الجزء الرابع ( السماوات و الأرض )
آيات جبال السماء
سنستعرض في هذا المقال تلك الآيات التي ذكرناها سابقا في الجزء الثالث ( جبال السماء ) , و قلنا أن المقصود بالجبال فيها هي جبال السماء دون تبيان السبب و دون التوضيح ,
الجبال السماوية هي جزء هام و مهم في مكونات الغلاف الجوي , هذا الغلاف الجوي بمكوناته و عناصره سيزول في يومٍ من الأيام مؤذناً بذلك قيام الساعة , و سنتناول هذا الأمر في المقالات القادمة بإذن الله جل وعلا , لنعلم أهمية هذا الغلاف للأرض في ما وردنا من آيات تشير له و لحتمية زواله , و اقترانه بحتمية زوال الأرض .
و لنبدأ بتناول تلك الآيات كلٌ على حده :
أولاً :
الآيات التي تتحدث عن تسير الجبال بمعنى حركتها من سيرٍ و جريان , فهي تخص جبال السماء لا جبال الأرض , لأن جبال الأرض جامدة لا تتحرك فهي ثابتة و راسية و من تلك الآيات قوله جل وعلا :
( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ) 88 النمل ,
جبال الأرض هي ثابتة لا تتحرك و هي جامدة , عكس جبال السماء المتحركة و المتبدلة باستمرار فهي في حركةً دائمة و دائبة تدور في دورةٍ مستمرة , من ماءٍ على سطح الأرض ثم تبخيره للحالة الغازية ثم تكاثف لتلك الذرات ثم سقوط إلى الأرض من جديد و هكذا .
و في قوله سبحانه ( وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ ) 42 هود ,
هنا حالة تشبيه , أي تجري بهم في تلك الأمواج كما تجري الجبال ( جبال السماء ) أي السحب و الغيوم في السماء ,
ثانياً :
الآيات التي تتحدث عن تسير الجبال بمعنى ذهابها و تلاشيها , فهي تشمل النوعين من الجبال ( جبال الأرض و جبال السماء معاً ) و هذا من أجل بروز البشر لله جل وعلا و ظهورهم للبدء في حسابهم فيكونوا على مستوىً واحد من الأرض لا عوج فيه ,
و هذا هو تبديل الأرض و السماء , حيث سيتم تسير الجبال و بروز الأرض و فتح السماء ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) 48 إبراهيم , و فتح السماء يعني امتلاك القدرة البشرية على رؤيتها ( وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا ) 19 النبأ , ( وَإِذَا السَّمَاء فُرِجَتْ ) 9 المرسلات , و تلك الآيات :
( وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ) 47 الكهف ,
(وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) 31 الرعد ,
هذه الآية تضرب للناس مثلاً و تؤكد للجميع بأن وعد الله جل وعلا قادم و هو يوم الحساب , و لن يخلف الله ميعاده الذي أجله للناس إلى أن يحين وقت الساعة و كل هذا بأمره و وقته الذي حدده الخالق جل وعلا بحكمته و تدبيره , حينها سيأتي هذا اليوم بمراحله المختلفة , تسير الجبال ( جبال السماء ) و تلاشيها و كذلك الأمر لجبال الأرض و تلاشيها , حيث ستبدل هذه الأرض إلى قطعةٍ مستوية و تكلمنا عن هذا في مقال ( الصعيد ) , و من ثم بعث الناس ( الموتى ) و إحياءهم من جديد بحشرهم و محاسبتهم .
( وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ) 10 الطور , أي تتحرك و تذهب ,
( وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ) 20 النبأ , أي ذهبت و تلاشت ,
( وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ) 3 التكوير , ( وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ ) 11 التكوير ,
فجبال الأرض ستزول و جبال السماء ستزول و هذا من اجل الوصول لحالة البروز كما قلنا , حيث أن الأرض لن تبقى كروية بل ستكون ممتدة أفقياً ( وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ) 8 الكهف , أي تصبح قطعةً من اليابسة ممتدة و مستوية لا ماء فيها و لا نبات , فقد قال الحق جل و علا عن هذه الأرض الجديدة المسطحة و الخالية من أي ارتفاعات تضاريسية و تخلو من الماء و من النبات فقد قال ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا ) 105-107 طه ,
فهذه الآيات عن تسير الجبال هي من ضمن الآيات التي تفيد الذهاب بها و زوالها , و المقصد الأول في تسير الجبال هو تسير السحاب ( جبال السماء ) و الذهاب بها فتكون سراباً أي لا شيء كأنها لم تكن , و المقصد الثاني في تسير الجبال هو تلاشيها ( جبال الأرض ) و محوها ببسّها و نسفها ( وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ) 5 الواقعة , ( وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ ) 10 المرسلات , و هذا ما سيكون يوم القيامة قبل الحشر الذي سيكون على الأرض الجديدة ,
ثالثاً :
الآيات التي تتحدث عن جبال السماء و تخصها فهي :
( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ) 9 المعارج ,
( يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا ) 14 المزمل ,
( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ) 5 القارعة ,
و هذا يوم القيامة أيضا , و من ضمن أحداثها ارتجاف الأرض كل الأرض بجبالها و أوديتها و بحارها و محيطاتها لأن كل هذا من مكونات الأرض و تضاريسها فحين ترتجف تلك الأرض فهذا يعني حتمية ارتجاف كل مكوناتها , و من غير المعقول أن ترتجف الجبال و لا ترتجف المحيطات , فالمحيطات أعظم قدرا من الجبال , و لكن المقصود هو جبال السماء ( السحاب ) و أنظر إلى التعبير المؤكد على جبال السماء لا جبال الأرض حيث قال ( وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا ) فهل يعقل هذا لجبال الأرض , بالتأكيد لا لأن هذا الوصف لا ينطبق إلا على جبال السماء ,
فهذا السحاب يقول جل وعلا عنه في حالته السابقة قبل ارتجاف الأرض , بأنه كان كثيبا مهيلا , و لكنه قد زال و تلاشى و اختفى , و كثيبا مهيلا تعني ( سائلا منهالا ) و تعني ( قريبا ينهال و يدنو و يتساقط برفق ) , و هو بكل تأكيد وصفاً لحال تلك السحب ( جبال السماء ) و حالها قبل ارتجاف الأرض .
أما في قوله جل وعلا ( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ) 9 المعارج , ( وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ) 5 القارعة ,
كالعهن المنفوش : هذا تشبيه لتلك السحب بالصوف المنتشر المبعثر , فنَفش الشيء يعني نَشرهُ و بَعثرتهُ , وهذا ما سيكون حين الشروع بالذهاب به و زواله .
رابعاً :
الآيات التي تختص بداوود و سليمان عليهما السلام و هي :
بالنسبة لداوود و سليمان عليهما السلام فنحن نعلم بأن الله جل وعلا قد سخر لهما الريح , و بما أن الريح هو المتحكم بالسحاب و الغيوم ( جبال السماء ) و هو الذي يسوقها , فإنه من المعلوم بديهياً لمن سُخر له الريح فإن السحاب ( جبال السماء ) تكون قد سخرت له ,
لذا فالجبال التي سخرت لداوود و سليمان عليهما السلام هي جبال السماء و كل الآيات التي تتحدث عن تسخير تلك الجبال لهما هي تعني جبال السماء في قوله تعالى :
( إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ) 18 ص ,
( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ) 79 الأنبياء ,
( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ) 10 سبأ ,
كما نلاحظ من تلك الآيات جميعها التي تتحدث عن تلك الجبال , فهي تربطها بالسماء و بأمور السماء , فعلى سيبل المثال ربطتها بالعشي و الإشراق , و ربطتها بالطير , و كل هذا من أمور السماء .
خامساً :
الآيات التي أعتبرها بشكل شخصي و أرجح بأن الجبال المقصودة فيها هي جبال السماء لا جبال الأرض و هي مع بيان سبب الترجيح :
الآية الأولى قوله جل وعلا :
( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ) 72 الأحزاب ,
لأن السماوات و الأرض و الجبال رفضوا حملان الأمانة بالتكليف و اختاروا التسخير , و بما أن الجبال الأرضية هي جزءٌ ثابتٌ على ظهرها هذا يعني في حال أن قبلت الأرض أن تكون مسخرة يعني تلقائياً قبول جبالها بذلك , فيكون المقصد إذا هو جبال السماء و نحن نعلم بأن هذا السحاب هو مسخر و غير ثابت في حركته عكس الجبال الأرضية , و لأن الأرض أيضا قد سُخرة بحركتها و دورانها فكل متحرك هو مسخر عدا من حمل الأمانة و رضي بالتكليف .
الآية الثانية قوله جل وعلا :
( وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ) 37 الإسراء ,
و السبب هو ورود خرق الأرض فالخرق هو فعلٌ غير مألوف أي خارق للعادة المعهودة , و خرق الشيء هو اختراقه و تجاوزه , فاخترق الأرض أي تجاوزها و ابتعد عن سطحها , ثم جاء قوله معطوفاً على هذا الاختراق , إي إن اخترقت الأرض و تجاوزتها فإنك ستبلغ تلك السحب فقال ( وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا ) أي لن تصل و لن تبلغ تلك الجبال , أما الجبال الأرضية فكل إنسان يبلغ و يصل لقمة إيٍ منها , على عكس زماننا هذا فاختراق الأرض أصبح مألوفاً و لم يعد خرقاً .
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا
سبحانك إني كنت من الظالمين