ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا.
فهو ما اشتهر ب "اجتياز الصراط"
من قوله جل وعلا:
(وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا! كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا!)
(وَإِن مِّنكُمْ (أيها الثقلان)إِلَّا وَارِدُهَا ! (أي وادي جهنم) كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا!)
وهو ما أُشير إليه في البيت التالي:
…………………………
ومـنبـعـدفــلابـدّ* منالعرضإذااعتُدّ
مـراطـاجســـرُهمـدّ * عـلىالنارلمنأم
……………………………..
فورودنا فيها حق. وكيفيته مجهول. ويوم الفصل ميقاتنا أجمعين معها.
أما ما قيل عن "الصراط" من أنه جسر أرقّ من شعرة، وأحدّ من السيف، وما إلى ذلك من التكهنات، فهي هراء لا يعتد بها. وكثير من المفسرين تكلموا عن "الصراط" دون معرفة مرجع حتمية ورودنا فيها.
فحتمية ورود جميع الثقلين في جهنم مرجعها أن الله سبحانه وتعالى سبق أن أخذ على نفسه القول أنه سيملأ جهنم بمتبعي إبليس أجمعين. و(قَالَ (لإبليس)اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا! لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ، لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ!) [الأنعام: 18]. لكن حدث أن متبعي إبليس هم مجموع الثقلين (الجن والإنس). فقال ربنا في موطن آخر مقتصرا: (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ!) [هود: 119]علما أن ما منهم إلا ليتبع إبليس اللعين.
وفيما يلي الآيات الأربع التي تحدثت عن ذلك.
1- (قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا ! لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ، لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ.)[الأنعام: 18]
2- (…ولا يزالون مختلفين. إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ . وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.)[هود: 119]
3- (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا. وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.)[السجدة: 13].
4- (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ.) [ص: 85]
وهذا الكلام، هو القول الذي سبق علينا من قبل. فأصبح ورودنا جهنم حتما على ربنا مقضيا. فقال جل وعلا:(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً (قهرا). وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(باختيارهم). إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ. (يوم القيامة) وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ (أي للحرية في الإختلاف).وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ (فحق عليهم القول)لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.)[هود: 118، 119]. أي سيملأ الله جهنم بمن تبع إبليس من الجن والإنس. وهم جميعهم. إذ ما من الثقلين إلا واتبع أو ليتبع إبليس يوما ما، ولو سُوَيْعَةً.
كما قال جل وعلا: (وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا (مجانا بدون جهد منها). وَلَٰكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.)[السجدة: 13]. ولذلك اعتدل ربنا واحترم اختيار كل منا. فسقطنا كلنا في اتباع إبليس. فحق علينا القول.
وما من بشر (مهما بلغ صلاحه أو يكون) إلا ليموت وعليه من ذنوبه ما يستحق بها الورود في جهنم. يستوي في ذلك الأنبياء والرسل مع غيرهم. إلا من رحم الله. وكل يرد فيها ويمر بسرعة أعماله.وقال ذو الرحمة الواسعة:(ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا.) [مريم: 72]. جعلنا الله من المتقين.
(فمن زحزح عن النار أدخل الجنة فقد فاز!…). [آل ع: 185]. ولذلك نرى أبانا إبراهيم عليه سلام يقول عن الرب الرحيم: (…والذي أطمع أن يغفر لي خطئتي يوم الدين!) [الشعراء: 61]. عالما أنه مدين له سبحانه وتعالى بذنوب. (رب اغفر لي وله وللمؤمنين والمؤمنات يوم يقوم الحساب).
كما قيل للنبي محمد ص.: إذا جاءك الفتح الموعود (أي النصر) فاحمد ربك واستغفره. (إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا.فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا). (رب اغفر لي وله وللمؤمنين والمؤمنات يوم يقوم الحساب).
ولقد أساء المفسرون فهم قول ربنا لنبيه: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا؛ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر…) على أن الله سبحانه وتعالى قد غفر للنبي ما تقدم من ذنبه وما تأخر بالمرة! الأمر وليس كذلك. بل المعنى أن الله س.ت. بالفتح (النصر) فتَحَ لنبيه - الفتح مرادف النصر: "إذا جاء نصر الله والفتح" ، "نصر من الله وفتح قريب"- فرصة، وأتاح له إجازة إذا اغتنمها للاستغفار، يُغفر له ما تقدم من ذنبه؛ وإذا واظب عليه فستمحي به ذنوبه اللاحقة. (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله …) أي لكي يغفر الله لك. فذلك مشروع وفرصة متاحة له لنيل المغفرة من الله. وليس غفرانا مسبقا، لذنوب لم تُرتكب بعدُ. ولو كان كذلك لما طُلِب منه الاستغفار في سورة النصر: (إذا جاء نصر الله والفتح (الموعود)ورأيتالناس يدخلون في دين الله أفواجا. فسبح بحمد ر بك واستغفره …)وهذه السورة نزلت بعد الفتح. ولو غُفر للنبي ص. ما تقدم من ذنبه وما تأخر لما أمر له (في سورة النصر) أن يستغفر ربه من جديد! فاستغفار مَن غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر عبث! إذ يكون بمثابة تحصيل الحاصل، مع علم.
(إذا جاء نصر الله والفتح؛ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا؛ فسبح بحمد ربك واستغفره، إنه كان توابا). وهذه السورة تفسر بداية سورة الفتح. أي إذا جاء الفتح والنصر، ورأيت الناس يدخلون في الإسلام بكثرة فاحمد الله (واستغفره). وداوم على الاستغفار ليغفر لك ما تقدم من ذنبك. وسيغفر لك وما تأخر من ذنبك ما دمت ملتزما على الاستغفار. الملتزم على الاستغفار، إن كان جادّا، سيُغفر له ما تقدم من ذنبه، وسيغفر له ذنوبه اللاحقة (إذا وقعت)، طالما هو ملازم للاستغفار، وجادٌّ في مع ربه.
ومما أُمِر النبي ص. أن يستغفر الله منها، نعدّ ما قد حدث من هفوات طوال الدعوة، وما وقعت من تجاوزات في معاقبة المعتدين بالمثل. (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ب"مثل" ما اعتدى عليكم!). (وإن عاقبتم فعاقبوا ب"مثل" ما عوقبتم به !). فالخطر كل الخطر كامن في ضرورة مراعاة المماثلة في المعاقبة. إياك إن تهاونت في المثلهذا !
فلإقصاء عنا مغبة عدم مراعاة المثل في المعاقبة، عرض علينا الرب بديل الصبرَ والدفعَ بالتي هي أحسن السيئةَ. وكأنه، جل وعلا، يقول لنا: المعاقبة حق لكم. لكنه حق خطير! لضرورة مراعاة المماثلة فيها. بالكم والكيف.لذلك قال جل وعلا:(ولئن صبرتم لهو خير للصابرين). (واصبر وما صبرك إلا بالله.) صدق الله العظيم. ما أجمل الإسلام! لولا سجية العرب!
(واستغفره) وهذا الأمر أوجب على النبي الدوام على الاستغفار حتى يشمل الغفرانُ ذنوبه اللاحقَةَ.
وما أوتي لأحد "بطاقة بيضاء" ليفعل ما يشاء دون أن يكتب له ذنب. وذلك تفسير المتصوفين. إذ انهم، كعادتهم، إذا أرادوا ادعاء حكم لأنفسهم، فإنهم يزعمونه للنبي أولا، ثم ادعوه بعد ذلك لأنفسهم. ولذلك تراهم يسارعون في القول بأن النبي ص. كان قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. مع أن ذلك كان مشروعا فقط ! كما صنعوا لأهل البدر حديثا يوحي أنهم ، هم كذلك ، حصلوا على "بطاقة بيضاء" تنص: "لعل قيل لكم: افعلوا ما شئتم فإن الله قد غفر لكم…".
فإذا صح أن النبي ص كان قد حصل على "بطاقة بيضاء" فلم يعد يكتب له ذنب، وكذلك الحال لأهل البدر، فلا يكون مستبعدا أن يحصل غيرهم من "الصالحين العارفين" على مثل ذلك. وهكذا ترى بعضهم، بمكائد الشيطان ووحيه، يقترفون الفحشاء والمنكر من القول والفعل، مع تلميح ينم أن الله قد غفر لهم (هم كذلك) ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر. فطفقوا يفعلون ما شاءوا بلا خوف!
لا عصمة لأحد من الذنب. مهما بلغ صلاحه! وإلا لما طُرد إبليس من رحمة الله، مع ما كان به من الصلاح قبل فسقه. إذ أنه كان من الجن فعبد الله حتى رُفع إلى صف الملائكة.
ذلك لأن الله، سبحانه وتعالى، لا يرضى من عبده الكفر أو العصيان. (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ؛ (ويضرب بكم عرض الحائط)، وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ!) أو العصيان. [بالزمر: 7]
(ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنّعملك ولتكوننّ من الخاسرين!)[الزمر: 65]. (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ. مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ! ...) كائنا من كان! إلا من استغفر ربه بالنجاح. [النساء: 123]
وعليه،فلا يغرنكم بالله الغرور؛ فبدا لكم من الله، يوم القيامة، ما لم تكونوا تحتسبون!
والله أعلم.
هدانا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه.