من أكثر الأمور الملتبسة عند الفقهاء هو تقسيم الشرع إلى ما هو أدنى وإلى ما هو أحسن، والسبب قيمة النص الديني لديهم والمنزلة قبل خلق البشرية مكتوبة في اللوح المحفوظ، فأصبح الاستحسان اتجاه شائك رفضه الإمام الشافعي وقال هو تشريع جديد يضاهي تشريع الله بقول.."من استحسن فقد شرع".. والعالم بمنهجية الشافعي سيلحظ تقليده وتقديسه للنصوص للحد الذي قال فيه بأن الحديث وأقوال الرواة هي نصوص دينية واجبة التشريع..
وهذا الرفض من الشافعي لو أخذناه من باب المشاكلة يظهر أن الاستحسان (آداه عقلية ) بالأساس، والرجل كان مقلدا ، إذ لو كانت هذه الأداة نصا صريحا مطلقا فما جدوى المذاهب إذن وهي مقيدة باستحسان يوازن بين القديم والحديث، بينما المذاهب كلها قديمة..
أصل الاستحسان في القرآن هو في قوله تعالى...." واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم"..[الزمر : 55]..والآية أربكت المفسرين للحد الذي نقلوا فيه معنى واحد بعدة ألفاظ، بينما تغاضوا عن المعنى الظاهري وعمدوا إلى حرف الكلمة عن مدلولها، والسبب أن كلمة أحسن وحملها على التنزيل يعني هناك تنزيل (غير حسن) وهذا منافي لطبيعة وروح القرآن..أن التنزيل كله حسن، لكن علينا الاختيار.
تعالوا معاً نستعرض أقوال المفسرين ثم نلحق ذلك بالسبب وراء اتجاههم هذا والكفر بمعنى الآية الظاهري والمتبادر إلى الذهن..
يقول الطبري.." واتبعوا أيها الناس ما أمركم به ربكم في تنزيله، واجتنبوا ما نهاكم فيه عنه"..(تفسير الطبري 21/ 312)
ويقول الزجاج:.." يحتمل وجْهيْن:
أحدهمَا أنَّهمْ أمِروِا بالخيْرِ ونُهُوا عن الشرِ، وعرفوا مَا لَهم فِي ذَلِكَ، فقيلَ (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) ويجوز أن يكون نَحوَ ما أمِرْنا به من الانتصار بعد الظلم، ونحو القصَاص في الجرُوح إِذ قال: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)...(معاني القرآن 2/375)
ويقول الماتوريدي.." أي: اتبعوا ما هو طاعة"..(تفسير الماتوريدي 7/43)
ثم فصل بعد ذلك بقوله..يحتمل وجوهًا:
أحدها: كأنه يقول: اتبعوا ما أمركم ربكم، وانتهوا عما نهاكم ربكم عنه.
والثاني: اتبعوا ما في القرآن وأحلوا حلاله، وحرموا حرامه واجتنبوه، يقول: اعملوا به وبادروا في العمل به من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة.
والثالث: أن اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - قد بين السبيلين جميعًا: سبيل الخير والشر على الإبلاغ؛ فيقول: اتبعوا سبيل الخير منه، ولا تتبعوا سبيل الشر؛ فيكون تأويل هذا كأنه يقول: اتبعوا الحسن منه، ولا تتبعوا غيره..(تفسير الماتوريدي 8/698)
ويقول ابن فورك "أي: التزموا طاعته، واجتنبوا معصيته، فإن الذي أنزل على ثلاثة أوجه: ذكر القبيح لنجنبه، وذكر الأدون لئلا نرغب فيه، وذكر الأحسن لنؤثره"..(تفسير بن فورك 2/329)
ويقول الثعلبي.."القرآن كله حسن وانما معنى الآية ما قال الحسن: التزموا طاعته واجتنبوا معصيته، فإن الذي أنزل على ثلاثة أوجه: ذكر القبيح لنجتنبه، وذكر الأدون لئلا نرغب فيه، وذكر الحسن لنؤثره.وكذلك قال السدي: الأحسن ما أمر الله به في الكتاب، وقال ابن زيد (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني المحكمات وكلوا علم المتشابهات إلى عالمها."..(تفسير الثعلبي 8/246)
لاحظ كل هذه التفاسير متقاربة، حتى تأويلاتهم كلها بمعنى واحد، أن الأحسن هو الإتباع وذكره ملحقاً بالتنزيل هو بصيغة الأمر، وقد لاحظ ذلك المواردي في تفسيره حين عرض خمسة تأويلات للسلف كلها بمعنى واحد أضاف إليها السادس لكن خرج بنفس المعنى أيضا، والسؤال المشروع هنا:
لو كان اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم يعني الأمر بالطاعة فما جدوى الاستحسان في آية الزمر هنا؟..أليس الأفضل أن يقول.."اتبعوا ما أنزل إليكم"..وسكت؟!..ما أهمية لفظ الاستحسان في السياق؟
في تقديري أن الشيوخ أهملوا المعنى من وراء الآية والذي يقرر بأن النص الديني قابل للتأويل حسب مصالح البشر، وأن قوله اتبعوا أحسن يعني هناك آيات ربما لا تحقق مصالح الناس إذا قيلت بإطلاق، كمثال قوله تعالى.." قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".. [التوبة : 29] فالآية تعني جواز حرب الكتابيين ليس لكف أذاهم ..لكن ليعطوا الجزية، وهي من أكثر الآيات التي أسئ فهمها ودخلت منهجية داعش والإخوان وشتى جماعات الجهاد..بينما نقول أن الاستحسان الوارد في آية الزمر يحل هذه الإشكالية ويثبت أن النص الديني ليس كله مطلق..بل منه مقيد حسب الزمان والمكان، ومنه متشابه يرد إلى المحكم..وآية التوبة هذه تُحمَل على نصوص أخرى منعت العدوان وسلب الحقوق..كقوله تعالى:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين".. [البقرة : 190]
الاستحسان سنة إلهية أثبتها الله في أكثر من آية كقوله:
"الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه "..[الزمر : 18]
"وأمر قومك يأخذوا بأحسنها "..[الأعراف : 145]
"وجادلهم بالتي هي أحسن "..[النحل : 125]
والآية الأولى قرينة على معنى الاستحسان الظاهر في آية الزمر 55 بينما نفس السورة تقر هذا الاستحسان في الآية رقم 18 وقد فطن الإمام الرازي صاحب التفسير الكبير لهذا الرأي وقال أن في القرآن ما هو حسن وما هو (أحسن) أي أن منهجية الاستحسان فريضة قرآنية للتدبر وإثبات أن كل ما وصل إليه المفسرون قبل الرازي تكلفوا وحمّلوا النص ما لا يحتمله..يقول الرازي:
"ذكر العلماء في الجواب عنه وجوها: الأول: أن تلك التكاليف منها ما هو حسن ومنها ما هو أحسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر، أي فمرهم أن يحملوا أنفسهم على الأخذ بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب كقوله: واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم [الزمر: 55] وقوله: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه [الزمر: 18] .
فإن قالوا: فلما أمر الله تعالى بالأخذ بالأحسن فقد منع من الأخذ بذلك الحسن وذلك يقدح في كونه حسنا فنقول يحمل أمر الله تعالى بالأخذ بالأحسن على الندب حتى يزول هذا التناقض.
الوجه الثاني: في الجواب قال قطرب يأخذوا بأحسنها أي بحسنها وكلها حسن لقوله تعالى: ولذكر الله أكبر [العنكبوت: 45] وقول الفرزدق:
بيتا دعائمه أعز وأطول الوجه الثالث: قال بعضهم: الحسن يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح وأحسن هذه الثلاثة الواجبات والمندوبات"..(التفسير الكبير 14/361)
ويلاحظ من قول الرازي أن منهجية الاستحسان عنده تعني (الأولوية) فتقديم الواجب والمندوب عن المباح يعني الإيمان بأن الشارع في القرآن أنزل نصوصاً على مراتب حسب القبول والظرف، وقد اعتمد على ذلك الشاطبي بتقريره فقه المقاصد، وقال أن الواجب في الشرع هو حفظ (المال والنفس والدين والعقل والنسل) دون ذلك مراتب أخرى لا يجوز لها أن تتعارض مع أولوية تلك المقاصد.
بعض الشيوخ قال أن الاستحسان في الآية هو الناسخ والمنسوخ، وبالتالي الناسخ أحسن من المنسوخ، بينما لم يضعوا ضوابط لقبول هذا النسخ سوى حدثنا فلان وعلان دون أية ضوابط عقلية و شرعية أو حتى واقعية، وكان من جراء ذلك أن نسخت آية السيف عندهم آية .."لا إكراه في الدين"..وأصبح عدم الإكراه في ذاته حسن لكن الجهاد والسيف أحسن، وتلك آفة التقليد التي انتشرت بفعل استبداد الملوك ونفاق المشايخ إبان عصر التدوين وما سبقه من عصر الراوية الشفهية..إلى أن اكتمل وأصبح دين مستقل بداية من العصر المملوكي.
أخيراً : فالاستحسان أداة عقلية عند أهل الرأي ثبتت في منهجية المعتزلة والأحناف، كذلك عند الإمام مالك مرويا عنه أن.."الاستحسان تسعة أعشار العلم".. ويقال أن الحنفية عدّوها أصلا خامسا للتشريع بعد القرآن والسنة والإجماع والقياس، وذكر السرخسي في المبسوط كيف أن القياس والاستحسان واحد، بينما المعتزلة عدّوها أصلا دينيا لغاية (العدل)
وفي تقديري أن ما نسب للأئمة الأربعة بلفظ الاستحسان غير صحيح لكنها تأويلات متأخرة نسبت هذا الاتجاه المميز إلى أئمتهم بصيغة التفضيل، ولأن المعارك الفقهية كانت على أشدها، وأرجح أن هذا النسب تم في أواخر العصر العباسي وانتشار الفتن فلجأ الفقهاء إلى الشرع ليبحثوا عن ما يحقق لهم أمنا ومصلحة، أي كان اتجاه الاستحسان في الفقه الدارج مجرد (رد فعل) ولم يكن أصل وإن عدوه أصلا..
وقد تكون إحدى نقاط ضعف الفقه التقليدي الحالي هو هجرتهم للاستحسان إلى أقوال أئمتهم والسابقين بالعموم، خصوصا تقديس الرواية العباسية واعتبارها مصدراً للتشريع، هذا دمر الاستحسان تماما وما يُلحق به من مفاهيم كالقياس والمصالح المرسلة، بينما اجتهد البعض حديثا في اكتشاف أنواع من الفقه بمنهجية الاستحسان كفقه الواقع والمآلات والأولويات، وهي إحياءه فقهية لجهود أهل الرأي وبعدهم الرازي والشاطبي ، أما مقلدي السلفية والأزهر فقد اعتصموا في زنازين الرواية حتى اعتزلوا الناس والحياة وأصبح دينهم إما إرهابيا غير قابل للتطبيق، أو مجرد حواديت يحكوها على المنابر بغرض إثبات الذات أو مصالحهم مع السلطة، وانتهى من قاموسهم هذا الاصطلاح القرآني الفريد، حتى إذا ذكروه لحقوه بنسخ ومنسوخ وتبديلا وتحريفا حتى عجّ دينهم بالتناقض..