار ، أى يسير متغطرسا منفوخا متجاهلا ما يسمع مدعيا الصمم ، ومستحقا للسخرية والتندر . قوله جل وعلا (وَلَّى مُسْتَكْبِراً ) وصف محايد لحركته وفراره . والسخرية فى أنه يجمع بين الفرار والاستكبار .!

3 ـ لم يكن المنافقون فى عهد النبي من العرب فقط ، بل كان منهم طائفة من اليهود ، وأولئك تظاهروا بالإسلام ليكيدوا  للإسلام. ومصطلح اليهود يطلق على المعتدين الكافرين من بنى اسرائيل والذين كانوا وقتها يتحالفون مع النصارى فى إعتداءاتهم على المسلمين ، وكانوا يقولون أن عزير إبن الله ــ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . منهم من كان منافقا ، إذ يذكر القرآن الكريم أن طائفة من اليهود اتفقت على أن تعلن للمسلمين إيمانها بالله تعالى ورسوله وكتابه ثم فى نهاية اليوم يجتمعون معا للكيد للمهاجرين والأنصار حتى يرجعوا كفار كما كانوا ، وإن هذه الطائفة اتفقت على ألا تثق وتطمئن إلا بكل ما هو على دينهم الاصلى و إلا يثقوا أو يطمئنوا بالمسلمين أبدا وفى ذلك يقول تعالى : ( وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ     ) ( آل عمران 72 : 73 ".  ).

وعن تظاهرهم بالاسلام أمام النبى محمد عليه السلام ، يقول جل وعلا : (وَإِذَا جَاؤُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ ) المائدة  : 61 " والسخرية واضحة وواقعية فى تصوير النفاق فى داخلهم ، فهم يدخلون يعلنون الإيمان ، بينما يدخلون بالكفر ثم يخرجون بالكفر أيضا .. صورة ساخرة غاية فى الإعجاز وفى التصوير النفسي الواقعي .. وهى تنطبق على المنافقين فى كل زمان ومكان.

ثانيا :

السخرية بالوصف العلمى المحايد :

1 ـ تكرر التأكيد على أن آلهة المشركين ليسوا إلا مخلوقات فكيف تعبد المخلوقات مخلوقات مثلها . يجمع بين تلك الآلهة المزعومة ( التى جعلوها مقدسة ) والذباب ( الذى جعلوه مستقذرا ) أنهما معا مخلوقات . من أسلوب السخرية بهم وبآلهتهم تقرير حقيقة لا جدال فيها ، هى أن تلك الآلهة لا تستطيع أن تخلق ذبابا ولو إجتمعوا لهذا وتعاونوا على هذا . يقول جل وعلا : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ  شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) الحج 73  ) . السخرية ليست فقط فى المقارنة بين الذباب ( المخلوق ) وتلك الآلهة  ( المخلوقة ) فى الضعف، ولكن فى جعل الذباب أكثر قوة من تلك الآلهة لأنه لو سلبهم الذباب شيئا فلن يستطيعوا إستنقاذه منه . هذا اسلوب تقريرى علمى محايد ، وهو أيضا حقيقة علمية ، فالذباب حين يلتقط شيئا يسارع بهضمه وتحليله قبل أن يبتلعه . لو التقط قطعة من السكر فإنها بسرعة فائقة لا تصبح قطعة السكر بل العناصر التى كانت تتكون منها قطعة السكر ، أى إنتهى السكر وأصبح مكانه العناصر الأولية قبل تخليق السكر. و سبحان من كان هذا القرآن الكريم كلامه .!! تخيل مؤتمرا كهنوتيا لأئمة الأديان الأرضية حضره الشيوخ والبابوات وأصحاب الفضيلة والسماحة والقداسة ، وقد وقف ذباب على وجوههم ثم طار وهو يحمل أشياء من أنوفهم وعيونهم وأقفيتهم . هل يستطيعون الامساك بهذا الذباب ، ولو إستطاعوا هل يقدرون على إسترجاع وإستنقاذ ما سلبه الذبا من عرقهم وريقهم وسوائل عيونهم وأنوفهم .

  2 ـ الانسان مخلوق من نطفة قذرة مستقذرة ، هو نفسه يستقذرها . تتكون من حيوان منوى وبويضة . يخرج الحيوان المنوى بمئات الملايين فى سائل مائع يهتز منه الانسان قرفا ، وتخرج البويضة فى العادة الشهرية تستوجب الطهارة وتحمل معها وصف الأذى . (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى ) البقرة 222 ). عند ( اللقاح الجنسى ) يقتحم  الحيوان المنوى البويضة   فتتكون النطفة ، ثم تتدرج من علقة الى مضغة ..الخ الى أن يولد إنسانا . يكبر هذا الانسان المخلوق من نطفة فيكون خصما للخالق جل وعلا . يقول جل وعلا : ( خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) النحل ). هنا اسلوب علمى تقريرى محايد ، فالله جل وعلا خلق الانسان من نطفة ( فإذا هو خصيم مبين ) . الآية القرآنية كلها اسلوب علمى تقريرى ، لكنها مليئة بالسخرية من هذا المخلوق من نطفة قذرة كيف يكون خصما للخالق جل وعلا.!!

ثالثا :

السخرية بالوصف التعبيرى المحايد

حين دخل أغلب أهل يثرب فى الإسلام اضطرت البقية للتظاهر بالإسلام حرصا على نفوذهم وثرواتهم وعرفوا بالمنافقين .  وقد تفنن بعضهم فى الكيد للإسلام فإذا افتضح أمره سارع للنبي يقسم له بأغلظ الأيمان أنه بريء ويعفوا عنه النبي ، ولكن هذا المنافق لا يزداد إلا تمسكا بنفاقه وتآمره . وصارت عادة لهم إنه إذا نزلت آية قرآنية تحث على الجهاد فإنهم يسارعون بالاعتذار عن الخروج للحرب. فى غزوة ذات العسرة " تبوك " التى حدثت فى قيظ الصيف تسارعوا للاستئذان من النبي بأن يظلوا فى المدينة دون الخروج من الجيش المحارب ، والله جل وعلا يصور ذلك الموقف منهم ويفضح نفسيتهم الخائفة فيقول :( وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ ): التوبة 86 : 87 ). وعنصر السخرية هنا يكمن فى التناقض الحاد بين مظهر المنافقين الجسدي ومخبرهم النفسي فهم من حيث المظهر " أولوا الطول " أى ضخام الأجسام والمكانة والمنتظر منهم أن يكونوا أصحاب جرأة وشجاعة ولكن من حيث المخبر هم يتذللون حتى يكونوا من القاعدين ويرضون لأنفسهم أن يكونوا مع الخوالف ، أى مع من يتخلف عن الجيش من العجائز والصبيان والفتيات والنساء . المعنى الساخر أنهم كلما نزلت آية بالقتال سارعوا للنبي بقاماتهم الطويلة وأجسادهم الضخمة يرجونه أن يتركهم مع الأطفال بعيدا عن الحروب ، أليست هذه سخرية مريرة ..وواقعية ؟

رابعا :

السخرية بأسلوب النهى الوعظى :

1 ــ الإنسان المتكبر المغرور يبدو واضحا من حركاته وإيماءاته وحديثه ونظراته. وقد سبق القرآن الكريم الجميع فى التصوير الحركي الساخر والواقعي للشخصية المتكبرة باسلوب علمى محايد ولكن يحمل فى طياته سخرية واضحة . فى النهى عن التكبر والخيلاء قال لقمان لابنه يعظه : ( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ  ) (18)  لقمان )  والتصعر مأخوذ من الصعر وهو داء يأخذ البعير فى رأسه فيقلب رأسه فى جانب ، وتصعير الخد يعنى أن يميل الإنسان بوجهه تكبرا على الناس ، وهذا هو الوصف الواقعي والحركي للمتكبر . والقرآن استعمل وصف التصعير للسخرية من ذلك المتكبر الذى يميل بوجهه تكبرا فيكون أقرب للحيوان المريض منه إلى الإنسان القويم ، أى أن كلمة : ( وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ) حشدت فى داخلها التصوير الحركي مع السخرية المريرة الملائمة والموجعة .

 2 ـ  وبعض الناس يأخذه الغرور بشبابه وصحته وسطوته فيمشى مختالا مستكبرا مع أنه بالتعبير القرآنى الساخر لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولا . يقول جل وعلا : ( وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37) الاسراء ) . العظة هنا تحمل سخرية واقعية ، لا يستطيع هذا المعجب بنفسه إنكارها . تسمع منه وتتأكد انه مجرد خشب لا يعقل  .!!

3 ـ يقول جل وعلا ينهى المؤمنين فى المدينة يحذرهم من كيد المنافقين :  ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ  لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ أُولاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) آل عمران 118 ـ ). الشاهد هنا قوله جل وعلا وصفا محايدا للمنافقين (لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ) أى لا يدخرون وسعا فى إيقاع الخبال والضرر والفتنة بينكم . أى لا يقصّرون فى إيذائكم . تعبير جاد جدا وخطير جدا وساخر جدا .!!

4 ـ ومنه قوله جل وعلا عنهم : ( لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ) التوبة 47 )، أى لو خرجوا معكم للقتال لم لن يزيدوكم عددا ولا قوة بل سيزيدونكم خبالا وتفرقا وضعفا .

خامسا :

السخرية بالجملة الاعتراضية

 القرآن الكريم قول فصل قد أحكم الله جل وعلا آياته ثم فصّلها (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) هود 1  ) ومن هنا يأتى التكرار والبيان ، كما تأتى الجملة الاعتراضية ، ليس عبثا ـ تعالى الله جل وعلا عن العبث ـ ولكن لتفيد معنى أساسا فى الموضوع . وهناك بحث قادم بعون الرحمن جل وعلا عن الجملة الاعتراضية فى القرآن ، ودلالاتها . مثلا يقول جل وعلا : (قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌـ كَمَا يَقُولُونَ ـ إِذًا لاَّبْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ) ( الاسراء 42 ـ  ) . ( كما يقولون ) فى الآية جاءت جملة إعتراضية لتؤكد عدم الاعتراف بتلك ألالهة .

والجملة الاعتراضية تأتى أحيانا للسخرية .  ونعطى لها أمثلة :

1  ـ كانت اللحظة الصعبة فى حياة المنافقين عندما يتحتم القتال ، عندئذ يسارعون بتقديم الأعذار الوهمية حتى لا يشاركوا فى القتال ، وينتظرون النتيجة فإذا فاز المؤمنون بالنصر والغنائم تحسروا على ما فاتهم من الغنائم والنصر ، أما إذا أصابت المؤمنين الهزيمة استبشروا بالسلامة لأنفسهم ، والله جل وعلا يصور نفسيتهم فيقول : ( وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ اللَّه لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ) النساء 72 : 73 ) . الجملة الاعتراضية الساخرة هنا هى قوله جل وعلا : (  كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ). سخريتها فى الاشارة الى محاولة المنافقين التحبب للمؤمنين ، مع أن تصرفاتهم تقول العكس .   2 ــ وفى غزوة أحد انتهز بعضهم الفرصة فى أن النبي لم يسمع رأيهم بالانتظار فى المدينة وخرج للقاء المشركين عند جبل (أُحُد ) حسب رأى الأغلبية المؤمنة المتحمسة . ولذلك رأوها حجة مناسبة للتخلف فى المدينة . فلما انهزم المسلمون فى أحد رأوها فرصة أخرى فى التشفي والانتقام للنبي والمؤمنين .  ونزل القرآن يرد عليهم وعلى أقوالهم ومنها قوله سبحانه وتعالى : ( الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ( آل عمران 168 ). أى أن القرآن يرد عليهم بأن الموت هو المصير الحتمي لكل إنسان ، ولن يستطيع الهرب منه ، وأولئك المنافقون لن يستطيعوا الإفلات من الموت ، ولكن هذا الرد الجاد احتوى على جملة اعتراضية ساخرة وهو قوله تعالى : " ـ وقعدوا ـ " ، أى يصف حال أولئك " الفلاسفة"بأنهم فى  داخلهم جبناء جبنوا عن المواجهة ،وبعد انتهاء المعمعة أخذوا يتشدقون  ويزايدون وينتقدون متناسين إنهم آخر من يتكلم فى الحرب وابعد من يشارك فيها .

اجمالي القراءات 13327