ليس سارقا من يسرق حقه من المستبد .
من حق المواطن المسحوق فى دولة المستبد أخذ حقه بيده
هذا سؤال يقول : ( في بلاد المستبدين العرب يبذرون ارزاق الشعوب في الملاهي والسفريات واعلاء ارصدتهم في البنوك الاجنبية ، وهم نفسهم اصحاب الشركات التي تبيع المواطن المسحوق المواد الغذائية وغيرها . في ظل هذه الاوضاع هل يحق للمواطن صاحب الدخل الهزيل ان يستعمل الماء والكهرباء لحاجته الاستهلاكية بدون ترخيص او كما يسمونه غير قانوني؟ وخصوصا عندما يرفعون مساهمة الدولة في نسبة هذه المواد وشكرا) . وأقول :
أولا : للمواطن المسحوق أن يأخذ حقه بالحد الأدنى وبالقسط دون تجاوز
1 ـ من حق المواطن المسحوق أخذ ما يكفى حاجاته الأساس وبالقسط من مال دولة المستبد . هذه ليست سرقة . السرقة أن تأخذ ما ليس حقا لك . المواطن المسحوق له حقوق ضائعة فى دولة المستبد ، حيث يسرق المستبد وأعوانه ثروة الوطن التى هى حق للمواطنين ويحرمونهم حقوقهم . وهم بالطبع لن يوافقوا على إعطاء المواطن الفقير المسحوق حقه ، وسيعاقبونه لو أخذ حقه بدون علمهم . هذا فى قانونهم الظالم الذى فصّلوه على مقاسهم .
2 ــ لن يكون عاصيا للرحمن ولن يكون سارقا فى شريعة الاسلام إذا أخذ حقه ــ بالمعروف ــ ما إستطاع الى ذلك سبيلا ، ولكن بدون أن يبغى أى أن يأخذ ما فوق حقه . حقه فى الأساسيات الضروريات التى من المفروض ان توفرها الدولة لمواطنيها من الطعام والمأوى واللباس والتعليم والرعاية الصحية ـ فى الحدود الأدنى التى تحفظ حق الحياة . فوق ذلك يكون متعديا وسارقا .
ثانيا : المستبد وأعوانه هم السارقون أعداء العدل والقسط ويجب مواجهتهم حتى لا تتفاقم الأحوال وينفجر المجتمع من الداخل :
1 ـ المستبد باغ يعادي العدل الذى أمر الله جل وعلا به: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) النحل ) والمستبد متجاوز للقسط .
2 ـ والقسط هو قانون الرحمن الذى نزلت به كل الرسالات السماوية . ولو قام الناس معا رجالا ونساءا صغارا وشيوخا من كل مذهب وملة ودين رافعين راية القسط والعدل بحيث يسرى على الجميع إذن لحققوا شريعة الرحمن فى قوله جل وعلا : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الحديد ). المعنى واضح هو أن يقوم الناس جميعا قومة رجل واحد يصرخون بطلب القسط والعدل من المستبد الظالم ، فإذا إستجاب فقد نجا ، وإن رفض فالاحتكام الى السلاح أو الحديد . والله جل وعلا كما أنزل الرسالات السماوية لتهدى الى العدل والقسط فقد أنزل من جوف السماء معدن الحديد ليثبت به كوكب الأرض .
3 ـ وحيث لا يوجد عدل لا يوجد أمن ولا يوجد سلام أو إستقرار . والفقير المطحون إذا حرمه المترفون قوم الفرعون من حقوقه الأدنى وأوصلوه الى حافة الجوع فسينفجر . لا نتحدث عن شخص فقير بل عن طبقات من الفقراء تستقبل يوميا وافدين جُددا من الطبقات الوسطى . فالعادة أن المستبد إذا طالت أيامة إزدادت عُزلته عن الناس ، وتحكمت فيه وفى الدولة عصابات من المفسدين يتلاعبون بالاسراف فى الثروة والسلطة ، وتتضخم ثرواتهم بينما تتضاءل ثروات الأخرين وتنكمش الطبقة الوسطى ــ من المثقفين والتجار الميسورين والمهنيين ـ وتتضاءل دخولهم ويهبطون رويدا رويدا فى قاع الفقر الذى تتسع دائرته من أفقر الفقراء والمساكين العاجزين عن العثور على الطعام حتى فى الزبالة الى من يأكلون الخبز الحاف . هذا بينما يتقلب المترفون فى إسراف لا حدود له . هبوط المجتمع الى هذه الدرجة من تحكم المترفين يعنى هلاك المجتمع كما أشار رب العزة فى القرآن الكريم ( الاسراء 16 ) (الحج 45 ) .
4 ـ السكوت عن طلب الحق والسكوت عن (أخذ ) الحق والتقاعس عن المطالبة بالقسط تصل بالدولة الى الانفجار من الداخل.
ثالثا : المال فى الأصل مال الله وهو للبشر إستخلاف وإختبار
1 ـ يأتى المال من إستغلال الموارد فى هذا الكوكب الأرضى ، وهذه الموارد أو ( الأقوات ) مُتاحة الاستغلال للبشر جميعا بتكافؤ للفرص دون إمتياز لفرد أو جنس عن آخر ، بل هى سواء للسائلين الباحثين المستثمرين ، قال جل وعلا عن خلق الأرض : ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) فصلت ). وتتفاوت قُدُرات البشر ومدى نشاطهم أو كسلهم ، وبالتالى تتفاوت حظوظهم فى الثروة أو الرزق والمكسب والخسارة ، فيوجد الثرى الغنى والفقير والمسكين وما بينهما. عن التفاضل فى الرزق يقول جل وعلا : ( وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ )(71) النحل )، وهذا التفضل فى الرزق إختبار ، فالغنى إختباره فى نعمة الثروة هل يقوم بحقها أم يكفر بالنعمة. والفقير إختباره فى الصبر ، هل يصبر أم يكفر .
2 ـ إن المال هو فى الأصل ( مال الله ) جل وعلا ، ولكنه جل وعلا خوّلنا فيه على مستوى البشر ، أى جعله لنا وأمرنا بالانفاق منه ، ينفق الغنى من مال الله على الفقير ، قال جل وعلا : (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ) النور 33 ) وقال جل وعلا : ( وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ) (7) الحديد )، الثرى لا يملك المال فى الحقيقة ولكنه مال الله جل وعلا وقد إستخلفه رب العزة فى هذا المال ، ثم سيترك هذا المال بالموت أو بالخسارة . أى يخوّله الله جل وعلا فى هذا المال إختبارا له ، بينما حرم الفقير منه إختبارا له . وجعل للفقير ( حقا ) فى هذا المال ، أى إن الثرى حين يعطى الفقير من مال الله الذى هو فى يده فإنما يعطيه حقه . وإذا منعه حقه فقد فشل هذا الثرى فى الإختبار . وما أسهل وما أسرع أن يتحول الفقير الى ثرى وما أسهل وما أسرع أن يتحول الثرى الى فقير . عن الحقوق يقول جل وعلا : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ )(26) الاسراء ) ( فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) (38) الروم ).
3 ـ إن المال هو فى الأصل ( مال الله ) جل وعلا ، ولكنه جل وعلا خوّل الدولة حراسة هذا المال وتنميته . أى إن موارد الدولة هى حق لسكان هذه الدولة ، وتقوم الدولة ممثلة فى أولى الأمر حراسة موارد الدولة وثروتها . وللأفراد حق الحصول على الثروة بإستغلال تلك الموارد ، وبعد موتهم يكون من حق الورثة وراثة تركة المتوفى . ولكن بشرط الرُّشد ، فلو كان الوارث صغيرا تقوم الجهة المختصة بتعيين وصىّ على الوريث الصغير ينمّى ثروته ، فإذا بلغ الصغير مبلغ الرشد يتم عقد إختبار له ، فإذا تبين رشده أصبح متصرفا فى ماله ، إن ظهر أنه سفيه لم يعد المال ماله ، بل مال المجتمع يقوم الوصى بتنميته مع إعطاء هذا الوريث السفيه ما يكفيه من رزق وكسوة من أرباح هذا المال الذى يستثمره له الوصى . يقول جل وعلا : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) النساء ) التعبير ب( أموالكم ) يؤكد أن المال هنا للمجتمع طالما كان صاحبه سفيها . إذا ظهر أنه ليس سفيها أصبح المال ماله ، يقول جل وعلا عن إختبار الوارث الصغير : ( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) النساء ). جاء التعبير مرتين ب ( أموالهم ) أى إستحقوا هذا المال بما لديهم من رشد بحيث يقومون على إستغلاله . فالملكية هنا للمجتمع ، وتكون للفرد إذا أحسن القيام على ماله ، إذا كان سفيها فليس ماله ، ويعود المال الى المالك الأصلى وهو المجتمع .
4 ــ وأساس الصلاحية هى القدرة على إستغلال المال وتنميته ، وهنا الفارق بين الوارث الرشيد والوارث السفيه . ويلاحظ أن الله جل وعلا عندما تحدث عن حقوق غير الورثة من الأقارب واليتامى والمساكين إذا حضروا قسمة التركة قال : ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ ) (8) النساء ) قال ( فارزقوهم منه ) أى من اصل مال التركة . أما حين تحدث عن مال السفهاء قال: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا ) أرزقوهم فيها ) أى من ارباحها . أى لا بد من تشغيل هذا المال وتنميته وإستثماره ليلعب دوره فى خدمة المجتمع لأنه اساسا حق المجتمع .
5 ــ ونرجع الى قوله جل وعلا : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ) فالمال حق للمجتمع والمجتمع هو الذى يقوم عليه أى على إستثماره . والخطاب هنا ليس للحاكم ، فلم يقل جل وعلا ( أيها الحكام لا تؤتوا السفهاء أموالكم ) بل هو خطاب للمجتمع كله وفق نظام الشورى الاسلامية التى تعنى بثقافة عصرنا الديمقراطية المباشرة ، والتى يحكم فيها الناس أنفسهم بأنفسهم ويقومون على حراسة الثروة وتنميتها الى درجة حرمان الوريث السفيه من التصرف فى أمواله لأنه بسفاهته لم يعد صاحب المال .
6 ــ إنقلب الوضع ، فأصبح ( الخليفة ) من وقت مبكر جدا هو الذى يملك الأرض وما عليها ومن عليها يتصرف فيه كيف يشاء من بذخ وإسراف ، بل هو الراعى الذى يملك الرعية أى المواشى ، يقتل من يشاء ويستبقى من يشاء . أصبح الوضع مقلوبا ، فأصحاب الثروة وهم الشعب والمواطنون لم يعودوا مالكين لثروتهم بل أصبحوا مملوكين للحاكم وسلعة فى يده له حق إستثمارها وتسخيرها وله حق قتلها . وهذا هو مدار تاريخ الخلفاء من أبى بكر بن أبى قحافة الى أبى بكر البغدادى ومن عمر بن الخطاب الى عمر البشير .
7 ــ فى وجود هذا المستبد السارق الحرامى السفاح القاتل يحق للفقير الذى صودرت أمواله وأحلامه أن يأخذ حقه المُصادر ، وإذا عوقب فيكفيه أنه تعرض لظلم بهذه العقوبة التى من المفروض ان تنزل على راس المستبد واعوانه . وإذا تكاثر الفقراء الذين يحصلون على حقوقهم المشروعة وعصف بهم المستبد فإنها ستكون إرهاصات ثورة قادمة ..!